الاثنين، 27 مارس 2017

في مقهى الفتوّة (1-2)

يونيو 2008.. كنّا في الصيف، والفصول في مصر كما يقول العجوز رفعت إسماعيل بطل روايات (ما وراء الطبيعة) الأصلع النحيل الذي يدخّن كقاطرة قديمة، والشبيه بدودة الإسكارس " تتشابه، وقد تختلط، ولكن شيئاً واحداً يميّزها هو الرائحة.. رائحة الأسفلت المبتل في الشتاء، رائحة حبوب التفاح وزهور البرتقال القادمة من أرض محروثة في الربيع، روائح العرق وأنسام الليل الرحيمة في الصيف". كنّا في الصيف، حيث الأنسام التي تهبّ عليك من المجهول تدغدغ مشاعرك كما تدغدغ أمٌ رؤوم طفلها، وتفتح في داخلك كتاباً من الذكريات يعجز هرقل عن حمله، ويقسم تايسون أن هناك قوّة هائلة تمنعه من محاولات غلقه. وحيث اقتراب موعد العودة إلى الوطن نهاية كل عامٍ دراسيّ محمّلاً ببعض الهدايا، وكثيرٍ من.. الشوق واللهفة. 

 كنت لا أزال في شقّة جسر السويس التي سأغادرها بانتهاء الفصل إلى بقعة أخرى في محاولاتي المستمرة لاكتشاف كل شبرٍ في المحروسة كعهدٍ قطعته على نفسي في أول يوم داست فيه قدماي تراب القاهرة، حيث أحمد موظّف هيئة الاستعلامات السابق ووكيل الشقّة الحالي ما زال يتردّد على شقّتي كل مساء كفرسِ نهر، وحيث صبحي صبيّ فرن العيش الذي ينتظرني بعد الساعة الواحدة ليلاً لتسليمي حصّتي اليوميّة من عيش الفينو الساخن ومعمول العجوة بالسمسم بعد أن يكون قد طاب واستوى، وعمّ مجدي الحلاق الطيّب الذي كلّما رأيته أتذكّر السّاعي في مسرحيّة "شاهد مشافش حاجة" وحواره الشهير مع عادل إمام و "خد.. بالك من نفسك"، وعمّ عبده (سكيوريتي) الأمن الطيّب بقميص الشركة الأزرق الفاتح كزرقة ماء النيل عند مغادرته للمنبع قبل تحوّله إلى السواد قرب المصبّ، وابتسامته الصافية كنقاء شاشة إل أي دي برغم ظروفه القاسية كمزاج مراهقة، السوداء كقلب الكافر، و(ماهيّته) التي قد لا تكفي لتغطية أجرة انتقاله اليوميّ من مصر الجديدة حيث يعمل إلى شبرا الخيمة حيث يسكن، وحيث محمود الشاب العشريني خريج الجامعة العمّالية الذي يعاونه في مهمّة حراسة البناية بعدما فقد الأمل في وظيفة تليق بمسمى الجامعة التي تخرّج منها. الجامعة التي راهن عليها عبد الناصر لتخريج أجيال من العمّال المهرة عندما كانت هناك مصانع وانتهى بها الحال إلى (أنتيكة) تزيّن شارع النصر وتنفث سيارات النقل والسيرفس والملاكي بعوادمها السوداء في واجهتها كل ثانية، والتي كان يمكن (وهبها) لأحد الحيتان كي يحوّلها إلى برجٍ سكنيّ عال، أو مقر لإحدى شركاته لولا بعضٌ من حياء. في كل مرّة ألمح مبناها وأنا في طريقي راجلاً أو راكباً إلى شارع عباس العقّاد أو مول سيتي ستارز القريب كنت أسأل نفسي: متى سيأتي اليوم الذي يحنّ فيه قلب أحدهم على مرايا المبنى ويقوم بتلميعها وإزالة أطنان الغبار والسواد المتراكم! شقّة جسر السويس حيث البن البرازيلي، وأولاد رجب، وحاتي الحرّيف، وإشارة الطاهرة، وقصرها الشهير، وميدان النعام، وميدان روكسي، والعبّودي، وأشياء كثيرة جميلة ما زالت بقاياها تعلق بالذاكرة كذكريات طفل، أو كبقايا بنّ عبد المعبود الشهير في فنجان قهوة سوداء مضبوطة بجروبّي مصر الجديدة.

كنت في شقّتي صباحاً وهي من المرات النادرة التي أصحو فيها مبكّراً ما لم أكن مرتبطاً بموعد دراسيّ أو اجتماعيّ ما، فمن ذا الذي يتهوّر وينام مبكراً تاركاً ليل القاهرة الصيفيّ حيث المقاهي المفتوحة التي تختلط فيها ضحكات الصبايا المائعة بنكهة المعسّل وكليبّات قنوات ميلودي ومزّيكا، أو أغنية (الأماكن) التي تعاد 657894 مرّة في الكافيهات التي يرتادها (الخلايجة) والعرب، وحيث الشوارع التي تظلّ ساهرة حتى مطلع الفجر،  وحيث جلسات البلكونة التي تحلو صيفاً مع (شقّة) بطّيخة مثلّجة، وبرّاد شاي أحمر، وصوت كلاسيكي من بقايا الزمن الجميل.    

