الأربعاء، 28 مايو 2014

(ارحموهم)


  الساعة الثانية ظهراً.. درجة الحرارة تقترب من الخمسين برغم أن كل كتب المسابقات الثقافية ومناهج الدراسات الاجتماعية التي درسناها منذ عشرين عاماً ما زالت تصرّ على أن   (العزيزيّة ) الليبيّة هي من سجّلت أعلى درجة حرارة في العالم العربي ( ربّما لم يسمعوا عن العامرات وحرّها الذي يسير بخبره الركبان، وجبالها وتلالها ووهادها التي تختزن الحرارة طوال اليوم لتنفثه ليلاً وكأنّها تنّين أسطوري)، الحرارة تعدّت مرحلة الارتفاع ودخلت مراحل صهر كلّ ما تصله أشعّتها، والشوارع خالية إلا من موظفين عائدين من أماكن عملهم. عامل آسيوي يبدو عليه من مظهره البؤس وسوء التغذية، يمسك بإحدى يديه خرطوم ماء يسقي به بعض الحشائش والورود في أحد الدوّارات المسقطية، ويجاهد بيده الأخرى كي يقي رأسه من ضربة شمس محتمله.

شدّني المنظر واستغرقت في تأمل قسمات وجه ذلك العامل، وجالت بخاطري بعض التساؤلات: تر فيم يفكّر الآن، وبماذا ستصف تلك الورود التي يسقيها هذا المشهد لو أتيح لها النطق؟

لم يكن هذا المشهد هو الأول الذي أراه، ولن يكن الأخير، ففي كل يوم أعود فيه من عملي أصادف نماذج عديدة من المشهد السابق، فهذا عامل يقطع الحديد الساخن بينما وهج النار الحامية يكاد يصيبه بالعمى، وذاك آخر يتعاون مع زميله في عمل خلطة اسمنتيّة لبناء جدار يبدو أنّه لا يمكن إقامته سوى في هذا الوقت من اليوم، وثالث ينظّف شارعاً فرعيّاً وكأنّه يزيح أوراق أشجار أوراق متساقطة بفعل الخريف في غابة ألمانيّة، ورابع يسوق قلاباً حمل عليه أطناناً من الرمال كي يقوم بقية رفاقه برصف شارع لم يجد المسئولين وقتاً أفضل لطرح مناقصته سوى في فصل الصيف، وخامس، وسادس، وعاشر...ألخ.

ومن خلال اطّلاعي على قانون العمل العماني وتعديلاته وجدت كثيراً من المواد المتعلّقة بتحديد ساعات العمل اليوميّة، وتخصيص أوقات للراحة خلال أوقات العمل، وتوفير بعض المستلزمات الغذائيّة والطبّيّة للعمال خلال فترات عملهم، وغيرها من المواد التي تصبّ في مصلحة العامل، ولكن تبقى التساؤلات الأهم : هل هناك التزام فعليّ من قبل (بعض) أصحاب الأعمال بهذه المواد؟ وهل هناك مراقبة دوريّة دقيقة من قبل جهات الاختصاص تجاه تنفيذ هؤلاء لبنود تلك التشريعات؟

وبغض النظر عن وجود قانون من عدمه، هل يحتاج الأنسان (أيّاً كان دينه أو جنسه) إلى قوانين وتشريعات ومقالات ونداءات تطالبه أو (تجبره) على الإحساس بالآخر من بني جنسه، وأن يعامله بانسانيّه، وألا يحمّله ما يطيق خاصّة وأن كل الديانات والتشريعات السماويّة أتت بكثير من مبادئ حقوق الإنسان قبل أن يطالب بها البعض مؤخراً، وخاصّة كذلك أن أنّنا نتلو في صلواتنا التي نتقرب فيها إلى الله كثيراً من الآيات التي حملت هذه المعاني.

