الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

(الرباط.. الأخضر يليق بك)



بعد يوم واحد  قضيناه في كازا، نغادرها إلى الرباط العاصمة حيث مكان انعقاد المؤتمر. نستغل الطريق السريع، وهو طريق واسع يمر بأطراف المدن الواقعة بين المدينتين كعين حرّودة، المحمّديّه، بو زنيقة، وادي الشراط، الصخيرات، تماره، وهي مدن تعانق المحيط الأطلسي، وتعدّ جميعها مصايف سياحية جميلة.

طوال الطريق الذي يزيد عن 90 كيلو، كان اللونين الأبيض و الأخضر يعانقان ناظرينا، فالأول هو لون البيوت، والآخر هو لون الطبيعة المحيطة، فأينما ولّيت بصرك فلن تجد أمامك سوى غابة  من الأشجار الوارفة، أو بساط عشب أخضر، وكأنها لوحة ضخمة قام أحدهم بلصقها على الأرض، هذا ونحن في بداية الخريف، فما بالكم بالربيع، وما أدراك ما ربيع المغرب.

قبل دخولنا الرباط يستقبلنا الحزام الأخضر الذي يلفّ المدينة، وهو مشروع حكومي يتم تنفيذه من خلال تشجير الشوارع والأماكن المحيطة بالمدينة. أصرخ بلا شعور وسط ذهول من معي: هل تريدون أن تصيبونني بالجنون أيها المغاربة؟ المكان كلّه أخضر فلماذا الحزام؟ اعرف مناطق في بلدي كانت عبارة عن واحات خضراء ثم أصابها التصحّر، أو غزتها نباتات متطفّلة قضت على كل ما هو أخضر سواها في ظل صمت رهيب من قبل المسئولين عن البيئة لدينا. هل تريدون مثالاً واحداً؟ خذ معك (وادي سال) على سبيل المثال لا الحصر.

ندخل المدينة في طريقنا إلى فندق (سوفيتيل) مقرّ إقامتنا. عدا اللون الأخضر المنتشر في كل مكان،  وعدا الكمّيات الهائلة من الزهور والورود التي تغصّ بها طرقات المدينة وميادينها، فقد بهرني المنتزه الطبيعي الضخم القريب من الفندق، والذي ذكّرني بغابات أوروبا كما قرأتها في القصص، وكما رأيتها في بعض أفلام الرعب الرديئة، وقد أزورها يوماً ما في حال توثيق علاقاتي بمسئولي بعض الجمعيات الثقافية أو الصحفية بالسلطنة. وقتها قد ألفّ العالم كلّه في عام واحد بحجة توثيق العلاقات والتعرف على التجارب الدولية في تلك المجالات.

في طريقنا إلى (الوزّان)، وهو مطعم شهير في حيّ أجدال، يأخذنا مرافقنا موسى في جولة سريعة في أحياء العاصمة. تبدو الرباط وكأنها مدينة صغيرة تستطيع أن تلفّها برجليك، وتنقسم المدينة التي أسّسها الموحدون في أواسط القرن الثاني عشر، إلى قسمين : القديم، والذي يمكن أن ترى ملامحه من خلال السور والأسواق الشعبية والمساجد القديمة، والجديد الذي تنتشر فيه كافة المؤسسات والمباني العصريّة الحديثة.

مما يميّز الرباط كذلك إطلاق الأسماء الاسلامية على الشوارع والزنقات، فأينما تمر إلا وتطالع  اسماً لصحابي جليل، أو عالم شهير يتصدر واجهة أحد الشوارع، وكأنّه تأكيد لمدى الاهتمام الكبير الذي يوليه المغاربة للتراث والثقافة العربية والاسلامية.

نزور مبنى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة في حيّ حسّان، المبنى قديم تجاوز التسعين عاماً، إلا أنك لا تشعر بقدمه بفضل الديكورات والرسومات الرائعة التي تملأ جنبات المبنى الذي يستوعب حوالي ثلاثين قناة تلفزيونية  وإذاعية موجّهة، من بينها قنوات خاصة بالمغتربين المغاربة في شتّى بقاع العالم، وأخرى باللغة الأمازيغية لغة السكّان الأصليين.

من الأشياء التي شدّتني خلال زيارتنا لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون اطلاق أسماء عدد من الممثلين والمذيعين والصحفيين الكبار أو الراحلين  على  بعض الاستديو هات كأليفي حفيظ وأحمد الطيب وغيرهم، ترى هل سنرى يوماً ما قاعة باسم الصحفي سليمان الطائي أو طالب المعولي، أو استيديو باسم سالم الصوري أو جمعان ديوان  ، أو مسرحاً باسم الفنّان صالح زعل، أو سعد القبّان أو غيرهم من أسماء الرعيل الأول الذي ساهم في وضع لبنة الصحافة والفن في السلطنة متحدّين ظروفاً فكريّة واقتصاديّة ومجتمعيّة عديدة واجهتهم.