وبينما كنت أتلذّذ بارتشاف كوب الشاي بالفتلة وقراءة (الدستور)جريدتي الأثيرة وقتها قبل أن تتحوّل إلى صحيفة شديدة الاصفرار تصلح لكلّ شيء عدا القراءة، شدّني خبرٌ عن مقاهي الحسين في زاوية كانت الجريدة تخصّصها للتعريف بالمقاهي والأماكن التي تصلح للزيارة في القاهرة، وهي الزاوية التي اتخذت منها في تلك الفترة دليلاً لزيارة العديد من المقاهي والأماكن التي كانت وقتها في عداد المجهول بالنسبة لمعلوماتي عن خبايا القاهرة. هنا قلت لنفسي: إنني قد زرت القاهرة الفاطميّة ليلاً ملايين المرات قبل اليوم، وأكاد أحفظ عن ظهر قلب تفاصيل الأحداث الليليّة هناك، وأسماء صبيان مقاهيها، وملامح متسوّليها، فلماذا لا أجرّب زيارتها نهاراً، فلعلّي ألمح بشراً آخرين يختلفون عمّن رأيتهم هناك على مدى تلك الزيارات، ولعلّي أعيش أحداثاً وتجارب تختلف عن تلك التي عايشتها ليلاً! ولا بأس من جلسة جميلة تنعش الذكريات في قهوة الفيشاوي.

وكأني لم أكذّب خبراً، فما هي إلا دقائق كنت قد انتهيت خلالها من ارتداء قميصي الأخضر المشجّر الذي ابتعته ذات نهارٍ أغبر من أحد المحلات الصغيرة المنزوية في حارة من حارات المهندسين، والذي يذكّرني بسيّاح هاواي، فقط شورت ضيّق، ونظارة سوداء، وسيجار كوبيّ ضخم ويكتمل المشهد!

(أخذت بعضي) في طريقي الذي حفظته رجلاي عن ظهر قلب كحفظ طالب نحوٍ مدرعمٍ لألفية ابن مالك، إلى محطّة سرايا القبّة القريبة مخترقاً شارع جسر السويس، فميدان سليم الأول، حتى وصلت إلى المحطة موزّعاً سلاماتي وتحيّاتي هنا وهناك. يعشق المصريّ النكتة والابتسامة والفرفشة والمناقشة والمناغشة كما يعشق الياباني عمله، وسيردّ على تحيّتك بأفضل منها، وعلى ابتسامتك بأعرض منها، وعلى نكتتك بأسوأ منها، و(تفضّل معانا شاي)، لكنّه قد يكرهك كما يكره المقدسيّ الصهاينة لو قابلته متجهّماً مكشّراً، فالمصري قد يستحمل الضنك وضيق الحال، وقد يتقبّله بصدرٍ رحب، لكنّه لا يتقبل ثقلاء الدم وأصحاب (السِّحَن) الضيّقة!

أنزل في العتبة حيث (سرّة) القاهرة ومنتصفها، وحيث أكبر كميّة من البشر يمكن أن تراها في حياتك، ومنها أسير راجلاً باتجاه شارع الأزهر حيث محطّتي الأخيرة في قلب المشهد الحسينيّ وسط سيمفونيّة من أصوات المطارق النحاسية، ورائحة البهارات والتوابل، وسباب سائقي التكاسي لبعضهم البعض، متسلّياً بمحاولة استحضار تاريخ المكان المحيط حيث الموسكي، وحارة اليهود، والغوريّة، والدرب الأحمر، والباطنيّة، والمشهد الحسيني، ودرب البادستان، والصنادقية، وسوق التبليطة ، وشارع ربع السلحدار، والمقاصيص، والصالحية، وخان جعفر، وأم الغلام، والحمزاوي، وأماكن أخرى كل حجرٍ بها شاهدٌ على حقب، وأحداث، وشخوص عديدة عجنت تاريخ المكان بفكرها وثقافتها حتى غدا خليطاً عجيباً أو مكبّاً لتفاعلات تلك الثقافات المتباينة!


أصل أخيراً إلى الحسين وأقترب من الخان، وألامس المئذنة الشامخة، وأشم رائحة عبق البخور القادم من زقاق قريب، وهنا ستكون لي حكاية. ويا لها من حكاية!

الاثنين، 20 مارس 2017

(نفحاتك يا نقشبندي)

كنت قد اتّخذتُ مكاني على ناصية البهو الخارجي للقهوة الأحمديّة التي سميت بذلك تيمّناً بالمسجد الأحمدي والتي استمدت من جواره شهرتها وعراقتها وصيتها. يأتيني أحد (صبيان)المقهى كي يرى ماذا يشرب (الباشا)، وهي الكلمة التي تلاحقني في كل مقهى أدخله، فأطلب سحلباً بالمكسّرات وكأس ماء مثلّج، لأتفرّغ لمتابعة تأمّلاتي لمن حولي ومطالعة الصحف التي شدّتني عناوين بعضها. كان العنوان الرئيس لأغلب (المانشتات) الصحفيّة وقتها هو اضراب 6 ابريل الذي حدث قبل بضعة أيّام والذي كانت قد دعت إليه فئة من المدوّنين الشباب سيكون لهم شأن في الحياة السياسيّة المصرية، وذلك تضامناً مع إضراب دعا إليه عمّال شركة المحلّة للغزل والنسيج إحدى قلاع الصناعة المصرية المتبقيّة، واعتراضاً على الغلاء والفساد، والذي تحوّل فيما بعد إلى إضراب عام وشابته أحداث شغب كبيرة. وسيتحوّل هذا التاريخ من مجرّد رقم إلى اسم لحركة سياسيّة سيبرز دورها بشكل كبير خلال فترة ما قبل أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير وما بعدها، وستنقسم فيما بعد إلى جبهتين كعادة أصيلة ارتبطت بالأحزاب والحركات والجمعيّات السياسيّة المصريّة! وسيتحوّل بعض رموزها من أبطال إلى خونة، ومن ضيوف دائمين في كل برامج (التوك شو) إلى نزلاء سجون بحسب الهوى والمزاج السياسي القائم! الطريف أن شعار الإضراب الذي تبنّته الحركة وقتها حمل عنوان أغنية شهيرة للرائعة نهاد حدّاد أو فيروز كما يعرفها سكان كوكب الأرض والكواكب المجاورة، وكان الشعار "خليك بالبيت"! والغريب أن بعض حركات وأحزاب المعارضة حاولت تنظيم إضراب يوم الرابع من مايو من نفس العام وهو اليوم الذي يصادف عيد ميلاد الرئيس مبارك، ولكنه فشل. هكذا هي الشخصية المصريّة، تفعل كل شيء بمزاجها لا بمزاج الآخرين، وفي الوقت الذي تحب وتشاء لا كما يحب الآخرين!

