الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

في بلاد الأتراك (3)

كانت السّاعة قد اقتربت من السّابعة صباحاً وأنا ما زلت أتجوّل في شارع الاستقلال متأمّلاً معالمه، متفرّساً في وجوه من حولي من المارّة، مركّزاً على المحلات التي سأحتاج إليها عاجلاً كمحلات الصّرافة، وشركات الاتّصالات، وفي نفس الوقت باحثاً عن سكن مناسب أقضي فيه أيّام الرحلة، وكانت المقاهي الشرقيّة ضمن ما استهواني بينما خطواتي السّريعة تذرع الشارع لدرجة أنّني كنت أقف أمامها بعضاً من الوقت معتقداً أنّني لن أجد غيرها لو أكملت مسيري، متردّداً بين الدّخول أو مواصلة الطريق بحثاً عن السّكن أوّلاً، وضماناً لوجود عنوان يمكن أن تصل إليه حقيبتي التي نسيت في الدّوحة، ذلك أنّني عاشق قديم للمقاهي بعبقها الجميل، أتلذّذ بمشروباتها السّاخنة من شاي، ونعناع، وقهوة، وسحلب، وكركديه، وأطرب لصوت أحجار النّرد وهي تتناقل من يد ليد، وأكاد استنشق عبق رائحة الأرجيلة العجمي وهي تفوح في المكان وكأنّها شذى عطر باريسيّ معتّق، لدرجة أنّني عادة ما أحدّد من ضمن خياراتي في الأسفار أن تتوافر مقاه من هذا النّوع في البلد الذي أرغب في السفر إليه، بعكس مقاهي الإسبرسّو واللاتيه والكابتشينو ذات الطّابع الغربيّ التي أجد فيها نوعاً من الثّقل غير المستساغ!

 عند وصولي إلى النفق القريب من برج جلاطا أو (غلطا) حيث مقرّ نادي (جلاطا سراي) الشهير، وبالقرب من أحد مداخل محطّة مترو (شيشانه) أدركت أن الشارع قد انتهى لأبدأ جولة أخرى في الشّوارع الجانبيّة المتفرّعة منه متفاجئاً أنّها لا تقلّ عنه حركة وحيويّة، فعلى الرغم من صغر هذه الممرّات التي تربط شارع الاستقلال بحيّ (بيرا) التابع لمنطقة (بيوغلو) إلا أنّها كانت مليئة بالحركة والنشاط، ويتوزّع على جانبيها عشرات المطاعم والمقاهي والنّزل والمحلات المختلفة، واكتشفت في جولتي هذه أنّ أكثر النّزل والفنادق تقع في تلك الشّوارع والممرّات الجانبيّة لا في شارع الاستقلال ذاته كما كنت أعتقد، وحمدت الله أنّني لم أقم بالحجز المسبق عن طريق (البوكينج) أو غيره من المواقع، ذلك أنّني وجدت خيارات كثيرة متنوّعة وبأسعار مناسبة جداً تختلف عن تلك التي لاحظتها عند بحثي في الشوارع القريبة من ميدان تقسيم، الأمر الذي أتاح لي فرصة الانتقاء الجيّد إلى أن عثرت أخيراً على ضالّتي في فندق (او بيرا)، وهو نزل صغير أنيق يقع وسط سلسلة من الفنادق التي تحمل اسم الحيّ (بيرا)، ويحتل عدّة طوابق من مبنى تاريخيّ قديم يعود إلى القرن التاسع عشر، ولعل من بين الأسباب التي دعتني إلى اختياره دون بقيّة الفنادق التي تزخر بها المنطقة بساطة المكان وأناقته، حيث أنّه أشبه بالفيللا الأنيقة المنظّمة بشكل ينمّ عن ذوق رفيع، وقلّة عدد غرفه ونزلاءه، ومناسبة سعره، وبشاشة استقبال موظّف الاستقبال وعمّال الخدمة به وأنا الذي كنت قد استمعت إلى كلام قد يملأ مجلّدات كاملة حول تجهّم موظّفي الفنادق الأتراك وسوء معاملتهم للزبائن، كما أن الفندق يطلّ على شارع هادئ وحيويّ في ذات الوقت يحتوي على عدد من الفنادق بتصنيفاتها المختلفة، وبعض المؤسّسات الحكوميّة، بالإضافة إلى قربه من كافّة الخدمات التي قد أحتاج إليها، فالشارع يحتوي على نقطة شرطة، ومحلات بقالة وحلاقة، وأنماط مختلفة من المطاعم والمقاهي التركيّة والعالميّة، وهو على بعد خطوات من محطّة التكاسي المركزيّة، ويبعد حوالي 200 متر من محطة المترو، ولا يفصله عن شارع الاستقلال سوى ممر جانبي زاخر بالحركة والنشاط، كما اكتشفت بعد ذلك قربه من كثير من الأماكن السياحيّة والتاريخيّة في المدينة، فبرج جلاطا الشّهير لا يبعد أكثر من نصف كيلو من المكان، كما أنّ المكان يكاد يشكّل شرفة واسعة يمكنك من خلاله أن تتأمّل معالم اسطنبول القديمة بجسورها الشّهيرة كجسر جلاطا الذي يربط منطقة بيوغلو  بمنطقة (أمينونو) والسلطان أحمد بمساجدها وبازاراتها الشّهيرة، ومنطقة السلطان أيّوب، وقصور السلاطين المختلفة، وغيرها من الأماكن التي ستشكّل مادّة دسمة لتفاصيل أيّام الرحلة المتبقّية.

 كما أنّ غرف الفندق كانت برغم صغرها ( وهي سمة عامّة في أغلب فنادق اسطنبول) أنيقة دافئة، بل تكاد لا تختلف كثيراً عن فنادق الخمسة نجوم، مع توافر كافّة الخدمات بها من قنوات فضائيّة متنوّعة بما فيها قناة عمان، وخدمة (الواي فاي) فائقة السرعة، ودورة المياه الرخاميّة التي تشعرك وكأنّك في أحد الحمامات التركيّة القديمة مع لمسة تطوّر أنيقة، وغيرها من الخدمات الأخرى، الأمر الذي شعرت معها بأن الأمور ستكون طيّبة في بقيّة الأيّام، فأنا من الأشخاص الذين يعدّون موضوع السكن جزءاً مهمّاً من أيّة رحلة يقومون بها، وأمراً لا يقلّ شأناً عن بقيّة الأمور كزيارة المعالم السياحيّة، والتعرّف على تفاصيل الحياة اليوميّة للبشر، بل أكاد أعتبر مهمّة اختيار المكان متعة من ضمن المتع التي أبحث عنها في أسفاري، ولا غرابة أن أتنقّل بين أكثر من مكان في كلّ مرّة اذا ما استهواني شيء ما في أحد الفنادق أو النّزل!

وكأنّني أسابق الزّمن كي أستمتع بكلّ ثانية متبقّية من أيّام الرحلة السبعة، أهبط من غرفتي في طريقي إلى ركن الطّعام مكتفياً بتقليب بعض القنوات، وأخذ دشّ سريع لاستعادة نشاطي البدني، وحفظ بعض النّقود والأوراق المهمّة في الخزينة الملحقة بالغرفة، وهي عادة قديمة أقوم من خلالها بحفظ أشيائي المهمّة من أوراق، ووثائق سفر، وأموال في أكثر من مكان تحسّباً لأيّ ظرف، ومن ثمّ قمت باختيار مكاني في ركن قصيّ يطلّ على الشّارع الهادئ برغم حركة البشر التي لا تنقطع من سيّاح قادمين، وآخرين مغادرين، وموظّفين في طريقهم إلى أعمالهم، وآخرين متسكّعين، لتأتيني العاملة وهي سيّدة خمسينيّة تشعّ الطيبة والابتسامة من محيّاها، تشبه الممثّلة كريمة مختار وتكاد تقسم أنّك رأيتها في مسلسل تلفزيونيّ ما تؤدّي دور الأم الطيّبة الحنونة كما كانت تفعل تلك الممثّلة، لدرجة أنّني اعتقدت أنّ أصدقائي كانوا يقصدون أشخاصاً آخرين عند حديثهم عن التجهّم والعبوس والتكبّر في المعاملة!!

بكلّ ودّ ترحّب بي كريمة مختار – أقصد العاملة – ثم تسألني إن كنت أرغب في تناول القهوة أم الشاي أولاً، وهل سأذهب لإحضار الإفطار الذي يتكوّن من أطباق تركيّة صميمة كالزيتون بنوعيه الأسود والأخضر، وتشكيلة منوّعة من الأجبان، والسلطات المختلفة، والمكسّرات، والمجفّفات أم تعدّه لي بنفسها! بادلتها الابتسامة كعربون شكر لمعاملتها الراقية وطلبت منها كوب شاي أحمر بعد أن وصلت نكهته الزكيّة إلى خياشيم أنفي وكان أول كوب شاي لي في تركيا.. وما ألذّه!

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

هموم.. سياحيّة!


 (1)

في ظلّ كل ما يعانيه قطاع السّياحة من تحدّيات وجدل يدور بشأنه إلا أنّه من الظّلم الكبير أن نلقي باللوم على وزارة السّياحة لوحدها، ونحمّلها تبعات القصور الحاصل في هذا القطاع وكأنّها لوحدها المسئولة عن تطويره والارتقاء به، فوزارة السّياحة وبرغم الجهد الكبير الذي تبذله نحو الارتقاء بهذا القطاع الحيويّ المهمّ من أعمال توعية، ومشروعات تحوّل رقمي، وتسهيلات مختلفة للمستثمرين، وبرغم الإحصائيّات المتنوّعة التي تشير إلى حدوث تقدّم ملموس في هذا القطاع كمّاً وكيفاً، برأيي ينبغي أن تكون جهة مشرفة على تنفيذ رؤية الحكومة في هذا القطاع، وتمارس دور التنسيق بين الجهات المختلفة المرتبطة به، إضافة إلى القيام بأعباء التسويق والترويج والمساهمة في جذب الاستثمارات دون أن تتحمّل أعباء الإنشاءات وتوفير البنية التحتيّة التي هي من مسئوليّة جهات أخرى.

في آخر لقاء لي مع عدد من قيادات الوزارة وعلى رأسهم معالي الوزير لمست حرصاً حقيقيّاً صادقاً، وجهداً كبيراً مبذولاً من قبلهم نحو الارتقاء بهذا القطاع، واطّلعت على خطط مستقبليّة مهمّة، لكن التحدّيات كبيرة، وهم بحاجة إلى أياد أخرى تعينهم على أداء المهمّة دون إلقاء كافّة التبعات عليهم وحدهم.

(2)

يعني بالعربي الفصيح كي يتطوّر هذا القطاع ويسهم بدوره الحقيقي في تنمية مصادر الدّخل القومي، وتوفير فرص العمل، وخلق مناخ اقتصادي موازي فنحن بحاجة أوّلاً إلى رؤية حكوميّة واضحة في هذا المجال، بمعنى: كيف تنظر الحكومة إلى قطاع السّياحة؟ وهل هناك رؤية واضحة لها تجاهه؟!

يلي ذلك وضع استراتيجيّة متكاملة تتبنّاها الحكومة لا الوزارة التي يقتصر دورها كما أسلفت على التنسيق، ومتابعة تنفيذ الخطّة، وهذه الاستراتيجيّة تشمل خطوات عديدة لعل من بينها: دور المجالس البلديّة، المناهج، البرامج الإعلاميّة، مراجعة كافّة القوانين والتشريعات المرتبطة بمجالات الاستثمار في هذا القطاع، ومحاولة تبسيطها وتسهيلها على ألا تشمل القوانين الاقتصاديّة فقط، بل تتعدّاها للقوانين المرتبطة بالتراث المادّي وغيرها، وليس من العيب هنا دراسة تجارب الدول المختلفة، ومعرفة أسباب نجاحها أو فشلها، والاستفادة من عوامل النجاح والتقدّم.

