في إحدى جولاتي المعتادة في حواري القاهرة.. كنت في حي "العتبة" العتيق،وهو لمن لا يعرف، التمثيل الرائع للقاهرة الحقيقية، القاهرة الجميلة التي كانت، قبل أن تصيبها مس العولمة، والتي حولت كثيراً من شوارعها وحاراتها إلى مسخ لا تعرف له قراراً، فإما غارق في التمدن، وإما منغمس في العشوائية.. "العتبة" تعني الناس البسطاء، ورائحة العطارة، وطرقات الأسطوات، وروعة الأرابيسك، ونداء الباعة الجائلين، وترانيم بائعات الخضار، وضحكات القهوجية وهم ينادون على مشاريب تكاد أن تنقرض، كالعرق سوس والعناب والسحلب والينسون وغيرها.
دخلت إلى أحد محلات الحلاقة، التي لا تعرف الشاور، أو الجل، ولكنها تتغنى بتاريخ طويل كغيرها من المحلات المجاورة، صور معلقة لمشاهير كانوا يرتادون المكان وقت أن كانت العتبة الخضراء هي قلب القاهرة وبؤرة حراكها الثقافي والاجتماعي.
كان الحلاق يمارس عمله، وكان بجنبه صبي يافع لم يتعد الثالثة عشر، كان يجهز له أدواته، وكان هذا الصبي يراقب بدقة كل ما يقوم به"الأسطى حسن"، وهذا اسمه كما سمعته من نداء الولد له.
كعادتي السيئة دائماً، دخلت في حوار مع صاحب المحل حول أمور كثيرة تتعلق بتاريخ المكان الذي أعشقه، وتطرقنا في حديثنا إلى عمل هذا الولد في المحل.
قال لي المعلم حسن : انظر لما حولك من المحلات والورش، ستجد في كل منها فتياناً يأتون لتشرب الصنعة.. سرد لي حكايته عندما أحضره أبوه صغيرا من قريتهم البعيدة لكي يتعلم صنعه قد تفيده مستقبلاً، كما أسهب كثيراً وهو يتكلم في أسى عن الزمان الجميل الذي كانت الحرفة فيه لها قيمتها، وكان الكل حريصا على أن يتعلم أبنائهم حرفاً تقيهم بؤس الزمان وجوره، لا تفرقة بين ابن غني أو فقير، وكانت الإجازات وقتاً مناسباً لكي يتعلم الفتى مهنة يقضي بها وقت فراغه، ويوفر"قرشين" لمصاريف الدراسة والكتب.
لذا"والكلام للمعلم حسن" كان هناك إتقان..فتحت كثير من البيوت، وأصبح كثير من الحرفيين أساتذة يأتونهم الفتيان من أماكن عدة لكي يتعلموا منهم إتقان الحرفة.
دخلت إلى أحد محلات الحلاقة، التي لا تعرف الشاور، أو الجل، ولكنها تتغنى بتاريخ طويل كغيرها من المحلات المجاورة، صور معلقة لمشاهير كانوا يرتادون المكان وقت أن كانت العتبة الخضراء هي قلب القاهرة وبؤرة حراكها الثقافي والاجتماعي.
كان الحلاق يمارس عمله، وكان بجنبه صبي يافع لم يتعد الثالثة عشر، كان يجهز له أدواته، وكان هذا الصبي يراقب بدقة كل ما يقوم به"الأسطى حسن"، وهذا اسمه كما سمعته من نداء الولد له.
كعادتي السيئة دائماً، دخلت في حوار مع صاحب المحل حول أمور كثيرة تتعلق بتاريخ المكان الذي أعشقه، وتطرقنا في حديثنا إلى عمل هذا الولد في المحل.
