الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

عم ربيع وإنديانا..وأشياء أخرى (2)


يقع المقهى على شارع التحرير ،ويطل على ميدان الدقي، لا يختلف كثيراً عن بقية المقاهي الشعبية المصرية الأصيلة، ويمتاز باتساعه وبساطة ديكوراته، وارتفاع سقفه كحال كثير من البنايات التي يعود تاريخ إنشائها إلى ما قبل ثورة 1952 وما بعدها بقليل. ترى كم من المبدعين قد مروا عليه، وكم من الحكايات والأسرار قد احتفظت بها أركانه. كان المقهى ممتلئاً عن آخره، و لحسن حظي كانت هناك طاولة خشبية وحيدة ما تزال شاغرة في ركن قصي به.

أنادي القهوجي كي أطلب كوباً من الشاي الكشري بينما صوت أم كلثوم ينبعث من جهاز تسجيل عتيق:
وبي مما يساورني كثير ... من الشجن المؤرق لا تدعني
تعذب في لهيب الشك روحي .. وتشقى بالظنون وبالتمني

الله.. مقهى مصري صميم وكوب شاي كشري وأم كلثوم .. ما هذا الحظ الجميل؟ ها هي بعض أحلامي تتحقق في أول أسبوع من إقامتي التي ستمتد لأربع سنوات قادمة . أحلام معجونة بطعم الشاي بأنواعه المختلفة فتلة وكشرى وخمسينه، والفول والفتة والعكاوي والسمين والكوارع، ورائحة العطارة والبهارات الشرقية في الأحياء الفاطمية،  ومنظر النيل ساعة العصاري، وشموخ الأهرامات، وقداسة الأزهر والكاتدرائية، وهيبة العلماء والأساتذة، وآخر نكتة خرجت من رحم معاناة يومية.

من طاولتي أتأمل من حولي  بينما أنا سارح مع (ثومة) في ثورة شكها المحمومة، أغلب رواد المقهى من المصريين الذين كانوا يوماً ما يشكلون طبقة تدعى الطبقة المتوسطة، يلعبون الطاولة والشطرنج ربما لنسيان ما لا يريدون تذكره من هم يومي، وبعض الشباب اليمني يتحاورون بصوت مرتفع. هل  هي روح الشهيد الزبيري(1) تتجسد في المقهى مرة أخرى؟

أنشغل بقراءة الصحف، معظم أخبارها تتركز حول انتخابات مجلس الشعب، ومفاجأة مقاعد الإخوان، ومطالبة المعارضة بحرية الرقابة على الانتخابات ،وموظفي وزارة المالية الذين أجبروا على التصويت ليوسف بطرس غالي، عناوين عريضة أخرى تتحدث عن شائعة العثور على صناديق انتخابية في تسع محافظات، والمظاهرات صاخبة في قنا بعد العثور على صناديق انتخابات في الترعة، وملابسات سرقة صندوقي انتخاب في السويس. تصريح لنبيل لوقا بباوي(1) يصف أحزاب المعارضة بأنها دورات مياه وشقق مفروشة، وآخر لرفعت السعيد(2) يتهم الإخوان كالعادة بأنها باعت المعارضة، ومقال لمجدي مهنا (3) في "المصري اليوم" حول قيام الإخوان بدعم بعض المرشحين الأقباط أمثال منى مكرم عبيد، ومجدي خله.  

