الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

مشاهد من معرض استهلاكي


عندما قررت الذهاب إلى معرض السلع والأدوات الاستهلاكيّة مساء السبت الماضي كان يتجاذبني أمران: الأول وهو أمنية بأن أجد المعرض خالياً من الزحام، وأن أجد موقفاً قريباً لسيارتي دون عناء الوقوف في مكان بعيد، خاصّة وأن الجوّ كان بارداً، والأسر مرتبطة بموعد الاختبارات الفصليّة لأبنائها، كما أنّ سكّان المحافظات البعيدة مرتبطين بدواماتهم الصباحيّة في اليوم التالي وبالتالي لن يمكثوا في مسقط إلى هذا الوقت المتأخر.

أما الثاني فهو توقّع بأن أجد المعرض مزدحماً كعادتنا مع كلّ معرض يقام، وأن كل ما ذكرته من أسباب لن يثني الأسر والأفراد عن زيارته حتى لو كانت درجة الحرارة تدنّت إلى ما دون الصفر، وحتّى لو كانوا هم أنفسهم مرتبطين باختبارات دراسيّة قد تحدّد مصيرهم المستقبليّ فيما بعد، فالمعارض بالنسبة للبعض مكان لتغيير الجو، والحصول على بعض الترفيه، ومادة دسمة لجلسات العصر اليوميّة.

توكلت على الله وذهبت وأنا أضع يدي على قلبي كلّما اقتربت من مكان المعرض، وما إن اقتربت من دوّار العرفان إلا وأدركت أن توقّعي قد غلب أمنيتي، فالطابور طويل، والزّحام على أشدّه، ومع أنّ المعرض يفتح أبوابه مساءً في تمام الرابعة، ومع أنني قد وصلت قبل هذا الموعد تحسّباً لما كنت أتوقّعه، إلا إن مواقف السيارة (الكثيرة) كانت ممتلئة عن آخرها، وكأن كل هؤلاء البشر قد جلبوا طعامهم وفرشوا بساطهم وجلسوا ينتظرون موعد الافتتاح المسائي، وكأن ما يوجد بالمعرض هو شيء نادر وثمين يستحق الندم على التفريط فيه. في كل مرّة أرى هذه الأعداد الغفيرة يساورني شكّ في نتائج تعداد السكّان الأخيرة.

أدخل المعرض فأرى أمامي مشاهد مختلفة للزائرين تتكرّر في كلّ معرض يقام، هذه أسرة عمانيّة أصيلة تحلف وأنت تراها أنها قدمت من قرية بعيدة من قرى عمان النائية، وأولئك صغار أحضرهم والدهم وذهب عنهم لارتباطه بموعد آخر، ولا يخلو المشهد من شباب اعتادوا أن يجدوا في مثل هذه المعارض فرصة لممارسة هواية (دنيئة) في تتبع الفتيات والإيماء بالإشارات، وكأنهم في حالة انفصال  عن  وسائل الاتصال الحديثة التي أتت بأساليب معاكسة أكثر حداثة وسهولة. ولا بد أن يكتمل المشهد ببعض الفتيات اللواتي اعتقدن - أو صوّر لهن - أن الحريّة تعني أن تخرج لوحدها في أيّ وقت تشاء، وأن تضع ما تشاء من مساحيق مختلفة الألوان على وجهها، وكأنّها دمية (باربي).  برأيي أن لحرّيّة المرأة ألف وجه ليس من بينها احتساء الشاي لوحدها في (بابا روتي)، أو تناول الغداء مع الرفيقات في (تشيليز) وسط صخب ضحكاتهن التي  تملأ أرجاء المكان، أو عمل (بارتي) عيد الميلاد في كارجين، أو  أن تبدو كـ (خيال المآته) في أي مكان تذهب إليه.

مشهد آخر لم يثر استغرابي ألا وهو الطابور الطويل الذي سدّ باب المعرض أمام آلتي سحب النقود. يعلم كل الواقفين في الطابور أن المعرض سيكون مزدحماً، وأن مكائن السحب إما أن تكون معطّلة، أو سيكون عليها زحام شديد، وهم أنفسهم قد مرّوا في طريقهم إلى المعرض على عشرات الآلات الموجودة في كل محطة نفط أو مركز تجاري ، ومع ذلك هي العادة نفسها. أن نكرّر نفس الخطأ في كلّ مرّة، والا نتعلم من الأخطاء السابقة.

المشهد الثالث هو تكرار نفس الوجوه التي تراها في كلّ مرّة. نفس العارضين تراهم في كل المعارض، وجلّهم غير عمانيين، وكأنّ ما يعرض هي أشياء يستحيل على العماني أن يصنعها أو يقوم بعرضها، وكأنّه لا يوجد لدينا في عمان من يبيع العسل العماني الأصلي، أو من يقوم بخياطة وتفصيل وتطريز الملابس العمانية الأصيلة، والمفروشات المختلفة، أو من يقوم بتصنيع خلطات العطور والبخور.

مشهد رابع يمكن ملاحظته ويتعلّق بنوعيّة البضاعة المعروضة، فلا يمكن أن تدخل معرضاً في عمان حتى ولو كان في فصل دراسي بإحدى المدارس النائية دون أن تجد ركن العسل اليمني الأصلي الذي يشفي من كل أمراض الدنيا التي استعصت على أمهر الأطبّاء، وكأنه شرط أساسي يتم الالحاح عليه عند التصريح بتنظيم هذه المعارض، ولا يمكن أن  تخطيء عيناك رؤية ذلك الشاب الذي أصبح نجماً من نجوم المعارض بزيّه الخليجي وذقنه المحلوق على الطريقة الحجازيّة، وهو يتنقل من مكان لآخر عارضاً على الفتيات روائح لعطور (مضروبة) يقوم ببيعها، ولا تنس ركن الخلطات العشبيّة التي تعيد الشيخ شابّاً، والمريض سليماً، وتعيد لك الرشاقة، وتمنع الصلع، وتقضي على البهاق والجرب وحبّ الشباب والصدفيّة  وقائمة أخرى تطول من قوائم الوهم التي مازالت تجد الكثير من المعتوهين السذّج الذين يندفعون ورائها، وهم يعلمون أنهم قد اشتروها قبل أشهر قليلة في معرض آخر ولم تجد نفعاً معهم. ألا قاتل الله السذاجة.

بالطبع فكثير من هذه  البضائع والسلع هي  تجاريّة وغير أصليّة، وكثير من السلع الغذائية والمواد التجميلية التي تعرض مغشوشة، وغالبية الخلطات العشبية  المعروضة غير مصرح بتداولها لعدم وجود بطاقة البيان وعدم معرفة مكونات الخلطات، وبالتأكيد لا توجد أسعار مثبّتة على كل سلعة، ولا وجود لأية بيانات متعلقة  بالمنشأ والصلاحية والمكونات، ولكن كل هذا لا يهم. المهم هو أن نذهب لكي نرفّه عن أنفسنا قليلاً،  حتى ولو كان ذلك على حساب جيوبنا وصحّتنا، وحتى لو كنا مدركين أننا لا نستطيع أن نشتكي على أحد في حالة تعرضنا للنصب أو الغش من قبل أحد العارضين، وقتها سيكون قد سافر إلى بلده مستمتعاً بما جناه من أموال تعبت الحكومة كثيراً كي تعطينا إياها، وقمنا بتسليمها إليهم عن طيب خاطر. وربنا لا يقطع لنا عادة.

تساؤلات دارت في بالي وأنا أتجوّل (بصعوبة) في أرجاء المعرض من قبيل : متى سنرى معارضنا تعجّ بالباعة المحلّيين وبالبضائع العمانية، وبالتالي نضمن أن جزءاً من (الملايين) التي تعطيها الحكومة لنا تبقى داخل البلد لا خارجها، وما الذي يمنع أن نرى ركناً للحلوى أو العسل أو الملابس العمانية المصنوعة بيد محلّية؟ هل هي الثقة الضعيفة؟ هل هي الثقافة السلبيّة تجاه كل ما هو محلّي؟ هل هي الرسالة التي لا تصل إلى هؤلاء بكل شفافية ووضوح؟ وهل تخضع السلع المعروضة لإجراءات الفحص وبالتالي يتم ضمان جودتها وصلاحية استخدامها للمستهلك؟ ولماذا نخصص أوقاتاً للنساء وللعائلات مادام أن أغلب الحضور في كل الأوقات هم من هذه الفئات بالأساس؟ ولماذا لا نركز على المعارض الاستهلاكية الخيرية التي تنظمها مؤسسات المجتمع المدني للمساعدة في حل مشاكل اقتصادية معينة؟ ولماذا لا تشرك هيئة حماية المستهلك في لجان الاشراف على مثل هذه المعارض.

وقد يسأل سائل : ما دمت متشائماً إلى هذا الحد فلماذا تحرص أنت على الذهاب إلى هذه المعارض؟

ياسيدي.. وما أنا إلا من غزيّة إن غوت غويت.. وإن ترشد غزيّة أرشد

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013

مع أبو مازن



(في مقاهي المحروسة 12)

"مع أبو مازن"

فبراير 2008.. مدينة نصر تبدو كبرّاد ضخم، البرد قارس، أو هو برد (يقصّ المسمار) كما يقول كبار السنّ لدينا، ولا عجب في ذلك فهي تقع في أطراف القاهرة الشرقية، حيث الصحراء المفتوحة، وحيث الرياح الباردة التي تهب حاملة معها النسمات الباردة الزائدة عن الحد والتي تجعل ليل المدينة جحيماً بارداً لا يطاق أحياناً.

ذات مغربيّة باردة كئيبة يتصل بي أبا مازن بلهجته المصريّة التي تجعلنا ننفجر معاً ضحكاً في كل مرّة: فينك يا برنس، وراك حاجه النهار ده؟ ايه رايك نتقابل في (كنوز) الساعة ثمانية، اوعى تتأخر عشان أنا بنام بدري زيّ كل يوم(1).