قال لي المعلم حسن : انظر لما حولك من المحلات والورش، ستجد في كل منها فتياناً يأتون لتشرب الصنعة.. سرد لي حكايته عندما أحضره أبوه صغيرا من قريتهم البعيدة لكي يتعلم صنعه قد تفيده مستقبلاً، كما أسهب كثيراً وهو يتكلم في أسى عن الزمان الجميل الذي كانت الحرفة فيه لها قيمتها، وكان الكل حريصا على أن يتعلم أبنائهم حرفاً تقيهم بؤس الزمان وجوره، لا تفرقة بين ابن غني أو فقير، وكانت الإجازات وقتاً مناسباً لكي يتعلم الفتى مهنة يقضي بها وقت فراغه، ويوفر"قرشين" لمصاريف الدراسة والكتب.
لذا"والكلام للمعلم حسن" كان هناك إتقان..فتحت كثير من البيوت، وأصبح كثير من الحرفيين أساتذة يأتونهم الفتيان من أماكن عدة لكي يتعلموا منهم إتقان الحرفة.
ذكرني هذا الحوار بكثير من المواقف التي عايشتها أنا وكثير منكم، حول معاناتنا عند البحث عن عمالة متخصصة في بعض المهن كالسباكة، والنجارة، أو إصلاح الأجهزة الكهربائية ،وغيرها من المهن، حيث نكون وقتها تحت رحمة الوافدين الذين يعملون بها، والذين يفرضون شروطهم الخاصة المتعلقة بالأسعار المبالغ فيها، وتحديد الوقت الذي يناسبهم للحضور، وكل هذا بسبب تحكمهم في هذه المهن، وعدم وجود منافسة من قبل الشباب العماني.
وبدأت بعض التساؤلات تدور في ذهني، فإذا كان هذا الوافد يحضر لإصلاح تلف ما، ويتقاضى ما لا يقل عن خمسة ريالات عمانية في أقل من ساعة من الزمن، فكم يتقاضى في اليوم الواحد لو قام بالعمل في خمسة أماكن مثلاً؟
والسؤال الأهم : أين قطاع كبير من شبابنا عن هذه الوظائف، بدلاً من الشكوى من البطالة، والضغط على الحكومة لتوفير الوظائف لهم؟
ما أعلمه، وما أسمع عنه ، أن هناك اهتماماً من قبل العديد من الجهات بتوجيه الشباب نحو سوق العمل، قرأت عن أوراق عمل عديدة تطرقت إلى "كيفية إسهام المناهج في توجيه الطلاب نحو سوق العمل"، وتابعت جهود وزارة التربية والتعليم في مجال "التوجيه المهني"، وتوفير أخصائي توجيه مهني في كل مدرسة، ولمست جهود وزارة القوى العاملة في مجال تأهيل الشباب في مراكز التدريب المهني، والكليات التقنية، والتي من المفترض أن تعتبر رافداً من روافد دعم سوق العمل العماني بمخرجات مهنية وفنية مؤهلة تأهيلاً علمياً ومدربة تدريباً عملياً في التخصصات المهنية المختلفة لتقوم بدورها في المساهمة في دفع عجلة التنمية الاقتصادية بالبلاد.
برغم تلك الجهود المبذولة يبقى تساءل مهم كذلك: هل هناك توجه "حقيقي" من شبابنا نحو سوق العمل بناء على كل هذه الجهود؟وهل هناك اقتناع "حقيقي" من قبلهم بكل ما يتم تلقينه لهم في هذا المجال؟
لماذا لا نحس بوجود هذا الشباب المدرب، والذي بحسب معلوماتي البسيطة يتلقى تدريباً في أنواع مختلفة من المهن والحرف التي يسطر عليها عدد كبير من العمالة الوافدة؟وأين هم أبناء الكثير من الحرفيين العمانيين الذين برعوا في كثير من المهن والحرف المختلفة؟
أين تكمن المشكلة؟ هل في التدريب والتأهيل؟ أم في بعض قوانين العمل؟ أم في قصور في التهيئة النفسية لهؤلاء الشباب نحو ثقافة العمل المهني، وأهمية التوجه لسوق العمل؟
وهنا سأطرح بعض الأفكار أو الرؤى في هذا الجانب التي قد يرى البعض فيها شيئاً من المبالغة، ولنبدأ بدور المدرسة، وعلينا هنا أن نعي أن مقياس نجاحها لا يكمن فقط في نسبة عدد الناجحين، أو الملتحقين بمؤسسات التعليم العالي، بل في قدرتها على صقل مهارات وملكات وإمكانات طلابها، وتوجيههم نحو ما يتوافق مع ميولهم، وقد نجد في مدارسنا من لا يملك قدرة الحفظ أو الاستيعاب، ولكنه يملك إمكانات جسدية، أو ميول حرفية بحاجة لمن يصقلها ويوجهها في الاتجاه الصحيح.
