الثلاثاء، 26 أبريل 2016

مشاهد وتساؤلات (31)

(1)
في تمام الساعة الواحدة من ظهر يوم الأحد الفائت دخلت مبنى خدمات الشرطة بولاية العامرات كي أستخرج جواز سفر جديد لطفلتي الرضيعة، وأثناء تخليص المعاملة أخبرتني الموظفة أن بطاقتي الشخصيّة بحاجة إلى تحديث للبيانات، وأن عليّ تحديثها كي يتسنّى لها إنهاء الإجراءات اللازمة للحصول على الجواز، فانتقلت إلى المكتب الآخر لتحديث بيانات البطاقة، ثم ذهبت لاستلامها، وعدت بعدها إلى الموظّفة التي طلبت مني مرة أخرى العودة إلى المكتب السابق لتحديث بيانات شهادة ميلاد ابنتي، ثم العودة لاستكمال معاملة الجواز، وأخيراً الذهاب لاستلامه من المكان المخصّص لذلك.
في حوالي الساعة الواحدة وسبعة عشر دقيقة كنت قد خرجت من المبنى وأنا حاملاً معي جواز سفر ابنتي، وشهادة ميلادها، وبطاقتي الشخصيّة الجديدة بعد تحديث بياناتها!
شكراً لشرطة عمان السلطانيّة.
(2)
يوم الخميس 9 فبراير 2012 كتبت في مدوّنتي السطور الآتية:" فاعل خير يتبرع بمبلغ 50 مليون ريال عماني لبناء مستشفى تخصصي لطب الأطفال. خبر أعلنه معالي وزير الصحة، وتفاعلت معه عدد من مواقع الحوار الالكترونية المحلية، في ظل تعاطي إعلامي متواضع مع الخبر. لابد لخبر كهذا أن يأخذ حقه من التغطية الإعلامية، فبدون الشراكة المجتمعية الفاعلة لن نتمكن من تحقيق كل ما نصبو إليه، وعمان زاخرة بكثير من رجال الأعمال الذين أعطتهم البلد الشيء الكثير، وبالتالي فإن عليهم المساهمة الفاعلة والإيجابية في خدمة هذا الوطن، ليس فقط بدعم فريق كروي معين، أو رعاية حفل فني ساهر، وإنما بالالتفات إلى مجالات اجتماعية قد تكون أكثر أهمية، لعل من بينها إنشاء مراكز طبية أو تبني رعاية بعض مراكز الأيتام، أو تقديم منح دراسية لبعض الفئات المحتاجة".
كانت هذه السّطور قبل أكثر من أربع سنوات من الآن، وحتى الآن لا أعلم مصير هذا المستشفى، وإن كان قد تمّ بناءه أم لا، وما إن كان فاعل الخير قدّم مبلغ التبرّع أم لا.
هل من جهينة ما لتنبأني بالخبر اليقين!!
(3)
اتصل بي أحد أصدقائي من سكّان الخوير مستنجداً تكاد العبرة تخنق صوته" تصور!! الحديقة التي كانت متنفّساً لنا ولأسرنا سيتم تحويلها إلى فندق! كنا نجد في تلك الحديقة ملاذاً جميلاً لنا كلما ضاقت بنا حوائط بيوتنا، وكانت مكاناً مناسباً لممارسة رياضة المشي في ظلّ ازدحام الشوارع المحيطة بها بالمشاة والمركبات، وكان مشهداً مألوفاً أن تجد طفلاً يلعب هنا، وعاملاً بسيطاً غافياً هناك تحت ظل شجرة وارفة وهو يحلم بمستقبل تغرّب من أجله، وشيخاً كبيراً يتجوّل على كرسيه المتحرّك بينما حفيده يدفعه بكل حنان، وبعض الجارات من الحارة المجاورة قد تجمّعن في أحد أركانها يتبادلن فناجين قهوة العصر بينما أعينهنّ مثبّتة على أطفالهنّ المنتشرين هنا وهناك تميّز كل منهم ابتسامة طفولة بريئة. اعطني سبباً واحداً فقط لإزالتها في الوقت الذي يصرخ فيه العالم أجمع منادياً بضرورة الاهتمام بإنشاء المتنزّهات والمساحات الخضراء بعد أن تحوّلت المدن إلى كتل خرسانيّة قبيحة أصبح منظرها والتلوّث الناجم عنها سبباً لقائمة تطول من الأمراض المعروفة وغير المعروفة!"
قلت لك سابقاً يا صديقي، هم لا يجدون أيّة بقعة أخرى في عمان تصلح لإقامة الفنادق والنزل السياحيّة سوى في قلب العاصمة، فكل تلك الشواطئ البكر، والأودية الخضراء، والرمال الذهبيّة، والجبال الزاهية، ليست جديرة بالاستثمار فيها، وبالتالي وصول الخدمات لها، وتوطين أهلها، والمحافظة على الإرث الفكريّ الخاصّ بها، والحدّ من الهجرة الداخليّة وما يتبعها من ضغط على الموارد، ومشاكل اجتماعيّة واقتصاديّة وفكريّة متعدّدة!
صدقني يا صديقي.. لا مكان يصلح لإقامة الفنادق، والمجمّعات، والمتنزّهات، والأنشطة، والمشاريع سوى في العاصمة، وفي قلبها بالذات، ولا يهم إن يتم إزالة كل الحدائق الموجودة واستبدالها بكتل خرسانيّة سوداء ورماديّة. لا يهم.

(4)
في ظلّ سيطرة الوافدين على نسبة كبيرة من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومع تخيّلنا لحجم الدخل الذي تدرّه هذه المشاريع عليهم في ظلّ ركون (البعض) من المواطنين إلى الحصول على الفتات من خلال قيامه بكفالة هؤلاء، واستخدام اسمه كواجهة قانونيّة لأعمالهم، وفي ظلّ توجّه العديد من الدول المجاورة لإعادة النظر في قانون (الكفيل) لأسباب انسانيّة واقتصاديّة مختلفة، فالسؤال المهم هنا: لماذا لا يسمح للمستثمر الأجنبي بممارسة عمله في ضوء النهار مقابل أن يدفع ضريبة معيّنة لخزينة الدولة بغض النظر عن نسبة العائد، وبالتالي يحافظ على حقوقه المالية والقانونية، ويدرّ على الدولة عائداً مناسباً يسهم في تنويع مصادر دخلها، وفي نفس الوقت  تسهم في الحدّ من انتشار ظاهرة التجارة المستترة والمنتفعين من وراءها!
حتى الآن، وبرغم سيطرة الوافدين على كثير من المشاريع والمؤسسات الاقتصادية بالسلطنة بعيداً عن اللافتات العريضة التي تزيّن مداخل تلك المؤسسات والتي تحمل أسماء عمانيّة، إلا أن كثيراً من هؤلاء التجّار والمستثمرين ما زالوا يشعرون بالخوف والقلق خوفاً من أيّة تصرّف قد يقوم به الكفيل، وبالتالي يقومون بتحويل كل (بيسة) يحصلون عليها إلى الخارج!
من المهم أن يشعر المستثمر بالأمان، وهو في كل الأحوال سيكون موجوداً  بالقرب من استثماراته صغيرة كانت أم كبيرة، ولن يغامر بتركها، فلنجعله يتوسّع في استثماراته، وبالتالي عائداً أكبر لخزينة الدولة.


