الأربعاء، 24 أغسطس 2011

مشـاهد رمضـانيـة (5)

أصل معكم في هذا المقال إلى ختام مشاهدي الرمضانية التي قمت بعرضها من خلال أربعة مقالات سابقة، جسدت بعض الملاحظات المجتمعية الشخصية خلال هذا الشهر الكريم.

المشهد الأول : قبل يومين عاد أحد معارفي من الأراضي المقدسة بعد أداءه لمناسك العمرة.هي المرة الرابعة التي يؤدي فيها هذه المناسك خلال هذا العام، كما أنه قد اعتاد تأديتها سنوياً في أيام الشهر الفضيل، وهناك الكثيرون ممن يحذون حذوه.
بالتأكيد فإن تأدية العمرة هو مطلب وحلم للكثيرين، وبالذات في مثل هذه الأيام المباركة، فبالإضافة إلى الأجر الكبير، فهناك الأجواء الروحانية الجميلة، وحالة الصفاء الفكري التي يعيشها المعتمر بالقرب من تلك المشاعر المقدسة.

ولكن لنتخيل لو قرر أحد ممن اعتادوا الذهاب المتكرر إلى العمرة ، ألا يذهب هذه المرة، وأن يتبرع بمصاريف الرحلة كاملة لعائلة أو اثنتين من العوائل المعسرة، خاصة وأن هناك كثير من الأسر تعاني من تكالب الظروف الاقتصادية عليها، فما بالكم بتوالي مناسبات رمضان وعيد الفطر والعودة إلى المدارس تباعاً؟
أعتقد أن المولى- سبحانه وتعالى- لن يحرمه أجر العمرة، وسيجزيه خير الجزاء عن تفريجه لكربة بعض إخوانه من المسلمين، وسيكون أكثر ايجابية ونفعاً للمجتمع.
بالمناسبة.هل تتذكرون قصة الرجل الصالح عبد الله بن المبارك مع الصبيين اليتيمين؟ فلنعد إلى كتب التاريخ الإسلامي إذاً.

المشهد الثاني : أجدهم يستقبلونني على الباب عند دخولي لفرع البنك ، ويستوقفونني عند محاولتي ولوج بعض المحلات التجارية الكبرى، ويلاحقني بعضهم بعد انتهائي من استخدام إحدى آلات السحب المصرفي، ويعترضون طريق سيارتي عند رغبتي في تعبئة الوقود.
إنهم فئة من المجتمع ارتضت لنفسها طريق التسول كأسهل الطرق للكسب. ربما لا يكونون بتلك الكثرة، ولكنهم يتزايدون من عام لآخر، ويستغلون طيبة البعض، ورغبة البعض الآخر في نيل الثواب، ولامبالاة بعض ثالث.

ترى أين تكمن أسباب هذه الظاهرة الدخيلة على مجتمع عرف طوال تاريخه بالتكافل الاجتماعي، وبأنفة أفراده وعزة أنفسهم وتعففهم عن السؤال؟

إذا ما استثنينا الأسباب المتعلقة بضعف بعض القيم المجتمعية التي تركز على التعاون والتكافل، فإنه بالإمكان الاستفادة من كثير من أفراد هذه الفئة، وتحويلهم إلى منتجين حقيقيين، وذلك من خلال الاهتمام ببرامج التنمية الاجتماعية المناسبة، ومشاريع القرى المنتجة، وقوانين التأمينات الاجتماعية، خاصة أن بعضهم كانوا أصحاب حرف متنوعة، وفجأة لم يجدوا من يهتم بهم أو بإنتاجهم.جرب أن تحاور سيدة خمسينية في العمر تجدها في الأيام القادمة على باب أي بنك تمر بالقرب منه، في غالب الأحيان ستجد لديها تاريخاً طويلاً في العطاء الحرفي.هي فقط تريد من يشعرها بأنها من الممكن أن تنفق على عائلة بأكملها من خلال حرفتها.

المشهد الثالث
: اللهم لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه، فقد بدأ الزحف النسائي المكثف تجاه الأسواق في العشر الأواخر من رمضان، وكل ذلك من أجل بعض الملابس والكماليات التي غالباً ما تنتهي صلاحية استخدامها بانتهاء أيام العيد.ملايين الريالات تحول وجهتها في هذه الأيام إلى بعض الدول الآسيوية، ولا عزاء لجيوب الأزواج.
للمرة المليون: أين هي الخياطة العمانية؟؟

المشهد الرابع : الرابعة عصراً، في طريقي إلى المنزل بعد تركي لسيارتي في الوكالة لإجراء الصيانة الدورية المعتادة، أقف على ناصية الطريق بانتظار توقف إحدى سيارات الأجرة كي توصلني إلى البيت. أكثر من عشرة (تكاسي) مرﱠﱠﱠﱠن بجواري خلال فترة زمنية لا تتجاوز الربع ساعة، بدون أن يكلف أحدهم نفسه عناء التوقف لي. كنت أسمع من الأصدقاء عن حالات مشابهة ولكني لم أكن أتخيل حدوث ذلك، فما جدوى شراء السيارة، واستخراج التصريح، ودفع التأمين الشامل؟
الغريب أن بعضهم يشتكي طوال الوقت من قلة الركاب وكساد السوق.