وهنا سأطرح بعض الأفكار أو الرؤى في هذا الجانب التي قد يرى البعض فيها شيئاً من المبالغة، ولنبدأ بدور المدرسة، وعلينا هنا أن نعي أن مقياس نجاحها لا يكمن فقط في نسبة عدد الناجحين، أو الملتحقين بمؤسسات التعليم العالي، بل في قدرتها على صقل مهارات وملكات وإمكانات طلابها، وتوجيههم نحو ما يتوافق مع ميولهم، وقد نجد في مدارسنا من لا يملك قدرة الحفظ أو الاستيعاب، ولكنه يملك إمكانات جسدية، أو ميول حرفية بحاجة لمن يصقلها ويوجهها في الاتجاه الصحيح.
ترى كيف سيكون الوضع لو كان بكل مدرسة ورشة، أو مزرعة، أو قاعة ألعاب رياضية متكاملة، ولو تحولت المدرسة لورشة كبيرة، جزء منها مقسم للجانب التدريسي الموجه، والجزء الآخر يمارس فيه من يريد من الطلاب هوايته المفضلة، ويتعرف فيها على مهن قد تناسب ميوله، وكل هذا بوجود متخصصين، وبتنسيق مسبق مع بعض المؤسسات الخاصة المختلفة،ومع بعض الحرفيين المتواجدين بكل بلدة.
وما الذي يمنع أن نرى طالباً يتعلم المحاسبة في إحدى المؤسسات المصرفية وقت إجازته، وآخر يتعلم صناعة النسيج، وثالث يمارس العمل في أحد المحلات، ورابع يذهب برفقة أحد الصيادين أو المزارعين، وخامس، وسادس، وهكذا.
ألن تكن المدرسة أكثر ديناميكية؟ألن نقرب الطالب من سوق العمل؟ألن تعلمه أهمية أن يكون مجيداً،يكسب لقمة عيشه بنفسه، ويكون ذا أهمية في نظر نفسه والآخرين؟ ألن تحقق التواصل الحضاري بين الأجيال؟
ألن تكن المدرسة أكثر ديناميكية؟ألن نقرب الطالب من سوق العمل؟ألن تعلمه أهمية أن يكون مجيداً،يكسب لقمة عيشه بنفسه، ويكون ذا أهمية في نظر نفسه والآخرين؟ ألن تحقق التواصل الحضاري بين الأجيال؟
ولنذهب إلى مجال القوى العاملة، فبرغم كافة الجهود المشكورة والمقدرة، إلا أن هناك قطاع من الشباب ما زال يرى أن انتسابه لمراكز التدريب المهني، أو للكليات التقنية هو لمجرد أنه لم يجد فرصة ثانية في مؤسسة تعليمية أخرى، أو أنه التحق بهذه المراكز لمجرد أن أصحابه التحقوا بها، أو للحصول على الإعانة الشهرية، والدليل على ذلك أن بعضهم لا يكمل تعليمه وتدريبه بهذه المراكز، والبعض الآخر برغم امتلاكه المهارة والتدريب، إلا أنه يأنف من العمل في هذه المهن بسبب خوفه من السخرية منه، أو النظرة الدونية من قبل البعض، وبالتالي تضيع كثير من الجهود المبذولة في هذا المجال هدراً.
إن ما نحتاجه هنا لدفع قطاع من شبابنا نحو سوق العمل هو مزيد من الدعم المعنوي لهم بأهمية هذه الحرف والمهن، وقدرتها على توفير حياة كريمة لهم، في ظل تشعب المجتمع، واحتياجه المتزايد لهذه المهن، وطرح نماذج لكثير من قصص النجاح في هذا الجانب، وكيف أن كثير من المجتمعات المتقدمة لم تقم حضارتها إلا على يد العمال الذين وصلت أهميتهم في بعض الدول إلى سيطرتهم على المجالس السياسية فيها.