وقد يقول قائل: ولكنّك بطرحك هذا قد تظلم المقاولين وأصحاب الشركات، فلربّما كان هؤلاء العمّال يعملون من تلقاء أنفسهم كي ينجزوا العمل بأسرع وقت، ولربّما هم قد تعوّدوا على ذلك في بلدانهم الأصليّة، ولربّما كان (الفورمان) هو من أمرهم بذلك، ولربّما كذلك يقومون بالعمل لصالحهم مقابل إعطائهم للكفيل نسبة معيّنة.

ولكنّ كل هذه الحجج تبدو من وجهة نظري حججاً واهية، فلا يمكن للعمّال أن يعملوا من تلقاء أنفسهم في جوّ كهذا لمجرّد أنّهم يحبّون فعل ذلك مالم يأمرهم أحداً بذلك، كما أنّ مسألة تعوّدهم على ذلك في بلدانهم ليس حجّة يعتدّ بها، فالظروف البيئيّة قد تختلف من مكان لآخر، كما أنّ حقوق الإنسان لا تتجزّأ، والخطأ لا يعالج بالخطأ ذاته، أمّا إذا كان الفورمان هو من أمرهم بذلك فهل يمكن له فعل ذلك ما لم يكن ربّ العمل مهملاً لأعماله، غير متابع لها؟ أمّا مسألة العمل من الباطن وقيام الكفيل بأخذ نسبة مقابل تسريح عمّاله هنا وهناك فهذه معضلة حقيقيّة بحاجة إلى وقفة جادّة في ظل استفحال أمر كهذا في مختلف مجالات العمل.

صحيح أنّنا نلمح جهوداً ومبادرات (نبيلة) يقوم بها البعض من أبناء المجتمع بكل شرائحه نحو الشعور بالمسئوليّة تجاه هذه الفئة المغلوبة على أمرها، كالطفل الذي رأيته ينزل من سيارته والده متّجهاً إلى بعض العمّال وهو يحمل لهم شيئاً من الماء، وصديقي الذي اعتاد كل أسبوع أن يخصّص يوماً يشتري فيه كرتوناً من الماء، وآخر من العصير، وثالث من البسكويت، باحثاً عن أمثال هؤلاء في أماكن عملهم، وغيرها من المشاهد النّبيلة التي تنم عن وعي حقيقي وإحساس صادق.

ولكن برغم كل هذه المبادرات التي تنمّ عن روح المجتمع العماني بفطرته الصادقة، وبقيمه العربية الإسلامية التي تحتّم عليه الإحساس بالآخر، إلا أنّها تبقى محاولات يتيمة في ظل عدم إحساس بعض المقاولين وأصحاب الأعمال بمسئوليتهم الدينيّة والاجتماعيّة تجاه هذه الفئة، وفي ظل عدم تطبيق كثير من بنود اللوائح والقوانين المنظّمة للعمل.

ختاماً.. عندما سألت ذلك العامل البسيط عن سبب قيامه بقطع أسياخ الحديد في ذلك الوقت الحارّ ، ولماذا لا يذهب إلى سكنه لينام، بينما مكيّف سيّارتي يعمل بكامل طاقته، وبالكاد أفتح النافذة كي يسمع صوتي، كان الجواب المصحوب بأعلى درجات القهر :  "إذا مافي شغل كومباني فيه كنسل فيزا مال أنا".

د.محمد بن حمد العريمي

                                                         Mh.oraimi@hotmail.com

الخميس، 22 مايو 2014

الجمعيّات الفكريّة بين الواقع والمأمول


في إحدى الجلسات الثقافيّة تحدّث رئيس إحدى الجمعيّات الفكريّة بأسى عن عزوف الأعضاء عن حضور الفعاليّات التي تقيمها الجمعيّة، وأردف كلامه بأنّ عدد من يحضر هذه الفعاليّات لا يتجاوز 10% من إجمالي عدد الأعضاء.