 كنت قد عرفت المقدّم محمد حارب المخيني لأوّل مرّة في حفل مناقشة رسالة الماجستير الخاصّة    بـأبي راشد (2) في معهد البحوث والدراسات العربيّة، ثم التقيت به بعدها بأيّام في وليمة غداء أقامها بمناسبة حصول ابن أخيه على الماجستير، وقتها عرفت أنّه يكون عمّاً لأبي راشد، وأنّه يعمل كضابط في إحدى الأجهزة العسكريّة، و يحضّر لدورة عسكرية تمتد لعام كامل، وعرفت كذلك أنه يرتبط بعلاقة زمالة وصداقة وثيقة بأخي الذي كان قد انتهى لتوّه من دراساته العليا في مجال طب المجتمع في مصر.

 من يومها وأبو مازن كان قد حجز مكاناً مهمّاً في داخلي، برغم ملامح الجدّيّة والتحفّظ التي بدت عليه في أول الأمر، وارتباطه بالمحدود ببعض زملاء دورته، والنوم المبكّر، كما حدّثني عن نفسه في جلسة سابقة. يومها قلت لنفسي: شخص كهذا كيف سأقنعه بأن يشاركني اهتماماتي في الخروج ، وارتياد المقاهي، وممارسة هواية اكتشاف أطباع البشر، لا مكان في القاهرة لمن ينام مبكراً.

لأبي مازن ذكريات كثيرة في داخلي، لا يمكن أن أتجاهل تأثيره عليّ في كثير من القرارات التي اتخذتها طوال فترة وجوده في القاهرة، وفي شقّته(3) عرفت معنى أن تكون في بلدك وأنت بعيد عنه، ففي كل مرّة أشعر فيها بالوحدة كانت شقته ملاذاً  لروحي، أشاكس أم مصطفى تارة (4)، وأتسلى بالحديث مع عم صلاح  تارة أخرى، وأطالع (الرايح  والجاي) من البلكونة تارة ثالثة، كما أننا لم نترك شارعاً في مدينة نصر لم تخطوه رجلينا معاً في أحاديث كثيرة عن الحياة  ومصر وعمان وأشياء أخرى مازالت تحتفظ بها نواصي تلك الشوارع التي لم يسلم المارّة بها من تعليقاتنا الضاحكة التي تحولت فيما بعد إلى (لزمة) يذكر كل منّا الآخر بها مع أول لقاء، فهذا متثائب لا يغلق فمه، وتلك أربعينية تزاحم الآخرين في وسيلة نقل عتيقة يوم إجازة رسمية أو في وقت متأخر من اليوم في وقت نعتقد فيه أن أولادها أولى  بطبخها بدلاً من مزاحمة الآخرين. هل هي لقمة العيش؟ هل هو كفاح المصري البسيط؟
يتحوّل بيت أبو مازن إلى ضيافة عامرة كل خميس، يبدو من هيئته البدويّة وسماره العربيّ الأصيل وكأنّه خلق كشيخ قبيلة أو كملاح لسفينة شراعيّة تجوب الموانئ ، فملامحه توحي بأنك قد رأيته يوماً ما في مكان يضج بالسفن والخيام والبشر. كنت أنتظر دعوته لي نهاية كل أسبوع بفارغ الصبر كي  (أرمّ عظمي) بما تجود به مائدته العامرة من وجبات عمانيّة أصيلة كدت أن أنساها بسبب طول مدة الغياب عن البلد(5)، وفي مجلسه عرفت العشرات من العمانيين والخليجيين والمصريين من مختلف الفئات والأعمار والمستويات الفكرية والاجتماعيّة الذي كانوا يجدون في شقته ملاذاً لهم، والذين ارتبطت ببعضهم بعد ذلك في علاقات صداقة وود مازالت مستمرة حتى الآن.
يقع (كنوز) في ركن خان الخليلي بالدور الرابع من المول، حيث محلات التحف والبازارات التي تعرض وتبيع التحف والإكسسوارات واللوحات التي تجسّد  لحضارة مصر العريقة عبر مراحل تاريخها المختلفة، ويتميز باتساع مساحته، وينقسم إلى مطعم وكافيه، وهو مصمم على الطراز الإسلامي، حيث  المداخل الواسعة، والأقواس المزخرفة، وحيث الديكور المغربي الذي يغطي المكان، وعلى الجدران بضعة رسوم زيتيّة لخيول عربيّة أصيلة، ومعارك حربية قديمة، وجداريّات من الجبس لبعض المساجد الشهيرة، وبضعة تماثيل على النمط الاغريقي هنا وهناك .
برغم أنني أجلس فيه بمعدل مرة كل أسبوع إلا أنني لا أشعر بمتعة حقيقية عند زيارتي له في كلّ مرة، فبرغم كل الجهد المبذول في تصميمه بحيث يبدو أقرب إلى أجواء الحسين والغوريّة والخان، إلا أنني أشعر بأنه جهد متكلف، فالزبائن من نوعية أخرى تختلف عمّن تقابلهم في حواري خان الخليلي، والطعام لا يمتّ بصلة لمثيله في فرحات والمالكي وشعبان، والعمّال يبدو عليهم التكلّف والعصرنة بعكس نظرائهم العفويين في مقاهي القاهرة الاسلامية، هذا عدا (المينيم تشارج) والأسعار المبالغ فيها، ولولا رغبتي الحميمية كلّ مرة في لقاء أبو مازن الذي يسكن قريباً من المول لما حرصت على ارتياده بهذا الشكل المتكرّر.
يطلّ أبو مازن بهيبته التي اكتسب جزءاً كبيراً منها بسبب طبيعة عمله التي تفرض الالتزام في أشياء كثيرة، ورشاقته التي لا تتأثر برغم عشرات الولائم والموائد وكميّات (الهبر) التي تسفك على مائدته، ونظّارته الشمسيّة التي تحتل جزءاً من جيب قميصه العلوي، موزعاً ابتساماته وتعليقاته الضاحكة على العاملين الذين اعتادوا منه هذه (القفشات) كاعتيادهم على البقشيش الذي يضعه مع الحساب  في كلّ مرة يأتي فيها إلى المقهى.
بعد دقائق طويلة من الحديث الممتع له عن مواقف هنا وهناك، وعن نميمة تطال صلاح البوّاب، واللواء سعيد المحاضر الطيب في الكلية، وعن الكلب الشخصي الذي تملكه ابنة شيخ الدين الأزهري الشهير الذي يملك العمارة التي يسكن فيها محمد،  يخيّم الصمت على الجلسة  فيعرف بحدسه أن شيئاً ما قد غيّر مزاجي، فيلتفت إليّ بلهجته الصوريّة القحّة ذاكراً عبارة استفتح بها حديثي معه في كل مرة أقابله أو أحادثه فيها: "أجول لك وراهم العرب في المترو يوم  يتثاوبوا ما يسكروا ثمهم، ووراهن الحريم الكبار نهار اليمعه  تارسات الباصات والمترو. أللاه  معندهن عيال يطبخن لهم غدا؟" .
أنفجر ضاحكاً وينفجر معي محمد وسط استغراب المحيطين، ونغادر المقهى لا نلوي على شيء.

(1)   أوهمني في بدايات معرفتي به أنه ينام في التاسعة، ثم فاجأني  بسهراته الطويلة معي في كل مرة نجلس فيها معاً.

(2)   الدكتور محمد بن راشد المخيني. من رفاق الغربة  الذين كافحوا طويلاً  حتى نال درجة الدكتوراه في مجال تكنولوجيا التعليم بامتياز وهو لم يتعد الثلاثين. يحفظ حواري بين السرايات كما يحفظ العبد لله   أصابع يده الخمسة.

(3)   عرفت بعدها أن خبير التنمية البشرية الشهير الدكتور  ابراهيم الفقّي كان يسكن في العمارة المجاورة له.

(4)   شبراوية من ضحايا العهد المباركي. لا تعبّر ضخامة جسدها عن همومها المتراكمة من جراء السعي خلف الفتات الذي يسد رمق أطفال فقدوا متعة الحياة في بلد يموت فيها البعض غارقاً في التخمة.

(5)    قلت له ذات مرّة ضاحكاً: يحق لأم مصطفى  أن تصبح بهذه الهيئة مادام صالون شقّتك لا يكف عن استقبال الزوّار والمقيمين ليل نهار، ومادام فرن مطبخك لا يكف عن الاشتعال. فقط أخشى عليها أن تنفجر يوماً ما فتتحمل وزرها.

 

 
 
 

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

الضحك على الذقون

لضحك على الذقون

ما سأحكيه اليوم هي قصّة أخرى متجدّدة من قضايا التضليل الاعلاني الذي يعتمد على بيع الوهم، واستغلال حاجة الناس، وهي قصّة تتشابه فصولها مع كثير من مثيلاتها. نفس المسرح مع تغيير في الأسماء والشخوص والأدوار، قصّة سأكتفي بسرد أحداثها دون الولوج إلى عالم التحليل وتقديم الحلول والتوصيات لأن السأم من كل هذا قد بلغ محلّه في نفسي.

قبل حوالي أسبوعين من الآن قامت إحدى شركات الاتصالات المعروفة بالترويج لعرض مدته ثلاثة أيام فقط، ويتضمن مضاعفة رصيدك عند التعبئة بقيمة خمسة ريالات، أو عشرة ريالات.

