كانت الرغبة في زيارة المغرب بالنسبة لي حلماً مؤجّلاَ لطالما تمنيت أن يتحقّق يوماً ما وذلك لكثرة ما كنت أسمعه من وصف جميل لهذا البلد والمغلّف بعبارات المدح والثناء المبالغ فيها، والتي جعلتني أتخيّلها عالماً آخر لا يمتّ لعالمنا بصلة.
وعندما تقرّر زيارتي للمغرب للمشاركة في إحدى الندوات العلميّة المتعلّقة بمجال عملي، كان الهاجس الذي ظلّ يساورني طوال الأيام التي سبقت موعد السفر هو ما كنت أتخيّل رؤيته هناك ، وما الذي سيميزها عن غيرها؟ هل هي المناظر الطبيعية، أم التطور الحضاري، أم ماذا بالضبط؟ ولماذا لا يقولون نفس الشيء عن بلدان عربية أخرى اشتهرت بعراقتها وتقدمها، لذا كانت اللهفة طاغية ، والرغبة ملحّة في استباق الأيام وحلول موعد السفر.
عندما نزلنا في مطار محمد الخامس كان أول ما صادفني لوحة ترحيبيّة كبيرة كتب عليها "نرحب بأبناء الجالية المغربيّة في الخارج". استوقفتني العبارة طويلاً وسرحت أتأملها، فأنا مع أسفاري المتعدّدة لا أذكر أنني رأيت مثيلاَ لهذه العبارة في أي مطار آخر، بل إن بعض هذه الدول تودّ لو أنّها كسرت ملايين القلل خلف أبنائها المهاجرين وكأنهم عالة عليها لا سند وقوة لها. كان ما رأيته باعثاّ على الأمل بأنني سأرى أشياءً جميلة كثر، ذلك أن البلد التي تحترم أبنائها المغتربين، وترحّب بهم أكثر من ترحيبها بالغريب هي بلد ينبغي أن تحترم، فما بالكم وهذا الاهتمام يتصدر بوابة العبور الأولى إلى الوطن، وكأنها رسالة تصدّر إلى القادمين ، كانت هذه اللوحة هي أولى النقاط الذي دوّنتها في ذاكرتي وأنا أقارن بين ما أراه هنا، وبين ما رأيته في مدن سابقة قمت بزيارتها.
بأكواب (الأتاي) الساخن، وكلمات المجاملة اللطيفة تم استقبالنا ريثما تنتهي اجراءات خروجنا من مطار محمد الخامس، لنستقلّ بعدها السيارة التي كانت تنتظرنا لأخذنا إلى مقرّ إقامتنا، دون أن يعترض طريقنا متسوّل، أو أن يتزاحم علينا حامليالشنط، أو أن يلحّ علينا سائق تاكسي ثقيل دمليجبرنا على أن نركب معه ولو بالعافية، كما يحدث في بعض المطارات العربية. وكانت هذه النقطة الثانية التي وضعتها في الحسبان خلال قيامي بعملية المقارنة.
ننطلق من المطار باتجاه فندق "حياة ريجنسي" حيث مقر إقامتنا، الشوارع عادية لا تكاد تختلف عن شوارع كثير من المدن التي زرتها، والمباني ذات المباني التي رأيتها هنا وهناك، صحيح أن اللون الأخضر منتشر على امتداد البصر، ولكني ما زلت أنتظر أن أرى شيئاً استثنائياً يتوافق مع ما سمعته من حكايات أسطورية عنها. فجأة تذكرت أنني طوال نصف ساعة كاملة من انطلاقنا من المطار وحتى وصولنا إلى الفندق لم أسمع صوت (بوق) سيّارة واحدة برغم زحمة الشارع وكثافة الحركة المرورية التي تصادفت مع يوم العطلة الرسمية في البلد. إذاً هذا شيء آخر يضاف إلى قائمة المقارنة.
بعد ساعة من وصولنا إلى الفندق أقرر النزول لا كتشاف الشوارع المحيطة به، وهي عادة أفعلها في كل مدينة أنزل بها، فما بالكم وأنا أتحدث عن مدينة استثنائية بحسب الصورة الذهنيّة التي رسمتها لها، وما بالكم كذلك وأنا سأغادر هذه المدينة في اليوم التالي ذاهباً إلى الرباط العاصمة حيث مكان انعقاد الندوة.
يقع الفندق في ساحة الأمم المتحدة والتي كانت تسمى ساحة فرنسا زمن الاحتلال الفرنسي للمغرب ، وبالقرب من مجسم الكرة الأرضية الذي أنشئ في سبعينيات القرن الماضي، وأصبح من معالم كازا الشهيرة، كما لا يبعد سوى كيلو متر واحد عن ميناء المدينة، يوماً ما وقبل حوالي 70 عاماً من الآن صورت في هذه الساحة مشاهد من الفيلم الأمريكي الرومانسي الشهير "كازابلانكا" الذي قامت ببطولته انجريد برجمان وفري بوغارت، لذا فليس غريباَ أن ترى كثيراً من السياح يتوافدون لرؤية الأماكن التي صورت فيها تلك المشاهد.