وفي جلستنا شبه اليوميّة في مقهى يحمل اسم مقهى شهير بالقاهرة ولا يشابهه في الإمكانات أو الخدمات (لمحبيّ التخمين لا أقصد الفيشاوي بالقطع) سألني صديقي الصحفيّ النشط : ما سبب عزوفك عن الانضمام إلي أيّ من الجمعيات الفكريّة الموجودة لدينا؟

أجبته: يا صديقي العزيز، الجمعيّات أو النقابات أو اللجان أو الأندية أو أيّاً كان الاسم، يأتي إنشاؤهن لتحقيق أهداف خاصة بفئة بعينها، سواء كانت فئات لها علاقة بشرائح اجتماعيّة معيّنة، أو بمهن، أو حرف، أو نشاط فكري أو اجتماعي أو اقتصادي معيّن. بمعنى أنّ هناك مجموعة من الأفراد يتوافقون فكريّاً أو وظيفيّاً أو عمريّاً، أو اجتماعيّاً، أو أيّاً كان مصدر التوافق، فيسعون إلى تشكيل كيان خاص بهم يحقّق لهم أغراض معيّنة، ويوفّر لهم خدمات مختلفة قد لا توفّرها لهم تجمّعات أو كيانات أخرى، وبالتالي فهم يجدون في هذا الكيان الذي يضمّهم بمثابة الحاضن لهم، المدافع عن حقوقهم، المقرّب لأفكارهم، المحقّق لجزء من طموحاتهم.

لم تصل الفكرة بعد؟ لا بأس، سأعطيك مثالاً أكثر قرباً، وسأطرحه كمجرد مثال وليس لغرض الاسقاط أو التلميح. دعني أطلق على نفسي جزافاً لقب كاتب مع إني لا أملك هذا الحق لأنّه ملك القارئ والمجتمع لا ملكي أنا، ولكني سأتجاوز ذلك في هذا المثال. ما دمت كاتباً، فالأولى أن أنضم للجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء كونها الجهة المجتمعيّة الأقرب إلى ميولي أو اهتماماتي، وهذا يعني أن أقوم بالحصول على بطاقة عضويّة ودفع رسوم ماليّة مقابل هذه العضويّة. ستسألني ماذا تريد من الجمعيّة، وسأجيبك إن لي مطالب أربع مهمّة أولها المطلب القانوني والتشريعي، فما دمت كاتباً، ومادامت معظم المطبوعات ترفع مسئوليتها عمّا أكتبه فأنا معرّض في أي لحظة للمساءلة حول فكرة أو  نقطة أو جملة أو عنوان أو سطر معيّن قمت بكتابته، في هذه الحالة أنا أطالب جمعيّتي بالتحرّك نحو ايجاد تشريعات تجعلني أكثر ثقة واطمئناناً في المستقبل القريب عند رغبتي في تناول أي موضوع من المواضيع المجتمعيّة المختلفة، كما أطالبهم بالوقوف القانوني في حالة تعرّضي لأيّة مساءلة أو مضايقة معيّنة.

نأتي إلى المطلب الثاني وهو المطلب المهني، فأنا وبرغم أني أصنّف نفسي ككاتب إلا أنّه تنقصني الكثير من الخبرات والمهارات والطرق والأساليب المتعلّقة بإمكاناتي ككاتب، لذا فعلى الجمعيّة ككيان أنتمي إليه أن تسعى إلى تعزيز هذه الإمكانات من خلال خطط تدريب وإنماء واضحة تستهدف كافّة منتسبيها، وبالتالي يتحقق جزء من الأهداف التي من أجلها أنشئت الجمعيّة، ومن أجلها قام هؤلاء الكتّاب أو الأدباء بالاشتراك فيها.