وعلى الرغم من أنني أعرف جيداّ ماهيّة هذه العروض، وأنّها لا تعدو عن كونها ضحكاً على الذقون من أجل مضاعفة أرباح معيّنة قبل انتهاء السنة الماليّة، ولأجل تعزيز نسبة (البونس) الذي سيوزع على الموظفين، حتى ولو كان ذلك على حساب البسطاء من المواطنين والوافدين الذين (يعتقدون) في كل عرض مشابه أنّه فرصة لكسب دقائق من التواصل مع الأهل والأصدقاء الذين باعدت بينهم ظروف الحياة الصعبة، إلا أنني عملت بمبدأ (اتبع..... حتى رزّ الباب) فقرّرت الاشتراك في هذا العرض من خلال شحن هاتفي بمبلغ خمسة ريالات عن طريق آلة سداد الفواتير في أحد المراكز التجاريّة القريبة من مقرّ سكني.

بمجرد انتهائي من عمليّة الشحن الآلي قمت بالاستعلام عن فاتورتي فوجدت أن الحساب قد خصم منه مبلغ الخمسة ريالات فقط التي دفعتها لا عشرة كما يقول العرض، فقمت بالاتصال بمركز الخدمة التابع للشركة كي أستفسر عن الموضوع ولماذا لم يدخل المبلغ المضاعف في حسابي، فكان الرد العنتري أن هاتفك خط، أي نظام الفاتورة ، وليس مسبق الدفع، وبالتالي لا يحق لك الاستفادة من العرض المقدّم.

عبثاً حاولت إفهام الموظّف أن أصحاب الخطوط آجلة الدفع هم الأولى بخدمات الشركة وعروضها من الآخرين كونهم يلتزمون بدفع الفاتورة، وكونهم يدفعون اشتراكاً شهريّاً، وهذا نظام معمول به في كثير من دول العالم، ولكن بلا فائدة. في حالات كهذه يتحول موظفو الاستعلام في معظم الشركات والمؤسّسات إلى رجال آليّين يقومون بترديد جمل من قبيل : هذه سياسة الشركة وإذا رغبت فيمكنك أن تسجل مقترحك أو شكواك وسنقوم بدورنا برفعها للجهة المختصّة.

الشيطان الذي بداخلي أبى الاستسلام، وضغط عليّ مرّة أخرى من أجل أن أواصل متابعتي لهم حتى رزّ الباب مرّة أخرى مهما كانت العواقب، ومهما تراكمت الخسائر ، فذكّرني أن لديّ خط مسبق الدّفع لا أستخدمه، وهي فرصة لإعادته إلى الحياة عن طريق هذا العرض خاصّة وأنّه لم تتبقّ سوى سويعات عن انتهائه، فأخذت بعضي وذهبت إلى آلة دفع الفواتير الوحيدة في الولاية (المسقطيّة )التي أسكنها، وقمت بإيداع مبلغ خمسة ريالات أخرى في رصيد الهاتف، ومرّة أخرى (أشيّك) على الرصيد فأجده لم يتعدّ المبلغ الذي قمت بإدخاله قبل قليل.

قلت لنفسي مطمئناً: ربما تكون المسألة مسألة وقت فقط، وكلها ساعة أو اثنتين وسيتم تحويل الرصيد المضاعف إلي، وقتها قد أحوّله إلى (نيشان) العامل الآسيوي البسيط الذي يعدّ لي الشاي كل صباح، أو (أحمد) نادل المقهى البشوش الذي يصرّ على أن يشركني في الشأن المصري كل مساء، ليس تعالياً مني، أو لكرم مفاجئ حلّ عليّ، ولكن لأنني ببساطة لن استخدم هذا الرصيد في ظل وجود هاتف آخر معي. هكذا نمت ونامت أمنياتي وأحلامي معي.

يحين الصّباح فأعاود (التشييك) على الرصيد، فأجده كما هو. يا لصبر أيوب، أما لهذه القصّة من نهاية؟ مرة أخرى أكرر الاتصال بمركز الخدمة، ومرّة أخرى يردّ علي نفس الصوت الطيّب السمح: معاك فلان الفلاني. قل لي كيف ممكن أخدمك. عندك استفسار معين؟

بعد عبارات المجاملة المعتادة وتبادل الأسماء قلت له: الاستفسار باختصار يا سيدي هو أنّكم قمتم بالترويج لعرض يحتوي على مضاعفة الرصيد عند القيام بالتعبئة بمبالغ معيّنة، وأنا قد ضحكت عليّ نفسي وطاوعتها ولم أحصل منكم لا على بلح الشام ولا عنب اليمن. لا أريد منكم أي بيسة إضافية. فقط هو سؤال: لماذا كل هذا؟

ردّ علي بالعامّيّة: هدّي نفسك أخوي . أنت متى عبّيت الرصيد؟ وماذا استخدمت في التعبئة؟
قلت له: لا تخف، قمت بتعبئة الرصيد قبل انتهاء الموعد بثلاث ساعات كاملة، ولا أعتقد أنك ستقول لي أنني قمت بذلك بعد الموعد إلا إذا كنتم تستخدمون توقيت اليابان، أمّا عن الطّريقة التي استخدمتها في التعبئة فقد قمت بعملية الشحن من خلال آلات دفع الفواتير التي قمتم بتوزيعها في بعض المجمّعات والمراكز التجارية تسهيلاً للخدمة، وما زلت محتفظاً بالوصل.

قال لي متهللّاً كمن أحرز هدف الوصول إلى كأس العالم، أو (كمن وجد التائهة) كما يقول أحبابي المصريين: إذاً في هذه الحالة لا يمكنك الاستفادة من العرض لأنك قمت بالشّحن عن طريق الآلة، وكان من المفترض أن تفعل ذلك عن طريق كروت الشحن وحدها.

مستحضراً عبارة شهيرة كان يردّدها أحد أساتذتي المصريّين عندما يعييه نقاشاً عقيماً لأحدهم (يا مصبّر الجحش ع الوحش) أقولها في سرّي وأنا أكاد أكسر جهاز الحاسوب الذي أمامي من شدّة الغيظ: مادام دفع الفواتير وتعبئة الرصيد من خلال الآلات التي قمتم بتخصيصها لهذا الغرض يعتبر رجساً من عمل الشيطان في نظركم فلماذا قمتم بوضعها، ومادامت الوصولات الورقيّة التي تبيعونها على بعض المحلّات بديلاً للبطاقات مدفوعة الثمن تعدّ نجسة إلى هذا الحد فلماذا تعطونها للباعة محل البطاقات؟ 

ثمّ تعال يا عزيزي: أنتم لا تقدّمون بطاقات تعبئة مدفوعة الثمن بقيمة خمسة ريالات أو عشرة ريالات أساساً، ومعظم المحلات الصغيرة تقدّم بطاقات من فئة الريال، وهذا يعني أنّني سأمكث مالا يقل عن ربع ساعة وأنا أشحن البطاقة تلو الأخرى، وهذا وقت مهدر في عالم متسارع تعلمون جيداً أهميّته كشركة تقدم خدمات التكنولوجيا الحديثة، هذا عدا المادّة السامة التي ستلتصق بيدي، وستدخل في أظافري، وقد تصل إلى الدّم عن طريق جرح صغير في ظاهر اليد، فهل تقصدون من كل هذا التلذّذ بتعذيبنا مقابل حفنة ريالات تعلمون يقيناً أنّنا لن نستفيد منها في غالب الأمر لأنها لن تصلح لتفعيل اشتراك النت أو التحويل إلى خط آخر ، أم إنّه الاحتكار الذي يجعل البعض يمارس ما يحلو له لمجرد أنّه يستطيع فعل ذلك؟

لا تقل لي أنكم قد أعلنتم عن شروط هذا العرض مسبقاً وحدّدتم وسائل الدفع المطلوبة، وحتّى لو فعلتم ذلك فأنتم تعلمون أن هناك كثيراً من البسطاء قد لا تصله شروطكم، وقد لا يتمكن من قراءتها، وقد لا ينتبه للكلمات المتناهية الصغر في أسفل الإعلان، وكل هذا لا يعفيكم من تبعاتها الأخلاقيّة على الأقل، وأتحدّاكم أن تجدوا مبرّراً واحداً يجعلكم تقنعونني باقتصار الدّفع عن طريق البطاقة فقط إلا إذا كان الهدف هو خداع المستهلك، وتضييع وقته، والاضرار بصحّته، وتشويه البيئة، وإضافة أعباء أخرى على عامل النظافة البسيط، أو أن المسألة هي مسألة ..احتكار لا غير.

بالمناسبة يا عزيزي نسيت أن أخبرك بأنني ما زلت غير قادر على تصفّح النت بمجرّد مغادرتي لمسقط، برغم الاعلانات المبشّرة بالجيل الرابع، وبرغم (الوجنات) المتقطّعة من أثر السرعة المزعومة لصور بعض من استخدمتموهم في اعلاناتكم الشوارعيّة.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

"مشاهد بلديّة"



(1)
في مثل هذا اليوم قبل عام من الآن كنت قد كتبت مقالاً يتناول رؤيتي للمجالس البلديّة ودورها المجتمعي، ومدى التأثير الذي (يفترض) أن تحدثه في المجتمع والذي من شأنه أن يلقي حجراً كبيراً في بحيرة العمل البلدي الراكدة، ويساهم في تغيير كثير من المفاهيم المجتمعية المغلوطة أو المغيبة تجاه نوعية وآلية العمل البلدي، وبالتالي يحمل معه عملاً مجتمعياً يختلف عن سابقه، ويسهم في شمولية التنمية.

كان ذلك الحديث قبيل انتخابات المجالس البلدية. والآن، وبعد عام واحد من أول انتخابات بلديّة شهدتها السلطنة، ماذا حملت هذه التجربة خلال عام من تطبيقها؟ ألم يحن الوقت بعد للقيام بتقييم دقيق متأنّ لها، والاستماع لكافة الملاحظات المتعلقة بها؟

(2)
مازالت النظرة السائدة للعمل البلدي تنحصر في القيام ببعض الأعمال الروتينية كمراقبة وتفتيش المحلات والمطاعم، ورصف بعض الطرق الداخلية، وإصدار تصاريح افتتاح المحلات التجارية المختلفة، والإشراف على المرادم وأماكن التخلص من النفايات، وملاحقة الحيوانات السائبة.

