الأربعاء، 28 مايو 2014

(ارحموهم)


  الساعة الثانية ظهراً.. درجة الحرارة تقترب من الخمسين برغم أن كل كتب المسابقات الثقافية ومناهج الدراسات الاجتماعية التي درسناها منذ عشرين عاماً ما زالت تصرّ على أن   (العزيزيّة ) الليبيّة هي من سجّلت أعلى درجة حرارة في العالم العربي ( ربّما لم يسمعوا عن العامرات وحرّها الذي يسير بخبره الركبان، وجبالها وتلالها ووهادها التي تختزن الحرارة طوال اليوم لتنفثه ليلاً وكأنّها تنّين أسطوري)، الحرارة تعدّت مرحلة الارتفاع ودخلت مراحل صهر كلّ ما تصله أشعّتها، والشوارع خالية إلا من موظفين عائدين من أماكن عملهم. عامل آسيوي يبدو عليه من مظهره البؤس وسوء التغذية، يمسك بإحدى يديه خرطوم ماء يسقي به بعض الحشائش والورود في أحد الدوّارات المسقطية، ويجاهد بيده الأخرى كي يقي رأسه من ضربة شمس محتمله.

شدّني المنظر واستغرقت في تأمل قسمات وجه ذلك العامل، وجالت بخاطري بعض التساؤلات: تر فيم يفكّر الآن، وبماذا ستصف تلك الورود التي يسقيها هذا المشهد لو أتيح لها النطق؟

لم يكن هذا المشهد هو الأول الذي أراه، ولن يكن الأخير، ففي كل يوم أعود فيه من عملي أصادف نماذج عديدة من المشهد السابق، فهذا عامل يقطع الحديد الساخن بينما وهج النار الحامية يكاد يصيبه بالعمى، وذاك آخر يتعاون مع زميله في عمل خلطة اسمنتيّة لبناء جدار يبدو أنّه لا يمكن إقامته سوى في هذا الوقت من اليوم، وثالث ينظّف شارعاً فرعيّاً وكأنّه يزيح أوراق أشجار أوراق متساقطة بفعل الخريف في غابة ألمانيّة، ورابع يسوق قلاباً حمل عليه أطناناً من الرمال كي يقوم بقية رفاقه برصف شارع لم يجد المسئولين وقتاً أفضل لطرح مناقصته سوى في فصل الصيف، وخامس، وسادس، وعاشر...ألخ.

ومن خلال اطّلاعي على قانون العمل العماني وتعديلاته وجدت كثيراً من المواد المتعلّقة بتحديد ساعات العمل اليوميّة، وتخصيص أوقات للراحة خلال أوقات العمل، وتوفير بعض المستلزمات الغذائيّة والطبّيّة للعمال خلال فترات عملهم، وغيرها من المواد التي تصبّ في مصلحة العامل، ولكن تبقى التساؤلات الأهم : هل هناك التزام فعليّ من قبل (بعض) أصحاب الأعمال بهذه المواد؟ وهل هناك مراقبة دوريّة دقيقة من قبل جهات الاختصاص تجاه تنفيذ هؤلاء لبنود تلك التشريعات؟

وبغض النظر عن وجود قانون من عدمه، هل يحتاج الأنسان (أيّاً كان دينه أو جنسه) إلى قوانين وتشريعات ومقالات ونداءات تطالبه أو (تجبره) على الإحساس بالآخر من بني جنسه، وأن يعامله بانسانيّه، وألا يحمّله ما يطيق خاصّة وأن كل الديانات والتشريعات السماويّة أتت بكثير من مبادئ حقوق الإنسان قبل أن يطالب بها البعض مؤخراً، وخاصّة كذلك أن أنّنا نتلو في صلواتنا التي نتقرب فيها إلى الله كثيراً من الآيات التي حملت هذه المعاني.

وقد يقول قائل: ولكنّك بطرحك هذا قد تظلم المقاولين وأصحاب الشركات، فلربّما كان هؤلاء العمّال يعملون من تلقاء أنفسهم كي ينجزوا العمل بأسرع وقت، ولربّما هم قد تعوّدوا على ذلك في بلدانهم الأصليّة، ولربّما كان (الفورمان) هو من أمرهم بذلك، ولربّما كذلك يقومون بالعمل لصالحهم مقابل إعطائهم للكفيل نسبة معيّنة.

ولكنّ كل هذه الحجج تبدو من وجهة نظري حججاً واهية، فلا يمكن للعمّال أن يعملوا من تلقاء أنفسهم في جوّ كهذا لمجرّد أنّهم يحبّون فعل ذلك مالم يأمرهم أحداً بذلك، كما أنّ مسألة تعوّدهم على ذلك في بلدانهم ليس حجّة يعتدّ بها، فالظروف البيئيّة قد تختلف من مكان لآخر، كما أنّ حقوق الإنسان لا تتجزّأ، والخطأ لا يعالج بالخطأ ذاته، أمّا إذا كان الفورمان هو من أمرهم بذلك فهل يمكن له فعل ذلك ما لم يكن ربّ العمل مهملاً لأعماله، غير متابع لها؟ أمّا مسألة العمل من الباطن وقيام الكفيل بأخذ نسبة مقابل تسريح عمّاله هنا وهناك فهذه معضلة حقيقيّة بحاجة إلى وقفة جادّة في ظل استفحال أمر كهذا في مختلف مجالات العمل.

صحيح أنّنا نلمح جهوداً ومبادرات (نبيلة) يقوم بها البعض من أبناء المجتمع بكل شرائحه نحو الشعور بالمسئوليّة تجاه هذه الفئة المغلوبة على أمرها، كالطفل الذي رأيته ينزل من سيارته والده متّجهاً إلى بعض العمّال وهو يحمل لهم شيئاً من الماء، وصديقي الذي اعتاد كل أسبوع أن يخصّص يوماً يشتري فيه كرتوناً من الماء، وآخر من العصير، وثالث من البسكويت، باحثاً عن أمثال هؤلاء في أماكن عملهم، وغيرها من المشاهد النّبيلة التي تنم عن وعي حقيقي وإحساس صادق.

ولكن برغم كل هذه المبادرات التي تنمّ عن روح المجتمع العماني بفطرته الصادقة، وبقيمه العربية الإسلامية التي تحتّم عليه الإحساس بالآخر، إلا أنّها تبقى محاولات يتيمة في ظل عدم إحساس بعض المقاولين وأصحاب الأعمال بمسئوليتهم الدينيّة والاجتماعيّة تجاه هذه الفئة، وفي ظل عدم تطبيق كثير من بنود اللوائح والقوانين المنظّمة للعمل.

ختاماً.. عندما سألت ذلك العامل البسيط عن سبب قيامه بقطع أسياخ الحديد في ذلك الوقت الحارّ ، ولماذا لا يذهب إلى سكنه لينام، بينما مكيّف سيّارتي يعمل بكامل طاقته، وبالكاد أفتح النافذة كي يسمع صوتي، كان الجواب المصحوب بأعلى درجات القهر :  "إذا مافي شغل كومباني فيه كنسل فيزا مال أنا".

د.محمد بن حمد العريمي

                                                         Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.