أنتهي من قراءة بعض الصحف وأعود إلى ممارسة هواية التأمل. يقترب مني قهوجي يبدو من ملامحه أنه في الخمسينيات من العمر، أحاول التباسط معه فأسأله:
- هو صحيح إن صدام حسين كان بيجلس هنا؟
قبل أن أكمل سؤالي كانت إجابته حاضره :وأنا بنفسي كنت بجيب له القهوة بتاعته.. الله يرحمه.
أقول لنفسي "لو صح كلام الرجل فهذا يعني أنه التحق بالعمل في المقهى وعمره حوالي خمس سنوات أو أقل أو أكبر بقليل " لا يهم . أحاول أن أطيل الحوار معه فأسأله مرة أخرى:
-         انتخبت مين؟
-         وانتخب ليه؟ كتر خير الحكومة . هي اللي بتنتخب بدالنا . لازمتها إيه البهدلة والمشورة ، ما هيه النتيجة معروفة، واللي عاوزينه حينجحوه.
-         سمعت اللي حصل معاكم هنا في الدائرة؟
-         حصل إيه، أصل بعيد عنك محسوبك مقاطع الجرايد والتلفزيون. كل الأخبار شبه بعض مفيهاش غير الهم والنكد.
-      بيقول لك حازم صلاح أبو إسماعيل بتاع الإخوان فاز بمقعد الفئات عن دائرة الدقي والعجوزة، راحت الدكتورة آمال عثمان اللي كانت بتنافسه متصله بالريس وهي بتعيط، فالريس قال لها دموعك غالية يا آمال، وكلها ساعتين والنتيجة اتقلبت.
-      يا رب يولعوا فبعض. وتقولي انتخبت مين؟ متستغربش يا باشا اللي بيحصل ده . إحنا البلد معانا ماشيه كده ومش عارفين آخرة كل ده إيه. بالأمارة هو الباشا ليبي ولا سعودي ؟
-         أنا من سلطنة عمان.
-         أجدع ناس " يقولها وكأنه يسمع عن البلد لأول مرة" .
-         إلا قل لي باشا: انتوا  يحصل معاكو نفس الكوسة والعك اللي معانا في الانتخابات؟
-         إحنا عكسكم. الانتخابات نزيهة وشفافة والحكومة بتترجانا ننتخب المرشح الكويس اللي حيخدم  الناس، بس إحنا بنختار العكس. حاجة تشبه قلة الوعي كده.

يضرب الرجل كفيه ببعضهما ربما مستغرباً من حال الدنيا، ثم ينصرف عني حاملاً همومه مع كوب الشاي الفارغ ، وأتبعه أنا متأبطاً ما بقي من صحف لم أقرأها بعد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(1)مناضل سياسي وشاعر يمني راحل. كان من رواد المقهى في الخمسينيات. 

(2) دكتور ولواء شرطة سابق وعضو مجلس شورى وصاحب رسائل دكتوراه عديدة. له مقولات ولوحات لم تستطع عقول أشهر منافقي مبارك تأليفها مثل"80 مليون مصري يؤيدون الرئيس مبارك"، " الجنين في بطن أمه يؤيد مبارك". يحضر الدكتوراه السابعة عن عبقرية ثورة 25 يناير.

(3)رئيس حزب التجمع اليساري. برغم أنه محسوب على المعارضة إلا أنه  أفنى عمره في معارضة التيار السياسي الإسلامي .

 (4) صاحب مقال يومي وبرنامج أسبوعي بعنوان (في الممنوع)، اتسمت كتاباته بالعقلانية والاعتدال .توفي عام 2008 بعد صراع مع مرض التهاب الكبد الوبائي. دمعت تأثراً عندما كتب وصيته بعد شعوره بدنو أجله فإذا به يوصي حكومة الحزب الوطني ب7 ملايين مواطن مصابين  بالتهاب الوباء الكبدي  ويراهم أجدر بأن يحتلوا رقم واحد في أولويات الحكومة

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

في مقاهي المحروسة .... عم ربيع وانديانا وأشياء أخرى (1)


نوفمبر 2005، الأسبوع الأول لي في القاهرة . وبرغم أن كليتي تقع في ضاحية (روكسي) بمصر الجديدة شرق القاهرة إلا أن الحال قد استقر بي في حي (الدقي) العريق، وتحديداً في شارع جهينة المطل على ميداني الدقي والمساحة، ولمن لم يزر مصر بعد، فالحي يقع في وسـط محافظة الجيزة وغرب محافظة القاهرة حيث يربطه بالأخيرة كوبري الجلاء، وبه العديد من المعالم الشهيرة كفندق الشيراتون، وبنك فيصل، وسينما التحرير، وميدان المساحة، ومركز البحوث، وكلية رياض الأطفال، كما يتخذه كثير من الطلبة العمانيين كمكان مفضل للسكن وذلك بحكم قربه من جامعة القاهرة، ومن نادي طلبة سلطنة عمان السابق بشارع إيران.