نظرة قديمة تجاوزتها المجتمعات الحديثة منذ عقود.

(3)
إنشاء ملاعب رياضية في كل حارة سكنية بدلاً من لجوء بعض الفتيان إلى مواقف السيارات وأرصفة الشوارع، والاستفادة من البيوت الأثرية القديمة بتحويلها إلى مزارات أو مؤسسات ثقافية وسياحية مختلفة، وتحويل بعض الأماكن البيئية إلى متنزهات طبيعية أو أماكن تخييم، وتوحيد نمط العمران بما يضيف بعداً جمالياً للحي السكني، والاهتمام بالجوانب الثقافية المتمثل في إنشاء المكتبات العامة، وإقامة المهرجانات الثقافية، ومعارض الكتاب، والندوات الفكرية المتنوعة.

هل ستظل مثل هذه الأفكار والمشاريع البلديّة أحلاماً مؤجّلة لأمد طويل، أم أنها يمكن أن تتحقّق في ظلّ وجود فكر منظّم، وتخطيط دقيق، وإرادة قوية لا تعرف الكلل.

(4)
لم تمض سويعات قليلة على توقف جريان أحد الأودية في أحد شوارع مسقط الجانبيّة إلا وكان العمّال يشتغلون بكلّ همّة ونشاط على تنظيف الشارع وإزالة كل مخلّفات الوادي.
أعرف شوارع رئيسة في محافظات أخرى لم تطلها يد التنظيف أو التعديل منذ إعصار (فيت).
يبدو أن مسقط.. غير

(5)
على مسافة أمتار قليلة من منطقة تجمع مياه الأمطار في أحد شوارع المدينة جلس أحد المترشحين لعضوية المجلس البلدي في المقهى القريب من المكان يتحدث بكل زهو عن مشروعه الانتخابي.

المترشح أسهب كثيراً خلال تلك الجلسة في الحديث عن خطط وبرامج سوف يكتسح بها بقية المترشحين، ليس أقلّها المطالبة بإنشاء بمجمع تجاري ضخم أسوة بمجمعات العاصمة، وكالعادة تجميل الشوارع وإنشاء الحدائق والمتنزهات والاهتمام بالصيادين والمزارعين، وبقية طقم العبارات الذي نسمعه كلما اقترب موعد إجراء أية انتخابات .

الغريب أن البرنامج المتخم بكثير من التفاصيل والأحلام لم يأت من قريب أو بعيد على سيرة المياه المتجمعة في الشارع القريب كظاهرة قبيحة تتكون بعد كل رشّة مطر تهطل على المدينة، والتي لا يحتاج لإزالتها سوى دراسة وضع شوارع المدينة، وتحديد مناطق تجمع هذه المياه، والتعامل معها خلال فترة زمنية وجيزة وفق خطة واضحة المعالم .

بعد عام كامل من نجاح ذلك المترشّح (الثري) مازالت المياه متجمّعة في نفس الشارع، ومازال هو يجلس كل يوم في المقهى القريب.
التغيير الحقيقي يأتي من خلال معالجة السلبيات البسيطة قبل التفكير في الأحلام الكبيرة.

(6)
عندما أتجوّل في كثير من الأحياء السكنيّة في أي بقعة من بقاع السلطنة ترهق عينيّ الألوان المتنافرة للبيوت، فهذا أخضر، وذاك أحمر، والثالث أزرق، والرابع بنفسجي، وهكذا، في ظل الحديث عن مخططات سكنية حديثة، يفترض أن تنظّم آلية البناء والتشييد فيها قوانين محددة تحافظ على الطابع المعماري الجمالي المحدد سلفاً.

(7)
هل يمكن أن نرى الحمامات العمومية في المدن والقرى المختلفة؟ الفكرة بسيطة وغير مكلفة، ويمكن أن تطبق برسوم زهيدة كما هو الحال في كثير من الدول.
لو تفرغ بعض المسئولين عن العمل البلدي للاطلاع على بعض تجارب الدول المختلفة لوجدوا كثيرا من الأفكار الجديدة والمهمة القابلة للتنفيذ بدلاً من العيش في (جلباب) من سبقهم.

(8)
ينصّ النظام الأساسي للدولة في مادّته السابعة عشر على أنّ "المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقـوق والواجبـات العـامـة".

وبناء على ذلك أفكّر جدّيّاً أن أستغل هذه المادّة لحلّ مشكلة حصولي على أرض سكنيّة في مسقط والتي يبدو الحصول عليها أصعب من ولوج الجمل في سمّ الخياط، وذلك بالبحث عن أيّ أرض فضاء واسعة وتحويلها إلى (عزبة) أسوة بالكثيرين من إخواني المواطنين الذين فعلوا نفس الشيء في بقيّة محافظات السلطنة، وقاموا باستقطاع أراضي واسعة في مواقع بيئيّة وسياحيّة مهمّة، ومن ثمّ تحويلها إلى استراحات تبدأ ببناء بسيط من المواد غير الثابتة، ثم يتم عمل سور يحيط بها، وبعدها يضاف إليها غرفة أو اثنتان بمواد ثابتة، ثم المطالبة بتملكها القانوني تحت عدّة دعاوي مختلفة، وكل المراحل السابقة تحدث في غفلة أو تجاهل أو لامبالاة من المسئولين.

صحيح إنها تعتبر تحايلاً على القانون، ومعلوم أنها تسهم في تشويه المنظر العام، واختلال البيئة الفطرية، ومؤكّد أنها تؤثر على منظومة التخطيط السكاني مستقبلاً، ولكن هل هناك من يبالي بكل هذا وذاك؟

ماذا لو نفّذت أمراً كهذا في مسقط؟ ماذا لو نصبت أسلاكي الشائكة في رمال بوشر، ماذا لو اقتطعت جانباً من شاطئ العذيبة، هل سأترك كما ترك الآخرون، أم سأتعرض للمسائلة لأن الموضوع يتعلق بمسقط؟

(9)
يقترح صديقي بأن تقوم الصحف المحلية بعرض بعض الصّور الفوتوغرافيّة التي تجسّد التجاوزات البيئية أو الإسكانية أو الثقافية، التي يقوم بها البعض إهمالاً أو تعمداً أو لا مبالاة، وذلك على صفحاتها الأولى، وذلك بقصد التوعية، وكي يتفاعل معها أفراد المجتمع بمختلف شرائحهم، ويقوموا برفد تلك الصحف ببعض تلك الصور من خلال ملاحظاتهم اليومية، ولكي تنبّه المسئولين بأهمية المتابعة المستمرة ، كي لا تتكرر تلك التجاوزات .
الفكرة جميلة ، ومنفذه في عديد من الصحف العربية والعالمية، وأعتقد أنه في حال قيام إحدى صحفنا بتنفيذها فإنها ستفاجأ بكمّ الصور التي ستردها من قبل القراء والمهتمين.

(10)
يقولون إن الصين هي أكثر الأماكن ازدحاماً بالسيارات.
ماذا عن مواقف المستشفى السلطاني!
بل ماذا عن مواقف جراند مول!!

(11)
لو قام كل منا بالاهتمام بنظافة المنطقة المحيطة بمنزله ولو لمرة واحدة في الأسبوع لأصبح لمجتمعنا شأن آخر، فما بالنا بكثير من الأعمال المجتمعية التطوعية التي هي في انتظارنا للقيام بها. إذا لم تكن لدينا القدرة على فعل ذلك، فلنكفّ فقط عن أي سلوك قد يضير بالبيئة.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 12 نوفمبر 2013

كي لا ننسى

"كي لا ننسى"

وعماننا الحبيبة تحتفل بعيدها الوطني بعد ثلاثة وأربعون عاماً مرت كغيمة تحمل الخير والرخاء، وما زال رذاذ نفحاتها يغمر أرجاء الوطن على اتساعه بفضل العلاقة الحميمية، والود المتبادل، والثقة  بين القائد وشعبه، تبوّأت من خلالها مكانة مرموقة على الخارطة الدولية، دولة عصرية حديثة  متوازنة السياسات، تنطلق من حضارة عريقة، وماض مجيد، واضعة نصب عينها المستقبل بكافة أبعاده. بعد كل ما تحقق لا يوجد لديّ كثير كلام أكتبه سوى أن نقف قليلاً لنتذكّر كيف كنّا في وقت من الأوقات، وكيف أصبحنا الآن. نقف لنثمّن حجم البذل والعطاء. نقف لنؤجّل انتقاداتنا ورؤانا وملاحظاتنا ولو ليوم واحد لنقول لهذا القائد الفذّ الكريم المصلح : إنّ ما بذلته في سبيل هذا الوطن أكبر من يعبّر عنه، وأعظم من أن يحتويه سفر. فقط سيبقى في القلوب وستبقون معه رمزاً و أباً وقائداً ومعلّماً وملهماً إنحزتم  للوطن والمواطن فانحاز لكم، أعطيتموه الشيء الكثير  فأخلص لكم.

هكذا كنّا سيّدي "..دولة تعيش في النصف الثاني من القرن العشرين بلا ماء ولا كهرباء، ولا شوارع  ولا مقاه، ولا حدائق ولا مواصلات"
وهكذا رأوها " ..خيّل إليّ من أوّل نظرة ألقيتها على البلاد أنّ هؤلاء الناس مجرّد أسرى طال بهم الزمن، وأن الداخل هنا مفقود والخارج مولود".

هكذا كان ينظرون إلينا "..وعمان قطعة من العالم القديم . دجل وترﱠهات وخزعبلات، وظلام فوق ظلام، وأناس طيبون يروحون ويغدون، و الوقت هو أرخص السلع في عمان. الأسنان تخلع بالدوبارة، والناس هناك يأكلون المكرونة بالسكر".

