الاثنين، 20 فبراير 2017

مدد يا سيدي البدوي

إبريل 2008.. كنت قد انتقلت للإقامة في شقّة تقع في شارع جسر السويس، قريبة من شقّتي السابقة المطّلة على حديقة الميرلاند بشارع نهرو المجاور، وإن كان الأخير محسوباً على مصر الجديدة! وما أدراك ما مصر الجديدة! وآه من مصر الجديدة! في مصر يمكن أن يفصل شارعٌ واحد بين حيّين متجاورين لكن كلّ منهما يعبّر عن مستوى اجتماعيّ واقتصاديّ وفكريّ مختلف تماماً! وعادي أن تجد كليو (البرتقان) بجنيهين على هذا الرصيف وبخمسة على الرصيف المجاور مع أنّه نفس البرتقال!

 ما جعلني أصرّ على الانتقال للشقّة الجديدة برغم ثقل دمّ وكيلها وتردّده شبه اليومي عليها بسبب أو بدونه وكأنّه قد غرس مسماراً بها هو موقعها الوسيط بين أماكن أحبّها فهي تتوسّط المسافة بين ميدان روكسي من جهة حيث تسكّعي كلّ مساء، وبين ميدان النعام، وشارع سليم الأول، وقصر الطاهرة، ومحطة مترو سرايا القبّة حيث الهرب من (تناحة) أصحاب التكاسي في مشواري الأزليّ إلى وسط البلد، ومقاهي وسط البلد، وسينمات وسط البلد، وفاترينات وسط البلد، وكلّ شيء جميل في وسط البلد! كما أنّها على مسافة (فركة كعب) من بوّابة كلّيّتي من ناحية جسر السويس، إضافة إلى توافر أشياء مهمّة أحرص عليها في كل مرة أقرّر السكنى فيها، من أوّل مقهى البنّ البرازيلي حيث ألذّ عصير موز يمكن أن تشربه، إلى محل أولاد رجب وذكريات الفراخ بانيه رفيقة العشاء المنزلي حيث أولى خطواتي في عالم الطبخ، إلى المخبز الصغير أسفل البناية حيث العيش الفينو السّاخن، ومعمول عجوة التمر الشهيّ الذي لا يحلو لي شراؤه سوى بعد الواحدة ليلاً حيث يكون قد خرج من فرنه واستوى، إلى حاتي (الحرّيف) وروائح مشاويه الشهيّة التي تدغدغ خياشيمي مع كل رحلة ذهاب وإيّاب من وإلى الشقّة!

كنّا في إبريل حيث الدنيا ربيع والجو بديع على رأي المرحومة سعاد حسني، وأنا عاشق لإبريل مصر كما أعشق خريف اسطنبول، وشتاء مسقط، وصيف بونشاك. كان الليل قد تجاوز منتصفه، وما أحلى ليالي الربيع على البلكونة وأنيسة سهري تبوحني جديدها وقديمها كعادتها كلّ أمسية بعد أن تفرّق الأحباب ومضى كلّ في طريق! كنت أتنقّل مع مؤشّرها كتنقّل تلميذ مجتهد مع أسئلة اختبار نهائيّ حاسم، فمرّة مع إذاعة الأغاني من القاهرة وشعارها الأزليّ "قليل من الكلام.. كثير من الطرب"، وتارة مع إذاعة القرآن الكريم وصوت ملائكيّ ينبعث من حناجر نادرة ذهبت بذهاب أصحابها، وثالثة مع حكاوي ألف ليلة وليلة للرائع طاهر أبو فاشا، وبقيّة الوقت أقضيه مع تمثيليّات وبرامج تعود إلى زمن الفنّ الجميل قبل أن يتلوّث بفضلات العولمة، وقبل أن يختلط الحابل بالنّابل، وتطفو على السطح كائنات طفيليّة علاقتها بالإبداع كعلاقتي بنظريّة الصاروخ!   

من إذاعة الشرق الأوسط يأتي صوته من بعيد، عذباً فخيماً يتسلّل إلى القلوب كابتسامة طفلة، يدغدغ المشاعر كريحِ صباً هبّت فجأة وسط أتون صيف العامرات، يلامس الوجدان كنصيحة أمٍ اختصرت العالم كلّه في ابنها:
مولاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي.. مَن لي ألوذ به إلاك يا سَندي؟
أقُوم بالليّل والأسّحار سَاجيةٌ.. أدعُو وهمسُ دعائي.. بالدموع نَدي
بنُور وجهك إني عائذ وجل.. ومن يعُذ بك لَن يَشقى إلى الأبدِ

أيّ صوت ملائكيّ هذا الذي يرفرف! وأيّ حنجرة ذهبيّة تلك التي تخرج كل هذه الطاقة من النور! إنّه (سيّد النقشبنديّ) أستاذ المدّاحين وكبيرهم، أذربيجانيّ الأصل، مصريّ الطينة والنشأة والتشكيل، صاحب الثماني طبقات، ابن الدقهليّة الذي استهواه مقام السيّد البدوي فعاش بقيّة حياته قريباً منه، ولا عجب فمثله لا يمكن أن يجد مكاناً للعيش أفضل من طنطا حيث روحانيّات العارف بالله أحمد البدوي، أو (شيخ العرب) كما يطلق عليه تهفهف على المكان!