هناك مطلب ثالث مهم وأقصد به المطلب الاجتماعي، فأنا كفرد بحاجة إلى الكيان لتحقيق أغراض اجتماعيّة قد لا أجدها في كيانات أو تجمّعات أخرى، بمعنى أنّني بحاجة إلى توافر الامكانات الترفيهيّة التي تجعلني أحرص على ارتياد مبنى الجمعيّة بشكل مستمر، والاقتراب أكثر وأكثر من بقيّة الأعضاء، وهذا لن يتأتّى إلا في ظل وجود بعض الأنشطة الاجتماعيّة الترفيهيّة كالمطعم والكافتيريا والحديقة وصالة الألعاب وغيرها، اضافة إلى الأنشطة الاجتماعيّة الموسميّة كرحلات الصيف، وحفلات الافطار الجماعي، والرحلات الخارجيّة المدعومة، ناهيك عن بعض التسهيلات التي يمكن للجمعيّة أن تحصل عليها لأعضائها كخدمات الشراء بالتقسيط من بعض المحلات، وخدمات العلاج المخفّض في بعض المؤسسات الصحيّة الخاصّة، ويمكن للجمعيّة أن تتجاوز كل ذلك لتوفير خدمات اجتماعيّة أكثر ديمومة واستمراريّة كالحصول على قطع سكنيّة أو شقق إسكانيّة بأسعار تشجيعيّة.
ويرتبط بهذا المطلب الاجتماعي الخدمات الاجتماعيّة التي يمكن أن أحصل عليها في حالات استثنائيّة، كالانقطاع عن العمل، أو العجز عن مزاولته، أو التقاعد، أو الوفاة لا قدّر الله، فهذا مطلب يمكن أن يحقق شيئاً من التكافل الاجتماعي الذي هو أساس مهم في عمل كثير من النقابات والجمعيّات على مستوى العالم.

نأتي للمطلب الأخير وهو المطلب الفكري، وأعني أن تقوم الجمعيّة بتنظيم الفعاليات الفكريّة والثقافيّة التي تدخل في إطار عملها، داخلياً أم خارجياً، وبالتالي إتاحة مزيد من الفرص لي للظهور وتقديم أعمالي أو أنشطتي، أو الاحتكاك بآخرين في نفس المجال، وبالتالي مزيد من الخبرة وتقييم النفس والامكانات.

عندما سأضمن أن تتحقق كل هذه المطالب أو بعضها يمكن لي وقتها أن أبحث عن جمعيّة أنضم إليها وأحرص على متابعة فعالياتها، والمشاركة الدائبة فيها، ولكن يبقى السؤال المهم: هل أفكار كالتي طرحتها يتم تنفيذها بشكل حقيقي وواقعي على مستوى جمعيّاتنا ولجاننا؟ واذا ما استثنينا بعض الانشطة التدريبية والاجتماعيّة التي تقوم بها جمعيّة الصحفيين (برغم الانتقادات اليوميّة التي أسمعها من هنا وهناك من أعضاء غير منتسبين لها في الأساس)، فهل تقوم الجمعيّات الأخرى بهذه الأنشطة، أم أنها أصبحت حكراً على أعضاء بعينهم.

ماذا سأستفيد أنا كعضو عندما تقصر جمعيّة ما جلّ أعمالها على استضافة شخصية عربية أو أجنبيّة معيّنة كل يوم أو حتّى كل ساعة، او تنظيم ندوة أو فعاليّة فكريّة ما، أو القيام بجولات خارجيّة غالباً ما يكون أفرادها هم أنفسهم في كل مرة، أو طباعة أعمال فكريّة معيّنة كلّ سنة.