الثلاثاء، 5 أبريل 2016

مشاهــد وتساؤلات (30)

(1)

أثلج صدري الخبر الذي طالعته في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حول عقد اتفاقيّة بين بلديّة مسقط وإحدى الشركات لاستثمار أرض البلديّة بالخوير لبناء فندق ومنتزه عصري، ذلك أنّ الخوير مكان رائع لإقامة الفنادق أو المجمّعات تجاريّة أو المتنزّهات، فالمنطقة هادئة وبعيدة عن قلب المدينة حيث الازدحام والتكدّس، ومشاريع كهذه لن تسهم بتاتاً في ارباك الحركة المروريّة، أو حدوث اختناق سكّاني!

جميل أن يتم التفكير في نقل المشاريع من الأطراف للقلب، فإلى متى يستمر التركيز على المحافظات التي تشبّعت من الخدمات والمشاريع الاقتصاديّة والسياحيّة والخدميّة، وإهمال العاصمة التي قد تفرّغ من سكّانها نتيجة هجرتهم الداخليّة بحثاً عن فرص عمل وخدمات في المحافظات الأخرى!

آن الأوان للالتفات إلى العاصمة، وكفانا اهتماماً بالمحافظات!!

(2)

عندما تم الإعلان عن رغبة الحكومة في تعديل أسعار بيع المنتجات النفطيّة، ومع عدم وجود تفاصيل كافية تتعلّق بآليّة تطبيق القرار، ساد القلق أوساط كثير من الشرائح المجتمعيّة، فلم يكن التفكير وقتها في ارتفاع أسعار الوقود الخاص بالسيّارات الخاصّة فقط، بل امتد القلق ليشمل التخوّف من ردّة فعل قطاعات اقتصاديّة مهمّة كسيّارات نقل المياه، وسيارات الأجرة، وسيارات توزيع الغاز، وماذا لو قام هؤلاء برفع أسعار خدماتهم بشكل مبالغ فيه!

مشكلة هذه القطاعات أنّها قطاعات غير منظّمة، بمعنى أنّه لا يوجد كيان قانوني ينظّم آليّة عملها، أو يتحدّث باسمها، أو يطالب بحقوق العاملين بها، وبالتالي من الصعوبة التحكّم في ردّة فعل العاملين بها تجاه أيّة أزمة أو قضيّة اقتصاديّة قد تحدث مستقبلاً، وهو أمر لاحظناه سابقاً في مواقف مختلفة كردّة فعل بعض أصحاب صهاريج نقل المياه في تعاطيهم مع أزمات انقطاع المياه عن بعض الأحياء والولايات، وقيامهم برفع الأسعار بشكل جزافي لدرجة أنّهم هدّدوا بالتوقّف عن تزويد أصحاب تلك المناطق بالمياه في حالة وجود أيّ تدخّل حكومي يلزمهم بسعر معين!

ما أتمنّاه مستقبلاً أن يتم انشاء كيانات قانونيّة خاصّة بهذه القطاعات كأن تنشأ جمعيّة لكل قطاع، أو أن يكون لها شعب معيّنة تابعة لغرفة التجارة والصّناعة، بحيث تجد الحكومة في حالة رغبتها بإحداث بعض الإصلاحات الاقتصادية، أو تحرير أسعار بعض الخدمات والسلع مستقبلاً أن تجد من تتفاوض معه، بحيث يلتزم البقيّة ببنود الاتّفاق بعد سماع آرائهم ومطالبهم، كما أن من شأن هذه الجمعيّات أو الشّعب أن تقوم بالعديد من الخدمات المختلفة لمنتسبيها من العاملين في هذه القطاعات كخدمات التأمينات الاجتماعية، والاستشارات القانونيّة، واطلاعهم على المستجدّات الاقتصاديّة أو التشريعيّة المتعلقة بعمل قطاعاتهم، وغيرها من الخدمات التي تجعلها أكثر تنظيماً، وتجعل شرائح المجتمع الأخرى أكثر اطمئناناً. 

 (3)

في ظلّ حديثنا عن الرغبة في توفير الطّاقة، والحديث الدائر أحياناً عن احتماليّة رفع أسعارها نتيجة الهدر الكبير في استخدامها، وانخفاض عوائد أسعار النفط، وارتفاع فاتورة الدعم الحكومي للطاقة وخلافه، أقترح (من ضمن عدّة مقترحات في هذا الشأن) أن يصدر قرار يلزم المؤسّسات والمحلات التجاريّة المختلفة بغلق أبوابها ليلاً في ساعة محدّدة كالثامنة مساءً مثلاً على أن يستثنى من القرار بعض المؤسّسات التي يحتاج المجتمع إلى خدماتها طيلة الوقت كالصيدليّات المناوبة، والمطاعم، ومحلات التجزئة في محطّات الوقود.

قرار كهذا مطبّق في كثير من الدول الرأسماليّة قبل النامية، وهو يوفّر بالإضافة إلى تقليل العبء  الوظيفي على أعداد كبيرة من العمالة التي تعمل لساعات طويلة في اليوم دون أوقات راحة كافية، قدراً كبيراً من الطّاقة المدعومة المهدرة في تشغيل وإنارة عدد كبير من الأجهزة والمعدّات وأضواء الإنارة وغيرها.

الفكرة قد تجد معارضة كبيرة في البداية من قبل شرائح مجتمعيّة عديدة كونهم قد تعوّدوا على أن تفتح هذه المؤسّسات أبوابها أغلب الوقت، ولكن يمكن للمجتمع بمرور الوقت أن يتقبّل الفكرة خاصّة لو لجأ إلى تنظيم جدوله اليومي ومواعيد تسوّقه، ويمكن له أن يحصل على الاحتياجات الكماليّة أو الثانويّة طوال أوقات الصباح والمساء، أو يؤجّل شراؤها للغد لو لم يتمكّن من ذلك في يوم بعينه لظرف ما، أما الأساسيّات فهناك منافذ تسويقيّة توفّرها طوال اليوم.

لماذا لا نجرّب تطبيق الفكرة!

(4)

 في زيارتي الأخيرة لتركيا وقبلها لدول أخرى، كنت ألاحظ عند زيارتي للمعالم الأثريّة المختلفة من مساجد، وكنائس، ومدارس، وقلاع، وغيرها من المعالم وجود اسم المهندس الذي قام بتصميم هذا الممعلم وبناءه، وحفظت لنا كتب التاريخ أسماء العديد من المعماريّين البارزين في هذا المجال على المستوى العالمي والإسلامي والعربي.

