الاثنين، 11 ديسمبر 2017

(مقهى الفتوّة)

أشياء كثيرة يمكن أن تجذبك في مدينة الألف مئذنة، والمتحف المفتوح لحضارات عريقة توالت على هذه المدينة طوال سبعين قرناً من الزمان، وذكريات عديدة ستبقى في ذاكرة زيارتك لها مهما طال الزمان أو قصر. هي المدينة الساحرة التي يعاودك الحنين إليها حتّى ولو كنت قد حلفت في آخر مرةٍ أنّك لن تقترب من أسوارها، ولن تطأ قدمك ثراها! إنها القاهرة الخالدة حيث النيل، والأهرام، وطعم الفول، وروائح البهارات، وأصوات المآذن، وأجراس الكنائس وترانيمها، وحيث المقطّم بأساطيره، والجماليّة بحسينها وأزهرها، والغوريّة بوكالتها العتيقة، وعماد الدين بمسارحه وسينماته، وطلعت حرب حيث جروبّي، وعمر أفندي وصيدناوي وشيكوريل ومكتبتي مدبولي والشروق، وحيث شارع الهرم، وشبرا، ودار الكتب، والمتحف المصري، ومتحف الآثار الإسلامية، وقلعة صلاح الدين، وغيرها من المعالم التي حوّلت المدينة إلى كتاب تاريخٍ وفن ومتحفٍ ومعرض فنونٍ في آنٍ واحد!

في قلب المشهد الحسيني وخان الخليلي حيث القاهرة الفاطميّة بعبقها الشرقي الأصيل، ورائحة البخور الذي لن تشمّه إلا في قاهرة المعزّ، وكأنه ماركة مسجّلة باسمها، وحيث الأزهر الشريف قبلة العلماء والمتعلّمين على مدى قرون طويلة، ومرقد الإمام الحسين، والمحلّات الشرقية التي مازال أصحابها يتوارثون المهن اليدويّة من نحاسيات وجلود وعطور وغيرها في إصرار عجيب على استمراريتها وكأنّها جزء من حياة، وحيث يختلط البشر فقيرهم وغنيّهم في تناقضٍ مؤلم! يقع مقهى الفيشاوي أحد أشهر المقاهي العربيّة قاطبة، وأكثرها ذكراً في كتب الأدب والرحلات.
 
الطريق إلى المقهى من الميدان الحسينيّ يمرّ عبر زقاقٌ ضيّقٌ زيّنت جنباته بقطع ديكور شاهدة على حضارة مصر الفرعونية الضاربة في عمق التاريخ، وتصطفّ على جانبيه طاولات وكراسي خشبية امتلأت بعشرات السيّاح الأجانب، وبعضٌ من أبناء البلد، ولوحات خشبيّة عدّة كتب عليها بالأزرق والأبيض والذهبي اسم المقهى الذي أسّسه فهمي الفيشاوي عام 1797 من خلال ركن صغير ما لبث أن توسّع ليضم ثلاث غرفٍ يوماً ما قلّصتها المحافظة بعد ذلك إلى حجمه الحالي، تعرّف بالمكان وكأنّه بحاجة إلى من يعرفه أو يسأل عنه بعد أن طغت شهرته أرجاء المعمورة، وسار بذكره الركبان، وقلّد اسمه المقلّدون في كل بقعة يوجد بها مصري، لكن شتّان بين الأصل والنجاتيف!