حتى لو سلمنا أن هذه الأعمال مهمّة ورائعة فما علاقتها بي كعضو، وماذا قد تضيف إليّ (كعضو) كذلك، وهل أعطيت حق الرأي أو الاختيار في الموافقة عليها على سبيل المثال؟ وماذا سأفرق في هذه الحالة عن المتلقّي الخارجي الذي لا يشاركني العضويّة، بل وماذا اختلف عمل الجمعيّة هنا (أيّاً كانت) عن دور المؤسسات الحكوميّة العاملة في نفس المجال؟ في هذه الحالة إذا علينا أن نكتفي بعدد من الموظفين يقومون بكافّة هذه الأدوار من تنظيم وتجهيز وحجوزات وغيرها دون الحاجة إلى الأعضاء الآخرين، فأنا لم أنضم لهذه الجمعيّة أو تلك من أجل حضور فعالية أيّاً كانت قامة من سيقدّمها، ولم أشترك فيها لأجل الاستماع إلى محاضرة أيّا كان عنوانها. كل هذه الأشياء يمكن لي أن أحصل عليها بضغطة زر على أقرب جهاز معلوماتي حديث. أنا قررت الانضمام كي أبحث عن كيان يضمّني وأشعر بذاتي فيه ويحقق لي خدمات تسهم في تغيير حياتي إلى الأفضل وقد لا تتحقق لآخرين لا يشاركونني نفس العضوية.

عندما ستجد هذا الكيان يا صديقي الصحفي فأخبرني كي أسارع في الانضمام إليه.

د.محمد بن حمد العريمي

MH.ORAIMI@HOTMAIL.COM   

الأربعاء، 7 مايو 2014

مشاهد وتساؤلات (15)


 

(1)

"جات الحزينة تفرح.. ما لقت لها مطرح" هو المثل الذي ينطبق على حالة أحد الأصدقاء، فبعد أن قام بشراء منزل صغير في إحدى ضواحي العاصمة يلمّه وأسرته الصغيرة بقية العمر بعد أن اكتوى لسنوات بنار أسعار الإيجارات المغالى فيها، تفاجأ بأنّه لابد وأن يدفع مبلغاً لا يقل عن الألف والنصف من الريالات لوزارة الإسكان كرسوم مقابل شراء هذا المنزل، وهو الذي لا يملك (شروى نقير)، بعد أن عانى (الأمرّين) للحصول على قروض بنكيّة تفي بسداد قيمة البيت ، وسيعاني مستقبلاً كي يوفّر قيمة مستلزمات المنزل من أثاث  وأجهزة وغيرها، فمن أين سيأتي بمبلغ الإسكان كي يدفعه.

 في الحقيقة ما زلت عاجزاً عن فهم أو تصوّر أو إدراك مغزى الحكمة من قيام المواطن بدفع نسبة  (3%) من قيمة أية أرض أو عقار قام بشرائه من حرّ ماله لوزارة الإسكان، فما هو الجهد الذي بذلته الوزارة في شراء هذا المواطن لأرضه أو مسكنه كي تأخذ مثل هذه النسبة، وما الذي قدّمته الوزارة لهذا المواطن أو لغيره عدا أرض  تفتقر في كثير من الحالات إلى الخدمات الأساسيّة. أوليست سياسات الوزارة هي من جعلت هذا المواطن وغيره يلجؤون لشراء أراضي فضاء تعادل قيمتها قيمة منزل من طابقين في أماكن أخرى؟ أوليست هذه السياسات هي من جعلت قيمة العقار في مدينة كمسقط تفوق قدرة المواطن البسيط عشرات المرات؟ وهل قامت الوزارة طوال تاريخها بمبادرة اسكانيّة واحدة تخفف من العبء الذي يحمله المواطن على كاهله نحو توفير منزل يليق به وبأسرته؟ هل عدّلت قوانين بنك الاسكان بحيث تكون أكثر يسراً وانسيابية بدلاً من الوقوف في طابور لا يقل عن سنوات ثلاث من تاريخ تقديم الطلب؟ هل تبنّت مشاريع اسكانيّة شبابيّة رائدة كبناء مجمعات سكنيّة وبيعها أو تأجيرها بأسعار تشجيعيّة؟ هل قامت بعمل محافظ استثمارية إسكانيّة توفر السكن المناسب بأسعار مناسبة وتحدّ من تغوّل سماسرة العقارات؟ وهل تدرك الوزارة من الأساس أن الإسكان هو ثالوث اجتماعي لا يقل أهمية عن التعليم والصحة وبالتالي لابد من اعطاءه أهميّة قصوى لا اختزاله في توزيع أراضي هنا وهناك، أو بناء بعض المساكن لفئة الضمان الاجتماعي؟

المضحك في الأمر أن الوزارة قد تكون أخذت نفس الرسوم على ذات الأرض أو العقار من خلال تعاملات سابقة قام بها أشخاص كانوا يملكون هذه الأراضي أو العقارات.  