ولكن الأمر مختلف بالنسبة للتاريخ العماني، فتكاد لا تجد ذكراً لمهندس أو معماريّ على الرغم من كثرة المعالم المتنوّعة التي خلّفتها الحضارة العمانيّة عبر العصور إلا في إشارات متناثرة هنا وهناك. ترى هل فينا من لديه أيّة معلومات عمّن قام بوضع تصميم قلعة نزوى، أو تنفيذ خارطة حصن جبرين، أو بناء جامع نخل، أو شقّ فلج الملكي أو دارس أو السمدي! ولماذا تجاهلت أغلب كتب التاريخ العماني أسماء هؤلاء الأعلام في الوقت التي ركّزت فيه على أسماء الأئمّة والحكّام الذين تم في عهدهم بناء هذه المعالم وغيرها!! 

 

الاثنين، 7 مارس 2016

محمّد مصطفى..الانسان والفنان

اعتدت منذ صغري على تخيّل الشخوص والأماكن التي تبهرني أو تترك أثراً في حياتي؛ وكنت أعيش لحظة الترقّب الدائم كي أحظى بفرصة التعرّف عليها عن قرب، وكان المصوّر الكبير الأستاذ محمد مصطفى أحد هؤلاء الذين بهروني، كيف لا وهو الذي كان اسمه يتردّد في مطلع كلّ صحيفة محلّيّة نطالعها، وفي كلّ ملحق نهضويّ نطّلع عليه، وأسفل كلّ صورة رائعة تحكي ملمحاً من حياة أو انجازات باني هذا الوطن العظيم، وهو الذي كنّا نغبطه دوماً لقربه من صاحب الجلالة، ونتمنّى لو عشنا لحظة من لحظات حياته، وكانت أحلامنا تشطح أحياناً لدرجة تقمّص شخصيّته فنتخيّل أنفسنا ونحن نمسك بالكاميرا لنلتقط هذه الصورة أو تلك! لذا كانت رغبتي في لقاءه حلماً مؤجّلاً لسنوات عديدة، وفي داخلي شعور بأنّه سيتحقّق يوما ما آجلاً أم عاجلاً، وقد كان.

 وعندما عرض عليّ سعادة الدكتور سعيد بن خميس الكعبي رئيس الهيئة العامّة لحماية المستهلك مرافقته في زيارة إلى معرض «ملامح من مسيرة عمان الحديثة» والمقام في القاعة المخصصة سابقاً لمجلس عمان، أدركت أن اللّحظة التي كنت أنتظرها قد حانت أو اقترب أوانها، وأنّ دعوة كهذه لم تأت من فراغ وأنا الذي أعلم مدى شغف واهتمام سعادته الكبير بالمجالات الأدبية والفنّيّة والإنسانية؛ وأنه لم يكن ليقدّم لي الدعوة لمرافقته ضمن مجموعة من زملاء العمل لولا يقينه بأننا سنرى شيئاً مختلفاً يليق بالذّائقة، ويضيف الكثير لمكنونات النّفس، لذا لم أتردّد لحظة في الموافقة، وظللت طوال الطريق أفكّر فيما سأراه، وهل سيحنو عليّ القدر بلقائه أم لا! وهل سأتجرّأ وأطرح عليه شيئاً من أسئلة كانت مؤجّلة لسنوات طويلة أم أن الرهبة ستكون هي العنوان!

عند وصولنا إلى قاعة العرض كان الانبهار هو الملمح الأوّل الذي ارتسم على وجهي وأنا أطالع أمامي أكثر من 700 صورة للمقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه– ترصد مسيرة النهضة المباركة، والدور الكبير الرائد لمولانا المفدّى في بناء هذا البلد الغالي من أقصاه إلى أقصاه، وإنجازات جلالته الكبيرة التي شملت ربوع هذا الوطن العزيز والتي ما زالت مستمرة حتى لحظتنا هذه كديمة تأبى فراق السّماء.

وبينما كان رفاقي مشغولين بمطالعة الصور والاستماع إلى الشرح المتعلّق بها كنت أتلفّت يمنة ويسرة علّني ألمح الرجل الذي طالما حلمت بلقائه؛ وشعرت للوهلة الأولى بأن حلمي لن يتحقق، ذلك أنّنا انتهينا من رؤية اثنين من أجنحة المعرض دون ظهور لصاحبه، وخشيت أن يطول الانتظار وأن أرجع بخفّي حنين وحذائه إلى أن أسعدني القدر فجأة بقدومه وكأنه شعر بما تختلجه نفسي من رغبة ولهفة في اللّقاء، فما كان منّي إلا أن تركت مكاني في الخلف ومعها هواجسي وتخيّلاتي لأتقدم في جرأة إلى الأمام كي أقترب من الرّجل، وكي أتأمّله مليّاً، وكي أستمع إلى كلماته الهادئة التي كانت تخرج وكأنّها ابتسامة ودودة لا مجرّد كلمات متوالية.

وعلى الرغم من اللحظات القصيرة التي أمضيتها بالقرب منه، والتي مرّت سريعاً كما تمرّ كثير من الأشياء الجميلة في حياتنا إلا أنّني أدركت أنّ من يقف أمامي هو شخصيّة استثنائيّة متفرّدة في أشياء كثيرة، وأنّ لهفة اللقاء كانت في محلّها، فالرجل هو فنّان يعزف بعدسته، فما بالك لو امتزج هذا الفن مع معايشة شخصيّات عظيمة أجمع العالم على روعتها، وانسانيّتها، وتأثيرها، لذا كانت أوّل ملاحظة أرصدها (إن جاز لي ذلك) هي حالة الودّ العفويّ الصادق الذي يشعر به كلّ من يقترب منه بابتسامته الودودة، وتواضعه الجمّ فلا تصدّق أنّك تقف بجوار شخص قضى معظم حياته قريباً من اثنين من أبرز القادة العظام الذين أنجبتهم الأمّة العربيّة في سنواتها الأخيرة، ونهل من معين فكرهم، وراقب عن قرب كثيراً من سماتهم الإنسانيّة، وما تلبث رهبتك أن تزول ليحلّ محلّها شعور بأن هذا الرجل هو صديق قديم لا شخص تراه للمرة الأولى قبل بضعة دقائق!

الأمر الآخر الذي بهرني وأنا أستمع إلى شرحه الهادئ المتسلسل لملامح صوره هو ذاكرته القويّة التي لا تزال تحفظ كافّة تفاصيل صوره الكثيرة من أماكن وشخوص على الرغم من مرور سنوات كثيرة على التقاط بعضها، وعلى الرّغم من أنّ بعضها التقط في أماكن عابرة، ولشخوص قد لا تكرّر العدسة ملامحهم مرّة أخرى، ولكنّ الفنّان الكبير يحفظ كل تلك التفاصيل كما يحفظ ملامح كفّه، بل وينقل لك الكواليس المتعلّقة بالتقاط هذه الصورة أو تلك، ومناسبتها، وما ارتبط بها، وما دار في مسرحها!   