لا أعلم لم اخترت هذا الحي بالرغم من بعده عن مقر كليتي، هل هي ربكة البدايات والرغبة في السكن لدى من أعرفهم من أبناء بلدي (والذين كان معظمهم من طلاب جامعة القاهرة)بحثاً عن دفء أسري، وخوف من مجهول قد لا يأتي . هل هو تأثري بروايات الدكتور رفعت إسماعيل(1) والتي كنت مدمناً وقتها على قراءتها؟ربما

أنزل إلى الميدان المزدحم بشتى صنوف البشر، الناس أشكال وألوان، وحركة السير تكاد لا تهدأ. رأيت مشاهد كهذه في الأفلام العربية، وربما قرأت عنها هنا وهناك، ولكني الآن أعيشها على أرض الواقع . عمار يا مصر . برغم زحمة شوارعك، وضجيج عرباتك، إلا أنك تظلين متفردة عن البقية، يبقى عبقك عالقاً في نفوس كل من يمنحه القدر فرصة زيارتك، ألم تقرئي ما كتبه ابنك "جمال حمدان " (2) عنك في تحفته "شخصية مصر".

من محل "عم ربيع "(3) الكائن في ناصية الميدان أشتري تشكيلة من المأكولات البحرية بعضها أعرف أسمائها لأول مرة كساندويتشات السبيط والكلماري في العيش الفينو‏.محل عم ربيع لا يقارن من حيث المستوى بمطعم (كاستل) الراقي القريب منه، ولكنه لا يقل عنه لذة وطعامة.

أنتهي من تناول وجبتي أمام المحل كحال الكثيرين الذين لا يسمح لهم صراعهم اليومي مع معترك الحياة بترف تناول وجبة الغداء في بيوتهم، لذا فهم يتوقفون أمام أي عربة فول وفلافل أو كبدة يصادفونها، لا وقت لديهم للتفكير فيما سيأكلون اليوم أو غداً، المهم وجبة تسد الرمق وتعينهم على مواصلة الرحلة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
بجوار محل عم ربيع تقع فرشة محمود (4) لبيع الصحف والمجلات وبعض الكتب والأقراص المدمجة. محمود شاب مكافح، أتى من بلدته الصعيدية البعيدة كي يبحث عن فرصة رزق، حاله كحال الكثيرين من أبناء وطنه الذين بخل عليهم وطنهم بخيراته، ووهبتها لحفنة بسيطة  تحكم في مصائر البقية، وترى فيهم مجرد زيادات لا حاجة لوجودهم.

أتأمل الصحف والمجلات كي أنتقي منها ما يناسبني. أختار "الأهرام" التي اعتدت قراءة صفحة الوفيات بها كعادة قديمة ما زلت محتفظاً بها حتى الآن، لن أشتر الأخبار أو الجمهورية، فالأهرام ستقوم بالواجب في تلميع صورة الحكومة. من صحف المعارضة أختار الوفد. وجود أسماء قامات صحفية كجمال بدوي وعباس الطرابيلي كافية بأن أختارها دون تردد. كنت ولا أزال معجباً بما كتبه جمال بدوي وبخاصة في التاريخ الإسلامي. أختار "الأحرار" كذلك، ربما لمحاولة اكتشاف هذا الحزب الذي كان يمثل اليمين عندما فكر "السادات" في إنشاء المنابر السياسية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وكلف المرحوم مصطفى كامل مراد بإنشاء الحزب الذي نشأ كمنبر سياسي ثم تحول إلى حزب الأحرار الاشتراكيين عام 1977. أتردد في اختيار "التجمع"، لن أجد فيها سوى اتهامات متوالية للإخوان المسلمين بأنهم سبب كل بلاوي الدنيا ومشاكلها، ومقالات متطرفة عن تطرف الإسلام السياسي. لا يهمني الإخوان في شيء، ولكن صحيفة تدعي أنها تمثل حزباً معارضاً كان يجدر بها أن تتصدى لممارسات حكومة الحزب الوطني الحاكمة لا أن توفر عليه مهمة مهاجمة المعارضة الحقيقية المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين. أشتري كذلك جريدة "آفاق عربية" (5). برغم أنها تتبع لحزب الأحرار إلا أنني سمعت أن الإخوان قد اتفقوا مع إدارتها على دعمها مقابل أن تكون منبراً وواجهة لهم، من الصحف الخاصة أختار "المصري اليوم"، و"الأسبوع"، و"النبأ".