(2)

كثرة عدد المطاعم والمقاهي في المدن والولايات، هل هي دليل على رخاء معيشي، أم ثقافة استهلاكية سلبية؟

أكتب هذا الكلام، وأنا أرى الانتشار الكبير للمطاعم والمقاهي في الشوارع والحارات والقرى، لدرجة أنك يمكن أن تلاحظ وجود أكثر من مطعم أو مقهى في بناية واحدة، مع تشابه كبير في التصميم المعماري، ونوعية الوجبات المقدمة، وسيطرة مطابخ غير عمانية على أصناف هذه الوجبات.

الغريب أننا نتحدث عن غلاء معيشة، وجشع بعض أصحاب هذه المطاعم، ولا نتحدث بتاتاً عن ثقافة أكل سلبية، وعن وجبات منزلية تبحث عمن يقترب منها، ولا تجد سوى صناديق القمامة كمأوى لها.

نحتاج إلى إعادة النظر مرات عديدة في ثقافتنا الاستهلاكية، وسنجد بعدها أن كثيراً من ميزانياتنا الشهرية تذهب في بنود كمالية ليست لها تلك الدرجة من الأهمية، وكان من الممكن استغلالها في أشياء أكثر أهمية وجدوى.

 (3)

كنت حاضراً قبل فترة قريبة مناسبة اجتماعيّة لأحد أقاربي، وبينما كنت أساعد أصحاب المناسبة في عملية

توزيع الطعام على الضيوف هالني حجم الطعام المتبقّي، والذي تفوق كمياته عدد المدعوين وحاجتهم إليه ،  وهالني أكثر أن ما تبقّى من الطعام سوف يرمى لأن الوقت متأخر، ولأنّه لا توجد طريقة للتصرّف فيه.

 تذكرت وقتها عشرات المناسبات الاجتماعيّة المشابهة التي يهدر فيها كثير من الطّعام نتيجة سلوكنا وعاداتنا،

ورغبتنا في الحفاظ على موروثاتنا المتعلّقة بالجود والكرم، ورغبتنا كذلك في التميّز عن الآخرين في هذا المجال. تذكّرت كذلك أنّ هناك كثير ممّن هم بحاجة إلى هذا الطعام المهدر، وقد لا تسمح كرامتهم بتسوّله.

في وسط زخم المبادرات الاجتماعيّة التي أسمع عنها كل يوم، والتي تعدّ مؤشراً ايجابيّاً على تفاعل أبناء المجتمع مع  ثقافة العمل التطوّعي، وترسيخ قيمة التكافل الاجتماعي، أتمنى أن أجد مبادرة يتبنى أصحابها الاستفادة من الأغذية غير المستغلة والفائضة من المصادر المختلفة كالفنادق والمطاعم والمناسبات الاجتماعية المختلفة، أو حتى من الأشخاص العاديين، بحيث يكون هناك عنوان معين لأصحاب هذه المبادرة يستطيع الفرد أو الجهة الاتصال بمندوبها  لكي يأتي لاستلام الفائض من الطعام لإعادة تجهيزه بطرق صحية وتوزيعه على الأسر الفقيرة والمحتاجة.