أقلّب الصحف بادئاً بالصفحة الأخيرة كعادتي عند قراءتها. أطالع في (اليوم السابع) تصريحاً للسيد صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى يقول فيه إن الأحداث التي شهدتها مدينة المحلة الكبرى جاءت تحريضاً منظماً ومخططاً من جانب فئة غير واعية وغير مسئولة وفاقدة للحس الوطني! في خبر آخر أبو العز الحريرى نائب رئيس حزب التجمع السابق يدين موقف قيادة الحزب من الإضراب. خبر ثالث في (الشروق) يتحدث عن مقاطعة جماعة الإخوان لانتخابات المحلّيّات بعد أن سمح لها بالتنافس على 20 مقعد فقط من بين 52000!

وسط زخم السياسة أطالع أخباراً طريفة مثل (الناس في إضراب أم "هربانة" من التراب؟!) وذلك تعليقاً على العاصفة الرمليّة التي ضربت العاصمة يوم الدعوة للإضراب. و(جزارو الحمير يعتدون على الصحفيين)! يذكرني الخبر الأخير بحكايات بيع لحوم الحمير وترويجها كلحوم مفرومة في المطاعم، التي انتشرت في تلك الفترة والتي امتنعت بعدها نهائياً عن شراء اللحم أيّاً كان مصدره كما امتنعت قبلها مجبراً عن شراء (الفراخ) بعد ظهور انفلونزا الخنازير!

أترك الصحف جانباً كي أعطيها لاحقاً إلى أحد العاملين بالمحل كما أفعل في كل المقاهي لأبدأ الجزء الثاني من السهرة وهو ممارسة التأمل الذي يقطعه صوت يأتي من الداخل متسللاً كما يتسلّل الحبّ إلى قلب مراهقة خجول. صوت لا يمكن وصفه أو تصنيفه أو تحليل طبقاته وسلالمه، إنه صوت (أسمهان) يلعلع: فرّق ما بينّا ليه الزمان.. ده العمر كلّه بعدك هوان. ما الذي أتى بأسمهان هنا! كنت أعتقد أن (السماع) في هذه القهوة مقتصر على التواشيح والأذكار والقراءات بحكم الجيرة والجوّ المحيط فما الذي أتى بالطرب هنا. نسيت أننا في مصر، حيث لا يمكن للمقهى أن يكون بلدياً شعبياً صميماً دون تكايا خشبيّة، ونصبة، ومعلّم بشنبٍ ولغد، وحجر معسّل، وعشرة بلدي، وروحٌ جميلة، وطرب أصيل! 

تعيدني أسمهان إلى الأيام الخوالي، حيث كنت (خُلْوٌ مِنَ الْهَمِّ إلا هَمَّ خَافِقَةً.. بَيْنَ الْجَوَانِحِ أَعْنِيهَا وَتَعْنِينِي) على رأي شيخنا الجواهريّ العظيم. إلى ذكريات السنة الأولى لي في الجامعة، ومغامرات الفتى الأسمر النحيل مع روايات إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، والتي تبعها بالقطع اقتناء أغاني حليم ونجاة وفايزة، وأحلام اليقظة التي لم تكن تختلف قصصها عمّا ورد في تلك الروايات. كانت هذه الأغنية ضمن مجموعة أول وآخر (كاسيت) أشتريه لأسمهان في حياتي قبل أن تنتشر أغانيها وأغاني غيرها على مواقع النت كانتشار الوباء في قرية أفريقيّة، وكان يحوي كذلك أغنية تفيض من الشجن كما يفيض سد وادي ضيقه بماءه بعد كل منخفض. كان اسم الأغنية "ليت للبرّاق عيناً"، وكانت أسمهان تؤديها بطريقة تجعلك ترى ليلى العفيفة وهي متكوّمة في سرداب قلعة فارسيّة مكبّلة بالسلاسل والقيود، ووهج حرارة الصحراء يلفحك بينما ابن عمّها البرّاق هائماً على فرسه يبحث عن أثر يدلّه على مكانها. ذكرتني كذلك بحواراتي اليوميّة وقتها مع (سالم) قرب مطعم الوحدة السكنيّة أو ونحن خارجون من قاعة التلفاز وأسئلته الدائمة لي: ترى من الأفضل أم كلثوم أم أسمهان؟ وماذا لو لم تمت أسمهان في وقت مبكر من عمرها؟ سالم تمّان المعشني الفيلسوف الذي خلط بين بوّابتي كلية الهندسة والآداب فدخل الأولى اعتقاداً أنها الثانية! الشاب الذي كان يتعامل مع قواعد النحو وإعراب الأبيات والجمل كما يتعامل ميسّي عند انفراده بحارس نيبال. والذي كان يتحدث في علوم الفلسفة والمنطق والتاريخ كما يتحدّث عبد الوهّاب المسيري عن الصهيونيّة. والذي كان يفهم في خبايا الطرب العربيّ الأصيل كما يفهم عاملٌ ياباني ماهر في أسرار صناعة الأدوات الكهربائيّة. ترى أين ألقت بك رياح الحياة يا سالم!