 (3)

لن تتطوّر السّياحة الداخلية كذلك إلا بتفعيل دور المجالس البلدية، فمعظم الخدمات التي يحتاجها السائح والمقيم ينبغي أن يكون من صميم عملها، وكل ما يتعلق بالولايات من مرافق؛ ومعالم أثرية وبيئية فهو ينبغي أن يدخل ضمن اختصاصها، وفي كثير من مدن العالم الجميلة والمتكاملة الخدمات نجد أنّ من يقوم بتنظيم كافّة الأنشطة بها هي البلديّات المنتخبة دون تدخّل مركزي من قبل المؤسّسات الحكوميّة المركزيّة.

يعني باختصار لابد من وجود مجالس بلديّة منتخبة على مستوى المحافظات، والولايات، والقرى، لديها صلاحيّات واسعة، يتم اختيار أعضائها من بين أبنائها المبدعين المتخصّصين المحبّين للعمل البلدي التطوّعي، القادرين على التعامل مع امكانات وتحدّيات مناطقهم كما يتعامل الفنّان مع لوحته، ويمكن بمرور الوقت أن يحلّوا محلّ الجهات الحكومية البيروقراطيّة المشرفة على العمل البلدي، ويمكن أن يتغلّبوا على مشكلة الموارد الماليّة من خلال رسوم الخدمات البلديّة المختلفة، وضرائب الدخل للمؤسسات الاقتصاديّة العاملة في نطاق المنطقة، وعوائد استثمار بعض الأراضي والمباني، عدا مساهمة الشركات العاملة، وتبرّعات المجتمع المحلّي.

وقتها يمكن أن نوفّر بنية تحتيّة مناسبة لإقامة مشاريع اقتصاديّة سياحيّة مختلفة يديرها المجتمع المحلّي ذاته دون تدخّل مركزي بيروقراطي.

(4)

في كلّ زيارة لي لبعض القرى الجميلة التي تطلّ على البحر، أو تلك التي تقع بين أحضان الطبيعة البكر أتساءل بألم: لماذا تبدو قرانا بهذا الشكل! لماذا نجد القرى في كثير من الدول مخطّطة بشكل جيّد، مسفلتة بالحجارة الجميلة، شواطئها نظيفة وواسعة، تتناثر فيها الأشجار الكبيرة التي تضفي مزيداً من الجمال والبهجة، وتحيط بها المطاعم والمقاهي والنّزل الجميلة بمختلف مستوياتها، يتم استغلال بيوتها القديمة وحرفها التقليديّة، ويعمل كثير من سكّانها في أنشطة ذات علاقة بالسّياحة بحسب ما تشتهر به كلّ قرية على حدة.

ترى ما الذي يمنع قرانا أن تكون بصورة مشابهة لتلك؟! ولماذا تبدو شواطئنا كئيبة مبعثرة؟! ولماذا تخلو كثير من القرى من شجرة واحدة أو من نزل صغير، أو من مطعم أو مقهى مناسب، أو من حديقة عامّة صغيرة، أو حتّى من بضعة دورات مياه؟!

وماذا لو رغب أحدهم مثلاً في إقامة نزل سياحي، أو مطعم، أو مقهى أو ، فهل وزارة السّياحة هي التي ينبغي أن تمهّد الأرض، أو تشقّ الطريق، أو تسوّي رمال الشاطئ، أو تنشئ الكورنيش، أو تبني الحدائق ودورات المياه من أجل أن تتكامل الخدمات، فيأتي السائح، وينجح المشروع، أم أنّ هذه مسئوليّة جهات أخرى؟!  

عودة للمجالس البلديّة.

 (5)

ماذا قدّم مجلس الشّورى من أجل تطوير القطاع السّياحي في البلد؟! هل تمّ من خلاله تقديم مقترحات لقوانين وتشريعات يمكن أن تسهم في تسهيل المعاملات المتعلّقة بتنظيم القطاع السياحي كآليّة الحصول على الرّخص السياحيّة، وتسهيل إجراءات إنشاء المشاريع في هذا المجال وغيرها؟! هل تبنّى أحداً من الأعضاء مثلاً مشروعاً للحفاظ على الإرث الحضاري والشواهد المادّيّة من قلاع وحصون وحارات وبيوت وغيرها من خلال مراجعة أو اقتراح قانون ينظّم التعامل مع تلك الشّواهد، ويقيّم مدى أهمّيّتها، ويقترح إمكانيّة الاستفادة منها؟!

سؤالي ليس استنكاريّاً ولا اتهاماً موجّه بقدر ما هو رغبة في ايجاد تكامل بين المؤسّسات المختلفة للنهوض بهذا القطاع.

(6)

في مدن مصريّة كالإسكندرية، ومرسى مطروح، وشرم الشّيخ، والغردقة، وأسوان وغيرها يمكن أن تجد عشرات النّزل والفنادق والاستراحات والأندية الاجتماعيّة التّابعة للقوّات المسلّحة، والشرطة، والمؤسّسات الحكوميّة والخاصّة، وبأسعار مناسبة للطّبقات الوسطى والدّنيا، وبعض هذه النزل غير مقصورة على الفئات التّابعة لتلك الجهات بل يمكن لأيّ نزيل أن يقطنها ويستفيد من الخدمات المتنوّعة التي تقدّمها، عدا المعسكرات الشّبابيّة الدّائمة التي تستقطب ألوف الشّباب وطلاب المدارس والكلّيّات في معسكرات صيفيّة وشتويّة يتعرّفون من خلالها على معالم بلدهم، ويسهمون في دفع عجلة النشاط السّياحي والاقتصادي بشكل عام، وتقوم الدولة بتخصيص أراضي مناسبة لتلك المؤسّسات مقابل المشاريع السياحيّة والشبابيّة والاجتماعيّة التي تنفّذها من خلال الصناديق الاقتصاديّة الخاصّة بها.

 وتساؤلي الملحّ: أين هي رؤوس الأموال العمانيّة من الاستثمار في السّياحة الداخليّة؟! بل أين هي مساهمة صناديق التقاعد المختلفة في مشاريع كهذه؟! ولماذا لا تقوم الحكومة بتخصيص أراضي متكاملة الخدمات إلى بعض هذه المؤسّسات المشابهة لدينا من أجل استثمارها سياحيّاً وبالتالي توفير بدائل سياحيّة مناسبة لمنتسبيها وغيرهم، بشرط ألّا يتم استثمار تلك الأراضي في إقامة مشاريع الخمسة نجوم التي تقتصر على فئات بعينها من السيّاح، وأفراد الطبقة المخملية! 

(7)

الاقتراح الذي طرحته 32789867 مرّة سابقاً، وسأعيد طرحه مرات أخرى قادمة هو : لماذا لا نجرّب أن نأخذ (الأشخرة) كنموذج سياحي من خلال ايجاد جهاز اداري مستقل ماليّاً وإداريّاً يتبع مجلس الوزراء مباشرة، وتخصّص له ميزانيّة سنويّة تغطّي مشاريع البنية التحتيّة المطلوبة، ويمكن إدخال المستثمر الداخلي أو الخارجي كشريك في عمليّة التنمية من خلال تخصيص أراضي للاستثمار وفق شروط معيّنة، ويمكن بعد ذلك تقييم التجربة، ودراسة مدى امكانيّة تطبيقها في أماكن أخرى بشرط توافر كافّة الظروف المناسبة لنجاح التجربة!!

لماذا لا نجرّب؟!

(8)

باختصار.. يمكن لنا أن نجعل من بلدنا بلداً سياحيّاً جاذباً من الدرجة الأولى، فكثير من المقوّمات الطبيعيّة والبيئيّة والتاريخيّة متوافرة، والعنصر البشري العماني أثبت كفاءته منذ الأزل، والدول التي تقدّمت في هذا المجال قد لا تكون جميعها أفضل منّا من حيث الإمكانات أو الكفاءات، فقط الأمر بحاجة إلى رؤية حقيقيّة واضحة، وتشريعات مناسبة، وتكامل في أداء الأدوار بحيث تكون لدينا صناعة حقيقيّة للسياحة لا تقتصر على (الكامباوندات) الخاصّة بالنخب، ولا الفنادق المخصّصة لطبقات بعينها، ولا في التركيز على مدن بعينها كالعاصمة مثلاً، ويمكن لأي مشروع سياحي حقيقي أن يسهم في تنمية المنطقة التي يقع فيها، وكل مشروع يجرّ الآخر، وبالتالي مزيد من الخدمات، ومزيد من فرص العمل، ومزيد من الرسوم والضرائب، ومزيد من الدخل

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2015

في بلاد الأتراك (2)

كان ميدان (تقسيم) أو تكسيم هو بداية انطلاقتي رحلة الأسبوع التي سأقضيها في تركيا، وكان الحمام هو أول مستقبليّ في هذا الميدان، وكانت الصورة التي التقطتها لسرب حمام يلتقط بعض الحبوب بالقرب من محلات بيع الورود الطبيعيّة هي أوّل صورة ألتقطها في هذا البلد. ما أجمل أن يتعانق رمزيّ السلام والحبّ في لوحة واحدة، فكم يحتاج العالم إلى الاثنين معاً!!

كان الميدان الذي يعدّ بمثابة القلب بالنسبة للجانب الأوروبّي للمدينة، وغالباً ما يبدأ السائح رحلته من هناك، والذي كان في يوم ما نقطة تجمّع خطوط المياه الرئيسية وتفرعها إلى بقيّة أحياء اسطنبول زمن العثمانيين، والذي يعتبر المكان المفضّل للأتراك لإقامة مناسباتهم العامّة كالمسيرات، والمظاهرات، والاحتفالات المختلفة، خالياً على غير العادة سوى من بعض المارّة المتّجهين إلى محطّة المترو أو الشوارع المتفرّعة من الميدان، أو بعض السيّاح الذين كانوا يلتقطون صوراً تذكاريّة بالقرب من النصب التذكاريّ الذي يتوسّط المكان، والذي قام الفنان الايطالي (بيترو) بنحته عام 1928 لتخليد ذكرى أتاتورك والانتصار في حرب الاستقلال، ويحتوي على العديد من الشخصيات البارزة زمن أتاتورك، ولا غرابة في ذلك فقد كنّا في حوالي الخامسة صباحاً، وهو وقت مبكّر لمدينة تسهر حتّى الرّمق الأخير من الليل! 

ومن منطلق "ربّ ضارّة نافعة" فقد ساعدني عدم وصول حقيبتي على أخذ جولة استكشافيّة في المكان أتعرّف فيها على ملامحه، وأقارن بين الفنادق المختلفة خاصّة وأنّني لم أقم بحجز مكان الإقامة مسبقاً كما أفعل في رحلاتي العائليّة، بل تركت كلّ شيء للظروف لأنّي أردتها رحلة استثنائيّة أعيش فيها متعة المغامرة في كلّ لحظاتها، وكان محلّ حلويّات (حافظ مصطفى) هو أوّل من يستقبلني في الاتّجاه الذي ذهبت إليه، وهو محلّ حلويّات شهير تأسّس عام 1864، ويعدّ من معالم المدينة المعروفة لجودة حلويّاته وشهرتها، وقد حفظت اسمه مسبقاً لكثرة ما كان يردّده عنه بعض الأصدقاء. يا الله! ما كلّ هذا الهناء! حمام، وورود، وحلويات! يا لهذا الاستقبال الجميل.