 لم أشعر إلا وأشعّة الصباح تخترق نافذة غرفتي، وما دام الصباح قد حلّ فلا نوم، وغداً الخميس حيث لا يوجد التزام دراسيّ لديّ. ما الحلّ إذاً؟! وماذا أفعل ببقايا شجو النقشبنديّ التي طبقت على روحي بحيث لا تكاد تفارقها! لا حل سواه، مادامت روح النقشبنديّ قد نادتني فلأذهب إليها. إلى طنطا، وبالتحديد إلى جامعها الأحمديّ، قبلة الزوّار والمريدين، ومهوى كثير من النفوس الحائرة.
إلى محطّة مصر برمسيس حالياً و(باب الحديد) سابقاً أوجّه رحالي، حيث آلاف البشر يغدون ويروحون، وحيث تبدأ رحلة وتنتهي أخرى، وحيث العابرون والتائهون والغرباء، وحيث الوجوه التي تراها لمرّة واحدة فقط وتنساها بعد ذلك وكأنّها تذكرة سينما تنتهي صلاحيتها بانتهاء عرض الفيلم!

أستقلُّ مقعداً في الدرجة الثانية بالقطار الإسباني كعادتي في كلّ رحلة، وكنت كعادتي كذلك قد تزوّدت بمجموعة من الصحف تكفي لتوزيعها على سكّان دولة كالصّين، وكعادتي أيضاً كما في كلّ مرة طلبت كوباً من الشاي الأخضر الذي لن تشرب مثله في مكان آخر، ورغيفاً من عيش الفينو المحشوّ بالجبنة الرومي، معتمداً في قضاء الوقت المتبقّي على الوصول في الاستمتاع بمنظر الريف الأخضر المحيط تارة، ومطالعة عناوين الصحف تارة أخرى مؤجّلاً قراءة معظمها لجولة أخرى تنتظرني في أحد مقاهي طنطا التي استقبلتني بعد حوالي ساعة وربع بروحانيّة وعبق بخور مساجدها، ونفحات أولياءها الصالحين وما أكثرهم! ليست المرّة الأولى التي أزور فيها طنطا واسطة عقد الدلتا وعاصمتها وملتقى طرقها، ومدينة (البدوى) كما يطلق عليها، فكثيراً ما توقّفت بها لشراء شيء من (حلاوة المولد) التي تشتهر بها وبالأخص محلات البشبيشي، أو لأتذوّق بعضاً من الحمّص والمشبّك والهريسة والسمسميّة وأنا في طريقي إلى الإسكندريّة، كما زرتها مرّة لغرض علميّ في جامعتها، وأخرى وأنا متّجه إلى المنصورة لزيارة كوكب الشرق في مقهاها الذي يقع بالقرب من المحطّة القديمة، وشرب الشاي عصراً في جزيرة الورد، وكثيراً ما تجوّلت في شوارعها الرئيسة كالبحر، والجلاء، والنحّاس، وسعيد وشارع المديرية، وجلست مرّة أحتسي (العنّاب) في مقهاها النوبيّ، ورابعة لزيارة أسرة أحد معارفي في (بسيون) القريبة منها، يومها اشتريت عسلاً كأنّه الشّهد المصفّى! كان عسل برسيمٍ ابتعته من أحد الفلاحين في كفرٍ صغيرٍ يتبع بسيون لم أجد للذّته شبيهاً، عسلٌ تبكي من فرط لذّته قبل أن تذوقه، وتبكي مرّة أخرى بعدها خوفاً من نفاده!

أخرج من محطّة طنطا متأملاً الميدان المحيط، ثم أستفتح يومي بطبق هريسة من محلّ (أولاد رزق) القريب، لأستدير في طريقي إلى شارع السكّة الحديد الذي أواصل السير فيه متأملاً حركة الجماد والبشر وهي العادة التي أمارسها مليون مرّة كل يوم كسجين أشغال شاقّة حكم عليه بتكسير حجارة جبل صلد، قبل أن أنتقل إلى محطّتي الأخيرة في شارع محمود علي البنّا أحد الشوارع المحيطة بالمسجد الأحمدى.. أمّا ما حدث بعد ذلك فتلك حكاية أخرى!