المشهد الخامس:لوحة إعلانية كبيرة تحمل عنوان (سفينة العطاء)، ومطبوع عليها صورة سفينة شراعية قديمة،تتصدر مدخل مستشفى صور المرجعي، اللوحة جسدت واقع مساهمة المجتمع المحلي في حملات التبرع بالدم، من خلال عرض أسماء أبرز المساهمين، وعدد مرات تبرعهم.المشرفين على تصميم هذه اللوحة أطلقوا ألقاب "النوخذه"،و"مساعد النوخذه"، و"قائد الدفة" على المساهمين الثلاثة الأكثر تبرعاً، ولقب "البحارة" على بقية الأسماء، وكأنهم بذلك يوجهون رسالة إلى المجتمع مفادها أننا جميعاً في مركب واحد ، مما يستلزم تكاتفنا وتعاوننا جميعاً.

الفكرة برغم بساطتها إلا أنها جميلة وهادفة وربما تكون غير مسبوقة، واستلهمت التاريخ الملاحي الكبير للمنطقة،وبلا شك فإنها ستشجع الكثيرين ممن سيطلعون عليها على التفكير الجدي في المشاركة في هذا العمل النبيل.
شكراً لكل من يقف وراء كل مبادرة مجتمعية هادفة.

على مدى خمسة أسابيع عشت وإياكم مع بعض المشاهد الرمضانية التي استوحيتها من ملاحظاتي الخاصة خلال هذا الشهر الفضيل، أآمل أن تكون هذه المشاهد قد سلطت الضوء على بعض القضايا المجتمعية المهمة، وطرحت بعض الحلول لها، وأتمنى أن ألتقيكم في مشاهد قادمة في رمضان المقبل إن شاء الله. تقبل الله طاعتكم دائماً، وكل عام وأنتم بخير.

الخميس، 18 أغسطس 2011

مشـاهد رمضـانيـة (4)

أواصل في هذا المقال عرض عدد من المشاهد التي لاحظتها خلال هذا الأسبوع، وهي مشاهد تتنوع في سلبياتها وايجابياتها، والأهم هو أن نحاول تعزيز الايجابيات، وأن نقف بتركيز أمام المشاهد السلبية كي نحاول إيجاد حلول لها، كي يغدو المجتمع أكثر ايجابية.

المشهد الأول : أحد المستشفيات المرجعية، ممرض ورجل أمن يدفعان كرسي متحرك به شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، القيود في يديه، والكرسي يجوب ممرات المستشفى تلاحقه نظرات الفضول من قبل الموجودين من زوار ومراجعين.

آلمني المشهد ، فالشاب لم يرتكب جرماً ليتلقى عقوبة الشماتة من قبل بعض النظرات التي كانت تلاحقه؟ ألا تكفي عقوبة تقييد الحرية؟ كيف ستكون نفسيته ونظرته للمجتمع بعد هذا المشهد؟وهل كانت إدارة المستشفى ستخسر شيئاً لو تمت تغطية النصف السفلي للسجين المريض برداء بحيث لا تبدو القيود ظاهرة للعيان؟

السجن إصلاح وتهذيب ، ولا يعقل أن نخسر أمثال هذا الشاب بسبب إهمال البعض أو عدم إدراكه لعاقبة بعض التصرفات.

بالمناسبة .. توجد في السجون كثير من الحالات التي يستطيع المجتمع التفاعل مع ظروفها وحلها، كبعض السجناء الذين تم توقيع العقوبة عليهم بسبب تأخرهم في سداد مبالغ بسيطة، أو توقيع شيكات بدون رصيد وليست ذا مبالغ كبيرة، أو وجود شباب في عمر الزهور أدت ظروفهم الأسرية وبعض المشاكل العائلية إلى أن يكونوا مذنبين.

دعوة لرجال الأعمال، ورجال الدين، والمختصين في علوم النفس والاجتماع، والشباب المتطوع في الجمعيات المختلفة أن يهتم بأحوال هؤلاء. لن نخسر شيئاً لو زرنا بعض السجون وتعرفنا على الحالات المختلفة، وتعاونا مع الجهات المختصة في علاج بعض الحالات.

لا يجب أن نقصر العمل الخيري في رمضان على توزيع بعض المأكولات على المساجد، أو تبني فكرة "إفطار صائم" فقط، هناك وجوه مهمة كثيرة للأعمال الخيرية تنتظر اهتمامنا.

المشهد الثاني: أمسية رمضانية جميلة، النسمات عليلة على غير العادة، وعشرات الأسر والشباب والأطفال يتجمعون في كورنيش المدينة في مشهد يومي متكرر، بعضهم يمارس رياضة المشي، وآخرين يلعبون الكرة، ومجموعة أطفال تلهو هناك ببعض الألعاب التي قامت البلدية مشكورة بتوفيرها، ومجموعة نساء متحلقات حول بعضهن، ربما يناقشن ماذا طبخت كل واحدة منهن اليوم، أو آخر أخبار المسلسلات والبرامج، أو أية موضوعات نسائية أخرى.