من الناصية القريبة من حلواني حافظ مصطفى أدخل شارعاً فرعيّاً يحتوي على العديد من الفنادق ذات التصنيفات المختلفة، ومن خلال اللوحات التي تزيّن مداخل تلك الفنادق اكتشفت أنّني أكاد أعرف أسماء كثير من تلك الفنادق مسبقاً من خلال (مذاكرتي) الدقيقة لمواقع حجوزات الفنادق على شبكة المعلومات العالميّة والتي تعرّفت من خلالها على عدد من فنادق اسطنبول، ومواقعها، وأهم مرافقها، ومدى جودة خدماتها من خلال آراء المقيمين بها، وكنت قد اتّخذت قراراً بعدم القيام بالحجز المسبق لعدّة أسباب من بينها: وفرة أماكن الإقامة من فنادق وشقق وبنسيونات وبيوت شباب، وبالتالي فهناك مجال للمفاضلة والاختيار خاصّة أن المعروض كثير، ونحن لسنا في الصّيف، كما أنّني لست ملتزماً بمجموعة أو بأسرة قد يعيقا حركة تنقّلاتي، أمّا السبب الآخر فيعود إلى درس تعلّمته من خلال تجاربي السّابقة في السفر وهي عدم الحكم على أماكن الإقامة من خلال الصور المعروضة لها في مواقع الإنترنت، ذلك أن كثير منها لا يحاكي الواقع، ولا يعبّر عنه بشكل حقيقيّ، وقد يندم البعض على قيامه بحجز عدّة ليالي في فندق معيّن ثمّ يكتشف أنّه دون المستوى، لذا فقد حمدت الله أنّني لم أقم بالحجز المسبق حيث كانت مرافق بعض تلك الفنادق تختلف عمّا هو موجود في مواقع حجزها الالكترونيّة، ولا تتناسب مع أسعارها. وبعد وصولي إلى نهاية الشارع عدت راجعاً إلى الميدان كي أبدأ جولة أخرى جديدة.

من الميدان دخلت شارعاً أكثر اتّساعاً وتنظيماً، وتتوزّع المحلات، والمقاهي، والمطاعم على جنباته، ومن الوهلة الأولى خمّنت أنّه شارع (الاستقلال) ذلك أنّ الترام الأحمر الشهير الذي يميّز الشارع كان يمرّ في اللحظة التي دخلته فيها، ومنذ لحظة دخولي للشارع تأكّدت أنّ قضيّة اختيار مكان السّكن قد حسم لصالحه، ذلك أنّني كشخص يزور اسطنبول لأوّل مرّة كنت محتاراً بين ثلاثة أماكن توقّعت مسبقاً من خلال اطّلاعي وسؤالي أنّها الأنسب للسكن لتوافر الخدمات، وقربها من وسائل التنقّل، ولاحتوائها على المعالم السياحيّة المتنوّعة، وهي مناطق تقسيم، وشارع الاستقلال، والسّلطان أحمد، ففي شارع الاستقلال وبينما أنا أقطع الشارع الذي يبلغ طوله حوالي ثلاثة كيلومترات والذي كان يسمى (بالشارع الكبير) زمن العثمانيين وكان مكان تجمّع المثقّفين، وغيّر اسمه عند اعلان الجمهورية عام 1923 إحياءً لذكرى حرب الاستقلال التركيّة، ساعدني على ذلك روعة الجوّ الخريفيّ، وهدوء الشارع النسبي في هذا الوقت من الصّباح، يمكن أن يجد السّائح كلّ ما يبحث عنه خلال أيّام إقامته، فكافّة الخدمات من مطاعم، ومقاهي، ومصارف، ومسارح، ودور سينما، ومكتبات، ومجمّعات تجاريّة متوافرة، وكثير منها يقع في بنايات أثريّة ذات نمط معماريّ أنيق يضيف الكثير من الأناقة والجمال للشارع، كما أنّه مخصّص للمشاة فقط عدا سيّارات الشرطة أو البلديّة، وبالتالي لا إزعاج، ولا أبواق، ولا حذر في المشي كما في شوارع كثير من الدّول الأخرى، ولست أدري لماذا تقفز مصر عند كلّ عمليّة مقارنة أقوم بها، ربما يكون ذلك بسبب التشابه الكبير بين العديد من الأنماط المعماريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بين البلدين، إذ بينما وأنا أتجوّل في الشارع منبهراً بما أرى إذ قفزت صورة شارع طلعت حرب في وسط القاهرة أمام عينيّ، وعلي الرّغم من أنّ "طلعت حرب" يعدّ من أجمل شوارع القاهرة هندسة وتنظيماً، وعلى الرغم كذلك من تشابه نمطه المعماريّ مع شارع الاستقلال إلا أنّه تبقى فروقات كثيرة فيما يتعلّق بالنّظافة، وتنظيم الحركة، وتعامل البشر!

وبينما أتجوّل مبهوراً استوقفتني العديد من المعالم الجميلة التي تميّز هذا الشارع والتي سأتعامل معها خلال الأيّام القادمة حتّى حين مغادرتي المدينة، فأوّل ما صادفني كانت محلات (الشّاورما) التركيّة الشّهيرة التي تتصدّر مدخل الشارع مستقبلة الميدان، وبرغم أن السّاعة لم تتعدّ السّادسة صباحاً إلا أنّ تلك المحلات كانت مفتوحة، ومن أحدها استفتحت المطبخ التركيّ المشهور بوجباته اللّذيذة بشطيرة من شاورما الدّجاج لا يتجاوز سعرها الخمس ليرات أو حوالي 700 بيسة، وهي شطيرة تكفي لسدّ جوعك لساعات طويلة قادمة، وشتّان بينها وبين مثيلاتها في المطاعم المسمّاة ظلماً معنا بالمطاعم التركيّة! 

عدا مطاعم الشاورما فهناك العديد من المعالم التي قد تستوقفك طوال رحلة تجوالك في الشّارع أذكر منها مطعم بركات للشاروما، ومحلّ (مادو) المشهور بالآيس كريم ، ومحلّ حلويّات (حجّي بكير) الذي ينافس حافظ مصطفى في شهرته، ومطعم) بيلفان) للمأكولات التركية، ومحلّ (سوتش) المتخصّص في الحلويّات والفطائر والكباب، بالإضافة إلى محلات بيع التحف والخرز ومنها العين الزرقاء الطاردة للحسد والتي يقبل عليها الأتراك بشكل كبير، وكثير من المحلات التي تعرض لماركات عالميّة شهيرة في مجال الملابس، والساعات، والمجوهرات، والأدوات الكهربائيّة، وفروع لكثير من البنوك، وشركات الصرافة، والاتصالات وغيرها، ولا يمكن أن أنسى عربة النظافة التي تجوب الشارع في مواعيد يوميّة محدّدة تقوم من خلالها بكنس الشارع وغسله! بالمناسبة فقد كانت شوارع القاهرة في الثلاثينات تغسل كل صباح بالماء والصابون، وتم اختيارها في إحدى تلك السنوات كأنظف مدينة عالميّة!

أمّا متى، وأين، وكيف سكنت؟! فهذا ما سأتناوله في المقال القادم وسرد آخر لرحلتي في بلاد الأتراك.

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2015

في بلاد الأتراك (1)


كانت زيارة تركيا بالنسبة لي مؤجّلة إلى أجل غير مسمّى، ففي كلّ مرّة أحزم حقائبي وأستعدّ لقطع التذكرة يحدث ما يجعلني أؤجّل سفري إلى موعد آخر بسبب انشغالات وهميّة يغلّفها الكسل والتردّد، وهكذا تمرّ الأيام والليالي ويبقى حلم زيارة هذا البلد الجميل عصيّاً على التحقيق إلى أن وقعت ذات ليلة مغشيّاً عليّ من الإرهاق، وبدأ جسدي وعقلي يعلنان تمرّدهما على المعاملة القاسية التي أعاملهما بها، فكيف لجسد مهما كانت قدرته أن يستحمل انهاكاً يبدأ منذ الصباح الباكر ولا ينتهي سوى عند الثامنة مساءً ، وكيف لعقل أن يتحمّل حراكاً فكريّاً دائباً يبدأ صباحاً مع مراجعة أخبار الصّحف، وعصف ذهنيّ حول أفكار إعلاميّة جديدة، مروراً بكتابة مقالات متعدّدة، وانتهاءً بتدريس جامعيّ ونقاش طلابيّ حول قضايا فكريّة مختلفة. لذا فقد قرّرت الاستجابة لضغطهما ومطاوعتهما فيما يرغبان بعد أن طال تمرّدهما لمدّة تزيد عن عشرة أيّام فقدت خلالها بضعة كيلو جرامات، وتكدّست من حولي أنواع من الأدوية المهدّئة والمسكّنة والمليّنة وغيرها، فكان القرار المفاجئ قبل ليلة السّفر بيوم، وكان الذّهاب إلى أقرب مكتب سفريّات أمراً حتميّاً لا يمكن الرّجوع عنه.

هكذا إذاً قرّرت السفر، وكانت اسطنبول وجهتي المختارة لأسباب عدّة لعلّ من بينها: رغبتي في زيارة أوروبّا بأسهل طريقة ممكنة دون تعقيدات الحصول على (الشنغن)، القيام بتجربة سفر جديدة لا تشمل الدول العربيّة أو الآسيويّة كوني قد زرت كثيراً منها، وتعرّفت على معالمها المختلفة، هاوي التاريخ الذي في داخلي والذي ما طفق يحلم بتتبّع ملامح إبهار الحضارات المتعاقبة على تركيا أو آسيا الصغرى، أو بلاد الأناضول منذ أن درسها لأول مرّة في سنته الجامعيّة الأولى وحتّى آخر حديث سمعه من صديق كان قد زارها قبل بضعة أسابيع، ملامح الطّبيعة البكر والمناظر الخلابة التي كانت تلاحقني في كلّ موقع أفتحه، أو كلّ منتدىً أزوره.

لهذه الأسباب وغيرها قرّرت زيارة تركيا مكتفياً بإسطنبول وما حولها نظراً لقصر مدّة الرحلة، وتخوّفاً من البرد المجهول الذي لا أعلم عنه شيئاً، فأنا قد جرّبت برد آسيا القريبة، وافريقيا العربيّة ولكنّي لم أجرّب بعد برد أوروبّا، كما قد قرّرت أن تكون رحلة استثنائيّة أكون فيها أقرب إلى (البوهيميّ) تاركاً كلّ شيء للظروف، فكم من مرّة قد حلمت أن أعيش تجربة سفر مختلفة أحمل فيها حقيبتي على كتفي، وأنزل في أقرب (بنسيون) يصادفني، وأمارس هواية التسكّع من شارع لآخر، ومن مقهى للثاني، وأن أستعيد هواية المشي لمسافات طويلة والتي تركتها منذ أن فارقت القاهرة، وأن أركب عبّارة بحريّة تحملني بين الجزر الخضراء بينما تتلاعب نسمات الهواء الباردة بما تبقّى لي من شعر، وأن أتناول إفطاراً صباحيّاً على تلّة خضراء تطلّ على قرية حالمة، حاملاً معي (نوتة) صغيرة أدوّن فيها ملاحظاتي حول الأماكن، والبشر، وملامح الحياة المختلفة.  

وكعادتي قبل كلّ رحلة سفر أقوم بها إلى دولة أزورها لأوّل مرّة فقد قضيت ساعات طوال وأنا أتنقّل من موقع إلكترونيّ لآخر، أتعرّف فيها على تاريخ المكان، وآثاره، وأماكن السّكن المتاحة، وأحاول استيعاب خريطة البلد، كما تبرّع العديد من الأصدقاء والمعارف بتقديم خبراتهم السابقة حول أماكن السكن المقترحة، وطبيعة تعامل الناس هناك، وأهم المحاذير التي ينبغي مراعاتها، وخرجت منهم باستنتاجات عامّة أهمّها أن البلد جميل ولكنّ الحياة غالية والأسعار مرتفعة، وشعبه متجهّم غير بشوش، مع بضعة محاذير أمنيّة أخرى، لذا كنت متخوّفاً من أن يحدث ما يعكّر صفو رحلتي، وحملت معي مبالغ كبيرة تحسّباً لأيّ طارئ، ووزّعت مبالغ أخرى على أكثر من حساب تخوّفاً من عطل قد يطرأ على إحدى البطاقات، وهي متلازمة تشمل تعطّل جهاز الصوت قبل بداية أيّ حفلة، وتعطّل الطّابعة عند الرغبة في طباعة أيّ شيء مهمّ وعاجل، وعدم العثور على مفتاح الغرفة سوى بعد استنفاذ استخدام بقيّة المفاتيح في السلسلة!