يعدّ المقهى بكل ما يحتويه من تحف وآثار وكأنه مُتحف شرقيّ، فهو يجسّد بشكل حقيقيّ حضارة المكان الذي أقيم عليه، وكأنّه مصبّ لكل ما تنتجه مصانع وورش ومحلات خان الخليلي والموسكي والغوريّة، هناك أربعة أبواب مفتوحة، وأقواس ملوّنة بالأبيض والبنّي تفصل أركان المقهى عن بعضها، ومشربيّات من خشب أسود كأنّه المسك، وأرابيسك ومشغولات خشبيّة تنمّ عن مدى الرقيّ الذي وصل إليه فنّ عمارة الخشب في مصر، وفوانيس ونجف وثريّات ضخمة يبدو أنها كانت يوماً ما تزيّن قصر أمير تركيّ، في الرفّ علّقت أواني قديمة يبدو أنها كانت تستعمل في المقهى يوماً ما، في حين تزيّن المقهى من جوانبه مرايا بلجيكيّة كبيرة يقال إن الحاج فهمي حصل عليها من القصور الملكية التي كانت تجدد مفروشاتها وأثاثها، ويقال كذلك أن الحاج كان يراقب من خلالها عماله! بينما توزّعت على جدرانه عدداً من الصور لصاحب المقهى ولشخصيات عديدة من سياسيين وفنّانين وأدباء فهذه صورة الملك فاروق، وتلك أخرى لنجيب محفوظ أحد أشهر روّاد المقهى والذي خلّده في رواياته الشهيرة، وثالثة لفريد الأطرش، ورابعة وخامسة وعاشرة لفريد شوقي، ومحمد فوزي، وكمال الشناوي، وعادل إمام، وغيرهم، وهناك صورة كبيرة للحاج فهمي الفيشاوي وهو يمتطي حصانه.


لا يمكن زيارة مصر دون أن يشتمل جدولها على زيارة مقهى الفتوّة في قلب الحسين وتذوّق طعم الشاي بالنعناع الذي يقدّم في إبريقٍ زجاجيّ أزرقٍ داكن موضوع على صينيّة مذهّبة كعلامة جودة تميّز المقهى عن غيره ، فربما لن تجد مكاناً أجمل منه للتأمّل ومطالعة أحوال البشر مهما تمّ اغراءك بمقاهي (مودرن)يطوف بها غلمانٌ متشيّكون، ومهما كان زحام الممرّ المجاور، ومهما تردّدت على مسمعك عبارة "وسّع يا باشا"، ومهما تضايقت من (رزالة)المتسوّلين وعارضي الكتب والحقائب والجلود والمسابح والعطور الرديئة بكلّ ثقل دمهم وإلحاحهم الشديد، ستكون تلك الزيارة تجربةٌ غير قابلةٍ للنسيان، وستتداعى الذكريات كسيلٍ جارف، وتتراءى أمام مخيّلتك صورٌ عديدة اختزنتها ذاكرتك من أفلامٍ، وأغانٍ، وكتبٍ، ومجلاتٍ، وحكاوى معلمين   شاهدة على تأثير هذا البلد العظيم في نفوس العرب، وإسهامه الحضاريّ في نهضتهم وفكرهم.

الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

(أرض السّمر والنيل)

خلال الفترة الزمنيّة الممتدّة بين عامي 1981 منذ رؤيتي لأول سودانيين في حياتي، وأقصد بهم الدفعة التي كانت تضم عدداً من عمالقة التدريس أدباً وخلقاً وفضلاً وعلماً من أمثال عبد المنعم محمد، وعلي محمد إبراهيم، ومحمد إبراهيم الشمبري وغيرهم، وحتى 2017 عندما زرت السودان، مروراً بالعشرات من النماذج السودانيّة الجميلة التي احتفظت بأسمائهم ذاكرتي سواء كانوا معلمين، أم أساتذة جامعة وأطباء وقضاة وصحفيين، أم رفاق وزملاء عمل، أم جيران سكن وغيرهم من النماذج الجميلة، كان انطباعي الرئيس عن السودانيين هو أن السوداني بسيطٌ مثلنا، وأنه كريمٌ وودود، وأنه لا يمكن أن تجد سودانياً سيئاً على الإطلاق..  وأنه سيدخل الجنّة بدون حساب!

وعندما حانت الفرصة لزيارة هذا البلد العربيّ كان تمسّكي بها بالنواجذ، وكنت أعدّ الأيام كي يأتي يوم الخامس عشر من أكتوبر موعد سفري وكأنني طفلٌ ينتظر لعبةً طالما تمناها منذ سنين، أو كأنني عاشقٌ أضناه الوجد لرؤية الحبيب، للتعرّف على بلدٍ غامضُ الملامح برغم إحساسي بقربه الشديد، ولكي أؤكد تلك الانطباعات التي أصبحت تكاد تكون حقيقة لا تقبل التزحزح.