أصحو من ذكرياتي على صوت شاب أسمرٍ نحيف يقف بجواري حاملاً على رأسه جبلاً من الخبز يكاد يصل السقف يرجوني أن أشتري (العيش) الذي يحمله كي يفرّقه على (الغلابة) الذين يفترشون صحن الجامع. أعرف هذا النوع من النصب والتحايل واكتويت بناره مراراً في الحرم الحسيني والسيدة زينب. هو في الغالب سيقتسم النقود مع آخرين يمارسون ذات العمل، وسيأخذ الخبز لشخص آخر يعتقد أنّه يمكن استغفاله باسم الغلابة. الكل يتاجر باسم الغلابة، والكل يكسب عدا الغلابة!!

أطالع ساعتي لأكتشف أنها تقترب من الحادية عشر حيث موعد القطار الذي يعود بي إلى قاهرة المعزّ. أغادر المقهى باتجاه ميدان المحطّة بينما نفحات سلطان التواشيح وملكها المتوّج سيّد النقشبندي تهبّ على روحي قادمة من مكانٍ ما قريب:
تَحلو مرارة عيشٍ في رضاكَ ومَا.. أطيق سخطاً على عيشٍ من الرغدِ
أدعوكَ يَا ربّ فاغفر زلَّتي كَرماً.. واجعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدي
وانّظُرْ لحالي في خَوفٍ وفي طَمعٍ.. هَل يَرحمُ العَبد بَعْدَ الله من أحدٍ؟



الاثنين، 13 مارس 2017

بائع الجمال

قبل خمسة أعوام من الآن، وعند انتقالي إلى المؤسسة التي أعمل بها حالياً كان من ضمن ما شدّني من بين أشياء كثيرة جذبتني بها وأعطتني تصوراً مبدئياً عن أيام جميلة قادمة تنتظرني بها، وجود لوحات معلّقة على جدران وممرّات المؤسّسة ومكاتبها وزواياها المختلفة. لوحات كانت تحمل صوراً وعبارات تبعث التفاؤل، وتغذّي الأمل في الأرواح، ويعرّف عديدٌ منها بملامح عمانيّة تاريخيّة واجتماعيّة وسياحيّة مختلفة. الأمر الآخر الذي أثار انتباهي هو أن عدداً من هذه اللوحات كانت تحمل اسم شخص يدعى سيف بن ناصر الرواحي!

 بعدها بفترة عرضت عليّ إحدى طالباتي بالكليّة التي أقوم بالتدريس المسائي فيها كتاباً بعنوان "العزوة في فنجا" كي يكون مشروعاً لبحثها الفصليّ، ومرّة أخرى يتردد اسم سيف الرواحي حيث كان هو مؤلّف الكتاب! وبدأ العقل الباطن في محاولات التذكّر والربط والتخيّل، وطرح السؤال الذي سيستمر لفترة قادمة بعدها: من هو سيف بن ناصر الرواحي؟!

 تشاء إرادة الله بعدها أن ترحمني من تساؤلي ذاك بعد أن انتقل هذا (السّيف) إلى نفس المؤسسة كزميل عمل، لذا بدأت محاولاتي السريعة في التعرّف عليه عن قرب، وأدركت منذ الوهلة الأولى أنني أعرف هذا الشخص منذ سنوات عديدة على الرغم من أنها المرة الأولى التي يقع بصري عليه، ذلك أن ابتسامته التي لا تكاد تفارق محيّاه، وروحه المرحة، وضحكته المميّزة وكأنها سيمفونيّة عاشرة نسي بيتهوفن توثيقها كانت جواز مرورٍ سريعٍ إلى قلوب المحيطين به، واكتشفت بعدها بفترة أن هذا (الانسان) يكاد يرتبط بعلاقات صداقة مع كل سكّان الأرض فلا تكاد سيرته تأتي في أي محفل إلا وأجد الجميع يعرفه، ولا أكاد كذلك أسأله عن أيّ إنسيّ او (جنّي) إلا ويفاجئني بمعرفته به! أي قلبٍ هذا الذي يحتوي العالم بأسره بين أوردته! 

  وخلال خمسة أعوام هي عمر زمالتنا وصداقتنا، كان مكتبه المنزوي كمعمل رسّام سيرياليّ هو المحطّة الأولى التي يبدأ منها يومي، وكثيرة هي أكواب القفشات وفناجين المداعبات التي كنا نرتشفها صبح كل يوم لمست خلالها مدى عشقه للكاميرا، وأدركت كذلك الجهد الكبير الذي يبذله في سبيل حبّه لفنّه، وكنت أتابع من خلال رسائله الواتسابيّة كل جمعة رحلاته المكّوكيّة في هذه الولاية أو تلك بحثاً عن مشاهد يوثّق من خلالها بعضاً مما يتمتع به هذا الوطن العظيم من مكنونات وعناوين متفرّدة في التميّز والإبداع، وكنت أسأل نفسي في كل مرة: ألا توجد ارتباطات تحول بينه وبين فنّه ورحلاته وبحثه عن اللقطة أيّاً كان موقعها؟! ثم أدركت أن العاشق لا تحول بينه وبين محبوبته موانع أو عقبات، فما بالكم لو كانت تلك المحبوبة لوحة رائعة صنعتها إلتقاطة جميلة من عدسة بشريّة تعوّدت على انتقاء الجمال.. واقتناءه!

وعندما أهداني (أبو ناصر) كتابه الأخير (محافظة الوسطى.. الحياة والطبيعة) الذي سيدشّن مساء اليوم الثلاثاء أدركت أنني أمام عملٍ منفرد، فهو ليس بالكتاب العاديّ بقدر ما هو سيمفونيّة من الألحان الجميلة، أو باقة من الورود النضرة، فالكتاب باذخٌ بمعلوماته، زاهٍ بصوره، أنيقٌ بإخراجه، مثيرٌ بقضاياه التي يطرحها!