عند وصولي إلى مطار أتاتورك ووسط بحيرة من المخاوف المرتبطة بالمجهول كوني أزور بلداً لأول مرّة دون رفيق أو سابق تجربة فوجئت بأن استخراج فيزا الزيارة لم يستغرق أكثر من نصف دقيقة، ولم تتعدّ مدّة الإجراءات الأمنيّة أكثر من دقيقتين، بينما لم يطل انتظاري لحقيبتي أكثر من عشر دقائق حينما أتاني أحد رجال الأمن ليخبرني بأن مدّة الانتظار انتهت وأنّ حقيبتي ربّما لم تصل بعد، وأخذني إلى مكتب شركة الطيران القريب كي أحرّر شكوى حول أسباب تأخر الحقيبة الذي بدوره تواصل في اللحظة مع المكتب الرئيسي، وتم وعدي بأن تصل في الرحلة اللاحقة وسيتم ايصالها إليّ في عنوان اقامتي بإسطنبول.

كان ما حدث لي في المطار أمراً ايجابيّاً أشعرني بأنّ القادم أفضل، وبأنّ الدولة التي تحرص على أن لا يعاني زوّارها على ردهة بابها فهي دولة حريصة على أن يقضوا بقيّة أوقاتهم فيها بلا منغّصات قد تؤثّر على تجربة زيارتهم لها، كما أنّ كان تأخر الحقيبة كان عاملاً مساعداً بالنسبة لي فقد حرّرني من ثقل كان سيعرقل حركتي وانطلاقتي وأنا الذي أتيت كي أعيش تجربة مختلفة، لذا فقد قضيت وقتاً في استكشاف المطار ومرافقه المختلفة، ثمّ بدأت أبحث عن وسائل التنقّل المتاحة إلى المدينة في ظلّ ما سمعته عن ارتفاع أسعار التكاسي إلى أن لمحت لافتة تدلّ على مكان تواجد الحافلات التي تقلّ السيّاح إلى مركز المدينة، وأخرى تشير إلى مترو الأنفاق في الدور الأرضيّ من المطار، فقررت استخدام المترو كي أستكشف أكبر قدر من المدينة مع مطلع الفجر وحيث المدينة ما زالت غافية لم توقظها شمس الصباح بعد!

ولأنّني معتاد على ركوب المترو كونه كان وسيلة المواصلات الرئيسة بالنسبة لي طوال أربع سنوات من إقامتي في القاهرة فلم أواجه أيّة مشكلة في استخدامه، بل على العكس تماماً فقد كانت خرائط توزيع المحطّات التي يصل إليها موجودة في كلّ مكان، وعرفت من أوّل وهلة المسار الذي سأتبعه من المطار وحتى ميدان (تقسيم) الذي سيتوقّف عنده مساري كونه مركز المدينة، وكون أن الكثيرين قد نصحوني بأن أبدأ منه رحلتي، وأن أتّخذ من أحد الفنادق المتناثرة على شوارعه الجانبيّة مكاناً لإقامتي.

عن طريق مكينة صغيرة استخرجت تذكرة الركوب وكانت في حدود النصف ريال، وكلها ثوان ووصل القطار الذي سأستقلّه، وكان نظيفاً ولكل راكب مقعده دون أي تزاحم أو تدافع أو تلاصق، كما أنّ المذيع الداخلي كان ينادي على اسم المحطّة القادمة قبل الوصول إليها، إضافة إلى وجود لوحة الكترونيّة مضيئة تحوي أسماء المحطّات التي سيمرّ عليها القطار مما يجعل ركوب المترو أمراً يسيراً على من يستخدمه لأوّل مرة.

في محطّة (تقسيم) نزلت، وفي ميدانها الشهير وقفت أتأمّل نصبها التذكاريّ الشهير الذي لطالما لمحت صورته في بعض وسائل الإعلام، وأبهرني منظر حمامها المنتشر في أرجاء الميدان يلتقط في سكينة بعض الحبوب التي يلقيها إليها بعض المارّة ، وسرحت مع الشوارع الغافية التي تنتظر قدوم الصباح كي تعجّ بالحياة، وانتقلت إلى الشرق حيث الأزهر والحسين والغوريّة مع صدى أذان مساجدها، ورخامة نغمة صوت مؤذّنيها وكأنّني في قلب القاهرة الفاطميّة لا في وسط اسطنبول. ومن هنا ستبدأ أولى مغامراتي في شوارع اسطنبول، ولكن تلك حكاية أخرى.

الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

(نحو بناء اقتصاد مستدام)


قال لي: في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الحاليّة التي نمرّ بها، والحديث الكثير عن الحلول المطروحة لتجاوزها، أريد رأيك كمتابع لهذا الموضوع.

أجبته: لا أدّعي أنّني متخصّص في مجال الاقتصاد، ولكن دعني أطرح وجهة نظري كمواطن يهمّه الأمر كثيراً لأسباب كثيرة أقلها هو التفكير في مستقبل أبنائي في الفترة القادمة.

برأيي أنّ هناك عدّة إشكالات ترسم وضعنا الاقتصاديّ الحالي أولها هي عدم وجود موارد دخل مستدامة تضمن لك دخلاً يغطّي كافّة النّفقات المختلفة ويحقّق التوازن بين الدّخل والمصاريف، فنحن نعتمد في الغالب على مورد طبيعي واحد معرّض للنضوب أو انخفاض الأسعار، أو أيّة اشكالات قد تواجه تصديره أو تسويقه، أو دخول مصادر طاقة أخرى منافسة.

الإشكالية الثانية هي الاعتماد على الدولة في التوظيف وهذا يتعارض مع المفهوم الأول للإنفاق المستدام، فأعداد الباحثين عن العمل يتزايدون كل سنة، والوظائف الحكوميّة لا تحقّق الاستفادة القصوى من هذه القدرات البشريّة لأسباب كثيرة مختلفة، والقطاع الخاص في وضعه الحالي لا يشكّل عامل جذب قويّ لهؤلاء الشباب، إضافة إلى محدوديّة أنشطته وضعف امتيازاته في عمومه مقارنة بما تحقّقه الوظيفة الحكوميّة.

الإشكالية الثالثة هي في احتماليّة وجود خلل في ميزان المدفوعات؛ بمعنى أن البضائع والسلع الداخلة إلى البلد يتم شراؤها من الخارج بعملات أخرى غير الريال؛ وهذا يعني أهمية وجود عمليات تصدير توازي أو تزيد عن حجم الاستيراد؛ وإذا كان ميزان المدفوعات في الوقت الحالي إيجابي بسبب اعتمادنا على تصدير النفط فهذا يعني أنه في حالة انخفاض مستويات التصدير وعدم وجود بدائل أخرى فسيتعرض الميزان للخلل. لاحظ أنّ الاعتماد في كل النقاط السابقة هو على النفط فقط لتغطية العجز فيها.

قال لي: وماذا عن الحلول والاجراءات التي تطرح الحكومة بعضها وينادى بالبعض الآخر كلّ يوم من ايقاف التوظيف إلا للضرورة، وخفض الدّعم المقدّم لبعض القطاعات، ورفع نسبة الضرائب على الشركات العاملة،  وعرض بعض الأراضي للبيع في مزادات عامّة، وزيادة بعض الرّسوم، أو التقشّف في بعض البنود وغيرها من الاجراءات؟

أجبته: كلّ هذه الحلول قد تبقى حلول مؤقّتة وغير مستدامة، فالشركات قد توقف جزءاً من انتاجها في حالة فرض ضرائب مرتفعة، وقد تبحث بعض المشاريع الاستثماريّة عن وجهات أخرى مناسبة، والأراضي التي سيتم عرضها للبيع قد تنفد في يوم من الأيام، وقس على ذلك بقيّة الخطوات والاجراءات، كما أنّ تخفيض الدعم المقدّم للقطاعات المختلفة قد يخلق مشكلة أخطر، فإلى متى سنتوقف عن التوظيف؟ وكيف سندعم المشاريع المحلية.؟! كثيراً من الخطوات السابقة (لوحدها)غير عمليّة وقد تخلق موارد غير مستدامة تغطي لمدة محدودة ثم تنفد.

سألني: ربّما تشاركني الرأي في أنّ من أهم الحلول هو فتح باب مجال الاستثمار الخارجي خاصّة إذا ما علمنا المميزات التي تتمتّع بها السلطنة في هذا المجال من توافر بنى تحتيّة مناسبة، واستقرار سياسي، وغيره.

قلت له: مع أهميّة فتح باب مجال الاستثمار الخارجي وما سيحقّقه من منافع اقتصاديّة مختلفة إلا أنّ مشكلتنا ليست في الحاجة للاستثمارات الخارجي، بل على العكس فهناك أموال كثيرة في البلد وبحاجة إلى من يشغّلها ويستثمرها بشكل مناسب، ولديك على سبيل المثال السيولة الماليّة لدى بعض الأفراد العاديّين قبل التجار وأصحاب رؤوس الأموال، بالاضافة إلى صناديق التقاعد المختلفة، والتحدي الأهم هو تشغيل هذه الأموال في خلق شركات ومؤسسات قادرة على خلق اقتصاد حقيقي؛ ومعظم الصناديق الحالية غير مغامرة في مشاريع كبيرة، بل تكتفي بالاستثمار في مشاريع مضمونة لا تتطلّب تحدّياً كبيراً كشراء شركات ناجحة، أو الاستثمار في قطاعات بسيطة خاصة في مجال العقار أو مجالات تجارة التجزئة، وهي قطاعات لا تحقق فوائد ماليّة كبيرة أو فرص عمل متنوّعة.

قال: إذاً ما هو الحل من وجهة نظرك؟

قلت له: الحل الوحيد المستدام هو اعتماد الدخل على الضرائب بجميع أنواعها. أعرف أنّ حلاً كهذا قد لا تقتنع به، وقد لا يتقبّله الكثيرون ولكن دعني أوضّح لك ماذا أقصد بمسألة الضرائب: دعنا نتّفق أولاً على أنّ الهدف للنهوض بهذا المجال هو خلق بيئة اقتصاديّة قادرة على توفير وظائف تخلق الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي من خلال توفير مصادر دخل مستدامة، ولتحقيق ذلك يستدعي الأمر عدّة خطوات تشكّل جميعها حلقات متكاملة في سلسلة واحدة، ودعنا نبدأ بالتعليم، وهو لا يقتصر على التعليم المدرسي فقط بل يتجاوزه للتعليم الفنّي بأنواعه والعالي والتعليم على رأس العمل؛ والمؤهلات لا تقتصر على الوظائف العليا بل تتجاوزها للوظائف الحرفية؛ فهل نظام التعليم لدينا أخرج لدينا حرفيين مؤهّلين للعمل في القطاعات الحرفيّة المختلفة طوال الفترة الماضية؟! كم حلاقاً أو حدّاداً أو نجّاراً أو سمكريّاً أو ميكانيكيّاً محترفاً لديك من الشباب العماني؟! إنّني أعرف حلاقاً وافداً محترفاً أتعامل معه لا يقل دخله الأسبوعي عن 700 ريال، والحجز لديه بالمواعيد، لأنّه حرفيّ متخصّص، ومنظّم في عمله، دقيق في مواعيده. قس على ذلك الكثير من الحرفيّين الأخرين في مختلف المجالات. لاحظ أنّ الوظيفة أو الحرفة التي يغطيها الوافد نخسر من خلالها وظيفة للعماني؛ ومبلغ يحول للخارج !

نحتاج كذلك إلى الحدّ من الإجراءات البيروقراطية مثل إجراءات تأسيس الشركات ووجود بيئة قانونية ذكية ومبسطة تشجع على الاستثمار، فإذا كانت هناك شركات حكومية تعاني من البيروقراطية في تأسيسها على الرغم من صدور مراسيم وقرارات عليا خاصّة بانشائها فما بالك بالشركات الخارجية أو المستثمر المحلّي الصغير؟! فكل ما كانت التشريعات أقلّ عدداً، وأكثر مرونة وتوافقاً مع الظروف الحاليّة كل ما كانت دورة الاقتصاد أكثر جدوى وفائدة.