من الأشياء التي بهرتني كذلك هو حالة التسامح الجمّ التي تملأ الرجل، ووفاؤه الكبير للأشخاص الذين اقترب منهم في لحظة ما، أو التقى بهم أو عمل معهم يوماً من الأيّام، فعلى كثرة الأشخاص الذين احتوتهم لوحاته، وبعضهم قد غادر دنيانا، أو ترك وظيفته التي كان بها إلا أن الرجل كان يذكر كل منهم بالخير، ويحاول إظهار الجانب الجميل في شخصيّاتهم دون كلمة نقد أو حتّى ملحوظة بسيطة قد تصدر منه، وهي حالة وفاء نادرة قلّ أن تجد مثيلاً لها في وقتنا الحاضر، وهذا ليس بالغريب على من نشأ في بلاط المدرسة السلطانيّة، ونهل من معينها العذب!

ما أبهرني كذلك وأنا أتجوّل قريباً منه في أركان المعرض الذي وددت لو يطول رواقه، وتتناسخ أركانه كي يمتد اللقاء، براعته الكبيرة في انتقاء اللحظات المناسبة لالتقاط الصور، فهو لم يكن مجرد مصوّر بارع فقط، ولكنه كان فنّاناً حقيقيّاً يشعر بمدى تأثير الصورة في النفوس، بل يمكنني القول إنّ عينه تشبه العدسة، وأن الصورة تمرّ عنده بمرحلتين: العين المجرّدة التي تلتقط المشاهد الحيّة لتتخّزن في الذهن؛ ثم تتفاعل هذه الصورة المخزّنة مع وجدانه وأفكاره وانطباعاته لتخرج لنا بصورة جديدة، لذا يمكنك النظر إلى مجموعات صوره على أنها سرد بصريّ متواصل يغنيك عن تفاصيل الكلام؛ فكل لقطة بحكاية، وكل صورة برواية كاملة، وإذا كانت الصورة غالباً ما تعكس الشكل؛ فإن عدسة محمد مصطفى تدخل في ثنايا الشخصيّة لتلتقط الداخل؛ وتركز على الجوانب الإنسانيّة المرتبطة به.

إنّ لوحات محمد مصطفى هي مثال حقيقي للمواطنة في وقت نحن فيه أحوج ما نكون بحاجة إلى اللحمة والتقارب والتسامح، ويجب أن تلفّ على كلّ قرية ومدينة كي يشاهدها كل عمانيّ وغير عماني، بل وتلفّ عواصم العالم المختلفة كذلك، ففيها من دروس الإنسانيّة، والتسامح، والوفاء، واحترام الآخر ما يجنّبنا لو أخذنا ببعضها كثيراً من المصائب التي تحلّ كل يوم على رؤوس البعض في هذا العالم المترامي الأطراف نتيجة لتغليب مصالحهم الضيّقة على حساب مصالح وطن بأكمله، وفي طيّاتها دروس كثيرة لمعنى التضحية من أجل كيان يدعى الوطن، كيان تعب قائده وضحّى كثيراً كي يقيم كلّ ركن فيه، وكي تصل ثمار جهده إلى كلّ شبر يحتويه.

على مدار أربعة وأربعين عاماً متوالية كان محمد مصطفى شاهداً حقيقيّاً وقريباً على حالة من الحبّ المتبادل بين القائد وشعبه في وطن بني بالودّ، والتسامح، والثقة المتبادلة قبل أن يبنى بالطوب والحجر، ولعلّ أصدق شهادة أختم بها هذا المقال المتواضع ما كتبه الزميل عبد الله الشعيبي في جريدة الشبيبة في عددها الصادر بتاريخ 22 مايو 2013 "ما فعله محمد مصطفى، طوال الأعوام الـ 43 الفائتة، هو رسم خارطة بصرية صادقة وصريحة ومباشرة للتاريخ العماني، هي شهادة إن جاز وصفها، وبصمة إن جاز تأكيدها، تنفتح على المخيّلة لاستكمال المشهد البصري في الصور الفتوتوجرافية، وتتكيّف مع الذاكرة الباحثة عن أصول البناء والتحول في البيئة العمانية، سواء كان للعمانيين أنفسهم، أو للمقيمين، أو للزائرين، على حد سواء".

حكـاية هيئـة

قال لي: وهيئتكم تحتفل بمرور خمسة سنوات على انشائها إلا أن إنجازاتها مقارنة بعديد من المؤسسات الأخرى تعدّ باهرة وملفتة للنظر! فكيف تسنّى لكم خلال هذه المدّة التي قد يتحجّج البعض أنّها غير كافية لتقديم العطاء المناسب أن تحقّقوا كل هذه الإنجازات وأنتم الذين كانت بدايتكم بأربعة مكاتب، و22 موظفاً؟! إنّ ما اطّلعت عليه من انجازات أشعرني بالدهشة، والفخر، والاطمئنان في آن واحد، فهل يعقل أنّكم استطعتم خلال تلك الفترة الوجيزة أن تفتحوا 14 فرعاً موزّعة على المحافظات المختلفة، وأن تضبطوا ما يقارب من خمسة ملايين سلعة مخالفة ما بين المقلّدة، والمزوّرة، والمغشوشة، والمخالفة للمقاييس! وأن تحلّوا ما يقرب من سبعين ألف شكوى وبلاغ! وأن تستقطبوا حوالي أربعمائة ألف متابع لصفحاتكم المختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي! وأن تفوزوا بحوالي 13 جائزة محلّيّة، وعربيّة، واقليميّة، وعالميّة لدرجة أنّ منظّمة عالميّة كالمنظّمة العالميّة للمستهلكين التي تضمّ في عضويّتها أكثر من 220 منظّمة تعدّكم ضمن أكبر خمس انتصارات عالميّة! بل وكيف تسنّى لكم توقيع كل تلك الاتفاقيّات الخاصّة بالتفاهم، والشراكة، والتعاون مع العديد من المؤسسات في البلدان الخليجيّة، والعربيّة، والعالميّة! وأن تدشّنوا مراصد ومراكز كان المجتمع بحاجتها الماسّة كمرصد أسعار السلع، والموقع الالكترونيّ للاستدعاءات والتحذيرات! وكيف تمكّنتم من تعديل واصدار قانونين مهمّين كانا حديث الشارع لحين صدورهما ونحن الذين مازلنا نطالب بتحديث قوانين وتشريعات لم تعد مناسبة للظروف المجتمعيّة الحاليّة! بل وكيف استطعتم تحريك بوصلة الرأي العام تجاه قضاياكم الشهيرة التي واجهتم فيها قوى اقتصاديّة محلّيّة كبيرة، وتصدّيتم فيها لممارسات اقتصاديّة سلبيّة كانت لسنوات طويلة تهدّد صحّة وسلامة واقتصاد أفراد المجتمع! أيّة امكانات تلك التي تملكونها؟ وأيّ جيش بشريّ هذا الذي تملكونه لتحققوا كل ذلك!