المشهد جميل، وربما تكتمل روعته بوجود شباب عماني يتخذ من هذه التجمعات فرصة لكسب الرزق، كأن يقوم أحدهم باتخاذ ركن يبيع فيه بعض المشروبات المختلفة، أو يقوم آخر ببيع بعض الحلويات والمكسرات التي يحبها الأطفال، كما نلاحظ ذلك في الأماكن المشابهة في بعض الدول. تحقيق ذلك ليس صعباً.هو فقط بحاجة لشيء من الإرادة.

المشهد الثالث: الرابعة عصرا..في طريقي إلى مطعم"النباتي" في السوق القديم بصور، وهو لمن لا يعرف، مطعم مشهور بإعداد بعض الوجبات الرمضانية الخفيفة "كالمرمرية"، و"المتاي"، و"الزليبيا"، والبكورا"، وغيرها. قادتني رجلاي للمرور بين عدد من الأزقة في الحارة المجاورة للمطعم، وأعادتني الذاكرة لمشاهد مماثلة في الحي القديم بمدينة الشارقة، أو حواري الأزهر والجمالية والحسين بالقاهرة،أو شارع "كريت " بالإسكندرية.

نفس الشوارع الضيقة التي تحكي عن تاريخ موغل في الحضارة..ترى كم قافلة مرت من هنا؟ وكم مشتر قادته رجلاه للمرور بها، وكم من الأحداث التي اختزنتها ذاكرة تلك الشوارع والحارات القديمة؟

ما يؤلمك عندما تمر في حاراتنا القديمة الإهمال و التشويه المتعمد الذي تراه، الشوارع مليئة بالعفن والرطوبة، والبيوت نصفها مهدم والآخر مرمم بشكل يشوه المنظر أكثر مما يعيد إليه جماله.

أين تكمن المشكلة؟ ألم يمر أحد من المسئولين بهذه الأزقة والحارات ؟ وإذا كانوا قد مرورا أفلا يعلمون قيمتها التاريخية وما قد تمثله من مخزون تاريخي مهم؟

الفرق بيننا وبين الآخرين أنهم يعرفون قيمة مثل هذه الشواهد التاريخية، أما نحن فلن يهدأ لنا بال حتى نزيلها ونقيم محلها عمارات قبيحة الشكل لا تتوافق وتاريخ المكان. ترى ماذا سنقول للأجيال القادمة عندما سنحكي لهم عن تاريخ المكان؟ أولا يمكن التفكير في مشروع حضاري يحفظ تاريخ تلك الأماكن ويعيد لها رونقها؟ مجرد سؤال.

يوم أمس صادف السابع عشر من رمضان، والذي ارتبط بحدث إسلامي عظيم، وهو ذكري موقعة بدر الكبرى، ترى هل تذكر شبابنا هذه المناسبة؟ وهل قرءوا عن معوذ ومعاذ ابني عفراء اللذين شاركا في المعركة وهما دون العشرين، وساهما في قتل رأس الكفر أبو جهل؟ أم إنهم كانوا مشغولين بمباراة القمة بين الريال والبرشا؟

من المهم أن يستعيد شبابنا هذه المناسبات والأحداث العظيمة في تاريخ الأمة، ويأخذون منها الدروس والعبر.

هذه حصيلة هذا الأسبوع من المشاهد المتنوعة. نلتقيكم في مشاهد رمضانية قادمة أتمنى أن تكون أكثر جمالاً وايجابية.

الخميس، 11 أغسطس 2011

الشيخ محمد صديق المنشاوي - سورة القمر - قمة الروعة


مقارنة بين أداء عبد الباسط و المنشاوى


عبدالباسط عبدالصمد (( أكثر مقطع تم البحث عنه بقوقل ))


مشـاهد رمضانية (3)

أواصل في هذا المقال عرض عدد من المشاهد الرمضانية التي لاحظتها خلال هذا الأسبوع، قد يكون بعضاً منها مشاهد عامة، يتكرر حدوثها في بقية المدن والولايات، وقد يكون بعضها خاصاً بالمجتمع الذي أعيش فيه، وقد يحمل البعض الآخر رؤية خاصة بي قد لا تتفق مع رؤى عدد من القراء، مع تأكيدي واقتناعي بأن غلبة الجوانب السلبية على بعض هذه المشاهد لا يعني النظرة التشاؤمية وخلو المجتمع من مشاهد ايجابية أخرى، ولكني أتعمد أحياناً التركيز على نماذج من هذه المواقف كونها قد تشكل بقعاً سوداء في ثوب ناصع البياض، من المهم علينا التعاون جميعا نحو إزالتها كي يعود مجتمعنا أكثر نصاعة وبياضاً. واليكم بعضاً من هذه المشاهد:



المشهد الأول: الساعة الثانية ظهراً..درجة الحرارة تقترب من الخمسين، الحرارة مرتفعة، والرطوبة عالية، والشوارع خالية إلا من موظفين عائدين من أماكن عملهم، وأعداد قليلة من السيارات يبدو أن أصحابها قد استيقظوا في وقت متأخر وفي طريقهم لقضاء بعض الحوائج المنزلية.عامل آسيوي يبدو من مظهره البؤس وسوء التغذية، يمسك بإحدى يديه خرطوم مياه يسقي به بعض الحشائش والورود في أحد دوارات المدينة، ويجاهد بيده الأخرى كي يقي رأسه من ضربة شمس محتمله. شدني المنظر واستغرقت في تأمل قسمات وجه ذلك العامل ، وجالت بخاطري بعض التساؤلات: ترى فيم يفكر الآن؟ و بماذا ستصف تلك الورود التي كان يسقيها هذا المشهد لو أتيح لها النطق؟



صديقي الذي كان بجواري يعتقد أنه ربما يكون هذا العامل غير مسلم، لذا فلن يضيره الأمر في شيء، خاصة وأن عدداً كبيراً من هذه العمالة قد تعودت على العمل في مثل هذا الوقت طوال العام.

ولكن الإسلام دين الرحمة، ورمضان شهر التراحم، واحترام ديننا لإنسانية الفرد وحقوقه المختلفة كان من أسباب انتشاره بشكل كبير في كثير من المجتمعات. أليس كذلك يا صديقي؟ أليس كذلك أيضاً يا بعض أصحاب الشركات والمؤسسات ؟



المشهد الثاني: الساعة السابعة والنصف ليلاً.. موعد عرض البرنامج التراثي المحلي (هود هود) لمعده ومقدمه المجيد الشاعر سالم السعدي. البرنامج جميل بعفويته وفكرته ومقدمته الرائعة، ويقدم نماذج لبعض الفنون العمانية المغناة، ويعرف المشاهد ببعض الأمثلة والأحاجي المحلية، ويستعرض نماذج حياتية مجتمعية، ويتوقف عند محطات مهمة من الأسماء البارزة على مستوى الشعر الشعبي في السلطنة، كما يزيح الستار عن شخصيات أخرى ربما لم تصل إليها آلة الإعلام المحلية في فترات سابقة،ويحسب لمعد البرنامج ومقدمه قدرته على أن يجعل العديد من الشخصيات التي استضافها البرنامج أن يتفاعلوا بشكل جيد معه، و"يتجلوا" في استعراض إمكاناتهم المختلفة ، ولعل ذلك يعود إلى تعامله مع مثل هذه المواقف كهواية قبل أن تكون حرفة، وكذلك خبرته السابقة من خلال إعداده وتقديمه للعديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية الناجحة والقريبة من المتلقي.



باختصار.. يعد البرنامج وجبة رمضانية خفيفة ، وإضافة مهمة للخريطة البرامجية لتلفزيون سلطنة عمان في شهر رمضان المبارك،ولا يقلل من نجاحه بعض "اللخبطة" الحاصلة من جراء تداخل المشاهد المختلفة من أكثر من ولاية في الحلقة الواحدة، وعدم التعريف بالولاية التي يتم عرض المشاهد الخاصة بها، مما يجعل بعض المشاهدين ينشغلون بتخمين اسم الولاية التي تم التصوير بها،وكذلك عدم التعريف ببعض الشخصيات التي تم أخذ الحوار معها أحياناً.



المشهد الثالث: الساعة التاسعة والنصف ليلاً في مسرح معهد التمريض بصور. والمناسبة هي افتتاح المسابقة الثقافية الرمضانية (غازي 10)التي تنظمها الشركة العمانية للغاز الطبيعي المسال - التي عرف عنها مساهماتها المجتمعية الواسعة- والتي تستهدف المؤسسات الحكومية والخاصة في المدينة، وذلك ضمن مجموعة من الفعاليات والأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية التي تشرف على تنظيمها ودعمها في شهر رمضان من كل عام، للسنة العاشرة على التوالي.

المسرح مهيأ بشكل جميل ومتكامل، وهناك طاقم فني متكامل يشرف على تقديم المسابقة، وإدارة الأجهزة المستخدمة في تنظيمها. ما يميز المسابقة استخدام التقنيات الحديثة في عرض الأسئلة بشكل مشوق، وتنوع الفقرات التي تتخللها، فهذا باحث في الموروث المحلي مهمته ربط الحضور بموروثهم الجميل من خلال تقديم نماذج من الأسئلة والمعلومات المشوقة المتعلقة به، وذاك منشد يجوب بالحضور في بحور من الروحانية الجميلة، وذلك باحث متخصص يقدم خلاصة فكره وتجاربه. وهناك جوائز فورية قيمة تقدم للجمهور، عدا الجوائز المغرية التي تقدم للفرق الفائزة بالمراكز الأولى.