ذات مغربية جميلة أخذنا موسى إلى شارع (القناصل) الذي يقع بالقرب من الودّاية، والذي سمّي بهذا الاسم لأنه كان مقراً  للبعثات الدبلوماسية في القرن 18، ويعد مع (السويقة) من أشهر الشوارع التجارية  الشعبية بالرباط، بل يمكن اعتباره متحفاً للصناعات التقليدية المغربية بمختلف أنواعها، حيث تصطف على جانبيه عشرات المحلات التقليدية وكأنهم سفراء للثقافة المغربية التي تحاول تحدي رياح التغيير العاصفة.

أما (السويقة) فهو سوق شعبي، وهو عبارة عن أزقة ضيقة تصطف على جانبيها الكثير من المحلات الصغيرة التي تبيع كل شيء، وغالباً ما يكون السوق مزدحماً بالبشر طوال اليوم وكأنك في حيّ (العتبة) في مصر. من هناك اشتريت ورفاقي عدداً من المنتجات والملابس التقليدية كالتكشيطة، والجلباب، والقفطان، والبلغة، وزيت الزيتون، وبعض أنواع الصابون المغربي، وزيت أرجان الذي يفتخر به المغاربة كعلامة تجارية تخصّهم.

المتسوّلون كثر في شوارع الرّباط، ولكنّهم ليسوا كالمتسوّلين الذين يمكن أن تراهم في عواصم عربية أخرى، فهم أكثر لطافة في التعامل، أذكر أنّ أحدهم طلب منّي أن أساعده فأخبرته أنني لا أحمل محفظتي في الوقت الحالي، وكان هذا صحيحاً، فما كان منه إلّا أن ردّ عليّ بابتسامة " مرة أخرى أن شاء الله".

في القهوة الصفراء، وهي إحدى مقاهي الرباط الكثيرة التي تتميز بالشّياكة والنظافة وحسن التصميم كانت جلستنا اليومية للتلذّذ بطعم (الأتاي) المغربي الأصيل، و(حليب سخون)، بل وبصفاء الروح. لا شيء يمكن أن يكدّر صفوك. بمجرّد أن تلتفت يمنة ويسرة تكتشف معنى الجمال الذي تحدّث عنه الشعراء وهاموا به كثيراً، بل وجنّ بعضهم بسببه. هنا لا يمكن إلا أن تحب الشعر وتستحضره. وهنا كذلك لابد أن يكتب على كل طاولة البيت التالي: الصّبا والجمال ملك يديك.. أي تاج أعزّ من تاجيك

هي قهوة بلون الشوكولاتة، أو هي الشوكولاتة ذاتها، تودّ لو التهمتها فالتهمت معها شياكة تصميمها، وجمال روح العاملين بها، وابتسامات مرتاديها. هل تعمّد صاحبها أن (يرسمها) بذلك الشكل حتى لتعتقد أنها كعكة حقيقية كبيرة لا مجرد مبنى صبغ باللونين الأصفر والبنّي الداكن.

زيارتك للرباط قد تجعلك تفكر في قراءة التاريخ الأندلسي مرة أخرى، ذلك أن هذا التاريخ الذي نستحضر منه السهول الخضراء اليانعة، والطيور المغرّدة، والفتيات الحسان المستلقيات على الخمائل، وصوت الطرب الأندلسي الجميل يمكن أن تراه حاضراً عند زيارتك (صومعة حسان)التي شيدت في عصر دولة الموحدين، أو قصبة (الوداية) بسورها ومسجدها المسمى بالعقيق، أو موقع (شالة) على أطراف نهر أبي رقراق الذي تتراكم فيه آثار حضارات رومانيّة وأندلسيّة ومغاربيّة.

الرّباط حكاية جميلة لا يكفيها مقال. مازالت ذاكرتي تحتفظ لها بعشرات المواقف الجميلة والطريفة التي لن تستطع خريطة العالم أن تمحوها. ما تزال أشعار إبراهيم ترنّ في ذاكرتي، وما برحت صوري الشخصية تتحدث عن براعة (البرنس) خالد في التقاطها، ومازالت حلاوة حديث رئيس وفدنا، وغزارة معلوماته، وبراعة أسلوبه الخطابي تضيف إلى ثقافتي المتواضعة الشيء الكثير في كل مرة أرافقه فيها.

لا أجد للختام  سوى أبيات  من أغنية مغاربية جميلة رافقتنا طوال رحلتنا، صحيح أن موسى كره الأغنية والمطرب والمحلّ، بل والبلد بأكملها من كثر  إلحاح إبراهيم عليه بتشغيلها في كل مرّة نركب فيها معه، ولكنها بلا شك ستبقى ذكرى طريفة تذكّرنا بأيام من الحلم عشناها هناك:
بافيني يا خوتي بافيني..بافيني وأصحاب الهذرة خاطيني.. بافيني وباغي نعيش وحداني.. ربّي الفوقاني هو اللي يداوي حالي.

د. محمد بن حمد العريمي
MH.ORAIMI@HOTMAIL.COM

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.