وهكذا كان حالنا "الناس مرضى في عمان، لأنه لا يوجد إلا طبيب واحد لكل مائة ألف مواطن. الناس جياع فقراء في عمان، لأنهم يجهلون شق الأرض، وإخراج الغذاء والماء. الناس جهلاء في عمان ، لأنه لم تفتح مدرسة ليتعلموا فيها"

هكذا كانوا يتفاجؤون" ..فوجئت بأنّ كلّ شيء نادر وقليل في عمان، الماء والطعام والنقود. الشيء الوحيد الذي يوجد بوفرة هو الذقون، والشيء الآخر الذي يوجد بشكل أوفر من الذقون هو الأمراض السّرّيّة، فهي ترعى بين أفراد الشعب كحريق شبّ فجأة في غابة أصابها الجفاف منذ زمن طويل".

".. لم يكن في عمان إلا القليل القليل مما ينعم به الناس في البلاد الأخرى، فلا شوارع ولا مبانٍ حديثة ولا إذاعة ولا تلفزيون ولا وسائل ترفيه، وكانت الحياة بالليل  أشبه ما تكون  بما يسمى حظر التجول".

هذا ما تعلّموه عن وطننا ".. أول شيء تعلمته في مسقط هو أن صحة الشعب ضعيفة، والشيء الثاني الأسوأ، هو أن السبب الأساسي لذلك هو الحالة الاقتصادية. إن الصحة هي سلعة يمكن شراؤها، ولكن لأن العمانيين لا يملكون الماء فهم لا يستطيعون شراء ذلك الشيء الثمين".

" .. كانت عمان مركزاً بغيضاً للملاريا، أما أمراض المعدة فالمسؤول عنها هو هذا العدد الكبير من الذباب. وينتشر الجذام في كل مكان، بينما يعد الجدري سوطاً مدمراً فيها،  وتنتشر كذلك أمراض العيون حيث يبلغ عدد العميان في عمان الآلاف.."

هكذا كانوا يصفوننا" .. كنا نرى عمالقة من ذوي اللحى السوداء أتوا من بلاد بعيدة عن مسقط، أقول كنا نراهم وقد أتوا زحفاً بسبب الملاريا التي افترستهم حيث أن مسقط كانت تعج بأسراب البعوض، ولم يستطع غريب أن يهرب من الإصابة بالحمى.."

وهكذا كانوا يقارنوننا" .. هناك حقيقة يجب ألا نغفلها، وهي أننا إذا وضعنا مستشفيات أمريكا في أعيننا فلن نستطيع القول بأن ما بمطرح يسمى مستشفى. في حقيقة الأمر ما لدينا هو منزل للعناية بالمرضى، لا يوجد راديو، ولا أسرة، ولا شيء آخر، فقط يوجد بالحجرة ركن واحد مملوء بكيس كبير للفحم، وكمية من أخشاب الوقود، وفراش فوق الأرض، ودائماً توجد الأواني وقدور القهوة، وأهل المريض يقومون بشراء أصناف الطعام، ويقومون أيضاً بعملية الطهي في نفس المكان".

هذه كانت مواردنا " .. أما موارد عمان فهمي شمسها وأمطارها وتربتها، فالشمس هناك تكفي مدينتين، بينما لا تكفي الأمطار مدينة واحدة. لهذا ينظر الزائر إلى عمان وهو مشفق عليها ويتساءل: لماذا يريد الناس أن يعيشوا هناك؟ ومن يستطيع أن يستخرج الحياة من هذه المنطقة المليئة بالجبال".

" .. وتعتبر الضرائب شيئاً جديداً في عمان، إذ يجب أن يزيد الدخل بعد أن انخفضت الرسوم الجمركية، ونتيجة لذلك رحل ملاك الحدائق إلى زنجبار، أو الهند، أو إلى أي مكان آخر حيث تقل الأعباء. هكذا كان المواطن العماني محاصراً حتى في قوت يومه..".

وهكذا كان يختزل الوطن ".. إن الحياة الدنيا الوارد ذكرها في القرآن الكريم هي مسقط. أجل، أقولها صدقاً، أن الغالبية العظمى من أبناء جيلي يظنون أن مسقط هي العالم كله..".

هكذا كانوا يتحسّرون على تاريخنا العريق الذي عاد لنا".. ولطمت على خدّي حزناً على المصير الذي انتهت إليه أرض عربية كانت درّة في تاج العروبة، وكانت حجر الأساس في صرح العروبة وإلى زمن طويل، فإلى هذه البلاد كان ينتمي أعظم حكام أفريقيا الشرقية، وإلى هذه البلاد كان ينتمي آخر الملوك العرب في الكونغو أو ما يعرف بزائير، وهو الملك (تيبو تيب)، وهذه البلاد نفسها هي التي فرضت إتاوة على السفن البريطانية خلال رحلتها من الهند وإليها، وهي التي حطّمت أسطول البرتغال في مياه الخليج.."

هكذا كنّا سيدي قبل مجيئكم، هكذا. أما الآن.. فتلك حكاية أخرى.


د. محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الاثنين، 4 نوفمبر 2013

"إلى متى هذا التجاهل"


وكأنّنا كنّا (وسنظلّ) ننتظر الموت أن يغيّب رموزنا كي نعرفهم عن قرب، وكي نتذكّر أن هناك أعلاماً ساهموا في نهضة هذا البلد فكرياً وحضارياً واجتماعيّاً بل وفي مختلف المجالات. أقول هذا الكلام بعد أن طالعتنا الصّحافة المحليّة ورسائل (الواتساب) بخبر وفاة القاضي والعلّامة الجليل المغفور له بإذن الله الشيخ سعود بن سليمان الكندي، وهي ذات الصّحافة التي أهملت أو (تجاهلت) أخباره وأخبار أمثاله طوال فترة حياتهم العامرة بالمنجزات. 

وبرغم أنني أدّعي حبّ التاريخ، وبرغم أنّني درسته كتخصص جامعيّ، وبرغم أنّني أدرّسه حالياً كمقرّر دراسيّ، إلا أنني كنت لفترة طويلة أجهل معرفتي بسيرة الشيخ الجليل لولا ما قرأته مؤخراً في كتاب (النّمير) بأجزائه السّتّة من شذرات بسيطة عن حياته وحياة علماء آخرين طوتهم يد النّسيان، هذا وأنا أدّعي الاهتمام بدراسة التاريخ العماني، فما بالكم بالآخرين الكثر ممن أصبح اهتمامهم به كاهتمام كاتب المقال بالقراءة في البرمجة العصبية وما شابهها.

حتّى عندما جرّبت أن أسأل طلابي الذين أدرّسهم مادة الدّراسات العمانيّة في إحدى الكليات عن مدى معرفتهم بالفقيد المرحوم فوجئت بأنهم جميعاً (عدا واحد) لم يسمعوا عن الشيخ من قبل، ولا عن مشايخ آخرين عدّدت أسماء بعض منهم عليهم، وعندما وجّهت سؤالي لذلك الطالب حول سبب المعرفة، كان الجواب (الصّادم) أنّه قريب لأمّه. أي أنّ القرابة وحدها هي مصدر المعرفة. إذاً هم لا يختلفون في شيء عن أستاذهم وعن قطاع كبير من المجتمع في جهلهم برموز مجتمعهم.

يبدو لي – وقد يتّفق معي البعض- أنّ هناك مشكلة تتعلّق بالتقديم لسير هؤلاء الرموز والعلماء، وعدم تناول حياتهم التناول الإيجابي الذي يعرّف المجتمع بهم، ويجعله ينظر نظرة تقدير واهتمام لما قدّموه طوال مسيرة حياتهم الحافلة. يبدو لي كذلك أنّه لا تعمّد في هذا التجاهل من قبل المؤسّسات المعنيّة اعلاميّة كانت أم ثقافيّة أم تربويّة، قد نسميها لا مبالاة، ضيق أفق، أو حتّى الاعتقاد بأنّ ما قدّمه هؤلاء لا يتواكب ونظرتهم للثقافة والمثقّفين وما يجب أن يكونوا عليه في هذا العصر.

في المجتمعات الأخرى يتم تقديم هؤلاء الأعلام على أنهم رموز، بينما تتعامل معهم وسائل إعلامنا المحلية المختلفة، والجهات المسئولة عن الثقافة، باعتبارهم" أنتيكات" يمكن كتابة (بعض) السطور عنهم أحياناً في زاوية صحفيّة مظلمة، أو استضافتهم لدقائق بسيطة بمقابل مادي بسيط لا يتوازى مع ما يمتلكونه من خبرات، وبغير مقابل في كثير من الأحيان.

في المجتمعات الأخرى كذلك تخصّص لأمثال هؤلاء مساحات إعلامية يقدمون فيها عصارة فكرهم وتجربهم، ويعرضون رؤيتهم وتصوراتهم في المجالات التي برعوا فيها، بينما لدينا يقصر البعض مفهوم الثقافة على أصحاب الأشعار من قبيل " سقطت قطرة .. فتثاءبت سمكة"، أو على مفكّري "تأثير الوعي اللا محسوس في ا لغدة السيمبثاويّة"، أو على من يكتبون قصصهم على ورق "الكلينكس" باعتباره ثورة على الرجعيّة في الثقافة، أو على المقرّبين من نجوم السلطة والمجتمع. هؤلاء وأمثالهم وحدهم من يكرّموا، ووحدهم من يطوف العالم معرّفاً بالثقافة العمانيّة، ووحدهم من يمثّلوننا في المحافل الفكريّة، ووحدهم من نحتفي به ونقيم أمسيات التكريم والتأبين وغيرها من أمسيات( الشلليّة )التي أصبحت شعاراً لواقعنا الثقافيّ المعاصر .