نحتاج إلى صناديق تنمية اقتصادية خاصة تدعم توجه الشباب نحو سوق العمل، يتم من خلالها تقديم دورات متنوعة للشباب في مجال التنمية البشرية،وتنفيذ المشاريع الاقتصادية المختلفة، وآلية التجديد والتطوير في بعض الصناعات العمانية بحيث تغدو أكثر قدرة على التنافس، وتتبنى عدداً من المشاريع الخاصة بالشباب كمشاريع الخريجين على سبيل المثال، وتدعم المشاريع المجيدة، بقروض حسنة وميسرة، مع المتابعة المستمرة لخطوات تنفيذ تلك المشاريع،وآلية الترويج لها، والإعلان عن مكافئات تشجيعية قيمة للأفكار التي تسهم بايجابية في مجال سوق العمل، وما الذي يمنع من تبني فكرة تخصيص بعض الأراضي الزراعية لعدد من خريجي هذا التخصص، أو توزيع عدد من الأراضي الصناعية في كل مخطط صناعي على بعض الشباب الذين لديهم الرغبة في تنفيذ مشاريع معينة، أو توزيع قوارب صيد مجهزة لعدد من الشباب الراغب في ذلك، أو إنشاء أسواق حرفية وتوزيع بعض محلاتها على عدد من الشباب الذي استقى الحرفة من عائلته، مع المتابعة الدقيقة لهذه التجربة لدى النماذج السابقة وتقييمها التقييم الصحيح، وبالتالي بناء خطط مشابهة مستقبلاً بناء على نتائج هذه التجربة.
نحتاج إلى مزيد من الاهتمام بالتعليم المهني في مدارسنا بمختلف أنواعه، وعدم الاكتفاء بالجوانب النظرية فقط، بالإضافة إلى توجيه بعض الأنشطة الصفية والمنهجية إلى هذا المجال، كما ينبغي تقييم تجربة المدارس الصناعية والتجارية والزراعية التي كانت مطبقة في إحدى الفترات.
ونحتاج كذلك إلى رسالة إعلامية تواكب اهتمامنا بتوجيه الشباب نحو سوق العمل، يعرض من خلالها نماذج مجيدة لبعض قصص نجاح هؤلاء الشباب، وتوفر مساحة للتحاور معهم حول أهمية الانخراط في سوق العمل، وتغرس التوعية بأهمية هذه المهن، ودورها في تنويع مصادر الدخل.
إن مجرد توفير كبائن صغيرة في نواصي بعض الشوارع لبيع الصحف وبعض المستلزمات البسيطة ، أو توفير عربات مجهزة لبيع بعض المشروبات، أو إنشاء أكشاك لبيع المنتجات الزراعية، وغيرها من هذه المشاريع البسيطة، من شأنها أن تسهم في توفير فرص عمل، وفتح بيوت مستقرة، فما بالنا بالمشاريع الأخرى المتنوعة، والتي ينال فيها الشباب اهتماماً من حيث التدريب والتأهيل والدعم والقوانين التي توفر الحماية له، إضافة إلى تعاطف وتشجيع مجتمعي واسع.
أتمنى أن يتحقق كل ذلك، وأن أجد مناطقنا الصناعية مليئة بالنماذج الناجحة من الشباب العماني في مختلف مجالات العمل الحرفي، وأن تعود الحياة لكثير من الحرف العمانية الأصيلة التي هجرها أصحابها، ولم يستكملها الجيل اللاحق لظروف وأسباب مختلفة، وأن أجد في القريب العاجل من أستعين به من الشباب العماني الماهر في إصلاح أي تلف منزلي، وقتها سأدفع له ما يريد مقابل تلك الخدمة، دون تبرم مني أو ضيق، لعلمي أن هذا المال سيكمل دورته في نفس المجتمع، دون تحويله إلى مجتمع آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.