نحتاج أيضاً إلى استغلال قطاعات الزراعة والصيد في مشاريع أكثر جدوى وفائدة، فعلى سبيل المثال بدلاً من أساليب ووسائل الصيد التقليديّة الحاليّة، والمشاريع المحدودة فلماذا لا يكون لدينا أسطول لأعالي البحار كما هو الحال في دول أخرى ذات مناخ اقتصادي مشابه في هذا المجال؟ ولماذا لا نتوسّع في رقعة الأرض المزروعة، وكل هذا يأتي من خلال توفير بيئة عمل واستثمار مناسبة كاستغلال مخرجات الكلّيّات المتخصّصة، وتوجيه الدّعم بشكل مناسب، وتأسيس بيئة تأمينات اجتماعيّة تشجع العاملين في هذه المجالات على العمل بها دون الخوف من المستقبل، وتكوين جمعيّات عماليّة توفر الأمان الاجتماعي والقانوني لهذه الفئات.

نحتاج إلى استغلال موقعنا الجغرافيّ الوسيط على خارطة العالم كمنطقة دعم لوجستي، فلو فعّلنا الكيان الخاص بتجمّع الدول المطلّة على المحيط الهندي وحاولنا ايجاد شراكات مع دول متقدّمة في هذا الكيان كأن نمزج طاقة عمان من النفط أو الغاز مع أراضي الهند وعمّالها، وتكنولوجيا سنغافورة، وخبرات جنوب أفريقيا الصناعيّة مثلا لخرجنا بالعديد من المشروعات المستدامة، ولو استفدنا من اتفاقية (عشق أباد) القائمة على ربط مناطق الجمهوريات المستقلّة بالبحار الدافئة في الخليج من خلال نقل البضائع عبر ايران مستغلين علاقاتنا الجيّدة معها، أو تحويل السلطنة إلى مركز لتجميع اليوريا الاوزبكي وإعادة توزيعه فيما بعد لفتحنا آفاقاً اقتصاديّة أخرى، ناهيك عن موقعنا الذي يوفّر الوقت والتكلفة ورسوم التأمين الخاصّة بعبور مضيق هرمز.

وبالطبع نحتاج إلى الاستفادة من إرثنا الحضاري المتمثل في الشواهد الماديّة المختلفة، وبيئتنا المناخيّة المتنوّعة في تأسيس أنشطة اقتصاديّة وسياحيّة قائمة على استثمار كل هذه الامكانات.

قال لي: ماذا تريد أن تقول بالضبط؟

الخلاصة يا صديقي هي أنّه إذا نجحنا في تكوين اقتصاد من مؤسّسات خاصّة متنوّعة من خلال رؤية واضحة، وتشريعات مرنة، وتعليم قائم على خلق جيل قادر على دخول سوق العمل فإنّ هذه الكيانات قادرة على دفع ضرائب تسهم في وجود دخل حكومي مستدام؛ وتوفير وظائف مناسبة؛ وسيتم توجيه جزء كبير من نتاج هذه المؤسّسات والكيانات إلى نشاطات تصديرية تسهم في ميزان مدفوعات متوازن أو ايجابي لصالح الصادرات على عكس الواردات.
 

قراءة في واقع انتخابات مجلس الشورى

 كفاني الدكتور سيف المعمري في مقاله الأخير بعنوان "قراءة استباقية في نتائج انتخابات الشورى"، والمنشور بتاريخ 25 أكتوبر 2015، أي في اليوم التي أجريت فيه انتخابات مجلس الشورى في دورته الثامنة، كثيراً من النقاط التي يمكن الإشارة إليها، ذلك أنّه قد أشار إلى توقّعات مهمّة تحقق كثير منها لعل من بينها: تمكّن مجموعة من الأعضاء السابقين من الوصول إلى المجلس مرة أخرى، نتيجة لفاعليتها خلال الدورة الماضية، تمكن ممثلو ما يسمى بـ"التكتلات الانتخابية"، أو مرشحو "التوافق" من الوصول إلى المجلس؛ تمكّن بعض مرشحي المجموعات التجارية من الوصول إلى المجلس، عدم تمكّن المرشحات النساء من الوصول إلى المجلس إلا إذا حدثت مفاجآت على نطاق ضيق، محدوديّة فرص المرشحين من ذوي المؤهلات العلمية العليا (حملة الدكتوراه والماجستير) في الحصول على عدد كبير من المقاعد.

وبرأيي أن توقّعات الدكتور سيف وهو باحث متخصص ومشتغل على قضايا المواطنة وما يتعلّق بها من عناوين فرعيّة كانت توقّعات صائبة إلى حدّ كبير، واستندت إلى معطيات مهمّة تناولها الباحث في مقالات ونشرات سابقة للانتخابات لعل من أبرزها مجلة الشورى التي تزامن صدورها مع الفترة التي سبقت إجراء الانتخابات، وأراني أتّفق كثيراً مع تلك التوقّعات، ولهذا ( ولظروف المساحة المتاحة) فلن أركّز على بعضها كثيراً ، وسأحاول تجاوزها إلى ملاحظات وقراءات أخرى لعل من بينها:

-       أشارت الإحصائيات إلى أن نسبة المشاركة في انتخابات هذه الدورة وصلت إلى 56.66%، وبرأيي أنّ هذه نسبه قد تعدّ مرتفعة قياساً على نسب المشاركة في بعض الدول العربيّة التي سبقتنا في هذا المجال، ولكن من الصعوبة أن نعزيها إلى زيادة الوعي الانتخابي في ظلّ عدم وجود بيانات تفصيليّة عن الفئات العمريّة للمشاركين، وفي ظلّ ما رأيناه أو سمعنا عنه من (حشد) كبير للناخبين مارسه بعض المرشحين وطال كبار السّن بالأخص.

-       ملاحظة أخرى كذلك تمثّلت في عدم توازي الكتل الانتخابيّة ونسب المصوّتين في بعض المحافظات مع عدد سكّان تلك المحافظات، فمحافظة مثل مسقط التي يبلغ عدد سكّانها العمانيّين (483.649) بلغت الكتلة الانتخابية فيها (87183)، صوّت منهم (29632) فقط، بل إن ولاية كالسّيب تجاوز عدد سكّانها العمانيّون (213) ألف نسمة لم يذهب للتصويت فيها سوى (5777) من جملة (23588) يشكّلون الكتلة الانتخابيّة بها، بينما بلغ عدد المصوّتين بالعامرات التي تجاوز عدد سكانها العمانيّون (53) ألف، وكتلتها الانتخابية(9176) حوالي (3268) ناخب فقط، بينما كان العدد في بوشر التي تجاوز عدد سكّانها العمانيّين 85 ألف نسمة، (3755) ناخب فقط من جملة (11248) يحق لهم الانتخاب.

وبرأيي أنّ السبب في هذا التباين الكبير بين أعداد السّكان في ولايات مسقط، والكتل الانتخابيّة قد يعود إلى أنّ جزءاً لابأس به من سكّان هذه الولايات هم بالأصل ينحدرون من ولايات أخرى في محافظات السلطنة المختلفة، وهذا يطرح تساؤلات مهمّة حول الهجرة الداخليّة المتنامية إلى مسقط، ومدى توزيع الخدمات على المحافظات، ومدى تأثير عدم قيام هؤلاء بممارسة الحق الانتخابي في الاستحقاقات المختلفة بهذه الولايات بدلاً من ولاياتهم الأصليّة على حقوقهم ومطالباتهم المختلفة في الولايات التي يقطنونها في الوقت الحالي، فكيف لمواطن مستقرّ مثلاً في العامرات أو مطرح أو بوشر أن ينتخب أعضاء المجالس البلديّة في ولايته الأصليّة التي قد لا يذهب إليها إلا في المناسبات، بينما لا يقوم بذلك في الولاية التي استقرّ بها منذ سنوات مع أن الأمر يتعلّق بخدمات ينشدها ويبحث عنها ويطالب بها!!

كما أنّ قيام حوالي 31% فقط بالتصويت في ولايات محافظة مسقط من جملة الكتلة الانتخابيّة بالمحافظة أمر يطرح تساؤلات مختلفة حول أسباب انخفاض هذه النسبة في محافظة تعدّ عاصمة البلاد، وتتمتّع بتوافر وسائل التوعية المختلفة، وبتواجد معظم المؤسسات التعليميّة العليا، ووسائل الإعلام، ومؤسّسات المجتمع المدني، وبارتفاع مستويات المعيشة والتعليم مقارنة بالمحافظات الأخرى!

ولو ذهبنا لمحافظات أخرى لوجدنا الأمر يختلف تماماً، ففي محافظة ظفار نجد أن عدد الذين قاموا بالتصويت (46459) من جملة (67512) وهي نسبة مرتفعة تصل لحوالي 69%، بينما سجّلت محافظة الوسطى نسبة مشاركة بلغت حوالي 80% حيث شارك في التصويت        7871 ناخباً من جملة 9855، واذا ما سلمنا بوجود وعي انتخابي جيّد في محافظة ظفار تمثّل في اختيار أعضاء يمثّلون كتلاً انتخابيّة معيّنة بناء على معايير وضعت سلفاً، فإنّ هناك عوامل أخرى قد دفعت إلى ارتفاع هذه النسبة لعل من بينها الحشد القائم على القبليّة وبالأخص في الوسطى، والأمر ذاته في جنوب الشرقيّة التي بلغت نسبة المشاركة بها حوالي 58%.

-       أثبتت نتائج الانتخابات أنّ القبليّة والمال السياسي ما زال يؤثّر بشكل كبير على نتائج الانتخابات، والدّليل هو إعادة انتخاب أعضاء لم يقدّموا الكثير خلال الفترة السابقة، ولم يكونوا عند مستوى الطّموح، ولكنّهم احتفظوا بمقاعدهم في هذه الدّورة مستغلّين إمكاناتهم المادّيّة التي سمحت لهم بالحصول على أصوات من هنا وهناك، وكذلك القاعدة القبليّة التي ينتمون إليها.

-       أثبتت النتائج كذلك أن المجتمع ما زال يبحث عن عضو الخدمات، وأنّ الرقابة والتشريع هي مفاهيم لا أهمية قصوى لها لدى شريحة كبيرة من الناخبين، والدّليل على ذلك انتخاب بعض الأعضاء بسبب قيامهم ببعض الخدمات البلديّة كبناء المساجد أو المجالس العامّة أو دعم بعض المشروعات المجتمعيّة، كذلك فإن البعض من المرشّحين تأثر سلباً بهذا الأمر من حيث استياء جزء من الكتلة الانتخابية في ولايته من جرّاء عدم مساهمته المجتمعيّة بشكل واضح.

-       أثبتت النتائج كذلك أن الشهادات العليا والمستوى الثقافي للمترشّح لا أهمّيّة كبرى له في بعض المحافظات والولايات ما لم يكن لديه امكانات مادّيّة، أو كتلة قبليّة أو شبابيّة تسانده وتروّج له، والدليل أنّ بعض المترشحين في بعض الولايات حصدوا أصوات تقل عن 10% من أصوات أعضاء آخرين برغم الفرق الشاسع في المستويات الفكريّة والمعرفيّة بينهما!!

-       وجود تكتّلات شبابيّة داعمة لفكرة التغيير أو الدّفع بالمرشّح صاحب الإمكانات الفكريّة العالية أثبتت نجاحها في عدد من الولايات كبديّة، والرستاق، وازكي، بعكس ولايات أخرى لم يحصد فيها مرشحين محسوبين على هذه الفئة على الأصوات الكافية بسبب عدم وجود الكتلة الداعمة والمؤثّرة.

-       وإذا ما أتينا إلى مشاركة المرأة العمانية كمرشّحة في هذه الانتخابات فقد كانت النتائج مخيّبة للآمال كما في الدّورة السّابقة، ولم تحصد المرأة سوى مقعد واحد فقط ذهب لنفس العضوة السابقة، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى عدّة عوامل متشابكة لعلّ من بينها نظرة قطاع من المجتمع تجاه دور المرأة وترشّحها، وعدم ترشّح نساء لهنّ دور قيادي ومجتمعي مؤثر في مقابل أن عدد من المترشّحات الحاليّات لسن بذلك التأثير المجتمعيّ المهم، كما أنّ بعضهنّ ترشّحن في ولايات بعينها كالسيب وبوشر اللتان ترشّح في كلّ منهما ثلاثة نساء ممّا قلّل من فرص وصول بعضهنّ، إضافة إلى ضعف توافر وسائل التأثير والدّعاية والامكانات كتلك التي يمتلكها الرجل.