قلت له: أمّا بالنسبة للنجاح فهذا ما ينبغي أن يحدث لا العكس، فالمؤسسات أنشأت لتنجز لا لتفشل أو تقصّر في أداء دورها ومهمّتها، لذا علينا استغراب الفشل لا النجاح، أمّا بالنسبة للإمكانات الهائلة التي تتحدّث عنها فقد تشعر بالاستغراب لو اطّلعت عليها من الناحية المادّيّة البحتة، فهل تعلم أن الميزانية السنوية للهيئة ربّما لا تتجاوز المبلغ المرصود لبند التدريب في إحدى الوزارات، وأن معظم هذه الميزانية يذهب كرواتب ومصروفات جارية! وهل تعلم أن عدد الأخصائيين والمفتشين قد لا يزيدون عن 310 موظّفاً، وهو رقم لا يتناسب مع العدد الهائل والمتزايد من المحلات التجارية والتي يبلغ عددها مئات الآلاف على مساحات ممتدة في كل أرجاء الوطن! وهل تعلم أن الهيئة لا تمتلك أية مختبرات أو معامل بحثية يمكن الاستفادة منها في عمليات فحص السلع والبضائع والحكم على مدى صلاحيتها، أو كشف بعض العيوب التصنيعية في السلع المختلفة كالسيارات والأجهزة وغيرها! وهل تعلم أن هناك نقصاً في عدد الكوادر المتخصصة في المجالات الفنية كالهندسة والتغذية والقانون!

قال لي: إذاً ما السّر وراء كل ذلك النجاح! وأي خلطة سحرية تلك التي استخدمها مسئوليكم لتحقيق كل تلك الانجازات؟!

إذا سألت عن أسباب النجاح فابحث عن المسئول أوّلاً، فاذا وجدته يتّبع مبدأ التفويض في اتّخاذ القرار، ويعتمد الكفاءة كأساس الترقية الوظيفيّة بعيداً عن الإجراءات البيروقراطيّة المتّبعة، ويحرص على اكتشاف المهارات والقدرات الخاصّة بالموظّفين والاستفادة منها، ويخلق بيئة عمل اجتماعيّة مناسبة، وإذا وجدته يشارك موظّفيه العمل الذي يقومون به، سواء أكان عملاً ميدانياً أم مكتبيّاً، فتجده يرد على اتصال لأحد المشتكين، أو يحرّر خبراً صحفياً مع محرّر مبتدئ، أو يضع تصميماً لمطويّة توعويّة، وإذا وجدته يحفظ أسماء المنتسبين إلى المؤسسة أكثر من موظفي الموارد البشرية أنفسهم،  وإذا وجدته يلامس الواقع من خلال نزوله المتكرّر إلى الميدان فاعلم أن أبواب النجاح والعطاء في المؤسّسة قد تكون مشرّعة إلى أقصى حد لها.

نجحت الهيئة لأنها أدركت أهميّة توفير بيئة العمل المناسبة من حيث الاهتمام بتوفير المرافق التي قد تعين الموظّف على أداء مهمّته الوظيفيّة، وتوفّر له بيئة عمل مناسبة، فالموظف في الهيئة هو إنسان في المقام الأول، وما دمت تنشد منه الابداع والعطاء ودقّة الإنجاز فلابد أن توفّر له البيئة المثاليّة المناسبة التي تغنيه عن الرغبة في الحصول عليها في مكان آخر، لذا فقد حرص المسئول في الهيئة على الاهتمام بتصميم المبنى داخلياً وخارجياً كي يحقق بيئة عمل مناسبة تبتعد عن النمطيّة المكرّرة التي اعتادها البعض في كثير من مباني المؤسّسات الحكومية الأخرى، وتوفير قاعات للصلاة، والمطالعة، والأكل، بل ومراعاة أدقّ التفاصيل الصغيرة كديكورات المكاتب، وتشكيلة الألوان المختارة في طلاءها، ونوعيّة الأثاث، وتوزيع العبارات التشجيعيّة المحفّزة على الممرّات، وبالقرب من المصاعد وأماكن الانتظار، ربّما لاعتقاد المسئول أن سطراً واحداً من حكمة أو قول مأثور قد يغيّر أشياء كثيرة لدى موظف ما!

نجحت الهيئة لأنها لم تقف عند التحدّيات التي تواجهها بل حاولت التغلّب عليها، فتمكّنت من تطويع التكنولوجيا في تحقيق أهداف الهيئة، ومعالجة مشكلة نقص أعداد الموظّفين والأخصائيّين، فعلى سبيل المثال تمكّنت من توفير عدّة قنوات للتواصل مع الهيئة وتقديم البلاغات والشكاوى كمركز الاتصالات، وقاعات الشكاوى، والبوّابة الإلكترونيّة، وصفحات التواصل الاجتماعي، والبريد الالكتروني، وتغلّبت على نقص عدد المفتّشين وأخصائيّ الضبط من خلال استخدام العديد من الأجهزة والتطبيقات والبرامج كاستخدام الجهاز الكفّي (ميدان) في عمليات التفتيش على سبيل المثال، عدا مرصد أسعار السلع، والموقع الالكترونيّ للاستدعاءات والتحذيرات، وغيرها من البرامج التكنولوجيّة.

نجحت الهيئة لأنّها أدركت أهميّة الاستفادة من التجارب الخارجيّة لدول وأجهزة ومنظّمات كان لها السبق في مجال حماية المستهلك، وأهميّة الشراكات المجتمعيّة مع مؤسّسات علميّة رائدة في مجال الدراسات والبحوث ، فاستفادت من تجارب منظّمات دوليّة من مثل المنظّمة الدوليّة للمستهلكين، والشبكة الدوليّة لتطبيق حماية المستهلك، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وبنت شراكات مع مؤسّسات كجامعة السلطان قابوس، ومركز البحث العلمي، ومعهد الادارة العامة والهيئة العامة لتقنية المعلومات، ووقعت مذكّرات تفاهم مع مؤسسات مختلفة كالأمانة العامة لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية بجامعة الدول العربية، ووزارة الاقتصاد بدولة الإمارات، وجهاز حماية المستهلك المصري، ووزارة التجارة والصناعات التقليدية بالجمهورية التونسية.

نجحت الهيئة لأنها أدركت أهمّيّة المسئولية المجتمعية، والإيمان بالرسالة المنوطة التي تسبق الأداء الوظيفي، وأيقنت أن أهدافها لا تقتصر على الأهداف النمطيّة المتمثّلة في مجرّد الرقابة والتشريع وفرض المخالفات فقط، بل تتعدّاها إلى المسئوليّة والشراكة المجتمعيّة، والاهتمام بمنظومة القيم، فاتجهت إلى المجتمع منذ أوّل يوم لنشأتها وذلك من خلال السعي إلى دعم المبادرات المجتمعيّة التي آمنت برسالة الهيئة، واستجابت إلى تعاونها من خلال تشكيل فرق وجماعات أصدقاء المستهلك، ونفّذت حملات مجتمعيّة هدفت إلى حثّ الناس على التعاون والإحساس بالآخر كحملة (خير الناس أنفعهم للناس)، وقدّمت لصنّاع القرار العديد من الدراسات والمقترحات والتوصيات حول قضايا اقتصاديّة ومجتمعيّة قد لا يفكّر آخرون من ذوي الأدوار المشابهة تقديمها كمقترح انشاء الجمعيات التعاونيّة، ومقترح (غذّ نفسك)، وغيرها من المبادرات، والحملات، والمقترحات.