حان الآن وقت الشاي بعد وجبة المأكولات البحرية الدسمة، ما أحلى أن (تحبس) بشاي ثقيل بعد وجبة سمك، ولكن أي مقهى سأختار، فالميدان يضج بمقاهيه الشعبية الكثيرة. في الناحية المقابلة ألمح لافتة (مقهى إنديانا). هذا الاسم ليس غريباً علي. ترى أين قرأت عنه؟  نعم تذكرت، أليس هذا هو المقهى الذي كان يجلس عليه صدام حسين في نهاية الخمسينيات بعد فراره من العراق إثر فشل محاولته لاغتيال عبد الكريم قاسم، كان صدام دائم التردد على مقهى إنديانا، وربطته بعم حنفي صاحب المقهى علاقة وطيدة امتدت لما بعد توليه الحكم في العراق. تذكرت شيئاً آخر قرأته في مذكرات الولد الشقي محمود السعدني. كان السعدني قد كتب عن الجلسات الثقافية التي كانت تجمعه في المقهى في خمسينيات القرن الماضي بعدد من الرموز الأدبية من أمثال أنور المعداوي ورجاء النقاش وسليمان فياض وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-بطل سلسلة روايات "ما وراء الطبيعة" التي تصدرها المؤسسة العربية الحديثة ، عجوز أعزب ضئيل البنيان أصلع الرأس، يدخن كقاطرة مر عليها الزمان ويقيم في حي الدقي، تقدمه السلسلة كهادم للأساطير. برغم أنه شخصية خيالية  إلا أنني كنت دائماً ما كنت  أتأمل عمارات الدقي وأقول بنفسي: ترى في أي عمارة كان يسكن .
2-  أحد أعلام الجغرافيا المصريين. اسمه بالكامل جمال محمود صالح حمدان، استقال من الجامعة وتفرغ لدراساته وبحوثه، ترك 29 كتاب و79 بحث ومقالة، أشهرها كتاب "شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان" ،عثر على جثته نصف محروقة في شقته 25 ش أمين الرافعي بالدقي ، يقال ان الموساد هو وراء اغتياله بسبب كتاباته التي فضحت كثيراً من ادعاءات اليهود.
3- حاولت مرة أن أقنعه بأن يفتح مشروعاً مشابهاً في السلطنة، فأخبرني بأنه مصاب بالالتهاب الكبدي كحال الكثير من المصريين البسطاء.
4- ظل لفترة من الزمن بعد انتقالي من الحي يحدث من يلتقي بهم صدفة من الأصدقاء الذين يسكنون في نفس الشارع عن الخليجي غريب الأطوار الذي كان يهتم يومياً بشراء نسخ من كل الصحف والمجلات التي يبيعها. ترى هل كان يقصدني؟
5- تم اغلاقها فيما بعد ، ووقتها أصدرت كتلة اعضاء الاخوان في مجلس الشعب بياناً يؤكد على "أن منع صدور آفاق عربية يمثل المزيد من خطوات التراجع عن الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير". ما أشبه اليوم  بالبارحة.

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2012

في مقاهي المحروسة (2)


بعد أن تناولنا في المقال السابق تاريخ المقاهي في المحروسة ، وما تمثله بالنسبة للشخصية المصرية، أستكمل معكم في هذا المقال الحديث عن أشهر المقاهي المصرية ودورها في مجالات الحياة الأدبية والاجتماعية والفنية المختلفة، وما طرأ عليها من تغيير، فقد لعبت المقاهي دوراً مهماً في الحياة الفكرية والأدبية والفنية في مصر،  لعل من أشهرها "مقهى الفيشاوي"  الكائن في خان الخليلي بحي الجمالية قرب جامع الحسين، والذي يتجاوز عمره المائتي سنة، وزادت شهرة هذا المقهى بعد أن أصبح المكان المفضل للأديب نجيب محفوظ الذي كتب بعض رواياته الرائعة والخالدة على هذا المقهى وأهمها الثلاثية الخالدة (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية) وهى أحياء تحيط بالمقهى.