 (4)

أمن غائب، وأوضاع اقتصادية واجتماعية متردّية، وسجالات ومناوشات فكريّة عقيمة هنا وهناك. البلد التي أنجبت رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وسعد زغلول وحسن البنا ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر والسنهوري باشا، عاجزة حتى الآن عن تدارك أمورها وتصحيح مسارها، وتعديل أوضاعها. 

ترى ما الذي يحدث في مصر؟

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

 

 

 

 

الخميس، 1 مايو 2014

مشاهد وتساؤلات 14

مشاهد وتساؤلات (14)


(1)
بعد ثلاثة وثلاثون عاماً من تجربة الشورى العصريّة في السلطنة، وبعد الصلاحيات التي أعطيت  لمجلس عمان، والتي تؤكد على الإرادة السامية في دفع وتطوير مسيرة الشورى بالسلطنة، يلحّ سؤال مهم : هل يعي كثير من أعضاء مجلس الشورى أنّهم يمثّلون المجتمع ككلّ لا ولاياتهم فحسب، وأن أساس عملهم يتمثّل في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذيّة، وفي مناقشة التشريعات المختلفة، واقتراح تشريعات يمكن أن تغيّر كثيراً من الواقع الحالي في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة، وأن تغيير جانب من هذا الواقع مرهون بمدى قدرتهم على صياغة قوانين تتناسب والظروف الوقتيّة والمجتمعيّة الحاليّة.

وهل ما زالت نظرة المجتمع إلى المجلس تنحصر في أعمال هي في الأساس من صلاحيات المجالس البلديّة وجهات التخطيط المختصّة كالمطالبة بإنشاء طريق معيّن، أو افتتاح مدرسة في قرية من قرى الولاية، أو مرافقة أحدهم لمقابلة مسئول ما، أو غيرها من الأعمال المشابهة.

يبدو أن المشوار ما زال في اوّله، وأنّنا ما زلنا بحاجة إلى عمل دؤوب كي نقتنع كمجتمع بأهمية هذا المجلس في الحياة السياسية والاجتماعية، وبالتالي وجود حرص كبير، ورغبة ملحـﱠــة في تفعيل أعماله بالشكل الايجابي، والوصول إلى ما يسمى (بثقافة الانتخاب)، وهذا يعني الاختيار الجيّد للمرشحين، والمفاضلة بين البرامج الانتخابية المطروحة.

 يستلزم الأمر تحولاً مجتمعياً ندرك أنه لن يأت بتلك السهولة، بل هو بحاجة لشيء من الحراك الفكري المتواصل، ومراجعة دقيقة للتجارب الحالية والسابقة، ولبرامج انتخابية متوافقة مع الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمع، ولأشخاص لديهم رصيد من الرضا والتقدير في المجتمع.
إنشاء برلمانات طلابية مصغّرة، واتحادات طلبة في المدارس والجامعات، وإنشاء وتفعيل النقابات والجمعيّات المهنية والمجتمعيّة، ووضع مناهج تعنى بالتربية الوطنية أو المدنية، وتفعيل دور المجالس البلدية في الولايات، من بين  الأمور التي من شأنها أن تأتي بهذا التحول المطلوب.

هل سيأتي اليوم الذي سنجد فيه الناس تتوافد على طوابير الانتخابات منذ الصباح الباكر رغبة في اختيار مرشّح يحمل برنامجاً حقيقياً يعتقدون أنّه سيحقّق شيئاً من آمالهم الحياتيّة، أو يحلّ شيئاً من مشاكلهم المجتمعية؟

 (2)
لا يكاد يمرّ يوم دون أقرأ شيئاً عن نشاط فكري أو رياضي أو اجتماعي لشباب ولاية نخل، بل إن الأمر تعدّى موضوع تنظيم بطولة كرويّة معيّنة، أو بناء مرفق حيوي، أو القيام بحملة توعويّة ما، ليصل إلى تأسيس شركة أهليّة تعنى بالاستثمار في مجالات اقتصاديّة متنوعة في دليل واضح على مدى الإرتقاء بثقافة العمل التطوّعي، بحيث تستوعب أكبر قدر من أبناء الولاية في عمل مؤسساتي منظّم، وتحقق عائداً يضمن الديمومة والاستمرارية للأفكار والمشاريع الأخرى.