نجحت الهيئة لأنّها راهنت على المستهلك كخط دفاع أوّل، وكشريك لها في أداء عملها المجتمعيّ، فكان له من برامجها الإعلاميّة المختلفة نصيب الأسد، فاستطاعت بذلك الحدّ من كثير من الإشكاليات والممارسات الغير أخلاقية من قبل السوق تجاه المستهلكين، ونقل السوق إلى ممارسات مبنية على القوانين، وتغيير الصورة النمطية حول أن "المستهلك دائما هو المحتاج"، أو "المستهلك لا خيار له"، أو "المستهلك لا يوجد من يقوم بحمايته"، وتغيير الثقافة الاستهلاكية السلبية، ومحاولة تحويلها إلى ثقافة استهلاك رشيد فأصبح كثير من المستهلكين يعوا أهمّيّة وضع أولويات شراء محددة، وعدم الانسياق وراء الإعلانات المضللة، وأصبحوا أكثر حرصاً على حقوقهم المختلفة.

باختصار.. إن كنّا نسمّي ما حققته الهيئة خلال عمرها القصير نجاحاً فهذا لأنّها اهتمّت بالعمل خارج الصندوق دون الاكتفاء بما في داخله.

الاثنين، 18 يناير 2016

في بلاد الأتراك (5)

كان الساعة تقترب من الثالثة عصراً عندما كنت أتطلّع إلى اللوحة البانوراميّة الجميلة الماثلة أمام عينيّ والتي تجسّد خليج القرن الذهبيّ بكل ما يحيط  به من جسور، وجوامع، وأسواق، وقصور، وغيرها من مفردات الحضارة المختلفة التي تعاقبت على صناعتها دول عدّة كان لكل منها نمطها وخصوصيّتها الثقافيّة المتفرّدة، وكان الخيار أمامي هو سلوك أحد جسرين: أتاتورك، أو جلطا، ولكل معالمه ومناطقه التي يؤدّي إليها، وكل بحاجة إلى فسحة من الوقت الكافي للتعرّف على ما تحويه تلك المناطق التي يصل إليها.

كان جسر أتاتورك هو الأقرب بالنسبة لموقعي الجغرافي الذي كنت أقف عليه، كما أنّني رغبت في أن أخصّص يوماً كاملا لمنطقة جلطا ابتداء ببرجها الشّهير، وانتهاء بجسرها الأشهر، مروراً بشوارعها الضيّقة المرصوفة بالحجارة، ومطاعم السمك التي تشتهر بها، والوقت الحالي لن يسمح لي بذلك خاصّة وأنّه لم تتبقّ سوى بضعة سويعات عن حلول الظّلام!

كنت حتّى هذه اللحظة لم أدخل أيّاً من الجوامع الإسلاميّة الشهيرة على كثرتها في اسطنبول، والتي يطلقون عليها لقب (كامي) تحريفاً من اللفظة العربيّة (جامع)، كما أنّني لم أجرّب بعد المطعم التركيّ بتفاصيله الغنيّة إلا إذا كنّا سنعتبر أن المطاعم والمقاهي التي تحمل أسماء تركيّة لدينا تنتمي تجاوزاً إلى ذات المطبخ، وهو أمر ثبت لي عدم دقّته في نهاية رحلتي، لذا استقر رأيي على الذهاب إلى منطقة السلطان أيوب لأداء صلاة العصر في جامعها الشّهير وتناول وجبة الغداء في أحد مطاعمها التقليديّة التي تزدان بها.

أهبط بضعة درجات تفصلني عن المكان الذي كنت أقف فيه في تلك الشرفة الخضراء من شارع (بيوغلو) في طريقي نحو الجسر. في معظم جولاتي في أزقّة وحواري الجزء الأوروبّي من المدينة  اكتشفت أنها في الأساس بنيت على تلال ومرتفعات غير منبسطة، لذا تأخذك الدّهشة وأنت ترى الشوارع المرصوفة بالحجارة والإسفلت بانحناءاتها وانحداراتها، ويصيبك الذهول وأنت تتساءل في كلّ مرة تدخل فيها إحدى محطّات المترو: كيف أقاموا كل هذا أسفل أراض جبليّة! وكيف شقّوا كل هذه المساحات!!

أصل إلى مدخل الجسر الذي يخترق خليج القرن الذهبي، كان الجوّ يميل إلى البرودة، ولكن الإحساس العام هو الشعور بالدفء، كيف لا والجسر مزدحم على طول مساره بالعشرات من كبار السن، والشباب، والصغار ممّن أتوا لممارسة هواية الصّيد تحيط بهم أباريق الشاي والقهوة، ويمرّ عليهم عدد من باعة المكسّرات والحلويّات وسط جوّ حميميّ رائع من تبادل الأحاديث الودّيّة، والنكت، والسباب المغلّف بالضحك والمزاح.

وأنا أواصل مسيري على الرصيف الأيسر للجسر أتأمل الخليج الشهير الذي يحيط به، والذي يشطر القسم الأوروبي إلى قسمين على طول سبعة كيلو مترات بجسوره الثلاثة، ومعالمه المتنوّعة التي تحيط به، متخيّلاً السلطان محمد الفاتح وهو يحاصر( آيا صوفيا ) وما حولها بعد أن نقل حوالي 65 سفينة من مرساها في (بشكتاش) عبر جبال جلطا من خلال ألواح خشبيّة طليت بالزيت والشّحم، ومن هذا الخليج انطلقت تلك السفن في عمليّة ليليّة بعيدة عن أنظار البيزنطيين لتحاصر المدينة وتدكّ حامياتها معلنة فتح المدينة وتغيير اسمها إلى (اسلام بول) أو مدينة الإسلام.

أصل إلى نهاية الجسر، لأنعطف يميناً مع اللائحة التي تشير ناحية منطقة أيّوب، أكثر اللوائح مكتوبة باللغتين الانجليزيّة والتركيّة، ويمكن بسهولة التعرّف على الأماكن التي تشير إليها خاصّة وأن كثير من أسماء المعالم التركيّة المختلفة هي في الأصل عربيّة مع تغيير في نطق بعض الحروف، كما أنّ السائح العربي يجد الكثير من المعلومات باللغة العربيّة خاصّة في الأماكن الأثريّة الإسلاميّة كالجوامع، والمساجد، والمدارس، والأسواق، وغيرها.