وهناك مقهى (الحرافيش) وهو مصطلح يقصد به أولاد البلد البسطاء باللهجة العامية المصرية، وقد تمت تسميته بهذا الاسم نسبة  إلى رواية الأديب العالمي نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، وذلك لوجود ركن خاص كان يرتاده نجيب محفوظ كل أسبوع هو وعدد من أصدقائه ومريديه, ويضم المقهى مكتبة تحتوي على أهم كتب وأعمال محفوظ.

أما قهوة (قشتمر)  التي خلدها نجيب محفوظ في رواية تحمل نفس الاسم ، فقد كانت ملتقى للأدباء وعلى رأسهم  نجيب محفوظ، إلى جانب الأديب المعروف إبراهيم عبد القادر المازني والذي كان يسكن مقابلاً  للمقهى أمام واجهته المطلة على شارع هارون.

ويعد مقهى (ريش) شاهداً على نبوغ كثير من المبدعين ، وارتبطت به عدد من الأعمال الأدبية ، حيث كتب فيه أحمد فؤاد نجم قصيدة (يعيش أهل بلدي)، وعنه ألفت الكاتبة الصحفية عبلة الرويني كتابها(مقهى ريش) الذي شهد بداية تعارفها بزوجها الشاعر الراحل أمل دنقل، وتناوله الأديب المسرحي نجيب سرور بالسخرية في قصيدته (بروتوكولات حكماء ريش)، كما استقرت به ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية لفترة من الزمن بعد إغلاق ندوته في مقهى الأوبرا.

ومن المقاهي الأدبية الشهيرة كان هناك مقهى (الكتبخانة)» أمام دار الكتب في باب الخلق، وكان من رواده حافظ إبراهيم والمطرب عبد المطلب والشيخ عبد العزيز البشرى والشيخ حسن الآلاتى، أما (بار اللواء) المقابل لمبنى جريدة الأهرام القديم في شارع شريف فقد كان معظم جلسائه من الشعراء والسياسيين والظرفاء أمثال مصطفى كامل، والشيخ عبد العزيز جاويش، والعزب موسى، وكامل الشناوي، والشاعر البائس عبد الحميد الديب، بينما كان توفيق الحكيم، وعبد القادر المازني، والصحفي محمد التابعي، والشاعر إبراهيم ناجي من أشهر رواد مقهى (الرتز) الذي حلت مكانه بعد ذلك عمارة "الايموبيليا" الشهيرة.

وهناك مقاهي أخرى ارتبطت كذلك بالأدباء والمثقفين كمقهى (أوبرا بار) بميدان الأوبرا، وقهوة (عبد الله) بميدان الجيزة، ومقهى    ( إنديانا ) بالدقي والذي كان الرئيس الراحل صدام حسين دائم التردد عليه ، ومقهى التجارة في شارع عماد الدين، و"المقهى العالي" بشارع محمد علي، ومقهى "المهدي" بالسيدة زينب، ومقهى "عرابي" بباب الشعرية، إضافة إلى مقاهي وسط البلد كمقهى (لاباس)، و(علي بابا)، و(زهرة البستان)، و(التكعيبة)، و(مانولي)، ومقهى (البورصة) الذي كان مكاناً لالتقاء الصحفيين كل مساء، ومقهى (الندوة الثقافية) بباب اللوق، وغيرها.