باستثناء عدد من الصغار الذين أتى معظمهم للحصول على أكبر عدد من الكوبونات التي تؤهلهم للصعود على خشبة المسرح للإجابة على أسئلة الجمهور، وبالتالي الحصول على جائزة قد يؤدي الحصول عليها إلى إدخال البهجة في نفوس هؤلاء، فإن عدد الحضور قليل ، ولا يتناسب مع أهمية هذه المسابقة، والإمكانات المبذولة لإنجاحها، بالرغم من الدعاية الإعلامية الواسعة، وبالرغم من أن مثل هذه الفعالية قد أصبحت عادة رمضانية سنوية.

ويبقى التساؤل المهم: لماذا العزوف عن حضور مثل هذه الفعاليات المهمة؟



المشهد الرابع: الساعة الثانية ليلاً..عدد من الصبية تتراوح أعمارهم بين العاشرة والخامسة عشر، يلعبون الكرة أمام ساحة أحد المساجد، وبالقرب من أحد الشوارع الفرعية. ثمة صبيان آخرين يقودون دراجاتهم الهوائية بطريقة أكروباتية في الشارع القريب، وعدد من الشباب على ناصية الشارع يرقصون على صوت موسيقى صاخبة لأغنية خليجية تنبعث من سيارة أحدهم.



ترى لم يتخذ كثير من الصبية في هذا الشهر الفضيل، ساحات بعض المساجد، والشوارع الفرعية كأماكن لممارسة هواياتهم المختلفة؟ هل هو التخطيط السيئ للحارات السكنية والذي لا يخصص أماكن مهيأة لممارسة الهوايات والأنشطة المختلفة؟ أم هو عدم وجود مراكز شبابية رياضية وثقافية توفر ممارسة هذه الأنشطة؟ وهل لغياب دور الأندية الحقيقي في هذا المجال، واقتصارها على ألعاب محددة ولأفراد بعينهم أثر في ذلك؟ربما.

بالمناسبة..أين الأهل عن هذا المشهد؟؟



المشهد الخامس: اتصالات هاتفية، رسائل نصية قصيرة متوالية، صفحات متعددة على مواقع التواصل الاجتماعي الالكتروني، مواد خبرية في عدد من وسائل الإعلام المحلية، ملصقات اعلانية متنوعة.. كلها تحوي هدفاً واحداً وهو حث المجتمع على دعم حملات مساندة الشعب الصومالي الشقيق في محنته التي أدت إلى وفاة الكثير من السكان جوعاً، ونزوح أعداد أخرى إلى مناطق مجاورة...

كم أنت ايجابي ورائع أيها الشباب العماني.



هذه حصيلة هذا الأسبوع من المشاهد الرمضانية المختلفة. نلتقيكم في مشاهد رمضانية قادمة أتمنى أن تكون أكثر ايجابية.

الخميس، 4 أغسطس 2011

مشـاهـد رمضانية (2)


    كنت قد تناولت في المقال السابق عدداً من المشاهد والمواقف المرتبطة بحلول الشهر الفضيل ، وفي هذا المقال سأعرج على بعض المشاهد والملاحظات الخاصة بي خلال الأيام الأولى من أيام هذا الشهر المبارك، وهذه المواقف بعضها سلبية سبقت الإشارة إليها والتحذير من وقوعها، والدعوة إلى التصدي لها، والبعض الآخر ايجابية وبها كثير من الروحانية، والتكافل الاجتماعي، وينبغي العمل على تعزيزها بحيث تشمل بقية أيام السنة، والمحافظة على جوانبها وتطويرها، وسنبدأ  بسرد بعض المشاهد السلبية:

المشهد الأول : اليوم السابق لدخول رمضان، ولأن السمك  - وهو وجبة مفضلة لنا في رمضان نحن سكان المناطق المطلة على بحار كريمة بصيدها وخيراتها المختلفة – أصبح ينافس في ارتفاع أسعاره اليومية أوقية الذهب، بالإضافة إلى قلة وجوده في الأسواق المحلية حالياً، فقد توجهت إلى إحدى الحظائر لشراء رأس من الغنم المستورد،  وذلك لأن النوع المحلي إما نادر الوجود لظروف التصدير والبيع في الأسواق الخارجية، حيث يتم رمي اللحم، والإبقاء على العظام التي  تدق بعد سلقها لعمل (حساء) مخصوص لإبل السباق في بعض الدول المجاورة، أو لأن أسعاره فوق قدرة ذوي الدخل المتوسط أمثالي. الشاهد أنني اخترت أحدها وسألت البائع عن سعره، فأجابني أنه بــ(48) ريالاً، وهذا سعر نهائي ولا مجال للمفاصلة، قلت له: ولكنني اشتريت شبيهاً له من نفس المكان، وبنفس المواصفات ب(37) ريالاً قبل أقل من شهر، بلا مبالاة تركني البائع وذهب لتلبية طلبات زبائن آخرين بدا من تزاحمهم عليه أنهم على استعداد لشراء أكثر من رأس وبأي سعر  ، فكرت أن أهدد البائع و(كفيله) بإبلاغ هيئة حماية المستهلك، وبعض الجهات الرقابية الأخرى،ولكني خشيت من سخريته مني، فلذت بالصمت وانصرفت.