يفسّر الرواحي أسباب اشتغاله بكتابه في مقدّمته بقوله" أحاول في هذا الكتاب أن أنقل جزءاً من خيال الواقع وجمال الحقيقة الذي رأيته رأي العين متجسّداً في محافظة الوسطى. إن التنوّع البيئي ما بين سهلٍ وجبلٍ وبحرٍ وصحراء، وتنوّعٍ في الموروث التقليديّ والفنون الشعبيّة والصناعات اليدويّة يغدو سمةً مميّزةً لهذه المحافظة، يدفع الإنسان إلى البحث عن غواية المجهول فيقع أسير هذه الطبيعة، وهو ما دفعني إلى أن أكتب كتابي مُضَمّناً ما التقطته عدستي، وما جادت به مصادر البحث المختلفة"، ولعمري فإن المؤلف محقٌ فيما ذهب إليه، ومعذورٌ إن تولّع في حبّ فاتنة كالوسطى، فمن ذا الذي لا يعشقها من أول نظرة فما بالكم بمن عاش بها بضعة سنوات من عمره!

يضمّ الكتاب الذي يعدّ الثالث في سلسلة إصدارات المؤلف بعد كتابيّ (العزوة في فنجا)، و(روعة الأمكنة) بين دفّتيه أحد عشر فصلاً ، توزّعت على 240 صفحة من الحجم الكبير تناول الأول جواهر الوسطى الأربعة هيما ومحوت والدقم والجازر، وسلّط الثاني الضوء على الطبيعة الجيولوجية للمحافظة ومكامن أسرارها عبر الزمان، بينما تحدّث الثالث الحقف وبدايات الإنسان القديم، وركّز الرابع على النباتات والأشجار التي تتميز بها المحافظة وقصّة تكوين الطبيعة، بينما أخذنا الفصل الخامس في جولة بين أرجاء محميّة الكائنات الحيّة والفطريّة حيث يكون للطبيعة معنى، وغاص بنا السادس في أعماق البيئة البحريّة وأسرارها الدفينة، وعرض السابع والثامن لتراث وأصالة أبناء المحافظة من خلال أبرز المهن التقليديّة والصناعات الحرفيّة، والفنون العمانيّة المغنّاة، بينما نقلنا الفصل التاسع إلى المستقبل من خلال الحديث عن منطقة الدقم الاقتصادية ذلك الرافد الاقتصاديّ الواعد، وتناول العاشر كنوز الطبيعة في باطن أرض الوسطى من خلال الحديث عن الذهب الأسود، ومفجّر التنمية في السلطنة والخليج بشكل عام، وعاد بنا الفصل الحادي عشر والأخير إلى الماضي من خلال تجوالنا مع الرحّالة الذين زاروا المحافظة وأرّخوا لها، ودوّنوا ملاحظاتهم المختلفة عنها أمثال برترام توماس، وويلفرد ثيسجر، وإدوارد هندرسون وغيرهم.

إنّ المتأمّل لهذا (السِّفر) سيدرك مدى الجهد الكبير الذي بذله الباحث في سبيل إعداده، وهو جهد مكمّل لجهود سابقة وحاليّة مازال الباحث يقوم بها في مجال التعريف بالمعالم العمانيّة المتنوّعة، جهد بدأ كحلم ثمّ تحوّل إلى واقع متاح، وذلك من خلال المعارض الشخصيّة والعامّة، والمطبوعات التوثيقيّة، والبرامج الإعلاميّة المرئيّة والمسموعة، والاشراف على عدّة صفحات فنيّة متخصّصة في مجال التصوير الفوتوغرافي بالصحف والمجلات المحلّية، إضافة إلى صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي التي يمكن أن نعدّها معارض مصغّرة لإبداعات هذا الفنّان الجميل.
كما أن مساحات الإبهار في هذا الكتاب واسعة، فهو لم يكتف بعرض الصور كما يفعل البعض، بل نقلنا في سياحة شاملة تعرفنا من خلالها على أبرز مكنونات الجمال في هذه المحافظة الواعدة، وطاف بنا في تجوال سهلٍ وممتنع بين محطّات جيولوجيّة وتاريخيّة وجغرافيّة وفلكلوريّة شاملة، ثم نقلنا بعدها في قطار المستقبل الواعد لنستشرف مستقبل المحافظة، فكأننا في بستان مليئ بالورود اليانعة، وكأننا فراشات نتقافز بين هذه الوردة وتلك، نشمّ عبيرها ونلثم شذاها. فهو كما وصفه الكاتب والصحفي والناشر محمد بن سيف الرحبي في قراءته للكتاب " يختار اللغة الأصعب حينما يتحدّث مع عدسته، فالصورة التي هي ابنة المدينة لا تشبه تلك الساكنة بين رمال الصحراء، خلال تلالها الغامضة، ويجازف بالوقت ترقّباً أن يراه في عينيْ مهاة يسكب في عينها قصيدته فتكون "عين المها" بين حافّة اللحظة ومهارة الاقتناص لصورة يضعها المصوّر في سيرته الذاتيّة.."

إن سيف الرواحي ليس مجرّد ناقل لصوره، بل هو بائعٌ شاطرٌ للجمال. أنا منحاز لهذا الفنّان وفخور به، وقد يكون مهمّاً لـه أن تحبّوا هذا الكتاب أو تعجبوا به ولكنّه أمر قد لا يهمّني كثيراً. الذي يهمّني أكثر هو أن.. تقتنوه!


الأحد، 12 مارس 2017

في عيدها السادس..

ربّما لم تكن صدفة أن يتوافق موعد الإعلان عن فوز الهيئة العامّة لحماية المستهلك بجائزتين في مجال التطبيقات الذكيّة ضمن جوائز درع الحكومة الذكيّة التي تنظّمها أكاديميّة التميّز للمنطقة العربيّة خلال الاحتفال التي نظّمته الأكاديميّة في القاهرة تحت رعاية وزيرة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري بجمهوريّة مصر العربيّة يوم السابع والعشرين من فبراير، مع الإحتفال بمضيّ ستّة أعوام على إنشاء الهيئة تدفّقت خلالها إنجازات متوالية، وتحقّقت من خلالها أهداف متعدّدة.  