أمّا أمثال الشيخ الكندي والبطاشي والخصيبي وقائمة أخرى تطول ممن تيبّست أطراف أصابعهم بسبب آلاف الأوراق التي نسخوها على ضوء زيت قنديل خافت ذهب بجزء كبير من بصرهم، فهم لا يعدون في نظر (البعض) منّا أكثر من مثقفين رجعيين لا يتواكبون والتطور الثقافي الهائل الذي يلزمك أحياناً أن تقوم ببعض التصرّفات (الحداثيّة) كإطالة الشعر، والتسكّع في بعض الحانات، والقراءة في كتب غير مفهومة لكتّاب غربيين وشرقيين، مع أنّ هذا لا يعني عدم وجود مثقفين حقيقيين فرضوا انفسهم على الساحة الأدبيّة بإمكاناتهم وجهدهم، وإن كان جزء منهم نالته يد التغييب لأنه لم ينضم للركب المسيطر على مفاصل الحياة الثقافية اعلامياً وتنظيميّاً، وبالتالي لن يرد اسمه كثيراً في قوائم السفر الثقافيّة، ولن يتحدث عن الكتاب الذي أعجبه، ولن يدخل كعضو محكّم في إحدى لجان التحكيم الأدبيّة . 

يتألّم أمثال الشيخ الكنديّ كثيراً عندما يسمعون عن رغبة بعض المؤسسات الثقافية والفنية في دول أخرى، في تقديم السير الذاتية لأمثالهم ،من خلال كتب مطبوعة، أو تحويلها لبرامج وثائقية أو فنية، تحفظ تاريخهم، وفي نفس الوقت تحقق أعلى المبيعات، باعتبارهم شاهداً على كثير من التجارب والأحداث المختلفة على مدى سنوات طويلة.
يتألمون وهم يرون أسماء نظرائهم في تلك الدول تطلق على الشوارع المهمّة والمؤسسات الثقافية، يتألّمون كذلك وهم يسمعون عن مناهج مدرسيّة، وجمعيّات فكريّة أهليّة تناولت سير أولئك النظراء، وقدمتهم للأجيال بما يليق بهم، بينما هم يشكون التجاهل، وكأن جهداً لم يبذل، وكأنّ إنجازاً لم يحقّق.

إن أمثال الشيخ سعود الكندي كثر في مجتمعنا العماني وفي مختلف المجالات، هم بحاجة فقط لمن يمنحهم شيئاً من الاهتمام والتقدير. لا يجب أن ننتظر الموت كي نتذكّرهم في كلّ مرّة. فهي دعوة للقائمين على الجهات المنوط بها أمر التربية والتعليم والثقافة والإعلام والعمل البلديّ، لتقديم سيرتهم العطرة، وانجازاتهم الفكريّة للجيل القادم بالشكل الذي يتناسب وعطاءهم، فما أحوج هذا الجيل إلى من يقدم لهم خلاصة خبرة هؤلاء وكفاحهم وتضحياتهم، علـﱠـهم يجدون فيها ما يعينهم على مواجهة كثير من التحديات، ويرون فيها القدوة الإيجابية، في زمن اختلطت فيه كثير من القيم بتحديات العولمة.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

فتّش عن المرأة


(1)
عاملة المنزل تسافر إلى بلدها، فيضطر الزوج  لجلب الوجبات من المطاعم، وإحضار والدته  للمساعدة في تربية الأطفال لحين عثوره على من يقوم بعمل الشغالة حتى موعد عودتها. الزوجة موجودة ولكنّها لم تتعود القيام بأمور البيت، ولا تعرف الطبخ، فالعاملة كانت تقوم بكل شيء.

(2)
يشتكي أحدهم من زوجته التي تود استكمال دراساتها العليا تاركة وراءها أطفالها لكي تقوم العاملة بتربيتهم خلال فترة سفرها، ويتحدّث آخر عن مدى المعاناة التي يجدها من جراء انشغال زوجته بمسئوليات وظيفتها التي تجعلها تتغيب وتنشغل طوال الوقت في اجتماعات وزيارات، وكل ذلك على حساب بيتها وأسرتها. مواقف كهذه ستسمعها كثيراً في جلسات النميمة الجماعيّة.

(3)
زوج وزوجة يسافران  للاستجمام تاركين طفلاً لم يبلغ السنة من العمر. هذا الطفل لا يهتمّ  كثيراً بوجود أمه قدر اهتمامه بوجود المربية الآسيوية التي تولت العناية به وتربيته.

(4)
ما وجه الشّبه بين  دور الأم، وبين غرفة العمليات في أوقات الحروب وإدارة الأزمات؟ هل لأنّ الأم  (ينبغي) أن تكون الأكثر اطلاعاً على أحوال أسرتها، والأكثر قرباً، والأقدر على اقتراح أو اتخاذ وسائل التربية المناسبة، في ظل انشغال الرجل (بدوره)في توفير متطلبات البيت، وإعالة الأسرة.

(5)
كم من القصص الهادفة التي سمعناها ونحن على حجر أمهاتنا، وكم من أناشيد وأغاني جميلة مليئة بالحنان المتدفق مازالت آذاننا تحن إلى سماعها، وكم من مواقف حياتية مرّت علينا كانت الأم أو الجدّة أو الأخت الكبرى لنا بالمرصاد إما بالإثابة، أو بالتوجيه، بل وكم من القيم والمواقف التي شربناها مع حليب أمهاتنا؟الآن (بعض) النساء يقتصدن في إرضاع أبنائهنّ خوفاً على صدورهنّ من التّرهّل.

(6)
الغرف المريحة ذات الأصباغ الغالية، والألوان الزّاهية، والرسومات الجميلة، والأسرّة الوثيرة،  والألعاب المتنوّعة، والمعلّمين الخصوصيين، وزيارة المجمّعات التجاريّة نهاية كل شهر، وحفلات أعياد الميلاد، هل تعفي بعض الأمّهات من تأنيب ضمير التربية والاهتمام (الحقيقي) بأبنائها؟

(7)
التغير الحادث في أسلوب حياة شريحة مهمّة من الشباب والبنات من حيث أنماط التفكير، والأحلام، واللبس، والحوار، والتعامل مع الآخرين هو  نتاج للتربية التي نشأوا عليها، فليست المدنية في تغيير نوع الملابس، أوفي هيئة اللبس، بل المدنيّة هي الارتقاء بالفكر والوجدان. دور الأسرة بشكل عام، والأم بشكل خاص مؤثر جدّاً في تشكيل فكر هذا الجيل سلباً أم ايجاباً.
 
(8)
بيوت بها بنات  في سنّ المراهقة والشباب، بينما من يعدّ الطعام رجل آسيوي ربما لم يتجاوز سنه الثلاثين، وفتيات تجاوزن العشرين وهنّ لا يعرفن كيف تسلق البيضة، وفتيان تجاوزوا هذا السن وهم لا يعرفون كيف يمسكوا بفنجان القهوة. من المسئول؟

(9)
عندما تحاور (بعض) البنات تفاجأ بأن معظم أحلامهن تنحصر في  استكمال الدراسة، أو الحصول على فرصة عمل مناسبة تمكنها من تحقيق أحلامها المتمثلة في شراء سيارة جديدة، أو اقتناء جهاز حاسوب جديد، أو الحصول على آخر ما تم التوصل إليه في مجال الموضة بدون التطرق لحلم تكوين الأسرة، أو تنشئة الجيل، بل إنّ بعضهن يرى في هذه الأفكار شيئاً من الرجعية والتخلف.

(10)
الأب الذي يسمح لابنته بالنوم حتى الظهيرة، وبألا تمارس أي عمل منزلي، وبأن تقتني جهاز اتصال محمول وهي لم تكمل الخامسة عشر من عمرها، وبأن تذهب إلى المجمّع التجاري برفقة صديقاتها، وبأن تمتلك سيارة عند دخولها الجامعة دون الحاجة لذلك، هل سيستطيع تغيير تفكيرها عندما تكبر ويكون حلم تكوين الأسرة، وتربية الأبناء آخر همّها؟ والزوج الذي يختار زوجته (لمجرّد) أنها تعمل، وأن لديها راتب يمكن من خلاله تحقيق بعض أحلامه، هل سيكون حائلاً بين زوجته وبعض أحلامها؟ وهل سيحثها على أن تقوم بدورها الحقيقي في البيت حتى في ظل وجود الشغالة؟


(11)
ليس عيبا أن نعلّم بناتنا أن يكنّ جزءا مهماً من البيت، مهما كانت درجة الرفاهية الاقتصادية التي تعيشها الأسرة، وبغض النظر عن عدد العمالة المنزليّة الموجودة، ففي عملهنّ حفاظاً على وقتهن، وصحّة لهن، وكسراً لبعض الغرور، ومزيداً من القيم التي قد يحتجنها مستقبلاً.

(12)
كل عمليات المحافظة على قيم المجتمع ومكتسباته لن تجد نفعاً ما لم تقم المرأة بدورها الحقيقي، كما أن المدنيّة التي ستحوّل المرأة إلى شبه رجل هي مدنيّة زائفة. نجاح المرأة الحقيقي  لا يأتي بالحصول على الشهادات العالية، أو المناصب الكبيرة، بل بمدى تعلق أبنائها بها، وحرصهم على وجودها بينهم، يرون فيها القيمة الكبرى، والموجّه، وصانع القيم.
النجاح الحقيقي للمرأة هو في مدى قدرتها على تكوين أسرة متماسكة، وعلى أن تكون مهمّة لدى أسرتها،  وأي نجاح دنيوي آخر قد يعتبر فشلا لها ما لم يتوافق مع قدرتها على القيام بواجبها الرئيس وهو تنشئة الجيل الصالح القادر على القيام بمسئولياته تجاه نفسه وربه ووطنه.
أيتها الأمهات ..الجنة تحت أقدامكن،  فلا تبعدن أنظاركن عنها.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

(الرباط.. الأخضر يليق بك)



بعد يوم واحد  قضيناه في كازا، نغادرها إلى الرباط العاصمة حيث مكان انعقاد المؤتمر. نستغل الطريق السريع، وهو طريق واسع يمر بأطراف المدن الواقعة بين المدينتين كعين حرّودة، المحمّديّه، بو زنيقة، وادي الشراط، الصخيرات، تماره، وهي مدن تعانق المحيط الأطلسي، وتعدّ جميعها مصايف سياحية جميلة.