وبالإضافة إلى المقاهي السابقة فإنه يمكن أن نلمح أنواعاً أخرى من المقاهي تخصصت لخدمة فئات معينة، ففي حي (زينهم) بالسيدة زينب كان هناك مقهى خاص بفئة الطباخين، حيث يحضر الزبائن لمفاوضتهم حول ما يطلبونه من أصناف، وزمن إعدادها، والأجرة المطلوبة، كما كان للخطاطين والنساخين والرسامين والمجلداتية والمذهبتية مقهى في حي الحسين على مقربة من مكتبة "الحلبي" الشهيرة المتخصصة في طبع أمهات الكتب، أما المشايخ وطلبة الأزهر فقد كانت لهم مقاهيهم الخاصة في حي الحسين وأشهرها "قهوة شعبان"، واشتهر "مقهى عكاشة" الذي أنشأه في الأربعينيات أولاد عكاشة أصحاب الفرقة المسرحية المشهورة ، كمكان للاستماع إلى الموسيقى من خلال الأسطوانات التي يوفرها المقهى مقابل مبلغ مالي معين ، بينما كان المقهى التجاري الكائن في أول شارع محمد على ، منتدى للآلاتية والمطربين، ورواده من الفنانين المتخصصين في إحياء الأفراح، كما كان للسينمائيين والكومبارس والمسرحيين مقاهيهم الخاصة بشارع عماد الدين، كمقهى "الفن» المقابل لمسرح نجيب الريحاني، والذي اتخذ منه  بعض صغار الفنانين والكومبارس مكاناً للالتقاء وعرض مواهبهم على المخرجين ، أما مقاهي ميدان باب الخلق فقد كانت ملتقى للمشتغلين بالمحاماة وأصحاب القضايا بحكم قربها من محكمة باب الخلق، كما اشتهر ميدان "باب الشعرية" بانتشار عدد من المقاهي لفئات من الحرفيين،  كالمنجدين،  وعمال الأفران المتخصصون في خبز العيش والشطائر، أما وراء دار الكتب (الكتبخانة) في باب الخلق فكان يقع مقهى (الديوك)، ويستقطب هواة الديوك الهندية ومهارشتها. ومن أغرب مقاهي القاهرة مقهى (الخرس)، ذلك أن معظم رواده يتحدثون بالإشارة، يجيء كل منهم عبر مسافة بعيدة ليلتقي بالآخرين، ولا يزال هناك العديد من المقاهي الخاصة بأبناء محافظات  الصعيد والدلتا والنوبة، يجتمعون بها، وتقوم بدور مهم في تشغيل العمالة وحل مشاكلهم.

وبعد أن كانت معظم المقاهي تتركز في وسط القاهرة بحكم الحركة الثقافية والسياسية بها،  فقد شهدت أطراف القاهرة ظهور مقاهي لعبت دوراً مهماً في الحياة الفكرية المصرية ، كمقاهي  ليالي الحلمية ،  وفرساى، وخان الموناليزا ،  والحرافيش ،  وونيس في شارع فيصل، وذلك بسبب انتقال عدد كبير من الأدباء والصحفيين للسكن في هذا الشارع الشعبي، و مقاهي جروبي و(الأمفتريون) في مصر الجديدة، والأخير تم افتتاحه عام 1919، وكان  الناقد الكبير عبد القادر القط من أشهر رواده.

أما اليوم فقد تغيرت الخريطة الثقافية لهذه المقاهي، فقد أدت سياسة الانفتاح الاقتصادي إلى إزالة كثير من المقاهي التاريخية، وحلت محلها محلات لبيع الأحذية والحقائب النسائية، وفقدت مقاهي أخرى دورها الفكري بسبب ابتعاد روادها عنها، وعدم مواكبتها للتطور المادي الذي طرأ على الحياة  المجتمعية في مصر،  كما ظهرت أنماط غريبة من المقاهي العصرية الحديثة هي أقرب إلى النمط الغربي منه إلى النمط الشرقي، وأصبح نظام "المينيمم تشارج"، هو السمة السائدة لها، وحلت قنوات الموسيقى محل الطاولة والشطرنج وحجر النرد، بينما تم استبدال شاي الخمسينة، وحمص الشام، والقهوة السادة، والسوبيا، والكركديه، والعناب بمشروبات غريبة الاسم كالموكا، واللاتيه، والاسبرتو، والكاوبيتشينو، في دلالة على أن الزمن لم يعد نفسه.