ما بين 28 فبراير 2011 تاريخ صدور المرسوم السلطانيّ السامي بإنشاء الهيئة، و27 فبراير 2017 تاريخ فوز الهيئة بجوائزها رقم 15 و16 على التوالي مسيرة قصيرة زمنيّاً، طويلة عمليّاً استطاعت الهيئة خلالها تحقيق تقدم نوعي وملموس على مختلف الاصعدة التشريعيّة والتنظيمية والميدانية من خلال رؤية صادقة، واستراتيجيّة طموحة تتوافق مع الاستراتيجية الوطنية للبلاد، تجلّى ذلك في أن تصبح خارطة طريق يشار لها بالبنان في كافة المحافل الدولية، ويطرق بابها العديد من المؤسّسات الإقليميّة والدوليّة للإستفادة من تجربتها الصادقة، ولسان حالهم يقول: كيف استطعتم إنجاز كل هذا خلال تلك الفترة الوجيزة!

كان الوطن هو الهاجس الأول لدى منتسبي الهيئة موظفين وقيادات منذ اليوم الأول لإنشائها، وكان توفير الحماية اللازمة للمستهلك وكفالة حصوله على أفضل الخدمات هو التحدّي الذي أصرّوا على كسبه، فكان الحرص على وضع وتطبيق السياسات والآليات التي تهدف إلى توفير بيئة استهلاكيّة سليمة وآمنة، من خلال سنّ التشريعات التي تحفظ حقوقه، وأعمال الرقابة على الأنشطة التجاريّة للحدّ من الممارسات السلبيّة التي يمكن أن تضرّ بصحّته وسلامته، وتنفيذ البرامج والأنشطة التوعوية التي تسلّط الضوء على حقوقه وواجباته، وتسعى لغرس ثقافة استهلاك سليمة.
وخلال مسيرتها الزمنيّة القصيرة والحافلة سعت الهيئة لخلق بيئة عمل اجتماعيّة مناسبة من حيث الاهتمام بتوفير المرافق التي قد تعين الموظّف على أداء مهمّته الوظيفيّة، والتقليل من مظاهر البيروقراطيّة التي هي سمة العديد من المؤسسات في الوطن العربي، كما حرصت على الاستفادة من التجارب الخارجيّة لدول وأجهزة ومنظّمات كان لها السبق في مجال حماية المستهلك، وأدركت أهميّة الشراكات المجتمعيّة مع مؤسّسات علميّة رائدة في مجال الدراسات والبحوث، وأدركت كذلك أهمّيّة المسئولية المجتمعية، والإيمان بالرسالة المنوطة التي تسبق الأداء الوظيفي، وأيقنت أن أهدافها لا تقتصر على الأهداف النمطيّة المتمثّلة في مجرّد الرقابة والتشريع وفرض المخالفات فقط، بل تتعدّاها إلى المسئوليّة والشراكة المجتمعيّة، والاهتمام بمنظومة القيم، فاتجهت إلى المجتمع منذ أوّل يوم لنشأتها، وسعت لدعم المبادرات المجتمعيّة ، وما حملة (خير الناس أنفعهم للناس)، أو مقترح (غذّ نفسك)، سوى أنموذج بسيط لذلك.

وخلال مسيرتها كذلك أدركت الهيئة أهميّة الإعلام كعامل رئيس ومهم في اختصار تحقيق الأهداف المنوطة، فكانت المطبوعات والكتيّبات التوعوية، وصفحة (المستهلك) الأسبوعية، ومجلة (المستهلك) الدوريّة، وصفحات الهيئة في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ونافذتها في موقع (سبلة عمان)، والمحاضرات التي تستهدف شرائح مجتمعيّة متنوّعة ابتداء برياض الأطفال وانتهاء بالمجالس العامّة، والتقارير الإخباريّة المصوّرة والمسموعة، والفقرات التلفزيونيّة والاذاعيّة المباشرة، بالإضافة إلى معرض السلع المقلدة ، والمعرض المتنقّل، وإعلانات الطرق والأماكن العامّة، تمكنت الهيئة بفضلها من تنفيذ قائمة طويلة من المواد والبرامج التوعويّة التي أثّرت ايجاباً في نسب إحصائياتها وبياناتها ومؤشراتها السنويّة.

قد لا تمتلك الهيئة العديد من الإمكانات المادّيّة التي تعينها على تحقيق كافّة أهدافها، فلا يزال هناك نقص في أعداد الكوادر الفنيّة المؤهّلة، ولا تزال المختبرات المتخصّصة غائبة عن خارطة مبنى الهيئة، وما زالت التشريعات المعينة على تطبيق العقوبات غير مكتملة، وقد لا تكفي الاعتمادات الماليّة المخصّصة لتنفيذ البرامج التدريبيّة والتوعويّة المختلفة، لكنّها سعت لتعويض كل ذلك بالروح المتوقّدة، والإرادة الصادقة، وبالتفكير خارج الصندوق، وهي الخلطة السرّيّة لما تحقّق من نجاح، فلم تقف عاجزة أمام كلّ تلك المصاعب والتحدّيات، بل مضت قدماً في تحسين وتطوير أعمالها وأهدافها من خلال مواكبة التطورات الحديثة في مجال التكنولوجيا، والاستفادة من أحدث ما تم التوصل إليه في هذا المجال في كافّة المجالات التي تخدم عملها، وتشجيع روح الابتكار والإبداع والتطوير اللامحدود، فتم توفير قنوات للتواصل مع الهيئة وتقديم البلاغات والشكاوى كمركز الاتصالات، وقاعات الشكاوى، والبوّابة الإلكترونيّة، وصفحات التواصل الاجتماعي، والبريد الالكتروني، وتم استخدام العديد من الأجهزة والتطبيقات والبرامج كتطبيق المستهلك الذكي، والجهاز الكفّي (ميدان)، ومرصد أسعار السلع، والموقع الالكترونيّ للاستدعاءات والتحذيرات، وغيرها من البرامج التي استطاعت اختصار الكثير من الجهد والمال.