ما أثار استغرابي هو عدم وجود نادي بهذه الولاية العريقة، والتي عرفت على امتداد تاريخها بظهور أجيال من العلماء والمؤلفين في مختلف المجالات، بالرغم من وجود شباب متعطش إلى إقامة مثل هذه الفعاليات، ووجود فرق أهلية كثيرة تدار بجهود شخصية من قبل القائمين عليها.
دعوة لإعادة النظر في خريطة النشاط الثقافي والاجتماعي والرياضي في السلطنة.

(3)
تراه منكوش الشعر، (محزﱠق) البنطلون، مكشوف الصدر، ولا مانع من وجود بعض السلاسل أو الأساور في معصم اليد، وحبّذا لو صاحب المشهد سيارة رياضية ينبعث منها صوت موسيقى غربية صاخبة.

المشهد ليس مستوحىً من فيلم أجنبي، ولا من قصاصة مجلة أزياء غربية، بل هو لشباب عماني  يمكن أن تصادفه في مدرجات الكرة، أو شواطئ البحر، أو في المجمعات التجارية. شباب ربما لم يجد من يقول له إن مظاهر الرقي  والتمدن لا ترتبط دائماً بالتخلي عن العادات الأصيلة، وأن الزيﱠ العماني الأصيل ليس مقترناً بالتخلف، وأن التحضّر يرتبط بمدى قدرة الفرد منا على الإنجاز والنجاح في تكوين الشخصية الفاعلة التي تضيف للمجتمع، وتحافظ على مكتسباته، وليس في محاكاة الآخرين.

لم يأت  اختيار أجدادنا لهذه الأزياء والملابس الأصيلة عن عبث أو مصادفة. أبسط ما يمكن قوله أنها تتناسب مع طبيعة البيئة المكانية التي نقطن بها، عدا عن أنها تتميز بالبساطة والاحتشام وعدم التكلف.

 (4)
وأنا أتنقّل بين المقاطع المتنوعة التي يحتويها موقع (اليوتيوب) الشهير لفت نظري وجود سلسلة وثائقيّة تاريخيّة عمانيّة بعنوان (ذاكرة الأجداد)، تحوي لقاءات يجريها الصديق الشاعر أحمد بن هلال العبري مع عدد من كبار السن من أبناء ولايته (الحمراء) يتحدثون عن كثير من الجوانب السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي عايشوها خلال مسيرة حياتهم المختلفة.

المشروع من إشراف فريق (الصمود) بولاية الحمراء، ويهدف لرصد التاريخ الشفهي من كبار السن، وهناك خطّة لتحويله إلى مواد ورقية مطبوعة لتمكين الباحثين من الاستفادة منها في دراساتهم ومشاريعهم البحثيّة في ظلّ شحّ كبير في مصادر المعرفة التاريخيّة، وبالأخص في مجال التاريخ غير المكتوب بعد أن رحل كثير من رموز وعلماء البلد ورجالاتها بدون أن يفكّر البعض في تأريخ سيرهم وشهاداتهم على العصر، كما أنّها يمكن أن تشكّل مرجعاً للأجيال القادمة لمعرفة أساليب الحياة، والظروف المعيشية التي واجهها أولئك الأجداد، وتزوّدهم بكثير من القيم التي يحتاجون إليها في ظل تحدّيات العولمة التي بدأت تقضّ بعضاً من أركان الهويّة للمجتمع.

ما شدّني في المشروع كذلك مدى الوعي الذي وصل إليه أعضاء الفريق في وقت أصبح البعض يحصر فيه دور الأندية والفرق الأهليّة في لعبة واحدة فقط، ولعدد محدود من الأفراد.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com