ترى هل مازال المصري يقول "أنا رايح قهوتي".






الثلاثاء، 4 سبتمبر 2012

في مقاهي المحروسة (1)


عندما تذكر مصر تتبادر إلى الأذهان عدداً من المفردات المرتبطة بها، كالنيل، والأهرام، والفول والطعمية، والمآذن، والريف بكل تناقضاته، والشخصية المصرية الجميلة بخفة دمها وحلاوة روحها.

غير أنه  لا يمكن الحديث عن مصر دون الإشارة إلى مقاهيها المختلفة، والتي شكلت ذاكرة وجدانية لكثير من الأحداث التي مرت بها المحروسة على مر السنين ، ذلك أن تلك المقاهي كانت تجسد ملمحاً من الحياة المصرية بمختلف تجلياتها وتناقضاتها واختلاف مشاربها.

وخلال إقامتي في القاهرة لأربع سنوات كاملة مرت كحلم جميل لم أفق منه بعد، كانت لي حكايات جميلة مع تلك المقاهي المنتشرة في كل شبر من الخريطة المصرية،  وكان ترددي اليومي على هذه المقاهي حاملاً في يدي عدد لا بأس به من الصحف اليومية، أو كتاب اشتريته قريباً من سور الأزبكية، من المتع التي كنت أحرص عليها، وأحرص كذلك على أن يشاركني بها كل من يزورني، في محاولة مني لإبراز خريطة ثقافية جديدة لمصر لا تقتصر فقط على شارع جامعة الدول، وحي المهندسين، والأهرامات، وشارع الهرم، مثلما يختصر البعض مصر في هذه المفردات.

خلال جولاتي تلك اقتربت من روح أم كلثوم في مقهاها الشهير في شارع الألفي بك بوسط البلد، وفي (جروبي)تجسدت أمامي إبداعات أمير الشعراء أحمد شوقي وأنا أجلس في الركن الذي كان يلتقي فيه بأصدقائه من الباشوات وعلية القوم ، وناقشت أحمد فؤاد نجم (الفاجومي) في آراءه السياسية بينما كنا معاً في ذلك المقهى المتواضع في هضبة المقطم،  بينما كان حرارة الشوق إلى الوطن تسري في أوصالي عند كل زيارة لي إلى قهوة (الصادق)، أو قهوة العمانيين كما يحلو لزملاء الدراسة تسميتها.

لذا كان التفكير في تدوين هذه الذكريات الجميلة في كتاب  يشتمل على  سلسلة من المقالات التي تجسد ذكرياتي في مقاهي المحروسة ، بحيث أتحدث في كل مقال عن مقهى معين ذاكراً تاريخه، وسارداً لمواقف إنسانية شخصية أو عامة عايشتها في ذلك المقهى، وأضافت لثقافتي الكثير من التجارب عن طبيعة هذا البلد العريق، وأبدأ هذه السلسلة بمقدمة عامة حول  تاريخ المقاهي في مصر، وأنواعها، وأنشطتها المختلفة، وما تمثله هذه المقاهي من سجل تاريخي مهم لكثير من الأحداث التي شهدتها المحروسة ، وهي مقدمة اعتمدت في كتابتها على معلوماتي العامة التي اكتسبتها من تجربتي الشخصية مع هذه المقاهي، ومن الرجوع إلى عدد من المصادر التي تناولت تاريخ هذه المقاهي ، والتي سيتم الإشارة  إليها في نهاية السلسلة.

في مصر، لم تكن المقاهي مجرد مكان للتلاقي أو الاستراحة، أو تناول شراب معين، بقدر ما كانت متنفساً فكرياً واجتماعياً، ففيها كانت تعقد الصفقات، وترسم السياسات، وتشكل الأحزاب، وتروى الأسرار، وتتشكل الثقافات والأفكار المختلفة. باختصار، كانت المقاهي المصرية عالماً متكاملاً من السحر والنشوة الممتزجة بالفن والأدب والتسلية والترفيه، وعندما يقول المصري " أنا رايح قهوتي"، فإنك قد تدرك مدى التأثير الذي يحدثه المقهى في شخصيته، لدرجة الشعور بالانتماء إليه، والإحساس بأنه جزء لا يتجزأ من شخصيته ، وجدول حياته اليومية.