الثلاثاء، 14 فبراير 2017

مشاهد وتساؤلات 32

(1)
مع استمرار ارتفاع أسعار مشتقّات الطاقة، وفرض رسوم جديدة أو رفع أسعار رسوم بعض الخدمات، فإنّني للمرّة المليون أدعو إلى دراسة وتوقّع ردّة فعل قطاعات اقتصاديّة مهمّة كمقاولات البناء، وأصحاب سيّارات نقل المياه، وسيارات الأجرة، وسيارات توزيع الغاز، وغيرها من القطاعات المرتبطة بالخدمات المختلفة، وماذا لو قام هؤلاء برفع أسعار خدماتهم بشكل مبالغ فيه وتأثير ذلك على المواطن؟!
وللمرّة المليون كذلك أعيد وأقول إن مشكلة هذه القطاعات أنّها قطاعات غير منظّمة، بمعنى أنّه لا يوجد كيان قانوني ينظّم آليّة عملها، أو يتحدّث باسمها، أو يطالب بحقوق العاملين بها، وبالتالي من الصعوبة التحكّم في ردّة فعل العاملين بها تجاه أيّة أزمة أو قضيّة اقتصاديّة قد تحدث مستقبلاً، وهو أمر لاحظناه سابقاً في مواقف مختلفة.
الإشكالية أنّه عندما يقدّم أحدهم طرحاً كهذا يأتي بعضهم بكل ما أوتي من طاقة على الكلام ليتحدّث عن إشكاليات تنظيم هذه القطاعات، متناسياً كافّة الأضرار والتبعات التي يمكن أن تلحق بالمواطن جرّاء استمرار عشوائيّة العمل فيها، متجاهلاً أن إنشاء هذه الكيانات الاقتصاديّة المنظّمة حتى ولو كانت على هيئة شُعَب تابعة لغرفة التجارة والصناعة يخدم الاستقرار بكافة أشكاله في المقام الأول؛ حيث ستجد الحكومة من تتفاوض معه مستقبلاً في حالة رغبتها في إجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية، أو تحرير أسعار بعض الخدمات والسلع.
(2)
ارتفعت حرارة ابني ليلاً بحيث لم تجدِ معه أيّة مسكّنات أو مخفّضات للحرارة، لذا كان لزاماً عليّ أخذه إلى أقرب مركز صحّي. ولمّا كانت المراكز الصحّيّة الحكوميّة ملتزمة بالحكمة الخالدة التي تقول (نم مبكّراً تصح مبكّراً)، ولما كان أقرب قسم طوارئ يبعد مسافة حوالي نصف ساعة عن البيت فقد اضطررت ككلّ مرّة إلى أخذه لمركز صحّيّ خاص كنت أحفظ عن ظهر غيب اجراءاته التي سيتّخذها!
ومع أن حالة ابني كانت تستدعي إعطاؤه خافضاً للحرارة، وحقنة مسكّنة، إلا أن الطبيب وكالعادة طلب من الممرضة عمل تحليل للدم لم يتكرّم بعد ذلك بشرح تفاصيله لي برغم إلحاحي، ثم أمر بمغذّ وريديّ، ثم أمر بعد ذلك بصرف كمّيّة من الأدوية التي تشرب وتبلع وتمصّ تكفي لتخدير ثورٍ تنزانيّ، على أن نعاود الرجوع بعد أسبوع للاطمئنان، ودفعت في ربع ساعة ما قيمته خمسة وعشرين من الريالات ما بين رسوم علاج، واستشارة، وتحليل، وأدوية!!
لست معترضاً أو متضايقاً من المبلغ الذي دفعته، فقد يتطلّب الأمر أحياناً أن ندفع مقابل خدمة قد لا تتوفّر في مكان آخر، أو لأن الأمر يستدعي بالفعل ما ندفعه، ولكن مكمن ضيقي واعتراضي هو تساؤلي حول جدوى ما دفعته! وهل استدعى الأمر بالفعل لكل ذلك، أم أن الأمر لا يعدو عن كونه (حلباً) لجيوب المرضى على اعتبار أنّهم لن يناقشوا ما سيأمر به الطبيب! وهل تعمَد (بعض) هذه المراكز الخاصّة إلى حيل كهذه من أجل الحفاظ على كياناتها قائمة!
وماذا لو قررت الحكومة أن تسحب يدها عن الخدمات الصحّيّة المقدّمة مجّاناً شيئاً فشيئاً! هل سيكون المواطن وقتها تحت رحمة لوبي جديد متمثّل في المراكز الصحّية ومعامل التحليل الخاصّة! إنني أتخيّل المواطن البسيط وهو حائر متنقّل بين هذا المركز وذلك المعمل، وهات يا أشعة وكشوف وتحاليل، وهات يا تخويف وتشكيك!