وعندما غادرت أرض السودان بعد أيام قليلةٍ من مكوثي بها (على الرغم من أنني مددت أمد الرحلة ليلتين مع وعدٍ بزيارةٍ قريبة) كان أبرز ما خرجت به هو أن كل ما اعتقدته سابقاً لا يساوي شيئاً مع ما رأيت، وأن كل انطباعاتي السابقة عن السودان وشعبها لا توازي ما به قد خرجت!

كثيرةٌ هي الأشياء التي زادتني دهشةً وانبهاراً في هذا البلد الجميل، وإذا كانت الطبيعة الساحرة بكل تفاصيلها قد أبهرتني، فإن الشخصيّة السودانيّة ذاتها كانت عنوان الرحلة وعلامتها البارزة، ومهما كتبت عن تلك الشخصية فلن أكاد أعطيها حقّها ولو قليلاً، فالسوداني معتزٌّ بنفسه إلى حدّ لا يصدّق، وعلى الرغم من أنها زيارتي الأولى لبلدً لا أعلم عنه الكثير على أرض الواقع، وعلى كثرة تجوالي في الأسواق والمحلات وتعاملي مع العديد من أصحابها منذ أول دقيقة لي في الخرطوم، إلا أنني لم أجد من يحاول استغلال جهلي بالأسعار على اعتبار أنني سائح ولو في جنيهٍ واحد، بل إنني كنت أتحايل أحياناً على بعض الباعة البسطاء أن يتركوا ما تبقى من قيمة ما اشتريته بحوزتهم إلا أنهم كانوا يردونه بكل إباء رافضين أخذه دون مقابل! حتى المتسوّلين (القلّة) في شوارع العاصمة اكتشفت بعد أن مستغرباً قبلها، أنهم ليسوا سودانيين! شتّان بين سلوكٍ جماعيّ كهذا وبين ما نراه في دولٍ عربيةٍ بل وغربيًةٍ كذلك!

والسوداني كريمٌ إلى حدِّ السّفَه، يعزم عليك من أول لقاء، جرّب أن تتصل بصديقٍ لك هناك أو حتى بشخصٍ من طرفه تراه لأول مره لترِ الكرم السوداني على أصوله! وطوال فترة إقامتي في الخرطوم كان هاجسي الأكبر هو التخلّص من محاصرة المحبّين السودانيّين وموائدهم الزاخرة بأطايب الطعام ليل نهار. ولأول مرة خلال رحلاتي العديدة شرقاً وغرباً يدعوني أحدٌ من أهل تلك الدول إلى منزله حيث تعرفت على تفاصيل البيت السوداني التي تكاد تشبه إلى حد التطابق تفاصيل بيوتنا الخليجيّة سواءً من حيث التصميم أو حتى الطقوس اليوميّة لتفاصيل الحياة، ولولا الجلابيّة و(العرّاقة) التي كان يرتديها من حولي لاعتقدت أنني في عمان وفي بيت مضيّفي الصديق الدكتور هيثم حسن تذوقت لأول مرة طعم القرّاصة، والويكة، والمُلّيحة، والشيّة، والقاورما، والفول بنكهته السودانية، والفسيخ، وتلذذت بمذاق (السكسكانيّة) العجيب. أتحدّث عن الخرطوم العاصمة، فما بالكم بالريف وأهل الريف ممن لم يتلوثوا بزيف المدنيّة بعد!!

والسوداني يحبّ العمل ويخلص من أجله، وفي المؤتمر الذي حضرته في فندق روتانا أحد أجمل وأشيك فنادق الخرطوم كانت القاعة على سعتها مكتملة العدد، وكان الحضور (وأكثرهم من السودانيين) ينصتون إلى أوراق العمل التخصصيّة منذ الصباح وحتى الثالثة مساءً دون ملل أو تبرّم، وكانت مداخلاتهم دقيقةٌ ومركّزة، وما أثار دهشتي هو بعدهم عن الكراسي الأولى تاركينها لبعض الباحثين عن الوجاهة من غيرهم، وما أدهشني أكثر هو تعريف بعض منظمي الفعاليّة بعددٍ من كبار علماء السودان وقاماتها العلميّة ممن كانوا يجلسون في المقاعد الخلفيّة بكلِّ تواضع العلماء، وربما ما كان لي أن أعرفهم لولا تعريف المنظمين بهم، وقد عرفت منهم عدداً مّمن شغلوا مناصب علميّة مرموقةٍ في جامعات الغرب، وأنشأوا وأداروا عدداً من المؤسسات البحثيّة الكبيرة!