طوال الطريق الذي يزيد عن 90 كيلو، كان اللونين الأبيض و الأخضر يعانقان ناظرينا، فالأول هو لون البيوت، والآخر هو لون الطبيعة المحيطة، فأينما ولّيت بصرك فلن تجد أمامك سوى غابة  من الأشجار الوارفة، أو بساط عشب أخضر، وكأنها لوحة ضخمة قام أحدهم بلصقها على الأرض، هذا ونحن في بداية الخريف، فما بالكم بالربيع، وما أدراك ما ربيع المغرب.

قبل دخولنا الرباط يستقبلنا الحزام الأخضر الذي يلفّ المدينة، وهو مشروع حكومي يتم تنفيذه من خلال تشجير الشوارع والأماكن المحيطة بالمدينة. أصرخ بلا شعور وسط ذهول من معي: هل تريدون أن تصيبونني بالجنون أيها المغاربة؟ المكان كلّه أخضر فلماذا الحزام؟ اعرف مناطق في بلدي كانت عبارة عن واحات خضراء ثم أصابها التصحّر، أو غزتها نباتات متطفّلة قضت على كل ما هو أخضر سواها في ظل صمت رهيب من قبل المسئولين عن البيئة لدينا. هل تريدون مثالاً واحداً؟ خذ معك (وادي سال) على سبيل المثال لا الحصر.

ندخل المدينة في طريقنا إلى فندق (سوفيتيل) مقرّ إقامتنا. عدا اللون الأخضر المنتشر في كل مكان،  وعدا الكمّيات الهائلة من الزهور والورود التي تغصّ بها طرقات المدينة وميادينها، فقد بهرني المنتزه الطبيعي الضخم القريب من الفندق، والذي ذكّرني بغابات أوروبا كما قرأتها في القصص، وكما رأيتها في بعض أفلام الرعب الرديئة، وقد أزورها يوماً ما في حال توثيق علاقاتي بمسئولي بعض الجمعيات الثقافية أو الصحفية بالسلطنة. وقتها قد ألفّ العالم كلّه في عام واحد بحجة توثيق العلاقات والتعرف على التجارب الدولية في تلك المجالات.

في طريقنا إلى (الوزّان)، وهو مطعم شهير في حيّ أجدال، يأخذنا مرافقنا موسى في جولة سريعة في أحياء العاصمة. تبدو الرباط وكأنها مدينة صغيرة تستطيع أن تلفّها برجليك، وتنقسم المدينة التي أسّسها الموحدون في أواسط القرن الثاني عشر، إلى قسمين : القديم، والذي يمكن أن ترى ملامحه من خلال السور والأسواق الشعبية والمساجد القديمة، والجديد الذي تنتشر فيه كافة المؤسسات والمباني العصريّة الحديثة.

مما يميّز الرباط كذلك إطلاق الأسماء الاسلامية على الشوارع والزنقات، فأينما تمر إلا وتطالع  اسماً لصحابي جليل، أو عالم شهير يتصدر واجهة أحد الشوارع، وكأنّه تأكيد لمدى الاهتمام الكبير الذي يوليه المغاربة للتراث والثقافة العربية والاسلامية.

نزور مبنى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة في حيّ حسّان، المبنى قديم تجاوز التسعين عاماً، إلا أنك لا تشعر بقدمه بفضل الديكورات والرسومات الرائعة التي تملأ جنبات المبنى الذي يستوعب حوالي ثلاثين قناة تلفزيونية  وإذاعية موجّهة، من بينها قنوات خاصة بالمغتربين المغاربة في شتّى بقاع العالم، وأخرى باللغة الأمازيغية لغة السكّان الأصليين.

من الأشياء التي شدّتني خلال زيارتنا لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون اطلاق أسماء عدد من الممثلين والمذيعين والصحفيين الكبار أو الراحلين  على  بعض الاستديو هات كأليفي حفيظ وأحمد الطيب وغيرهم، ترى هل سنرى يوماً ما قاعة باسم الصحفي سليمان الطائي أو طالب المعولي، أو استيديو باسم سالم الصوري أو جمعان ديوان  ، أو مسرحاً باسم الفنّان صالح زعل، أو سعد القبّان أو غيرهم من أسماء الرعيل الأول الذي ساهم في وضع لبنة الصحافة والفن في السلطنة متحدّين ظروفاً فكريّة واقتصاديّة ومجتمعيّة عديدة واجهتهم.

ذات مغربية جميلة أخذنا موسى إلى شارع (القناصل) الذي يقع بالقرب من الودّاية، والذي سمّي بهذا الاسم لأنه كان مقراً  للبعثات الدبلوماسية في القرن 18، ويعد مع (السويقة) من أشهر الشوارع التجارية  الشعبية بالرباط، بل يمكن اعتباره متحفاً للصناعات التقليدية المغربية بمختلف أنواعها، حيث تصطف على جانبيه عشرات المحلات التقليدية وكأنهم سفراء للثقافة المغربية التي تحاول تحدي رياح التغيير العاصفة.

أما (السويقة) فهو سوق شعبي، وهو عبارة عن أزقة ضيقة تصطف على جانبيها الكثير من المحلات الصغيرة التي تبيع كل شيء، وغالباً ما يكون السوق مزدحماً بالبشر طوال اليوم وكأنك في حيّ (العتبة) في مصر. من هناك اشتريت ورفاقي عدداً من المنتجات والملابس التقليدية كالتكشيطة، والجلباب، والقفطان، والبلغة، وزيت الزيتون، وبعض أنواع الصابون المغربي، وزيت أرجان الذي يفتخر به المغاربة كعلامة تجارية تخصّهم.

المتسوّلون كثر في شوارع الرّباط، ولكنّهم ليسوا كالمتسوّلين الذين يمكن أن تراهم في عواصم عربية أخرى، فهم أكثر لطافة في التعامل، أذكر أنّ أحدهم طلب منّي أن أساعده فأخبرته أنني لا أحمل محفظتي في الوقت الحالي، وكان هذا صحيحاً، فما كان منه إلّا أن ردّ عليّ بابتسامة " مرة أخرى أن شاء الله".

في القهوة الصفراء، وهي إحدى مقاهي الرباط الكثيرة التي تتميز بالشّياكة والنظافة وحسن التصميم كانت جلستنا اليومية للتلذّذ بطعم (الأتاي) المغربي الأصيل، و(حليب سخون)، بل وبصفاء الروح. لا شيء يمكن أن يكدّر صفوك. بمجرّد أن تلتفت يمنة ويسرة تكتشف معنى الجمال الذي تحدّث عنه الشعراء وهاموا به كثيراً، بل وجنّ بعضهم بسببه. هنا لا يمكن إلا أن تحب الشعر وتستحضره. وهنا كذلك لابد أن يكتب على كل طاولة البيت التالي: الصّبا والجمال ملك يديك.. أي تاج أعزّ من تاجيك

هي قهوة بلون الشوكولاتة، أو هي الشوكولاتة ذاتها، تودّ لو التهمتها فالتهمت معها شياكة تصميمها، وجمال روح العاملين بها، وابتسامات مرتاديها. هل تعمّد صاحبها أن (يرسمها) بذلك الشكل حتى لتعتقد أنها كعكة حقيقية كبيرة لا مجرد مبنى صبغ باللونين الأصفر والبنّي الداكن.

زيارتك للرباط قد تجعلك تفكر في قراءة التاريخ الأندلسي مرة أخرى، ذلك أن هذا التاريخ الذي نستحضر منه السهول الخضراء اليانعة، والطيور المغرّدة، والفتيات الحسان المستلقيات على الخمائل، وصوت الطرب الأندلسي الجميل يمكن أن تراه حاضراً عند زيارتك (صومعة حسان)التي شيدت في عصر دولة الموحدين، أو قصبة (الوداية) بسورها ومسجدها المسمى بالعقيق، أو موقع (شالة) على أطراف نهر أبي رقراق الذي تتراكم فيه آثار حضارات رومانيّة وأندلسيّة ومغاربيّة.

الرّباط حكاية جميلة لا يكفيها مقال. مازالت ذاكرتي تحتفظ لها بعشرات المواقف الجميلة والطريفة التي لن تستطع خريطة العالم أن تمحوها. ما تزال أشعار إبراهيم ترنّ في ذاكرتي، وما برحت صوري الشخصية تتحدث عن براعة (البرنس) خالد في التقاطها، ومازالت حلاوة حديث رئيس وفدنا، وغزارة معلوماته، وبراعة أسلوبه الخطابي تضيف إلى ثقافتي المتواضعة الشيء الكثير في كل مرة أرافقه فيها.

لا أجد للختام  سوى أبيات  من أغنية مغاربية جميلة رافقتنا طوال رحلتنا، صحيح أن موسى كره الأغنية والمطرب والمحلّ، بل والبلد بأكملها من كثر  إلحاح إبراهيم عليه بتشغيلها في كل مرّة نركب فيها معه، ولكنها بلا شك ستبقى ذكرى طريفة تذكّرنا بأيام من الحلم عشناها هناك:
بافيني يا خوتي بافيني..بافيني وأصحاب الهذرة خاطيني.. بافيني وباغي نعيش وحداني.. ربّي الفوقاني هو اللي يداوي حالي.