عندما تفوز الهيئة العامة لحماية المستهلك بستّة عشر جائزة خلال مسيرتها الزمنيّة القصيرة، وعندما تضبط أكثر من خمسة ملايين سلعة مخالفة ما بين المقلّدة، والمزوّرة، والمغشوشة، والمخالفة للمقاييس وعندما تحلّ أكثر من ثمانين ألف شكوى وبلاغ، وعندما ينخفض عدد الشكاوى والبلاغات من 37408 في عام 2013 إلى 22091 في عام 2016، وعندما يبلغ رضا المستهلك أكثر من 80%بحسب آخر دراسة أعدّتها دائرة البحوث والدراسات في الهيئة حول مدى رضا المستهلك عن الخدمات التي تقدمها الهيئة، وعندما يتجاوز عدد المتابعين لصفحات الهيئة على مواقع التواصل الاجتماعي ما مجموعه أكثر من نصف مليون متابع متوزعين على حسابات وصفحات الهيئة المختلفة، قياساً بعدد السكّان، ونسبة متابعي الإعلام البديل في السلطنة، فإن كل هذا يعدّ دليلاً على مدى الثقة والعلاقة الوطيدة بين الهيئة والمستهلك، بعد أن راهنت عليه كخط دفاع أوّل، وكشريك لها في أداء عملها المجتمعيّ، ووجّهت له العديد من برامجها الإعلاميّة المختلفة، فأصبح كثير من المستهلكين أكثر حرصاً على حقوقهم المختلفة، وأشدّ رغبة في التعاون والمشاركة في تحقيق أهداف الهيئة بشكل مباشر أو غير مباشر .

تحيّة للهيئة العامة لحماية المستهلك في عيدها السادس، ومزيد من العطاء في قادم الأيام.



(في رحاب العارف بالله)

أصل أخيراً إلى شارع محمود علي البنّا وهو شارع خلفيّ مطلّ على المسجد الأحمديّ، أو على وجه الدّقّة يقع إلى اليمين من بوّابة المسجد الرئيسة. والبنّا هو أحد مشاهير القرّاء في مصر، المنوفيّ الأصل الذي ارتبط بطنطا وبجامعها الأحمديّ طالباً في مقتبل عمره، ثم قارئاً لأكثر من عشرين عاماً، وهو الذي استقبلته المدينة في احتفال رسميّ مهيب حضره الآلاف من محبّيه ومريديه و(سمّيعته)، وهو الذي كانت الشوارع المحيطة بالجامع تفيض بالسائرين عليها أيّام الجُمَع للحصول على موطئ قدم كي لا تفوتهم تجلّيات شيخهم وهو يصدح بآيات الله في صوتٍ ملائكيّ رخيم، لذا لم يكن غريباً تسمية الشارع باسمه، وشوارع أخرى بأسماء قرّاء كبار آخرين اعترافاً بفضلهم، وإشادة بعطائهم، كيف لا وهي المحطّة التي طاف عليها رموز وقامات من أمثال الشيخ الشعراوي، ومحمد أبو زهرة، وعبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ مصطفي إسماعيل، ومحمود البنّا، ومحمود خليل الحصري، وغيرهم.

حاملاً زادي الفكريّ من صحفٍ مختلفة التوجّهات كنت قد ابتعتها من رصيف محطّة مصر، أتجوّل في الشارع الذي يغصّ بروّاده وهم خليط من مترددين على المؤسسات الحكوميّة القريبة، ومريدين قادمين طلباً لنفحات شيخ العرب، وباعة حلويّات وملابس جائلين، وسكّان قاطنين في الحارات التي يتفرّع منها الشارع كحارة قيصريّة الجزّار، فهذا سوق الفاكهة بنداء باعته المميّز، وهذه محلات عدلي، وشهد، والفلاح تعرض منتجاتها من حمّصيه، وسمسميه، وفوليّه، وملبن، وبسبوسه، وكنافة، وغيرها من الحلويّات التي اشتهرت بها عروس الدلتا، وتلك مقاهي تناثرت كراسيها الخشبيّة على الرصيف بانتظار زبائن لا ينقطعون.

ها أنا أقف الآن أمام بوّابة المسجد الأحمدي أكبر وأشهر مساجد مصر بعد الأزهر والحسين، المسجد الذي كانت بدايته كزاوية صغيرة بجوار قبر العارف بالله أحمد البدوي، الفاسي أصلاً ومولداً، الحسيني نسباً، السطوحيّ لقباً، الذي لبّى النداء بالهجرة إلى مصر، ما لبثت أن تحوّلت تلك الزاوية إلى مؤسّسة دينيّة وتعليميّة جامعة لها سبعة أبواب. المَعْلَم الذي تبارى مماليك، وأمراء، وخديويّات، وسلاطين، وملوك، ورؤساء مصر في عمارته وتجديده والاعتناء به طلباً للبركة، ورغبة في نيل الثواب حتى عُدّ تحفة معماريّة رائعة، وقبلة لشيوخ العلم وطلبتهم ومريديهم، ومكاناً لإقامة الموالد الكبيرة التي يحضرها القاصي والداني من صعيد مصر الجوّاني حتى ساحل دمياط، ومن أحراش السودان حتّى سهول فاس وتطوان.