المشهد الثاني: عصر اليوم الأول من رمضان، الساحة الرئيسية في السوق مزدحمة بالناس، عشرات الباعة الجائلين من الجنسيات الآسيوية يعرضون أصنافاً من الوجبات والحلويات الرمضانية المتنوعة، وبعض "قليل" من باعة "الهريس" العمانيين بجوارهم. شدني تزاحم  عدد كبير من الناس شيباً وشباباً وصغاراً بداخل أحد المطاعم المشهورة بإعداد مثل هذه الأصناف ، الزحام رهيب، والطابور الفوضوي يتعدى باب المطعم ليملأ الساحة المحيطة بالمطعم، في ظاهرة غريبة لم أعتد رؤيتها في الأيام العادية.

أحد الأصدقاء أكد لي أن هذه الظاهرة ستقل بمرور أيام الشهر الفضيل، ولكن تبق ثمة تساؤلات محيرة: ما السبب لذلك التزاحم الغريب والغير مبرر؟ هل هو الإحساس بالجوع خاصة ونحن في أول أيام الشهر المبارك؟ أم هو الفراغ وقلة الأماكن التي يمكن ارتيادها في مثل هذا الوقت كالمكتبات العامة والمراكز الثقافية والاجتماعية؟

كما أن كثيراً من المشاركين في ذلك التزاحم العجيب كانوا بالطبع قد اشتركوا في الحملات المكثفة نحو المجمعات والمحلات الكبيرة قبل حلول الشهر الكريم، وقادوا بأنفسهم عشرات (العربات) المحملة بما لذ وطاب من معجنات ومعلبات ومجمدات وسوائل من كافة أنواع أصناف الطعام، فأين ذهب كل ذلك؟ هل هي الثقافة الاستهلاكية السلبية مرة أخرى؟ وهل نمارس عملية الشراء العشوائي لمجرد تقليد الآخرين والتباهي أمامهم بحجم المشتريات وقيمتها؟

نفس الصديق السابق تمنى لو كان هذا التزاحم حدث أمام صندوق خيري يضع فيه الناس شيئاً بسيطاً من نقودهم أو بعض المستلزمات، تذهب إلى المحتاجين في أنحاء شتى من العالم الإسلامي، خاصة وأن وسائل الإعلام المختلفة تتحدث كثيراً هذه الأيام عن شبح المجاعة الذي يتهدد الملايين في القرن الأفريقي القريب جغرافياً من منطقتنا.

شاركته أمنيته، وأضفت عليها أمنية أخرى وهي وجود مراقبة صحية  وبلدية يومية للأسواق،  خاصة في  الفترة من الظهر حتى أذان المغرب، حيث يكثر باعة الطعام الجائلين.

وكي نكون منصفين، ولكي تبدو الصورة أكثر جمالاً ونقاء فهناك مشاهد أخرى ايجابية قد تبدد تلك الصورة السلبية ، صحيح أن بعضها يكثر في رمضان  ولكنها تبقى مظاهر جميلة ينبغي تشجيعها والحث عليها، خاصة ونحن نتحدث دائماً عن أهمية المحافظة على ما تبقى من عادات وقيم مجتمعة، ومحاولة إحياء ما اندثر منها.

المشهد الأول: صلاة الفجر في أحد المساجد.. المسجد ممتلئ برواده من مختلف الأعمار، صوت قراءة القرآن يعلو على بقية الأصوات، الصبيان لهم حضورهم، إما  وحدهم أو برفقة آبائهم ،  عجوز تسعيني يدخل المسجد متكئاً على يد أحد أحفاده. برغم ظروفه الصحية وكبر سنه، وبرغم عدم استطاعته الصلاة واقفاً، إلا أنه مصر على تسجيل حضوره الروحاني  اليومي، ربما لأن خير الأعمال الخواتيم ، وربما لكي يقدم لأولئك الصغار درساً في أهمية المحافظة على الصلاة باعتبارها ركن الدين قد يستفيدون منه في حياتهم اليومية وصلتهم بربهم.

مشهد آخر: قبل المغرب بدقائق..صحون المساجد ممتلئة بعدد كبير من الصائمين، البعض يتوضأ، والآخر يقرأ القرآن، والثالث يتوجه إلى الله بالدعاء، أصناف الوجبات المختلفة تتوالى على المكان، سواء من البيوت القريبة، أو من صندوق وقف بعض المساجد، أو من تبرعات المحسنين طالبي الأجر والثواب، يرفع الأذان فيشترك الكل في الإفطار في حميمية عجيبة، دون تفرقة بين لون أو جنسية .

صورة  رائعة ومعبرة لمظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي تتضح بشكل جلي خلال أيام الشهر الفضيل، وتؤكد على وجود استعداد فطري لدى الكثيرين للمساهمة  في الأعمال الخيرية بمختلف أشكالها، بشرط أن توجد الجهة التي تنظم هذا الأمر بشكل جدي ومناسب ومدروس.