د. محمد بن حمد العريمي
MH.ORAIMI@HOTMAIL.COM

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

يوم في كازا



كانت الرغبة في زيارة المغرب بالنسبة لي حلماً مؤجّلاَ لطالما تمنيت أن يتحقّق يوماً ما وذلك لكثرة ما كنت أسمعه من وصف جميل لهذا البلد والمغلّف بعبارات المدح والثناء المبالغ فيها، والتي جعلتني أتخيّلها عالماً آخر لا يمتّ لعالمنا بصلة.
وعندما تقرّر زيارتي للمغرب للمشاركة في إحدى الندوات العلميّة المتعلّقة بمجال عملي، كان الهاجس الذي ظلّ يساورني طوال الأيام التي سبقت موعد السفر هو ما كنت أتخيّل رؤيته هناك ، وما الذي سيميزها عن غيرها؟ هل هي المناظر الطبيعية، أم التطور الحضاري، أم ماذا بالضبط؟ ولماذا لا يقولون نفس الشيء عن بلدان عربية أخرى اشتهرت بعراقتها وتقدمها، لذا كانت اللهفة طاغية ، والرغبة ملحّة في استباق الأيام وحلول موعد السفر.

عندما نزلنا في مطار محمد الخامس كان أول ما صادفني لوحة ترحيبيّة كبيرة كتب عليها "نرحب بأبناء الجالية المغربيّة في الخارج". استوقفتني العبارة طويلاً وسرحت أتأملها، فأنا مع أسفاري المتعدّدة لا أذكر أنني رأيت مثيلاَ لهذه العبارة في أي مطار آخر، بل إن بعض هذه الدول تودّ لو أنّها كسرت ملايين القلل خلف أبنائها المهاجرين وكأنهم عالة عليها لا سند وقوة لها. كان ما رأيته باعثاّ على الأمل بأنني سأرى أشياءً جميلة كثر، ذلك أن البلد التي تحترم أبنائها المغتربين، وترحّب بهم أكثر من ترحيبها بالغريب هي بلد ينبغي أن تحترم، فما بالكم وهذا الاهتمام يتصدر بوابة العبور الأولى إلى الوطن، وكأنها رسالة تصدّر إلى القادمين ، كانت هذه اللوحة هي أولى النقاط الذي دوّنتها في ذاكرتي  وأنا أقارن بين ما أراه هنا، وبين ما رأيته في مدن سابقة قمت بزيارتها.

بأكواب (الأتاي) الساخن، وكلمات المجاملة اللطيفة تم استقبالنا ريثما تنتهي اجراءات خروجنا من مطار محمد الخامس، لنستقلّ بعدها السيارة التي كانت تنتظرنا لأخذنا إلى مقرّ إقامتنا، دون أن يعترض طريقنا متسوّل، أو أن يتزاحم علينا حامليالشنط، أو أن يلحّ علينا سائق تاكسي ثقيل دمليجبرنا على أن نركب معه ولو بالعافية، كما يحدث في بعض المطارات العربية. وكانت هذه النقطة الثانية التي وضعتها في الحسبان خلال قيامي بعملية المقارنة.

ننطلق من المطار باتجاه فندق "حياة ريجنسي" حيث مقر إقامتنا، الشوارع عادية لا تكاد تختلف عن شوارع كثير من المدن التي زرتها، والمباني ذات المباني التي رأيتها هنا وهناك، صحيح أن اللون الأخضر منتشر على امتداد البصر، ولكني ما زلت أنتظر أن أرى شيئاً استثنائياً يتوافق مع ما سمعته من حكايات أسطورية عنها. فجأة تذكرت أنني طوال نصف ساعة كاملة من انطلاقنا من المطار وحتى وصولنا إلى الفندق لم أسمع صوت (بوق) سيّارة واحدة برغم زحمة الشارع وكثافة الحركة المرورية التي تصادفت مع يوم العطلة الرسمية في البلد. إذاً هذا شيء آخر يضاف إلى قائمة المقارنة.

بعد ساعة من وصولنا إلى الفندق أقرر النزول لا كتشاف الشوارع المحيطة به، وهي عادة أفعلها في كل مدينة أنزل بها، فما بالكم وأنا أتحدث عن مدينة استثنائية بحسب الصورة الذهنيّة التي رسمتها لها، وما بالكم كذلك وأنا سأغادر هذه المدينة  في اليوم التالي ذاهباً إلى الرباط العاصمة حيث مكان انعقاد الندوة.

يقع الفندق  في ساحة الأمم المتحدة والتي كانت تسمى ساحة فرنسا زمن الاحتلال الفرنسي للمغرب ، وبالقرب  من مجسم الكرة الأرضية الذي أنشئ في سبعينيات القرن الماضي، وأصبح من معالم كازا الشهيرة،  كما لا يبعد سوى كيلو متر واحد عن ميناء المدينة، يوماً ما وقبل حوالي 70 عاماً من الآن صورت في هذه الساحة مشاهد من الفيلم  الأمريكي الرومانسي الشهير "كازابلانكا" الذي قامت ببطولته انجريد برجمان وفري بوغارت، لذا فليس غريباَ أن ترى كثيراً من السياح يتوافدون لرؤية الأماكن التي صورت فيها تلك المشاهد.

ولأنني عاشق للمقاهي فقد كان من الطبيعي أن تشدني المقاهي الكثيرة التي تتميز بها الشوارع القريبة من الفندق في كازا القديمة، والتي كانت كاملة العدد بزبائنها الذين كان حديثهم مزيجاً بين السياسة والرياضة والشئون المحلية والخاصة، وفي "مقهى فرنسا" التاريخي المقابل لفندق حياة، والواقع بين ملتقى شارع محمد الخامس وساحةالأمم المتحدة، والذي أنشأته سيدة فرنسية عام 1946، وكان المكان المفضل للتجار الفرنسيين أيام الاستعمار، شربت قهوة فرنسية ستحتفظ بها ذاكرتي طويلاً كاحتفاظ المقهى بتاريخ المكان، وفي"القهوة الخضراء" القريبة احتسيت (أتاياً) لم أذق ألذّ منه نكهة وطعماَ من قبل وكأنني أشربه لأول مره. في كازا لا يفوق عدد المقاهي سوى تعداد البشر القاطنين بها، وكأنما أضحت تلك المقاهي جزءاً من حياة سكانها اليومية.
تجولت في سور "باب مراكش"، وسوق الدار البيضاء، وفي زنقات شارعي محمد الخامس والجيش الملكي ، البنايات بيضاء على اسم المدينة،وصممت على الطراز المورسكي، هنا يباع كلشيء، خاصة الألبسة الجاهزة والأحذيةوالمصنوعات الجلدية والمجوهرات الفضية. لمن عاش مثلي فترة طويلة في  مصر سيعتقد لأول وهلة أنه في شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، أو في صفية زغلول بمحطة الرمل بالإسكندرية. المعالم تتشابه كثيراً، وأثر المستعمر يبدو واضحاً من خلال تصميم الشوارع والبنايات. ما يميز كازا أن شوارعهاواسعة ونظيفة، ولا أثر لقمامة ملقية على الطريق، كما أن الكل مستعد أن يمنحك ما تشاء دون انتظار لمقابل.
في المساء نستقل السيارة المخصصة لنا لأخذ جولة سريعة في "عين الذئاب البشرية"  والتي يسميها البعض اختصاراً بعين دياب، وهي إحدى أهم الأماكن السياحية في كازا. بمجرد ركوبنا ينطلق صوت نجاة يتبعها حليم برائعته " الرفاق حائرون".برغم فترة الاستعمار الطويلة إلا أن المغاربة عاشقون للتراث العربي، مغرمون بفنونه، محافظون على ملامحه، تجد ذلك في تصميم أسواقهم، واختيارهم لمسمياتهم الحياتية المختلفة، وأسماء زنقاتهم وشوارعهم، وحبّهم للطرب الشرقي الأصيل. أسأل موسى سائق السيارة عن أوضاع البلد فيجيبني بأنها مطمئنة، وأن الحكومة تسعى جاهدة لتحسين الأوضاع، وأن الأوضاع أصبحت أفضل مما كانت عليه في السابق، وستصبح أفضل وأفضل بتعاون الجميع. أسأله إن كان منتمياً لحزب معيّن، فيجيبني بالنفي وأنّه يؤيد أية حكومة تعمل لصالح المواطن بغض النظر عن انتمائها الفكري والسياسي.
موسى مثال للمواطن المغربي المثقف، فهو بالرغم من عمله السابق كعسكري، وعمله الحالي كسائق إلا أنه يتمتع بثقافة عالية، ودراية شاملة بتاريخ بلده، واطلاع كبير على كافة الأنشطة الحكومية في مختلف المجالات، وكان موسوعة شاملة استفدت منه كثيراً في معرفة أدق تفاصيل تاريخ المدينة  ومعالمها المختلفة، فلا نكاد نمرّ على معلم تاريخي أو حضاري ما ونستفسر عنه ،  أو نناقش قضية محلية مختلفة أو خبراً ورد في إحدى الصحف إلا وينطلق موسى شارحاً كل ما يتعلق بتاريخ ذلك المعلم أو تلك القضية،  وكأنك أمام أستاذ جامعي لا سائق بسيط.
في بعض الدول يستقبلك سائق التاكسي بعبارات النقد الجارح لسياسات حكومة بلده، والاستياء من الأحوال المعيشية والعامة، والتي تجعلك تكوّن صورة ذهنيّة قاتمة  عن البلد التي تزورها، وتغدو أكثر توتراً طوال فترة إقامتك، وتجعلك تتمنى لو لم تقم بزيارة تلك البلد من الأساس.
في كازا رأيت كل شيء أبيض كاسمها. البيوت، والشوارع، وحتى قلوب الناس.
1