ولأنني عاشق للمقاهي فقد كان من الطبيعي أن تشدني المقاهي الكثيرة التي تتميز بها الشوارع القريبة من الفندق في كازا القديمة، والتي كانت كاملة العدد بزبائنها الذين كان حديثهم مزيجاً بين السياسة والرياضة والشئون المحلية والخاصة، وفي "مقهى فرنسا" التاريخي المقابل لفندق حياة، والواقع بين ملتقى شارع محمد الخامس وساحةالأمم المتحدة، والذي أنشأته سيدة فرنسية عام 1946، وكان المكان المفضل للتجار الفرنسيين أيام الاستعمار، شربت قهوة فرنسية ستحتفظ بها ذاكرتي طويلاً كاحتفاظ المقهى بتاريخ المكان، وفي"القهوة الخضراء" القريبة احتسيت (أتاياً) لم أذق ألذّ منه نكهة وطعماَ من قبل وكأنني أشربه لأول مره. في كازا لا يفوق عدد المقاهي سوى تعداد البشر القاطنين بها، وكأنما أضحت تلك المقاهي جزءاً من حياة سكانها اليومية.
تجولت في سور "باب مراكش"، وسوق الدار البيضاء، وفي زنقات شارعي محمد الخامس والجيش الملكي ، البنايات بيضاء على اسم المدينة،وصممت على الطراز المورسكي، هنا يباع كلشيء، خاصة الألبسة الجاهزة والأحذيةوالمصنوعات الجلدية والمجوهرات الفضية. لمن عاش مثلي فترة طويلة في مصر سيعتقد لأول وهلة أنه في شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، أو في صفية زغلول بمحطة الرمل بالإسكندرية. المعالم تتشابه كثيراً، وأثر المستعمر يبدو واضحاً من خلال تصميم الشوارع والبنايات. ما يميز كازا أن شوارعهاواسعة ونظيفة، ولا أثر لقمامة ملقية على الطريق، كما أن الكل مستعد أن يمنحك ما تشاء دون انتظار لمقابل.
في المساء نستقل السيارة المخصصة لنا لأخذ جولة سريعة في "عين الذئاب البشرية" والتي يسميها البعض اختصاراً بعين دياب، وهي إحدى أهم الأماكن السياحية في كازا. بمجرد ركوبنا ينطلق صوت نجاة يتبعها حليم برائعته " الرفاق حائرون".برغم فترة الاستعمار الطويلة إلا أن المغاربة عاشقون للتراث العربي، مغرمون بفنونه، محافظون على ملامحه، تجد ذلك في تصميم أسواقهم، واختيارهم لمسمياتهم الحياتية المختلفة، وأسماء زنقاتهم وشوارعهم، وحبّهم للطرب الشرقي الأصيل. أسأل موسى سائق السيارة عن أوضاع البلد فيجيبني بأنها مطمئنة، وأن الحكومة تسعى جاهدة لتحسين الأوضاع، وأن الأوضاع أصبحت أفضل مما كانت عليه في السابق، وستصبح أفضل وأفضل بتعاون الجميع. أسأله إن كان منتمياً لحزب معيّن، فيجيبني بالنفي وأنّه يؤيد أية حكومة تعمل لصالح المواطن بغض النظر عن انتمائها الفكري والسياسي.
موسى مثال للمواطن المغربي المثقف، فهو بالرغم من عمله السابق كعسكري، وعمله الحالي كسائق إلا أنه يتمتع بثقافة عالية، ودراية شاملة بتاريخ بلده، واطلاع كبير على كافة الأنشطة الحكومية في مختلف المجالات، وكان موسوعة شاملة استفدت منه كثيراً في معرفة أدق تفاصيل تاريخ المدينة ومعالمها المختلفة، فلا نكاد نمرّ على معلم تاريخي أو حضاري ما ونستفسر عنه ، أو نناقش قضية محلية مختلفة أو خبراً ورد في إحدى الصحف إلا وينطلق موسى شارحاً كل ما يتعلق بتاريخ ذلك المعلم أو تلك القضية، وكأنك أمام أستاذ جامعي لا سائق بسيط.
في بعض الدول يستقبلك سائق التاكسي بعبارات النقد الجارح لسياسات حكومة بلده، والاستياء من الأحوال المعيشية والعامة، والتي تجعلك تكوّن صورة ذهنيّة قاتمة عن البلد التي تزورها، وتغدو أكثر توتراً طوال فترة إقامتك، وتجعلك تتمنى لو لم تقم بزيارة تلك البلد من الأساس.
في كازا رأيت كل شيء أبيض كاسمها. البيوت، والشوارع، وحتى قلوب الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.