مشهد ثالث: أطفال صغار يتجمعون قبل أذان المغرب أمام باب بيت أحدهم ، وقد أتى كل منهم حاملاً في يديه  طبقاً مما جاد به بيته، يشكلون حلقة وهم يرددون بعد انتهاء صوت المؤذن" بو أذون.. بو أذون..فطروا فطروا يا صايمين.. باكر بتصبحوا نايمين" بصوت فيه من براءة الطفولة الكثير، يشجي النفس،  ويعيد ذكريات طفولة جميلة لدى الكثيرين ممن أفقدتهم زحمة الحياة كثيراً من متعتها. ترى هل تعرف مريم ومودة وفرح وشهد وبقية الرفاق أن كثيراً من أقرانهن قد نسي مثل هذه العادة الجميلة وأمثالها؟

جميل هو رمضان.. ورائعة هي أيامه..وروحانية هي أمسياته..نلتقيكم في مشاهد رمضانية قادمة أتمنى أن تكون أكثر جمالاً وايجابية.

الأربعاء، 3 أغسطس 2011

مصر التي في هاجسـي


منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أعتزم الكتابة عن مصر، لولا إحساسي أن كل مشاعري تجاه هذا البلد لن يحتويها مقال ، وبعد الأحداث الأخيرة رأيت أن العشرة، والأيام الجميلة التي عشتها في كنف "المحروسة" تستلزم مني كتابة مقال أعبر من خلاله عن شيء مما أكنه تجاه هذا البلد.

عندما ركبت الطائرة قبل خمس سنوات متجهاً إلى القاهرة لاستكمال دراستي ( العليا) فيها.. كانت هناك كثير من المشاهد تتراءى أمام مخيلتي.. مشاهد صنعت أحداثها عشرات المسلسلات المصرية الجميلة، والتي لم تكن أحداثها تدور في القصور وبيوت ومنتجعات  الطبقة الجديدة كما يحدث في مسلسلات هذه الأيام.. كما صنعتها حكايات المعلمين المصريين ... وصنعتها روايات أصدقائنا من أبناء أولئك المعلمين.

عندما نزلت من الطائرة في ميناء القاهرة الجوي كان كل همي أن أتخلص مما أحمله من حقائب ، وأن أنطلق كي أتحقق من تلك المشاهد..كان منظر النيل.. وصورة الأهرامات.. وطعم الفول ..ورائحة البهارات  يجذبني بشدة .. تخلصت من حقائبي، وانطلقت نحو الشارع استكشف مصر، واستمرت محاولات استكشافي لها أربعة سنوات كاملة، ومازلت حتى الآن لم استكشف سوى القليل من حضارة هذا البلد الرائع.

إن كنت أنسى يا مصر فلن أنسى أياماً جميلة قضيتها  في ربوعك..مازال منظر الريف المصري الجميل بنيله وفلاحيه، وأنا أتطلع إليه من نافذة القطار "الاسباني" ماثلاً أمام عيني ..ومازال نغم "القانون" في مقهى نجيب محفوظ بخان الخليلي يرن في أذني..ومازلت أستسيغ طعم "حواوشي" شلبي في ميدان أحمد عرابي .. ومازالت رائحة الكتب القديمة والمستعملة في سور الأزبكية باقية في يدي..

عن ماذا  يا مصر  سأحكي من ذكرياتك..ترى هل يعرف من زارك قهوة "ريش" ودورها في صناعة التاريخ السياسي لك؟وهل احتسوا التاريخ مع أقداح الشاي والقهوة في  قهوة "المضحكخانه" و"الفيشاوي" و"جروبي" و"بعره" وغيرها من المقاهي المتناثرة في ربوعك، والتي ساهمت في صنع تاريخك؟هل زاروا دار الكتب والمتحف المصري ومتحف الآثار الإسلامية وقلعة صلاح الدين وقايتباي؟ هل تجولوا في شوارع طلعت حرب وقصر النيل وشامبليون  ومحطة الرمل ورأوا رقي حضارتك؟ هل تسكعوا أمام عمر أفندي وصيدناوي وشيكوريل ومكتبة مدبولي والشروق؟هل زاروا "الوادي الجديد"، أو"عزبة سعداوي" وقضوا أياماً جميلة بصحبة مصريين حقيقيين كل همهم في الدنيا هو الستر والقناعة؟..هل يعرفون لذة التجوال عصراً في "المشاية" ، أو "جزيرة الورد"، أو "سيدي بشر"..هل أصابتهم نفحات " المرسي أبو العباس"، و"أحمد البدوي"، "وسيدي القناوي" وغيرهم من الأولياء الذين فتحت لهم بابك فوجدوا في حضنك الأمان؟.. هل أحسوا بدفء أصالتك في عابدين وامبابه ومحرم بك والمنيرة والجيزة ...هل أسمعهم سائق التاكسي  آخر نكته، أو تحليل سياسي عميق لحدث يهمك، أو وصف لمباراة كرة قدم،أو شكوى  من المعيشة  بينما نسخة من المصحف الشريف تتصدر مقدمة السيارة؟..هل سمعوا عن وجهك القبيح المتمثل في العشوائيات كعزبة الهجانة، وقلعة الكبش، واصطبل عنتر، وعزبة النخل أو فرع جهنم في الأرض كما يحلو لبعض سكانها أن يسموها بذلك؟

علمتني سنوات المعيشة في "المحروسة" أشياء عدة..علمتني أن القاهرة  ليست فقط شارع  جامعة الدول العربية بكل تناقضاته، كما يحلو لكثير من زوار مصر أن يعتقدوا بذلك.