والسوداني متديّنٌ بالفطرة أو ما نسميه بإيمان العجائز، متصّوفٌ بطبعه، بل إن أكبر الأحزاب السودانيّة أسستها شخصياتٌ دينيّةٍ كالمهدي، والميرغني وغيرهم، وتعد قباب الأولياء وزواياهم مزاراً لا يمكن لزائر السودان تجاهله، وتكاد حلقات الذكر والتصوّف والموالد تغصُّ بروّادها من كافّة الطبقات، ولا تكاد تمر في شارع أو حارة إلا وتجد أكواز الماء مصفوفة في جانب ما وبجوارها بساط أخضرٌ أكبير، وعند كل أذان ترى الجموع قد توافدت، والصفوف قد اكتملت لأداء الصلاة يعود كلٌ منهم بعدها إلى عمله.

 والسوداني عاشقٌ للجَمال، محبٌ للفرفشة والابتسامة، بشوشٌ كأن الهموم لا تعرفه، ودودٌ كأنك أسديته جميلاً لا ينساه، يكره ثقلاء الدم ككرهي لمتطرّفي الفكر، تراه برغم تديّنه الفطريّ يتمايل طرباً مع أول نغمة موسيقى تقترب من أذنه بعيداً عن منصبه أو مكانته الاجتماعية.

وآهٍ من الموسيقى السودانيّة فهي لوحدها عالمٌ آخر، بل إنني أكاد أجزم أن من لم يستمع إلى الموسيقى السودانيّة فهو لم يعرف الفنّ الحقيقي بعد، ولا زلت أذكر تلك السهرة الجميلة في منتزه الأندلس جنوب الخرطوم حيث قضينا ليلةً من ألف ليلية حيث القهوة السوداء التي أعدت في دلال طينيّةٍ وكأنني في بيت جدتي القديم، وحيث التكايا والوسائد متناثرة كأننا في مرجٍ أندلسيّ، وسط رائحة البخور التي اختلطت برائحة الشواء وكأننا في غابةٍ من غابات الجنوب، بينما فرقة فنونٍ شعبيّةٍ تتمايل بنا في نشوةٍ صوب كل الاتجاهات وكأننا في حفلة زار، وقتها ترك مضيفينا السودانيين أماكنهم ليشاركوا الفرقة فنونها ورقصاتها، وليشجعونا على تقليدهم في أريحيةٍ تامة.

وآهٍ مليون مرة من الشاي السوداني، وطعمه العجيب الذي ستحلف بعد أول رشفة أنك لم تشربه منذ سنواتٍ طويلة، وأن آخر عهدك به كان في مدرستك القديمة عندما كان العم فلان يعدّه في إبريقٍ كبير بعد أن يكون قد أخذ حقّه في الغليان، قبل أن تنتشر موضة الشاي الفتلة، وشاي النكهات. وإذا أردت أن تشرب شاياً لا يفارق طعمه ذاكرتك فعليك بإحدى البسطات الكثيرة التي تنتشر على طول الشوارع، والتي تديرها بعض النساء حيث يتخذ السودانيين منها بديلاً عن المقاهي، وأماكن للتجمعات ولتبادل الحديث في السياسة والرياضة والشأن العام وكل شيء يخطر على بالهم، فالسوداني دائرة معارف متنقّلة ولا الجاحظ في زمنه، ضليعٌ بالسياسة ولا محللي الجزيرة، متعصّب كروياً ولا جماهير الترسو في مصر!

كثيرةٌ هي الإنطباعات عن هذا البلد الجميل، وعديدة هي ملامح الذكريات، وعزائي أنني سأكرر الزيارة لها لاستعادة بعضٍ من تلك الذكريات، ولقاء عددٍ ممن غمروني بفضلهم وكرمهم.حقاً. بلدةٌ طيّبةٌ.. وشعبٌ كريم!