أدخل منطقة السلطان أيوب فأنبهر ممّا تحويه من معالم إسلاميّة متنوّعة وكأنّني في متحف إسلامي مفتوح لا في حيّ سكنيّ عام فأحواض الماء، والسبل، والحمامات الأثريّة، والجوامع، والخانات، والأضرحة كانت تشكل معظم مفردات المكان الذي تعود سبب شهرته إلى وجود أحد أشهر الجوامع المقدّسة في اسطنبول وهو جامع  الصحابي أبو أيوب الأنصاري الذي استشهد عند محاصرة العرب المسلمين للمدينة زمن معاوية، والذي يعدّ كثير من الأتراك جامعه رابع الأماكن الإسلامية المقدسة بعد البيت الحرام، والجامع النّبوي، وبيت المقدس، لذا فمن شدّة تقديس الأتراك لهذا الجامع أنّهم كانوا يقيمون فيه مراسم تقليد السيف للسلاطين الجدد، كما أن من بين العادات المرتبطة به جلب الأولاد لزيارة الجامع وضريحه قبل إجراء الطهارة لهم، عدا أن العديد من الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة ذكوراً وإناثاً كانوا يوصون بدفنهم هنا تبرّكاً بوجود ضريح الصحابي الجليل، وهذا ما يفسّر كثرة الأضرحة والقبور التي تقع في محيط الجامع.

لبناء الجامع قصة مثيرة، حيث تقول الروايات أن محمد الثاني عندما فتح القسطنطينيّة عام 1453 رأى أستاذه في منامه مكان ضريح أبي أيّوب، فأمر السلطان بالتحرّي عنه والعثور على القبر الذي دفن فيه، ومن ثمّ تم تشييد الجامع وتوالت عمليّات توسعته وترميمه طوال السنوات اللاحقة.

كان صحن الجامع عند اقترابي من بوّابته الضخمة مليئاً بالعشرات من السيّاح وأبناء الحيّ الذين أتوا بأطفالهم للتبرّك، أو لطلب الدعاء، أو لأداء صلاة العصر التي حان وقتها، أدخل باحته الداخليّة المستطيلة منبهراً بالزخارف، والنقوش، والآيات القرآنيّة التي خطّت على جوانبه بأسلوب فنّيّ بديع يدل على مدى الرقيّ والابداع الذي وصلت إليه الحضارة الإسلاميّة، وهي سمة سألاحظها فيما بعد في كل الجوامع والمساجد التي سأقوم بزيارتها مخلّفة لديّ عشرات التساؤلات حول الامكانات الفنيّة (المذهلة) التي كان يتمتّع بها مهندسو وفنانو تلك العصور!

أؤدي صلاة العصر مع جماعة صغيرة من الأتراك، ثم أدخل ضريح الصّحابيّ الجليل فأجده مزيّناً بالخزف ذو اللونين الأزرق والأبيض الذي مازال يحتفظ برونقه وأناقته رغم مرور عشرات السنين على تركيبه، بينما أحيط القبر بقفص من الفضّة الخالصة، وبجواري عدّة مرشدين يشرحوا للأفواج المرافقة لهم تاريخ الجامع، ونبذة من حياة أبي أيوب الأنصاري.

أغادر الجامع في طريقي لاكتشاف ما تبقّى من معالم الحيّ، وفي طريقي أجرّب أن أشرب من أحد سبل الماء المتناثرة على طول السور الأثري المحيط بالجامع كعادة عثمانيّة قديمة لدى السلاطين وحاشياتهم، وأرباب الدولة وكبار رجالها الذين كانوا يعتنون بإقامة مثل هذه المشروعات الخيريّة والانفاق عليها بحيث تبدو كتحف معماريّة جميلة، فينزل الماء بارداً عذباً زلالاً، يشجّعني ذلك على أن أغسل وجهي ومرفقي، وأرشّ بعض الماء على رأسي في محاولة لاجتلاب مزيد من الانتعاش، فالوجهة القادمة بحاجة إلى مزيد من اللياقة والتحمّل، كيف لا وأنا أقصد الذهاب إلى مقهى (الستّ رابعة)، أو (بيرلوتّي) بعد أن تغيّر مسمّاه بعد ذلك، والذي يقع على تلّة مرتفعة تطلّ على خليج القرن الذهبي، وتبعد حوالي عشر دقائق عن الجامع.

أمّا ما هي حكاية ذلك المقهى الشّهير، ولماذا تم تغيير مسمّاه، ومن هو بيرلوتّي هذا فهذا حديث أؤجّله للمقال القادم.

الاثنين، 11 يناير 2016

في بلاد الأتراك (4)

ولأنّني أتيت لخوض تجربة بوهيميّة تبقى طويلاً في الذاكرة، لذا فقد كنت متلهّفاً للخروج ورؤية أكبر قدر من تلك المعالم التي تزخر بها هذه المدينة العظيمة، ولعلّ أوّل ما قرّرت القيام به هو اكتشاف المنطقة المحيطة بالفندق، والتجوال في شارع الاستقلال الذي كان قد بدأ يعجّ بروّاده من السيّاح وقاصدي المصالح المختلفة من أبناء البلد، قمت خلالها ببعض الأمور الروتينيّة كتغيير مجموعة من العملات التي كنت أحملها إلى ليرات تركيّة، وشراء شريحة هاتف اكتشفت بعد ذلك أنّني لم أكن بحاجة ماسّة إليها على الرغم من العرض (المذهل) الذي حصلت عليه، والذي يتضمّن الحصول على مكالمات دوليّة مع حزمة بيانات انترنت سعتها 6 جيجا بايت بسعر زهيد لا يتجاوز السّبعة ريالات (عرفت لاحقاً أن هناك شركات اتصالات أخرى تقدّم عروضاً أفضل) ذلك أنّ الانترنت متوافر بشكل مجّاني في أغلب الفنادق والمحلات والمطاعم والمقاهي وبسرعات عالية!

كانت بداية انطلاقة جولاتي في اسطنبول من أحد المقاهي الشرقيّة الذي تعجّ بها الشوارع الجانبيّة المتفرّعة من شارع الاستقلال، ووقع اختياري على أوّل مقهى لمحته عينيّ صباحاً، وكنت قد حدّدت موقعه سلفاً من خلال كتابة أسماء المعالم البارزة التي تحيط به على مفكّرة صغيرة كنت أحملها في جيبي، وكانت السّمة التي لاحظتها وهي سمة تميّز معظم المقاهي الشرقيّة في تركيا أنّ علب الشطرنج، والزهر، والدومينو موضوعة على كلّ طاولة من طاولات المقهى، كما أنّ قائمة الطلبات تتضمّن كافّة المشروبات الشرقيّة من شاي بأنواعه، وقهوة، وسحلب، وكركديه، وزعتر، ويانسون، وزنجبيل وغيرها، وكأنّني في أحد مقاهي القاهرة أو بغداد أو دمشق، وهو أمر لن أستغربه خلال الأيّام القادم عندما سألاحظ مدى التشابه الهائل في كثير من المفردات الثقافيّة بين تركيا والشّرق كعمارة المساجد، والبازارات، والحمّامات الشرقيّة، والمدارس الدينيّة، والخانات وغيرها، كيف لا وهناك قرون من التواصل الحضاريّ بين تركيا والشرق منذ عهد بيزنطة وحتّى أتاتورك، مروراً بفترات الحكم المملوكي، والعثماني وما تخلّلته من قنوات تواصل مختلفة!