علمتني أن المصري  يميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى الطبيعة التقليدية التي عاش فيها المصري على ضفتي النيل وتركت بصماتها على شخصيته ، حيث منحته شعوراً زائدا بالطمأنينة والسكينة وصل به  في بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم للأمر الواقع والميل إلى الاستقرار الذي يصل أحيانا إلى حالة من الجمود.

علمتني أن المصري صبور لدرجة لا يمكنك تخيلها، ولكن عليك أن تحذر غضبه في عدة حالات: حين تنتهك قدسية عقيدته الدينية المتراكمة عبر عصور طويلة، و حين تجرح كرامته الوطنية بشكل مهين ، وحين تهدد لقمة عيشه بشكل خطر.

علمتني أن المصري "قدري" إلى أبعد حد ، فهو يوكل أمره إلى الله، وهو يعتقد أن مصيره بيده ، و"عشانا عليك يا رب".

علمتني أن توالي الحضارات على مصر جعل من شعبها بشوشاً، محباً للغريب، جرب أن تمشي في أي شارع أو حارة في مصر وفي أي وقت من أوقات اليوم، لن تجد من يتعرض لك أو ينظر لك نظرة استغراب أو استهجان..جرب أن تسأل أحدهم عن مكان ما، ستجد الكل يتسابقون في مساعدتك ، بل وسيتطوع بعضهم لترك عمله وإيصالك للمكان الذي تريد...جرب أن تطلب شيئاً ما من جارك في السكن، أو تحاور شخصاً لا تعرفه ويجلس جوارك في القهوة أو أية وسيلة مواصلات.

علمتني أن المصري لديه قدرة هائلة على التكيف مع الظروف , ويبدو أن هذه القدرة اكتسبها من تاريخه الطويل في التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات , وتغير الظروف والأحوال التي يعيش تحت وطأتها , فلديه مرونة كبيرة في التعامل , ولديه قدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه أيا كان هذا الأمر , ولديه صبر طويل على الظروف المختلفة .

علمتني أن المصري متدين بطبعه، ورؤيته  لأي أمر في حياته يغلب عليها الدين حتى ولو كان غير متدين، فهو يفتتح يومه بآيات الذكر سواء في محله أو بيته، ويضع المصحف بجواره في كل مكان ، وفي جيبه، حتى لو مرت أشهر بدون أن يقرأ آية منه، وهو يشعل البخور، ويستمع إلى إذاعة القرآن ، ويلبس الجلباب الأبيض الناصع كل جمعة حتى لو تأخر في الذهاب إلى الجامع لأداء الصلاة، وهو يحلم طوال عمره بأن يوعده ربه بحج أو عمره، وأن يزور قبر الحبيب.

علمتني أن النكتة والدعابة هي سلاح المصري للتغلب على همومه،  فهو يستخدمها للتخفيف من معاناته، فمن خلالها يستطيع أن يسخر من المستبدين به ويهينهم ويقلل من هيبتهم، والنكتة دفاع ضد الحزن العميق الكامن في الشخصية المصرية, ولهذا تجد المصريين يضحكون كثيرا برغم كثير مما يعانونه .

النكتة بالنسبة للمصري كما يراها الصحفي الكبير (عادل حمودة )تعني المقاومة الساخرة، الواعية، الحية، المتفلسفة، وربما السلبية أيضاً..مقاومة تعطي الشعب "الأمان"، وتعبر عن إرادته التي لا تفنى، ولا تقر الخوف، وتسعى إلى أن تتجاوزه..هي "انتقام"مقدس ..يدافع به الشعب عن نفسه ضد "الطغيان".

لا أحد يفهم الشعب المصري أكثر من الشعب المصري..قالها نابليون عندما تلقى نبأ ثورة الشعب المصري عليه..لم يعرف نابليون أن الثورة في مصر تشتعل عندما تنعدم المسافة بين الجوع والموت..بين الحرية والسجن..عندما يصبح الحشيش عاجزاً عن التخدير..والنكتة عاجزة عن التسكين..باختصار..عندما يكون الألم أشد من المورفين..والغضب أكبر من حلقات الذكر..والانتحار هو السبيل الوحيد للحصول على رغيف العيش.

ختاماً ..أيتها العظيمة لن أجد لوداعك سوى قول أحد أبنائك:
ياصابحة متعطرة..من حلفا للقنطرة..أنا اللي دمعي اشترى..أغلى مناديلك