برأيي أن الطريق نحو عمليّة انتخابيّة ما زال طويلاً، وأنّ المشاركة الايجابية ترتبط بمدى فهم واقتناع شريحة عريضة من المجتمع بأهمّيّة الدور الذي يمارسه المجلس، وهو أمر يحتاج الوصول إليه خطوات مهمّة لعل من بينها تخلّص المواطن من ثقافة الدولة الرعوية التي توفر له كافة الخدمات دون الشعور الحقيقي باللجوء لدور مؤسسات أخرى، وتفعيل المجالس الطلابية؛ والبلدية بحيث تتعدى الأدوار الاستشارية، فأول درجة في سلم العملية الانتخابية تأتي من خلال المجالس الطلابية التي تتيح للطالب المشاركة في وضع بعض السياسات الخاصة بالعملية التعليمية، كذلك فإنّه متى ما اقتنع المواطن بوجود تغيير إيجابي في حياته من خلال دور المجالس البلدية؛ فسيقبل حتماً على الخطوة الانتخابية التي تليها والمتمثّلة في مجلس الشورى، وهذا يعني أنّه من المهم في المرحلة القادمة أن تتنازل الحكومة عن بعض صلاحياتها البلدية لصالح المجالس البلدية كخطوة أولى ومهمة نحو ثقافة انتخاب مستقبلية ناجحة، بحيث يشعر المواطن بأنّ صوته قد يحدث التغيير، وبالتالي لا يتعامل مع انتخابات الشوى على أنّها غير مؤثّرة فيقاطع، أو أنّها مجرّد (فزعة) قبليّة، أو فرصة لكسب بعض المبالغ.

 

الأربعاء، 7 أكتوبر 2015

(لا.. هو ليس الأفضل)

اعتدت من فترة لأخرى أن أتأمّل في الاحصائيّات التي تقدّمها عدد من الجهات الحكوميّة والخاصّة بقضايا مجتمعيّة عدّة كحوادث المرور، والبطالة، ونسب الطّلاق، وتوزيع السّكان ونسبهم، وغيرها من القضايا المجتمعيّة التي أعتقد أحياناً أنّه من المهم الاطّلاع على ما يتعلّق بها من نسب واحصائيّات متجدّدة والكتابة عنها بهدف تقديم رؤى ومقترحات يمكن أن تسهم في المزيد من الحلول للقضايا المتعلقة بها.

وهذه المرّة وجدت نفسي مدفوعاً للبحث في موضوع التّبغ المدخّن، ربّما بسبب الضبطيّات التي يتوالى نشرها في وسائل إعلامنا المختلفة بشكل يكاد يكون يوميّاً، وربّما بسبب الكاريكاتير المنشور على موقع سرطة عمان السلطانيّة والذي شدّ انتباهي لخطورة الموضوع الذي يتناوله، وربّما كذلك بسبب ما يدور حاليّاً من تصريحات وبيانات صحفيّة حول الضبطيّة الأخيرة التي تمّت في شمال الباطنة من ضبط عمالة وافدة تقوم ببيع وتداول التبغ الممضوغ غير المدخّن على هيئة ساندوتشات يتم بيعها للمستهلكين عبر أحد المقاهي!

كل هذه الأمور جعلتني أبحث في العم جوجل، وفي مواقع المؤسسات ذات العلاقة حول ما يتعلّق بطاهرة التبغ المدخّن فوجدت أن الأمر يستحق الكثير من الوقوف والاهتمام، فبحسب احصائيات الهيئة العامة لحماية المستهلك الخاصّة بالمخالفات المتعلّقة بالتبغ الممضوغ وغير المدخن لعام 2014 بلغت 185مخالفة بعدد 492510 سلعة تأتي في المرتبة الثانية لعدد السلع المضبوطة لذلك العام، أمّا في النصف الأول من عام 2015 فقد بلغت 140 مخالفة بعدد60829 سلعة، وهي أعداد كبيرة تنمّ عن مدى خطورة الأمر !!

كما أنّه ومن خلال بحثي في محرّك بوّابة الهيئة العامّة لحماية المستهلك خلال الأشهر القليلة الأخيرة فقد وجدت عدداً كبيراً من الأخبار المتعلّقة بضبطيّات في هذا المجال بحيث لا يكاد يمرّ يوم دون القيام بضبطيّة مشابهة، وهالني ما قرأته بين ثنايا هذه الضبطيّات التي سأنقل لكم بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر، وستلاحظون أنها لا تقتصر على مجرّد أخبار عن موزّعين يقومون بتوزيع بعض التّبغ في الخفاء على زبائن بعينهم، بل إنّ الأمر أخطر من ذلك، وأنّ المستهدفين هم فلذة الأكباد وعماد المستقبل وصنّاع الغد، لدرجة أنّني بدأت أشعر بالخوف والهلع من امكانيّة تأثّر أبنائي بهذا الأمر، وهو أمر سيجعلني أراجع الخطوات المتعلّقة بمتابعتهم وسؤالهم عن الأحداث اليوميّة التي يمرّون بها كي أضمن عدم تعرّضهم لمواقف مشابهة في ظلّ  تشابك تفاصيل الحياة اليوميّة وتعقّدها، ومن بين هذه الأخبار: "قامت الهيئة العامة لحماية المستهلك بضبط كميات كبيرة من التبغ الممضوغ في حملات مداهمة لأوكار بيع هذه المنتجات المحظور بيعها حيث تلقت مؤخرا بلاغاً من احد المتصلين بوجود بائع متجول ينتمي إلى جنسيّة آسيويّة في ولاية السيب ( الشرادي ) يقوم ببيع التبغ غير المدخن للأطفال والمراهقين"، "قامت الهيئة العامّة لحماية المستهلك بضبط كمية كبيرة من التبغ غير المدخن بلغت 14413 عبوة "، "تمكنت إدارة حماية المستهلك بمحافظة جنوب الشرقية بالتعاون مع إدارة التحريات بشرطة عمان السلطانية بولاية صور من ضبط كميات من التبغ الممضوغ غير المدخن تجاوز عددها 500 عبوة يقوم ببيعها أيدي عاملة وافدة في أحد مصانع الطابوق بالولاية، واتضح أن أغلب زبائنهم هم من الأطفال القصّر غير المبالين بمدى خطورة هذه السلعة على صحتهم"، "ضبطت إدارة حماية المستهلك بمحافظة ظفار محلاً تجاريًا يروّج ويبيع التبغ الممضوغ غير المدخن بطريقة غريبة مستغلا عودة الطلبة إلى المدارس، حيث يقوم العامل الوافد بالمحل بإحداث تجاويف داخل الدفاتر ومن ثم يخبئ بداخلها لفائف التبغ ويقوم ببيعها بعد ذلك للمستهلكين والطلاب"، "أصدرت محكمة صحم الابتدائية حكماً يقضي بإدانة بائع متجول يتاجر في التبغ الممضوغ غير المدخن، حيث تلاحظ لدى مفتشي حماية المستهلك وجود بائع متجول يبيع بعض المنتجات على ناصية الطريق ويتردّد بعض الاطفال عليه الأمر الذي استدعى مراقبته عن بعد للتيقن من نوعية ما يتاجر به من سلع ومنتجات، حيث تلاحظ وجود التبغ الممضوغ غير المدخن لديه والذي جمعه لغرض البيع والمتاجرة وفق اعترافه في محاضر الضبط فيما بعد" .

هذه عيّنة بسيطة لعشرات الأخبار المشابهة عن ضبطيّات تتعلّق بتوزيع السموم والترويج لها بحيث قد تكون كفيلة مع تحدّيات فكريّة وتكنولوجيّة وصحيّة أخرى بالتأثير على مدى قدرة الجيل القادم على العطاء والمساهمة في استمرار مسيرة العمل والبناء والعطاء في هذا الوطن، وقد يتحوّل بعضهم إلى عالة وعبئ على المجتمع لا إضافة حقيقيّة قويّة له.

أمّا عن الحلول فهي كثيرة ولكنّها بحاجة إلى تكامل في الأدوار لا أن نقصره على مؤسّسة أو اثنتين، وهي تبدأ من الأسرة التي يبدأ عندها صناعة الجيل وتهيئته ووضع أساسه، فالمدرسة، والمسجد، والنادي، ووسائل الإعلام، ومؤسّسات المجتمع المدني،  والمؤسّسات المعنيّة بدراسة مثل هذه الظواهر كوزارة التنمية الاجتماعيّة والمركز الوطني للإحصاء، ثم دور جهات الضّبط والمراقبة كشرطة عمان السلطانيّة وهيئة حماية المستهلك.

لا نريد للأمر أن يتوقف مع تحقيقات صحفية هزيلة هنا وهناك، أو فقرات إعلامية يتيمة تقدم حين غفلة، أو محاضرات صحّيّة حفظناها عن ظهر قلب وكان لابد لها أن تقدّم استكمالاً لجدول أعدّ سلفاً يتناول كالعادة المتلازمة الثلاثية ( المخدرات والتدخين والايدز)، أو خطب جمعة حلّ الدور عليها فقيلت بلا روح عن (بضعة) شباب يتعاضون (المضغة) أو (الأفضل) أو غيرها من السموم التي جلبها لنا تجار (الشر) رغبة منهم في مكافأة وطن فتح لهم أبوابه بأريحية زائدة عن الحد فكان الجزاء هو الرغبة في تدمير جيل (يفترض) أن يأخذ على عاتقه مسئولية بناء الوطن والمحافظة على مكتسباته، بل لابد للأمر من وقفة جادّة وحازمة تنطلق من الإحصائيّات والنّسب والصور المتعلّقة بهذه الضبطيّات، ليعقبها عمل جادّ يبدأ بمراجعة التشريعات المتعلّقة بالعقوبات الخاصة بهذا الجرم، ووضع استراتيجيّة عمل قائمة على تكامليّة الأدوار تشمل التوعية والتشريع والرقابة معاً وينطلق عمل كل مؤسّسة من خلال نتائج المؤسّسة الأخرى في تناغم واضح وجميل يعكس مدى أهميّة الشراكة المجتمعيّة والمؤسّساتيّة.

علينا أن لا نقف مع النتيجة بل أن نبحث عن الأسباب، فقبل أن نقول مثلاً إنّ هذا المقطع أو تلك الصورة لم تؤخذ في هذا المكان أو ذاك، أو أنّ هذا الحيّ أو تلك المؤسّسة بعيدة عن تلك الضبطيّة، علينا أن ندرك أن هناك ضبطيّة تمّت، وأنّ هناك فعلاً مجرّماً قد حدث، وأـن الأمر يستدعي التنبّه له والأخذ بنتائجه، وإذا كان الخطر لم يصلني اليوم فقد يصل في الغد ما لم أنتبه إليه، وإذا كان لم يدخل بيتي بشكل مباشر فقد يدخله بشكل غير مباشر. علينا أن ندّخر جهودنا في معالجة الأسباب، فالنتيجة قد تتكرّر، ويبقى السّبب موجوداً ما لم نقم بالتعامل معه بشكل صحيح.

 

الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

"قل تعالوا إلى كلمة سواء"

"يحكي التّاريخ العماني أنّه في عام 275هـ قرّر القاضي موسى بن موسى أن الإمام الصلت بن مالك غير مؤهل ليستمر في منصبه لكهولته وشيخوخته فخرج إلى نزوى لعزله ومبايعة راشد بن النظر إماماً، الأمر الذي رفضه عدد من العلماء وأيّده آخرون ما لبثوا أن انقسموا إلى مدرستين فقهيتين، تلاه انقسام قبلي بين نزاريّة ويمنية، وكان من نتائج ذلك الانقسام تولي أئمّة ضعاف مقاليد الحكم، ثم غزو محمد بن نور لعمان تعصّباً لإحدى الفرقتين المنقسمتين، وإحداثه الفساد في البلاد، ثم تعرّضت عمان لغزوات عديدة من قبل القرامطة والعباسيون والبويهيون وبنو مكرم وغيرهم بسبب الانقسامات التي شرخت الصف العماني من جراء تداعيات عزل الامام الصلت وما تبعها من أحداث، وهو أمر تكرّر بعد ذلك في نهاية عهد دولة اليعاربة عندما انقسم العمانيّون على أساس قبليّ إلى هناويّة وغافريّة وما تلا ذلك من دخول الفرس عمان وسيطرتهم على عدد من المدن، وإحداثهم القتل والدّمار والخراب في أرجاء شتّى من الوطن العمانيّ ".