على إحدى الطاولات الجانبيّة جلست، ومن كيس كنت أحمله أخرجت بضعة صحف مصريّة اعتاد رئيسي في العمل وهو شخصية تكاد تكون نادرة بما يملكه من صفات مذهلة، وملكات مختلفة، أن يهديها إليّ مع بداية كلّ أسبوع ذلك أنّنا نشترك في ذات الهواية، وهي العشق لمفردات المدن العريقة من شوارع، وصحف، ومقاهي، والانشغال بقضاياها الفكريّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة. 

وكأنّني أريد استعادة بعض من سوانح ذكريات كثيرة في مقاهي القاهرة المختلفة أخرجت إحدى الصّحف وبدأت في مطالعتها غارقاً في هموم المصريّين من مشاكل اقتصاديّة، وسرقة أراضي من قبل بعض الحيتان، ومعاناة يوميّة تعيشها الطّبقات الكادحة التي يحصد أفرادها أسوأ ما تخلّفه الثّورات المتكرّرة، فلا يكون نصيبهم إلا قعر الحلّة، بينما يفوز من قامت ضدّهم تلك الثورات بالنصيب الوافر من الهبر والمكسّرات التي تزيّنها، إلى أن أعادني إلى الواقع  صوت بائع (السّميت) أو السّميط كما يسمّيه العرب، وهو نوع من الخبز بالسّمسم تشتهر به تركيا، ويعدّ من المأكولات السّريعة رخيصة الثّمن، وهي وجبة الذين لا وقت لديهم لترف الإفطار اليوميّ بسبب انشغالات الحياة، وهو منظر تجده كذلك في كلّ شارع مصريّ، الأمر الذي يدفعك للتساؤل: ترى من نقل للآخر حضارته!

أزيح الصحيفة جانباً تاركاً عبد الحليم قنديل مع هموم بني جلدته من المصريّين، لأعبث بأحجار النّرد متمنّياً لو أجد من أغلبه في دور عشرة بلدي، ولكن هيهات من ذلك وأنا الماكث وحيداً في مكان كلّ تفاصيله غريبة عنّي، وتمنّيت وقتها لو أحضرت أحدهم معي على الأقل كي أغلبه في آخر السّهرة بعد أن نكون قد جبنا كثيراً من شوارع المدينة وأزقّتها، ولكن ما نيل المطالب بالتمنّي! بل هي كذلك. نعم كذلك! ليت أحلامنا تتحقّق بهذه السهولة، ذلك أنى لم أكن قد أفقت بعد من تمنّياتي لأفاجأ بشاب ممتلئ تبدو على ملامحه الطّيبة والوداعة يستأذنني بلغة انجليزيّة مكسّرة كي يلعب معي دور طاولة بعد أن رآني أعبث وحيداً بأحجار النرد!

كان الشابّ ايرانيّاً أتى لقضاء بضعة أيّام في تركيا كما يفعل في هذا الوقت من كلّ عام كما أخبرني ونحن نتحدّث لمدّة ساعتين مرّت وكأنّها دقائق، بالإنجليزي تارة، وبالإشارات تارة أخرى، وقد غلبني في دورين على الرغم من أنّه قد تعلّم للتوّ طريقتنا العربيّة في اللعب والتي تختلف كلّيّاً عن طريقة الايرانيّين والأتراك! كنت أقول لنفسي في خضمّ احتدام التنافس بيني وبينه: لو جلس الطرفين السّنّي والشيعي، أو العربي والايراني كما نجلس نحن الآن على أيّ مقهى، ولعبوا دور طاولة أو شطرنج، أو تطارحوا بعض الأدب لزال كلّ الاحتقان، ولما عدنا ننظر لبعضنا البعض كما يحدث الآن، ولما قاسى كثير من أبناء جلدتنا من نتائج ما يفعله بعض الساسة ورجال الدين بنا. ليت مشاكلنا تحلّ على طاولة قهوة، لا طاولة مستديرة!

بعد أن شربت أوّل فنجان قهوة تركيّة أصليّة، وبعد أن لعقت ما ترسّب أسفلها من بقايا بنّ محوّج وهي إحدى السيّئات القليلة التي أتيت بها من رحلتي حيث أنّني أدمنت بعدها شرب هذا النوع من القهوة، وأصبحت أبحث عن المقاهي التي تقدّمها بجودة مناسبة، وبعد أن ودّعت صديقي (الايراني الشّيعيّ) كانت الخطوة الثانية لي هي الخروج من محيط شارع الاستقلال لاكتشاف المتحف التاريخيّ الذي يدعى اسطنبول، وكانت اللوحة البانوراميّة المذهلة بكل ما تحويه من جسور، وجوامع، وأسواق، وقصور رابضة أمام عينيّ وأنا أتطلّع إليها من على شرفة ميدان عشبيّ صغير يطلّ عليه الشارع الذي أسكن فيه، فكان القرار هو محاولة التعرّف على ملامح هذه اللوحة وبأسرع وقت، فالوقت لا ينتظر، وكلّ دقيقة لها قيمتها، ولو حسبنا عدد الآثار والمعالم التي تحويها المدينة وقسّمناها على بقيّة الدقائق المتبقّية من عمر الرحلة لربّما فاقتها عدداً، إذاً لا وقت للخمول، وأهلاً برياضة المشي التي كنت قد هجرتها منذ فترة طويلة عندما كنت أجوب شوارع القاهرة الكثيرة على رجلي متنقّلاً من شارع لآخر دون أدنى شعور بما تعنيه لفظة إرهاق.

ومن منطلق المثل المصريّ القائل (آكلك منين يا بطّة) بدأت حيرتي وأنا أتطلّع إلى ما حولي من جسور وشوارع تخترق خليج القرن الذهبيّ الذي يربط بين طرفي اسطنبول الأوروبيّة، فهل أبدأ من جسر أتاتورك وصولاً إلى منطقة السلطان أيّوب، أم أنطلق من جسر غلاطا لأدخل بعدها حيّ أمينونو والسلطان أحمد حيث السّوق المصري، وحيث مساجد السلاطين المختلفة! ولعلّ القارئ قد يستغرب مدى معرفتي بتفاصيل الأماكن وأنا الذي لم أكمل يومي الأوّل بعد! وقد يزول هذا الاستغراب إذا ما علم أنّني كنت قد رسمت نسخة من خارطة المدينة في عقلي قبل وصولي إليها، كما أنّني كنت أحمل نسخة من إحدى الخرائط التفصيليّة للمدينة والتي يمكن أن تجدها في أيّ فندق بها، عدا أنّك بضغطة زرّ على جهازك المحمول يمكن أن تحدّد المكان الذي تقف فيه، وما يحيط به من معالم، بالإضافة إلى أنّني كنت أدوّن في مفكّرتي الصغيرة نهاية كلّ يوم ومن خلال البحث في مواقع الإنترنت المعالم التي لم أزرها بعد،  وأبرز ما تتميّز به، وكيفيّة الوصول إليها، ومدى مناسبة وقتي لزيارتها.

كلّ هذا وحقيبتي لم تصل بعد! أما بماذا بدأت جولتي، فهو حديث أؤجّله للجزء القادم.