رايته متضايقاً حاملاً هموم الدنيا على رأسه، سألته: ما بك؟ رد علي: عاملة المنزل سافرت، ولا أحد في البيت يحل محلها، وسأضطر لجلب الوجبات من المطاعم، وإحضار أمي لبيتنا للمساعدة في تربية الأطفال لحين عثوري على من يقوم بعمل الشغالة حتى موعد عودتها، قلت له: ولكن ما أعلمه أن زوجتك في إجازة، رد علي: ولكنها لم تتعود القيام بأمور البيت، ولا تعرف الطبخ، فالعاملة كانت تقوم بكل شيء.
لم يكن هذا الحوار هو الأول من نوعه الذي أعايشه في هذا الموضوع، فقد اشتكي لي أحدهم يوماً زوجته التي تود استكمال دراساتها العليا تاركة وراءها أطفالها لكي تقوم العاملة بتربيتهم خلال فترة سفرها، وحدثني آخر عن مدى المعاناة التي يجدها من جراء انشغال زوجته بمسئوليات وظيفتها التي تجعلها تتغيب وتنشغل طوال الوقت في اجتماعات وزيارات ، وكل ذلك على حساب بيتها وأسرتها، واستغربت عندما سافر أحد الأصدقاء برفقة زوجته للاستجمام تاركين طفلاً لم يبلغ السنة من العمر، وزال استغرابي عندما علمت أن هذا الطفل لا يهتم كثيراً بوجود أمه قدر اهتمامه بوجود المربية الآسيوية التي تولت العناية به وتربيته..
هذه المقدمة بما احتوته من نماذج مجتمعية تقودنا لقضية هامة، وهي ما الدور الحقيقي للمرأة في هذه الحياة، وما أثر تخلي بعض الأمهات عن هذه الأدوار، على تنشئة الأبناء وتربيتهم؟ بل وعلى المجتمع بأسره.
برأيي أن الدور الحقيقي للمرأة هو المساهمة الكبيرة في تنشئة وتربية جيل واع ،قادر على القيام بمسئولياته تجاه نفسه وربه ووطنه.
ويمكنني تشبيه دور الأم بغرفة العمليات في أوقات إدارة الأزمات، ففي هذه الغرفة يمكن إدارة دفة الأزمة والتحكم بها من خلال المراقبة الشاملة، وكذلك دور الأم، فهي ينبغي أن تكون الأكثر اطلاعاً على أحوال أسرتها، والأكثر قرباً، والأقدر على اقتراح أو اتخاذ وسائل التربية المناسبة، في ظل انشغال الرجل بدوره في توفير متطلبات البيت، وإعالة الأسرة.
وقد أكدت الأديان والكتب السماوية على هذا الدور وأهميته، لذا لا عجب أن " الجنة تحت أقدام الأمهات"، وليس مستغرباً أن يؤكد الرسول الكريم ثلاثاً على أولوية الأم بالرعاية والاهتمام، وذلك لعظم دورها، وحجم مسئولية هذا الدور.
وعندما نعود لتاريخنا العربي والإسلامي والمحلي، فإننا نجد نماذج رائعة، ومواقف جميلة، تجلت فيها قدرة المرأة على القيام بدورها الحقيقي في التربية، لذا ليس مستغرباً أن تخرج أجيال متلاحقة من العلماء والمفكرين والقادة ورجال السياسة والحكم وغيرهم، من رحم تلك النسوة العظام، اللواتي كان كثير منهن لا يعرف القراءة والكتابة، ولكن الرغبة الصادقة، والإيمان القوي بأهمية دورهن، هو من ساعدهن على القيام بهذا الدور.
بل إننا عندما نعود إلى الماضي القريب، ونتذكر سير أمهاتنا وجداتنا، فإننا نتذكر كثيراً من المواقف والذكريات الجميلة ، فكم من القصص الهادفة التي سمعناها ونحن على حجر أمهاتنا، وكم من أناشيد وأغاني جميلة مليئة بالحنان المتدفق مازالت آذاننا تحن إلى سماعها، وكم من مواقف حياتية مرت علينا كانت الأم أو الجدة أو الأخت الكبرى لنا بالمرصاد إما بالإثابة ، أو بالتوجيه، بل وكم من القيم والمواقف التي شربناها مع حليب أمهاتنا؟
ولكن، ومع توالي تحديات العولمة، ومع التدفق الهائل في المعلومات والأفكار، ومع التحدي الكبير الذي تواجهه القيم المجتمعية والدينية، فقد أصبحنا نرى للأسف تغيراً في أدوار بعض النساء والأمهات، فلم يعد حلم تكوين الأسرة هو الحلم الأول والأهم لدى شريحة من النساء، ولم تعد الرغبة الحقيقية في القيام بكافة الجهود من أجل توفير المناخ الأسري الاجتماعي والثقافي المناسب لتنشئة الأبناء هو المطلب الأساسي لدى عدد من الأمهات، بل تداخلت رغبات وأحلام كثيرة ، فأصبح بعض الأمهات على استعداد لأن تضحي ببيتها واستقراره الأسري من أجل استكمال دراسة، أو شراء سيارة، أو تولي منصب ما، أما الأبناء فيكفي أن توفر كافة المتطلبات المادية لهم من غرف مريحة، وملابس غالية، وألعاب مختلفة، ومعلمين خصوصيين، والذي ساعد على ذلك هو غياب دور بعض الآباء والأزواج، فالأب الذي يسمح لابنته بالنوم حتى الظهيرة، وبألا تمارس أي عمل منزلي، وبأن تقتني جهاز اتصال محمول وهي لم تكمل الخامسة عشر من عمرها، وبأن تمتلك سيارة عند تخرجها دون الحاجة لذلك، هل سيستطيع تغيير تفكيرها عندما تكبر ويكون حلم تكوين الأسرة، وتربية الأبناء آخر همها؟ والزوج الذي يختار زوجته لمجرد أنها تعمل، وأن لديها راتب يمكن من خلاله تحقيق بعض أحلامه، هل سيكون حائلاً بين زوجته وبعض أحلامها؟ وهل سيحثها على أن تقوم بدورها الحقيقي في البيت حتى في ظل وجود الشغالة
تخيلوا ، طفل يعيش في بيت، الأم الحقيقية فيه هي الشغالة، الأم تنام حتى الواحدة ظهراً، أو هي مشغولة بعملها، أو بأية ارتباطات أخرى، والعاملة هي من تطبخ، من تغسل الملابس، من ترتب الغرفة.. باختصار هي من تقوم بمعظم الأدوار.