الأمر الذي دعاني إلى البدء بهذه المقدّمة واستحضار جانب من التّاريخ العماني هو حالة الإسهال التي انتابت مواقع التواصل الاجتماعيّ بمختلف أنواعها من واتساب وفيس بوك وتويتر وغيرها تجاه قضايا خارجيّة بعينها، بحيث انتهت كل الموضوعات والقضايا المجتمعيّة المهمّة ولم يعد لدينا من قضايا سوى مناقشة أمور خارجيّة عدّة ليس لنا في بعضها أيّ دور مباشر، أمّا الأخطر من هذا وذاك فهي حالة التخوين والاتهام بالميل للآخر والتي تحملها بعض هذه الرسائل والمنشورات بحيث أنّك اذا اختلفت معي في الطّرح فأنت بلا شك إمّا مذهبيّ، أو أنّك لا تحبّ بلدك، أو أنّ ولائك للآخر!! وهو أمر دخيل على مجتمع عرف بتسامحه وتماسكه وخلوّه على مدى سنوات طويلة جداً من أيّة نعرات دينيّة تكدّر صفوه وتهدّد تماسكه عدا الفتن القبليّة التي هدّدت هذا الاستقرار في بعض الفترات، والأسوأ من ذلك دخول أشخاص لا علاقة لهم البتّة بقضايا كهذه في المعمعة، بحيث أصبحوا في بؤرة دائرة الاستقطاب، وتبنّي بعض المثقّفين الذين يعوّل عليهم المساهمة في إصلاح المجتمع لبعض الآراء المنحازة سلفاً انطلاقاً من توجّهات فكريّة معيّنة متناسين أنّ دورهم هو محاولة الحدّ من ظواهر كهذه لا المساهمة فيها!!  

وللأسف فأمر كهذا يحزنني عندما أرى بعض أبناء بلدي يكيلون التهم لبعضهم البعض بعيداً عن أسلوب الحوار المشترك القائم على احترام كل طرف لآخر؛ وهذا الأمر لو تم التوسع فيه لربما يكون أول مسمار يهدّد وحدتنا وتكاتفنا ولحمتنا الوطنية؛ وهذا هو الدرس الذي فشلت فيه بعض الشعوب عندما وسّعوا نقاط اختلافهم على حساب مساحات اتّفاقهم؛ وجعلوا من أنفسهم فسطاطين تقوم غالبية أفكار نقاشهم على تحزّبات ضيّقة؛ ويستهلكون أوقاتهم في مناقشة قضايا قد لا تهم وطنهم كثيراً بل تقلّل من مساحة خدمته والارتقاء به.

أنا أرى وأعتقد جازماً أن الوطن مقدّم على كل شيء؛ فالدين لله والوطن للجميع؛ ويمكنني أن أمارس كافّة طقوسي في بيتي ومسجدي؛ ولكن عليّ أن أعي ان بني جلدتي من أبناء وطني هم الأقرب إليّ من أيّ طرف آخر؛ فأنا وهم تجمعنا هويّة مشتركة أساسها الوطن، والجغرافيا، والتاريخ المشترك، والموروث الثّقافي، والقيادة السياسيّة؛ وبدون تلاحمنا معاً فلن نرتقي بوطننا؛ وفي نفس الوقت لن يأتي الآخر الخارجي ليهيئ لنا وطناً بديلاً؛ فمصيري متعلق بوطني؛ وبأبنائه؛ ولا سبيل لنا إلا التعايش والوئام؛ والانطلاق من النقاط المشتركة التي تجمعنا كي نسهم في الحفاظ على مجتمعنا قويا متماسكا؛ ولنا في التاريخ والأحداث الجارية عبرة وعظة.

إنّني أرفض الطرفين: من يهاجم الآخرين لمجرد اختلاف فكريّ أو مذهبيّ وفي الوقت ذاته يصم مخالفينه في الرأي بالعمالة متناسياً أن الآخر قد ينطلق من نفس الفكر؛ وكذلك من يدافع عن سياسات دول أخرى لمجرد أنّه ينتمي لنفس مذهبها الفكري أو الديني، وكما أرفض من يؤيد هذه الدولة أو تلك في كل خطوة لمجرّد أنّها محسوبة على فكر معيّن، فأنا أرفض في الوقت ذاته من يهاجمها في كلّ ساعة لمجرد أنّها من فكر مختلف، فالاختلاف أو الاتفاق ينبغي أن يبنى على أسس علميّة بحتة لا علاقة لها بتاتاً بالاختلافات العرقية أو الطائفية أو المذهبيّة.

علينا التعامل مع القضايا المختلفة بشكل واقعي وعلميّ بعيداً عن عاطفتنا أو ميولنا الفكرية أو المذهبية، وعلينا أن نفرّق بين العمالة وضعف الوعي الفكري؛ فمواقع التواصل الاجتماعي ليست مقصورة على فئة فكرية بعينها؛ ويمكن أن تجد فيها الغثّ والسمين؛ كما أن هناك معرّفات وهميّة كثيرة خاصة تلك التي تنتحل أسماء شخصيات معروفة بهدف إحداث بلبلة مقصودة؛ فلا يفترض أن أعتقد أنّ من يحاورني هو بالضرورة على مستوى عال من الوعي والثقافة وتقبل الرأي والرأي الآخر.

كما أنّ بعض الردود قد ناتجة عن ضيق فكري معيّن؛ وقد يكون سببها تعصّب أو اعتقاد بأن الخطاب موجّه لهم خاصة لو كان يمس جوانب دينية معينة؛ وقد يكون سببه كذلك أن طارح الموضوع يتعمّد في منشوره أو تغريدته أو مقاله توجيه سهام نقده إلى طرف بعينه مما يوحي للطرف الآخر أن الهدف مما كتب هو النقد السلبي فقط.

اتهامات الخيانة أو العمالة هي اتهامات كبيرة واطلاقها لا يجب أن يأتي بهذه السهولة لمجرد أن ذلك الشخص له رأي مخالف، أو أنّه لا يتمتع باللياقة الفكرية العالية؛ أو لا يمتلك إمكانات النقاش؛ أو أن المنشور ذاته به استفزاز معين خاصة في ظلّ تعدّد المذاهب والأفكار السياسيّة وتعدد انتشارها.

إنّ وطننا بحاجة إلى كلّ ذرّة جهد، وكلّ طاقة لدينا. بحاجة إلى لحمتنا وتماسكنا. بحاجة إلى فكرنا ورؤيتنا كي نجعله في أفضل حال. فليس عيباً أن نختلف في تحليلنا ومقترحاتنا فيما يتعلّق بنظرتنا لسياساتنا الداخليّة في مختلف المجالات، وليس خطأ أن يأتي بعضنا بحلول ومقترحات قد تختلف مع الآخر، ولكن الخطأ كلّ الخطأ أن نشتّت جهودنا، ونفرّق قوانا وامكاناتنا في مناقشة قضايا قد تكون هامشيّة مقارنة بقضايانا المحلّيّة، فالوطن في أمسّ الحاجة إلينا اليوم أكثر من ذي قبل، والوطن هو الخطّ الأحمر بل هو الحزب والمذهب الوحيد الذي يستحقّ تعصّبنا أو دفاعنا من أجله، وهو الكيان الذي تذوب فيه جميع اختلافاتنا على شتّى أنواعها.

ما أأمله وأتمنّاه أن نهتم في منشوراتنا المختلفة بالتركيز على الجوانب التي تخدم مصالح مجتمعنا وتعزّز من وحدته؛ وترفع من شأنه، وتعالج قضاياه، وهناك كثير من القضايا المجتمعيّة التي تستحقّ وقتنا وفكرنا وإمكاناتنا، ولو اهتممنا بالشأن الخارجي أكثر من نظيره الداخلي فنحن نفتح على أنفسنا أبوابا عدة قد تدخلنا في متاهات يصعب الخروج منها، وما أأمله أكثر هو أن نعيد النظر في منظومتنا التعليميّة، وما تشكّله من مخرجات.

الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

أكل وخبز ..ومزاج


(1)

تخيّل عزيزي القارئ وأنت تجلس على ضفّة عين ماء تحيط بك المروج الخضراء وسط في جوّ خريفيّ غائم شبه ممطر، وقتها قد تفكّر في كوب شاي كي يجعل المزاج أكثر روقاناً وسلطنة، وحبّذا لو كان هذا الشاي من نوع (الكرك) الذي يفضّله كثير من الشّباب عن غيره.

إذاً ما بالك عزيزي القارئ لو كان هذا الشاي الكرك ممزوجاً بنوع معتبر من (التّمباك)، أو (الأفضل)، أو (البيرة)، أو كان الشّاي المستخدم معتّقاً منذ سنوات بعد أن انتهت فترة صلاحيّته، وما بالك إذاً لو أطلنا عمليّة التخيّل فنتوقّع أنّ الماء المستخدم في صنع هذا الشّاي هو ماء مجاري؟!!

تمباك وأفضل وبيرة وشاي فرط منتهي الصّلاحيّة ومياه مجاري لعمل كوب من الشّاي يعدّل مزاج سائح قطع مئات الكيلومترات، ودفع مئات أخرى من الريالات من أجل لحظة صفاء وسكون وسط طبيعة بكر لا تعرف سوى العطاء! أيّ خلطة سحريّة هذه، وأيّ عقل شيطانيّ هذا الذي توصّل إلى فكرة عجيبة كهذه؟!

ما ذكرته سابقاً ليس سيناريو لفيلم رديء، ولا قصّة ركيكة كتبها قاصّ مبتدئ، ولكنّها واقعة حقيقيّة حدثت في خريف هذا العام، والسّيناريو والإخراج وأدوار البطولة فيها كالعادة لمجموعة من العمالة الوافدة، ثم تأتي النّهاية على يد مفتّشي الهيئة العامّة لحماية المستهلك!

(2)

"وبسؤال العامل الوافد عن ظروف تصنيع الخبز أفاد بأنّه دخل السلطنة في وظيفة حلاق ولكنّه لم يمارس مهنة الحلاقة حيث عمل سابقاً في مهنة البناء ثم مارس مهنة صناعة الخبز بدون تصريح منذ ثمانية أشهر بالتعاون مع عمالة أخرى يتواجد بعضها خارج البلاد".

كان هذا جزءاً من خبر نشر قبل يومين يتحدّث عن ضبط حماية المستهلك لعمالة وافدة تصنع الخبز العماني في مكان غير مرخّص باستعمال أدوات قذرة ودون مراعاة اشتراطات الصحة والسلامة .

وتعود تفاصيل الواقعة إلى ورود معلومات عن قيام عمالة وافدة بتصنيع الخبز العماني في مزرعة نائية، وتمّ ضبط هذه العمالة وهي تقوم بعجن الطحين باستخدام أدوات قذرة وصواني صدئه مع تكاثر الحشرات والقوارض في مكان إعداد الخبز، إضافة إلى عدم وجود بيانات إيضاحية على الخبز الذي يتم إنتاجه، ومن ثمّ تسويقه على المستهلكين من خلال منافذ المزرعة.

لا أعلم إن كان هذا الحـــ... (عذراً، أقصد الخبّاز) قد استخدم الرغوة في عجن الدّقيق قبل خبزه، وهل ارتدى (المريلة) قبل قيامه بعمله، وهل عقّم الأدوات الصدئة أولاً قبل بدء العمل أم استخدم أخرى مكيّسة مجلوبة من الصين، وهل أسهمت خبرته كحلاق في تصنيع الخبز بأشكال و(قصّات) مختلفة لإغراء المشترين أم لا!!