أدخل الجامع مخترقاً باحته الخارجيّة حيث العشرات قد تجمّعوا، فهذا مجذوب يلبس أسمالاً وكأنّه عائد من أحد العصور القديمة يهذي بأبيات شعر غير مفهومة، وذاك متسوّل يمسك بمبخرة وهو يدعو عباد الله أن يعينوا المحتاج في صوت جهوريّ رخيم يدلّ على أن صاحبه قد أصابته نفحات المكان، أو أنه كان تلميذاً لدى أحد القرّاء قبل أن يتركه لسبب ما، وتلك امرأة تحتضن طفلة يبدو من هيئتها أنها أصيبت بمسّ وأتت تبحث لدى سيّدها العارف بالله عمّا يزيله، وذاك رابع يعرض بضاعة تناثرت من شوال أزرق مهترئ، وخامس على ما يبدو أنه صبيّ يعمل في القهوة المجاورة يدور بأكواب العنّاب والكركديه على الزائرين والمقيمين،  لأجد نفسي أمام صحن واسع تحيط به الأروقة، وتغطّيه قبّة مرتفعة، ويبدو أثر العمارة الإسلامية جليّاً من خلال الزخارف، والزجاج الملوّن، والأعمدة العالية، والنجف النحاسيّ في إشارة واضحة إلى مدى الجهد المبذول، والتنافس الكبير على عمارة المسجد والاهتمام به.

في إحدى زوايا المسجد ألمح زحاماً شديداً، وبشراً يحمل بعضهم طفله، وآخر حذاءه وهم خارجون من غرفة يشع منها لوناً أخضر، ورائحة بخور مميّزة. يدفعني فضولي لاستكشاف المكان فأجد نفسي في حضرة مقام شيخ العرب وسط العشرات الذين تزاحموا طلباً لحاجات كثيرة ليس أقلّها طلب الشفاء من مرض عضال، أو الرغبة في تزويج البنت البكر، أو برّاً بنذر كانوا قد نذروه يوماً ما، اعتقدوا أن وقوفهم على ضريح (سيّدهم)، وتمسّكهم بأستار قبره، وبكاؤهم في حضرته قد يحقّقها، وتبدو في المنتصف لوحة كبيرة تؤرّخ لسيرته، بينما يعلو المكان لوحة أخرى نقش عليها بخط عربيّ جميل الآية القرآنيّة "وكان فضل الله عليك عظيما".

بعد ركعتين أديتهما في صحن المسجد تحية له أعود الخطى مرّة أخرى إلى باحته الخارجيّة طلباً لبعض الراحة، لأجد نفسي مرّة أخرى في شارع محمود البنّا، وبالتحديد على كرسيّ خشبيّ قديم داخل مقهى تاريخيّ تجاوز عمره العشرين بعد المائة من السنوات منذ أن أسّسه صاحبه علي بخيت في منتصف العقد الثامن من القرن التاسع عشر مقتبساً من الجامع الأحمديّ المجاور بعضاً من ملامحه وفنّه وكأنّه يغري زوّار المكان وطالبي قضاء الحاجات بالتردّد عليه، والمكوث فيه.

ولأن الوقت لا يزال مبّكراً حيث لم ينتصف النّهار بعد، ولأننا في منتصف الربيع حيث الجوّ لا يزال بديعاً، وأصوات نداء الباعة المختلط بأصوات المجاذيب والمتسوّلين والنساء والأطفال تشكّل سيمفونيّة جميلة محبّبة إلى النفس سمعتها مراراً أثناء تجوالي في أماكن عدّة مشابهة كالحرم الحسيني، وساحة أبو العبّاس المرسي، أختار مكاني في الجزء الخارجيّ من المقهى حيث يمكنني مراقبة المكان، ورصد حركة البشر، وهي العادة التي أمارسها في كلّ مقهى أجلس عليه، بجواري دكّة خشبيّة صغيرة، وطاولة قديمة فرش عليها ملاءة زرقاء أضع عليها زادي من الصحف، وبالقرب منّي طاولة يجلس عليها رجل يرتدي جلباباً صعيديّاً أزرق اللون منسجماً مع لون فراش الطاولة التي يضع رأسه عليها، وقد أغلق جفنيه غارقاً في نومٍ عميق ربما كان سببه إرهاقاً حل به بعد أن قطع رحلة طويلة من قريته النائيّة الغائصة في أعماق الريف أو الصعيد كحال الكثيرين من بني جلدته!

أتأمل المقهى الواسع والمزدحمة كراسيه العتيقة بالبشر عن آخره مع أننا ما زلنا في بدايات الصباح، فرحلتي المبكّرة من القاهرة إلى طنطا لم تستغرق أكثر من ساعة ونصف، ولكن يبدو أن زيارة السيّد لا تعرف مواعيداً محدّدة، ولا تلتزم بأعدادٍ معيّنة، فالمقام مفتوح، والخلوة حاضرة. تشدّني الأبواب الكبيرة المفتوحة التي تشكّل بهواً يربط الجزء الداخلي من المقهى مع جزئه الخارجيّ، وثمّة لوحات متناثرة على جدران المقهى كتبت عليها عبارات وحكم وآيات قرآنيّة، وأخرى عليها صوراً للحرم الأحمديّ، وآيات قرآنيّة منقوشة على زجاج النوافذ العليا، وعمال وصبيان يتنقّلون في حركة دائبة تلبية لطلبات الزبائن المتعدّدة، وعدداً من الباعة الجائلين الذين يعرضون لبضاعة متنوعة ابتداء بالساعات الرديئة والفلايات والأمشاط، وانتهاء بالسميط والحمّصيّة والفوليّة، وبعض ماسحي الأحذية الذين ينتهزون فرصة دخول زبون جديد من غير أصحاب الجلابيّات كي يعرضوا عليه مسح حذاءه وتلميعه.  

أما ما حدث معي منذ لحظة طلبي لكوب السحلب بالمكسّرات، وحتى تركي للمقهى باتجاه ميدان المحطة فتلك حكاية مؤجّلة.