وحول بدايات نشأة المقاهي في مصر يذكر محمد أبو الوفا في مقاله (مقاهي القاهرة وحدات تشكيل الرأي العام) قصة طريفة حدثت في بداية القرن السادس عشر الميلادي, "حيث وقع في مصر حدث كبير آثار جدلاً فكرياً وفقهياً واسعاً، وذلك عند وصول أول شحنة من البن اليمني إلى البلاد فانقسمت الآراء حول شرعية تناول مشروب (القهوة), حيث كان الناس يتناولون هذا المشروب في السر خوفاً من المفتي ومن عيون البصاصين, إذ كان يُقبض على كل من يشرب القهوة ويقدم للمحاكمة، واستمرت القهوة تشرب في تلك الفترة بمكان سري أطلق عليه (مقهى) نسبة إلى المشروب, وبعد التصريح بشرب القهوة في العلن أخذ المقهى شكل مبنى بسيط توضع فيه منصات خشبية لإعداد المشروبات وتفرش عادة بالحصر والأبسطة الصوفية (الكليم)".

وبرغم اجتهادات بعض المثقفين والأدباء المصريين لتوثيق تاريخ هذه المقاهي أمثال الأديب جمال الغيطاني (ملامح القاهرة في 100 سنة)، وأحمد محفوظ (خبايا القاهرة)، والراحل سمير سرحان (على المقهى), ومحمد عبد الواحد (حرائق الكلام في مقاهي القاهرة)، إلا أنه  لا يوجد حتى الآن أي مرجع تاريخي خاص يدون تاريخها بشكل متسلسل ومتكامل، وإن كانت هناك بعض الإشارات المتناثرة هنا وهناك  من خلال ما كتبه بعض المستشرقين، ففي كتابه  «المصريون المحدثون» ذكر المستشرق الإنجليزي «إدوار دلين» إن القاهرة "بها أكثر من ألف مقهى  في مطلع القرن التاسع عشر"، كما وصف المقهى بأنه " غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود تقوم على طول الواجهة ما عدا المدخل ويتردد على المقاهي أفراد الطبقة السفلى والتجار وتزدحم بهم عصرا ومساء وخاصة في الأعياد الدينية".

كما تناول كتاب "وصف مصر " الذي تم إعداده إبان الحملة الفرنسية على مصر بعضاً من تاريخ  هذه المقاهي في زمن الحملة، حيث  يذكر الكتاب أنه " يوجد بمدينة القاهرة بها حوالي 1200 مقهى بخلاف مقاهي مصر القديمة، ولا يوجد في هذه المقاهي أثاثات على الإطلاق وليس بها ثمة مرايا أو ديكورات داخلية أو خارجية ولا يوجد سوى «دكك» مقاعد خشبية تشكل نوعا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبنى".

وقد مثلت المقاهي في فترة من الفترات  متنفساً ترفيهياً وأدبياً مهماً  لروادها، فقد كانت تعج بالرواة الشعبيين من رواة السير الشعبية، وأصحاب الشعر العامي، والأدباتية، والغوازي، كما كانت مكاناً للسجالات والمناظرات الأدبية المختلفة.
كما لعبت المقاهي دوراً مهماً في الحياة السياسية والوطنية، فهناك مقهى (متاتيا ) ، ويعتبر الأشهر على الإطلاق تاريخيا ًبين مقاهي القاهرة لارتباطه بأسماء صنعت تاريخ مصر والوطن العربي أمثال جمال الدين الأفغاني، وعبد الله النديم، وسامي البارودي، وسعد زغلول وغيرهم. وكان مقهى (جروبي)بميدان طلعت حرب ملتقى للأدباء والسياسيين والتكنوقراط  الذين تعلموا في أوروبا وتشربوا مبادئ الديمقراطية الليبرالية، كما شهد مقهى ريش الكائن في شارع طلعت حرب في وسط البلد كثيراً من السجالات السياسية، وفيه تم اكتشاف مطبعة سرية لتنظيم 1919م.