(3)

"ضبطت إدارة حماية المستهلك بمحافظة ظفار محلاً تجاريًا يروّج ويبيع التبغ الممضوغ غير المدخن بطريقة غريبة مستغلاً عودة الطلبة إلى المدارس، حيث يقوم العامل الوافد بالمحل بإحداث تجاويف داخل الدفاتر ومن ثم يخبئ بداخلها لفائف التبغ ويقوم ببيعها بعد ذلك حيث تم ضبط أكثر من ٦٠٠ لفافة تبغ ممضوغ كانت في طريقها للتسويق للطلاب والمستهلكين".

أبنائنا الطلاب، فلذة أكبادنا، عماد مستقبلنا، بدلاً من أن يفتحوا دفاترهم كي يكتبوا عليها آمالهم وأحلامهم وتطلّعاتهم نحو مستقبل مشرق، فإنّهم قد يكتبون عليها حروفاً بطعم التّبغ، ويسطّرون رسومات بلون المضغة، ويحلّون معادلات بنكهة التمباك!!

للعلم، فقد سبق لحماية المستهلك أن ضبطت لفائف تبغ ممضوغ يتم تسويقها على شكل شطائر عبر إحلالها بدلا من مكونات الشّطيرة في الخبز وبيعها على تلك الهيئة تجنباً للمسائلة القانونية!!

(4)

" حماية المستهلك تضبط عامل وافد في أحد المراكز التجارية وهو يقوم ببيع وعرض أدوات تنظيف لدورات المياه موضح بملصقها الخارجي على أنها منظف أسنان مضاد للجراثيم".

ترى هل اعتقد مثل هذا العامل وغيره من بني جلدته أنّنا بأفكارنا وألسنتنا أصبحنا سيئين لدرجة أنّه لم تعد تنفع معنا المنظّفات الاعتياديّة؟! أم أنّ الأمر اختلط عليه فاعتقد أنّ أسناننا هي نوع من السّيراميك أو البورسلين مثلا!

(5)

"تمكنت حماية المستهلك من مداهمة محلّ تجاريّ يبيع سلع محظورة وسلع غير مطابقة للمواصفات القياسية، حيث تم ضبط عدد من زجاجات الخمر و(47) زجاجة كلونيا إضافة الى (146) كيس تبغ غير مدخن من نوع أفضل و(100) كيس تمباك مفلتر من نوع (MAHAK)".

خبر كهذا تكرّر كثيراً خلال السّنتين الأخيرتين، فمرّة يتم ضبط أشياء مماثلة في محلّ حلاقة، ومرّة في محلّ خياطة نسائيّة، وثالثة في محلّ مواد بناء لدرجة أنّني أتوقّع في المرّات القادمة أن أرى إعلانات من مثل " اشتر قماشاً واحصل على كحول معتّق"، أو " جرّب متعة الحلاقة معنا مع رشفات البيرة المنعشة"، أو " عدّل مزاجك واشتر لبيت أحلامك"!!

(6)

"تمكنت حماية المستهلك من ضبط عمالة وافدة تقوم باستخدام مقرّ سكنها لصنع عدد من أصناف الطعام دون مراعاة أدنى متطلبات الصحة والسلامة"

حتّى لو أعدّوه فوق سطح المنزل، أو استخدموا قدوراً وأدوات قذرة، وحتّى لو كان الزّيت معاد استخدامه، والأرز مخلوط، والقمح منتهي الصلاحيّة، وكان اللحم قد تم تجميعه من بقايا المسالخ، وكانت البطاطا مجلوبة من المرادم، وكان أغلب هؤلاء هم من الفلاحين والصّيادين القرويّين في بلدانهم ولا يفقهون في أمور الطّبخ سوى ما أفقهه في اللغة الصينيّة، وحتّى لو نشرت حماية المستهلك ألف ضبطيّة مشابهة، فسنظلّ نأكل من عند هؤلاء، وسنظلّ نصنع نفس الازدحام أمام هذه المطاعم والمقاهي دون أدنى مبالاة بماهيّة ونوعيّة وصلاحيّة ما نأكله برغم أنّ كثير منّا قد اشترك في زحام مشابه أمام (كاونتر) الهايبر ماركت كي يشتري راشن البيت الشهري!!

الخميس، 10 سبتمبر 2015

مشاهد وتساؤلات (29)

(1)

(مبادرة الشورى 8) هي عنوان نشرة المبادرة التوعويّة الخاصّة بتغطية انتخابات الدورة الثامنة من مجلس الشورى التي تتبنّاها وتصدرها الشبكة العمانيّة للمواطنة المسئولة، وهي شبكة تعنى بتعزيز المواطنة ورفع وعي المواطنين تحت إشراف الدكتور سيف بن ناصر المعمري والأستاذة زينب الغريبية.

تهتم النشرة التي تهدف إلى بناء إعلام برلماني متخصص، وتصدر مرّة كلّ اسبوعين من خلال حساب لها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر ((mowatanah72 بتحليل واقع الانتخابات في السلطنة من خلال حصر أعداد المترشّحين في كلّ محافظة، ونوعهم، ودوافع ترشّحهم، ومسيرة ترشّح بعضهم سابقاً، وفرص نجاحهم، واستقصاء آراء عيّنة من المواطنين والمترشّحين في هذه المحافظات، وعمل المقارنات، ودراسة المؤثّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة على الفكر الانتخابي، وتستند إليها كثير من القنوات الإعلاميّة المحلّيّة بكافّة أنواعها.

هي دعوة لكل المهتمّين والمتابعين للاستفادة ممّا تعرضه المبادرة من تحليلات رصينة، ومعلومات مهمّة تتعلّق بواقع العمليّة الانتخابيّة في السلطنة.

(2)

وكأنّنا لا نتعلّم من أخطائنا بتاتاً، وكأنّنا لم نفق بعد من صدمة ترميم جامع نخل الأثري وغيره من الجوامع والمساجد المهمّة بما كانت تحويه من كتابات وشواهد أثريّة مهمّة ليفاجئنا الخبر بإزالة مسجد الحجرة في منطقة عيني بولاية الرستاق وإعادة بنائه، فهذا المعلم الأثري والصرح الديني الذي يعود تاريخ بنائه لأكثر من 300سنة، والذي يحتوي ككثير من مساجد عمان القديمة على كتابات تسرد تاريخ المنطقة، وتوثّق لبعض تفاصيلها، ولوح من الحجر كتب عليه تاريخ بناء المسجد، قد سوّي به الأرض، ولم أكن لأصدّق الخبر لولا أن رأيت الصور التي تناقلها البعض حول هذا الموضوع، ورأيت المعدّات وهي تزيل جدران المسجد وأركانه!!

ألا يوجد لدينا قانون أو تشريع يختص بحماية التراث المادّي يحفظ الشواهد التاريخيّة لدينا وينظّم آليّة التعامل معها؟! وهل تواصلت الجهة التي أشرفت على هدم المسجد وإعادة بناءه مع الجهات المسئولة عن التّراث والثّقافة لدينا قبل التفكير في هدمه؟! ثمّ ألم يكن بالإمكان إعادة الترميم دون الحاجة إلى إزالته؟! وهل تمّ الاحتفاظ بتلك الشواهد ونقلها إلى أحد المتاحف الوطنيّة خاصّة ونحن نتحدّث عن التطوّر الكبير في التكنولوجيا المستخدمة في أعمال الترميم والبناء!

أتمنى أن يصلني اتّصال أو بريد إلكترونيّ يطمئنني أنّ الأمور بخير، وأنّه قد حسب للأمر عدّته وتمّ نقل كافّة الشواهد والكتابات الموجودة بالمسجد إلى مكان مناسب لحفظها وعرضها والاستفادة منها. أقول أتمنى ذلك.

(3)

في (بعض) مؤسّساتنا الخدمية؛ لا تنقصنا الإمكانات المادية والبشرية، المشكلة أحياناً في المسئول الذي لا يعرف إدارة هذه الإمكانات بما يحقق الأهداف الموضوعة، ولو شعر كل مسؤول بأن هناك من ستتغير حياتهم للأفضل أو الأسوأ بفعل سياساته أو سياسات مؤسّسته لتغيرت أشياء كثيرة لدينا.

ترى كم من مسؤول يستحضر المواطن البسيط في أقصى قرية نائيّة قبل أن يفكّر في إصدار قرار معيّن؟! وكم من مسئول ما زال يعيش في جلباب من سبقه دون رغبة في تفصيل جلباب جديد يحسّن من صورته أمام الآخرين؟!!

وفي المقابل فهناك من المسئولين من يغيّر شكل مؤسّسته وينقلها إلى آفاق أبعد من خلال حسن إدارته، وابتعاده عن المركزيّة، واستخدام سياسة التفويض، والبحث عن حلول وسياسات غير تقليديّة، وتقمّص دور المواطن قبل التفكير في سنّ أي قرار أو اتّخاذ أيّ سياسة.

(4)

إذا حسبنا تكلفة بناء بيت متكامل الخدمات بـ(30)ألف ريال على سبيل المثال؛ فـ(30) مليون ريال كافية سنويًا لبناء (1000) بيت.

عدا بناء منازل مستقلّة يمكن للحكومة أن تبني (بلوكّات) سكنية للشباب في كل ولاية بنظام الشقق الواسعة أو الفلل متوسّطة الحجم على أن تتاح للبيع أو التأجير بأسعار مناسبة تخصم من راتب المواطن، ويمكن كذلك ضخّ مبالغ سنوية ببنك الإسكان كي يتمكن من تقديم قروض سكنية سريعة بنسب فائدة متدنية، وبطريقة أسرع ممّا هي عليه الآن.

ولو خصصت الحكومة مبلغ (200) مليون ريال سنوياً كمثال على هيئة قروض ومنح لقطاع الإسكان فهذا كفيل بحل مشكلة توفير السكن المناسب.

الحلول السابقة ستحل إشكالات إسكانية عديدة من بينهاارتفاع أسعار الأراضي والبيوت السكنية الحالية وعدم تناسبها مع دخل شريحة كبيرة من المواطنين ووضعهم الاقتصادي.

الحلول السّابقة تحتاج كذلك إلى إدراك كبير لأهمّيّة توافر المسكن المناسب كثالوث اجتماعي لا يقل أهمّيّة عن المدرسة والمركز الصّحّي، وتحتاج أيضاً إلى إعادة النظر في الخدمات الاسكانيّة المقدّمة بحيث نتجاوز مسألة حصرها في تخطيط الأراضي ومسحها وتوزيعها، وقضايا التمديدات وغيرها فهذه أمور ينبغي أن تكون من مسئوليّة المجالس البلديّة لا وزارة الإسكان!

 (5)

في صفحته بموقع التواصل الإجتماعي (تويتر) كتب الدكتور حيدر اللواتي هذه العبارة المهمّة: " تجنب شخصنة الاختلاف، فان اختلفت مع رأيٍ، انتقد الرأي دون التعدي على الاشخاص ".

عبارة مهمّة يحتاج كثير من كتّابنا ومثقّفينا إلى قراءتها وتأمّلها بشكل دقيق في ظلّ التّراشق الفكريّ واتّهامات التخلّف والتطرّف والانحياز المتبادلة بين الفرق الفكريّة المختلفة والتي تصل أحياناً لدرجة الشّخصنة دون أن تبقى في إطار الاختلاف الاعتيادي، وكأنّهم جمهور كرة في أحد مدرّجات الدرجة الثالثة.

متى سيعي البعض أنّه لا أحد يحتكر الحقيقة، وأنّ ما يؤمن به اليوم قد يكتشف خطأه غداً، وأنّ ما يراه هو صحيح قد يراه الآخر خطأ، وأنّ كثيراً من الأفكار والنظريّات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة قد أتى بها أصحابها ومنظّريها في الأساس لمحاولة إصلاح المجتمع، وأنّ هذه النظريات والأفكار تجمعها كثير من الروابط المشتركة التي قد تغيب عن أذهانهم عند بدء السجال والعراك الفكريّ، وكما أنّ من حقّك أن تضع تصوّراتك وآراءك حول المواقف المختلفة، فإن للآخر نفس الحقّ تماماً في ذلك، وأنّه باتّهامه للآخر بالتطرّف والتحجّر والدّعشنة فإنّه بفعله هذا يقع في نفس دائرة الاتّهام!