كثير من الأطفال للأسف لم يعتادوا أن تجلسهم أمهاتهم على حجرهن ليهدهدن لهم حتى يناموا بقصص تحكي عن شجاعة أجدادهم، أو كرم أخوالهم،أو طيبة جداتهم، أو عن وطن ينتظرهم كي يساهموا في بناءه.
وكثير من البنات لم يعتدن أن يرن أمهاتهن وهن يوقظهن لصلاة الفجر، ولا وهن يعدن الإفطار لهن، ولا وهن يعودنهن على عمل منزلي قد ينفعهن إتقانه يوماً ما عندما تذهب إلى بيت زوج المستقبل.
هناك بيوت بها بنات في سن المراهقة والشباب، بينما من يعد الطعام رجل آسيوي ربما لم يتجاوز سنه الثلاثين، وهناك فتيات تجاوزن العشرين وهن لا يعرفن كيف تسلق البيضة، وفتيان تجاوزوا هذا السن وهم لا يعرفون كيف يمسكون بفنجان القهوة.
عندما تحاور بعض البنات تفاجأ بأن معظم أحلامهن تنحصر في استكمال الدراسة، أو الحصول على فرصة عمل مناسبة تمكنها من تحقيق أحلامها المتمثلة في شراء سيارة جديدة،أواقتناء جهاز حاسوب جديد، أو الحصول على آخر ما تم التوصل إليه في مجال الموضه،بدون التطرق لحلم تكوين الأسرة، أو تنشئة الجيل، بل أن بعضهن يرى في هذه الأفكار شيئاً من الرجعية والتخلف.
ان التغير الحادث في أسلوب حياة شريحة لا بأس بها من الشباب والبنات من حيث أنماط التفكير، والأحلام، واللبس، والحوار، والتعامل مع الآخرين هو بالطبع نتاج للتربية التي نشأوا عليها، فليست المدنية في تغييرنوع الملابس، أوفي هيئة اللبس، بل المدنية هي الارتقاء بالفكر والوجدان، وبلاشك فإن تأثير دور الأسرة، وبخاصة الأم له دور مهم في تشكيل فكر هذا الجيل سلباً أم ايجاباً.
أنا لا أعمم، فهناك كثيرمن الأمهات والأسر مازالت تتمسك بالتربية الصحيحة، وبالدور الصحيح الذي ينبغي عليهن، ولكن هذا لا يمنع أن نعي أن طوفان العولمة جارف إن لم نتصد له.
لتعد المرأة (أيا كان وضعها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي)إلى دورها الحقيقي، ليس عيباً أن تطبخ، أو أن تغسل ،أو أن تقوم بعمل بيتها، فهذا يقربها من أبناءها أولا، ويجعلهم يتشربون عشرات القيم الخفية، ويمنحها صحة أفضل، واذهبوا إلى أقسام السكري والضغط بالمستشفيات واسألوا عن أعداد الحالات المصابة، وستفاجئكم الأرقام.
ليس عيبا أن نعلم بناتنا أن يكن جزءا مهماً من البيت، ففي عملهن حفاظاً على وقتهن، وصحة لهن، وكسراً لبعض الغرور، ومزيداً من القيم التي قد يحتجنها مستقبلاً.
إن كل عمليات المحافظة على قيم المجتمع ومكتسباته لن تجد نفعا ما لم تقم المرأة بدورها الحقيقي، كما أن المدنية التي ستحول المرأة إلى شبه رجل هي مدنية زائفة، كما إن نجاح المرأة الحقيقي لا يأتي بالحصول على الشهادات العالية، أو المناصب الكبيرة، بل بمدى تعلق أبنائها بها، وحرصهم على وجودها بينهم، يرون فيها القيمة الكبرى، والموجه، وصانع القيم.
النجاح الحقيقي للمرأة هو في مدى قدرتها على تكوين أسرة متماسكة،وعلى أن تكون مهمة لدى أسرتها، وأي نجاح دنيوي آخر قد يعتبر فشلا لها ما لم يتوافق مع قدرتها على القيام بواجبها الرئيس وهو تنشئة الجيل الصالح القادر على القيام بمسئولياته تجاه نفسه وربه ووطنه.
أيتها الأمهات ..الجنة تحت أقدامكن، فلا تبعدن أنظاركن عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.