كلّي أمل وثقة أن حكومتنا لن تضعنا تحت رحمة هؤلاء مطلقاً مهما كلّفها الأمر.
(3)
بعد أن أعلنت إدارة معرض مسقط الدولي للكتاب الذي سيتم افتتاحه بعد أيام قليلة عن مواعيد زيارة المعرض، وفي ظل الإصرار الكبير منها على تخصيص الفترة الصباحيّة (عدا الجمعة والسبت) لطلبة المدارس، فإني أقترح على البعض خاصّة ممّن هو مرتبط بدوام مسائيّ أن يقوم بإعداد قائمة للكتب التي يحتاجها ويوصي أحد أقاربه من النساء أو طلبة وطالبات المدارس بشرائها!
حقيقة لم أستطع فهم سبب إصرار المسؤولين عن المعرض على تخصيص أغلب الفترات الصباحيّة (باستثناء السبت) لطلبة المدارس، على الرغم من كثرة الملاحظات والشكاوي الواردة من أصحاب دور النشر الذين يشتكون من قلّة حركة البيع والشراء صباحاً على اعتبار أن هؤلاء الطلبة لا يمثّلون قوّة شرائية كبيرة، فهذا ليس معرضاً خيريّاً أو تعريفيّاً أو توعويّاً بحتاً، بل هو معرض تجاريّ تدخل حسابات الربح والتجارة ضمن أهدافه الرئيسة، والمشاركون فيه يدفعون مبالغ كبيرة مقابل تنقّلاتهم وتذاكر سفرهم، ورسوم الإقامة والشحن واستئجار المكان! كما أنّ هناك من الباحثين والمهتمّين من تمنعه ظروفه العمليّة أو المكانيّة من الحضور مساءً فيسعى إلى استعاضتها صباحاً، أو هو بحاجة إلى فترة زمنية إضافيّة للتجوّل والانتقاء!
في كل المعارض الخارجيّة التي قمت بزيارتها لم أمنع مرة واحدة من دخول أيّ معرض بحجّة أنّه مخصص للنساء أو طلبة المدارس، وقضيت في آخر معرض قمت بزيارته قبل أسابيع قليلة ثلاثة أيام متوالية في زيارات تبدأ الساعة العاشرة صباحاً وتنتهي في السابعة مساءّ دون أن أجد لوحة تحدّد وقتاً لهذا أو تمنعها على ذاك، بل كنت أرى الجميع صغاراً وكباراً، إناثاً وذكورا، كل مشغول بانتقاءاته من الكتب المختلفة.
(4)
من منطلق (مكرهٌ أخاك لا بطل) قرّرت جلب عاملة منزل تساعد زوجتي في مهامّها المنزليّة بعد أن فاض الكيل واندلق، وعندما ذهبت لأقرب مركز سند للسؤال عن الشروط التي أنساها في كل مرة أقرر جلب عاملة كان من بينها تفعيل البطاقة الشخصية، وعندما عاودت سؤاله عن كيفيّة تفعيلها أخبرني أنه يمكنني ذلك إما بزيارة أقرب فرع للأحوال المدنيّة، أو بتفعيلها من خلال الأجهزة التي وفرتها هيئة تقنية المعلومات ضمن مبادرة "عمان الرقميّة"!
ارتحت للحل الأخير، وقررت الذهاب لأقرب مركز تجاريّ لتفعيل بطاقتي خاصة أن الخطوات كما تتبّعتها في شبكة البحث العالمي سهلة وبسيطة، فكانت الجولة على حوالي سبعة مراكز تجاريّة متفرّقة في أنحاء العاصمة مسقط، وفي كل مركز أدخله يكون الجواب من قبل مكتب الاستعلامات أنهم سحبوا الجهاز!
حاولت الاتصال بالرقم المجاني للهيئة فاكتشفت أنه لا يرد سوى في أوقات الدوام الرسمي! جرّبت توجيه سؤال لهم على (تويتر) فلم يأتيني ردٌ فوريّ! حرت واحتار دليلي معي. ماذا أفعل فأنا لا أعرف وشوشة الوَدَع، ولا أستطيع الذهاب إلى عرّاف من كهنة اليمن كي يدلّني على جهاز يعمل، ولم يكن أمامي سوى الاستعانة بالصبر والصلاة إلى أن انقضى اليوم وانتظرت الدوام الرسميّ بفارغ الصبر كي أعاود الاتصال بنفس الرقم المجّاني كي يجيبني أحدهم على سؤالي الملحّ: لماذا تم سحب الأجهزة، وأين ذهبت؟! وبعد محاولات عديدة كانت الإجابة أنّه تمّ سحبها لوجود أعطال عديدة بها، ولعدم تجاوب الشركة المشرفة على تشغيلها وصيانتها!!
وماذا عن شعارات الحكومة الإلكترونيّة؟! وماذا عن عمان الرقميّة؟!