نوفمبر 2005، الأسبوع الأول لي في القاهرة . وبرغم أن كليتي
تقع في ضاحية (روكسي) بمصر الجديدة شرق القاهرة إلا أن الحال قد استقر بي في حي (الدقي) العريق،
وتحديداً في شارع جهينة المطل على ميداني الدقي والمساحة، ولمن لم يزر مصر بعد، فالحي يقع في وسـط محافظة الجيزة وغرب محافظة القاهرة
حيث يربطه بالأخيرة كوبري الجلاء، وبه العديد من المعالم الشهيرة كفندق الشيراتون،
وبنك فيصل، وسينما التحرير، وميدان المساحة، ومركز البحوث، وكلية رياض الأطفال، كما
يتخذه كثير من الطلبة العمانيين كمكان مفضل
للسكن وذلك بحكم قربه من جامعة القاهرة، ومن نادي طلبة سلطنة عمان السابق بشارع إيران.
لا أعلم لم اخترت هذا الحي بالرغم من بعده عن مقر كليتي، هل هي ربكة البدايات والرغبة في السكن لدى من أعرفهم من أبناء بلدي (والذين كان معظمهم
من طلاب جامعة القاهرة)بحثاً عن دفء أسري، وخوف من مجهول قد لا يأتي . هل هو تأثري بروايات الدكتور رفعت إسماعيل(1)
والتي كنت مدمناً وقتها على قراءتها؟ربما
أنزل إلى الميدان المزدحم بشتى صنوف البشر، الناس أشكال وألوان،
وحركة السير تكاد لا تهدأ. رأيت مشاهد كهذه في الأفلام العربية، وربما قرأت عنها هنا
وهناك، ولكني الآن أعيشها على أرض الواقع . عمار يا مصر . برغم زحمة شوارعك، وضجيج
عرباتك، إلا أنك تظلين متفردة عن البقية، يبقى
عبقك عالقاً في نفوس كل من يمنحه القدر فرصة زيارتك، ألم تقرئي ما كتبه ابنك
"جمال حمدان " (2) عنك في تحفته "شخصية مصر".
من محل "عم ربيع "(3) الكائن
في ناصية الميدان أشتري تشكيلة من المأكولات البحرية بعضها أعرف أسمائها لأول مرة كساندويتشات
السبيط والكلماري في العيش الفينو.محل عم ربيع لا يقارن من حيث المستوى بمطعم (كاستل)
الراقي القريب منه، ولكنه لا يقل عنه لذة وطعامة.
أنتهي من تناول وجبتي أمام المحل كحال الكثيرين الذين لا
يسمح لهم صراعهم اليومي مع معترك الحياة بترف
تناول وجبة الغداء في بيوتهم، لذا فهم يتوقفون أمام أي عربة فول وفلافل أو كبدة يصادفونها، لا وقت لديهم للتفكير فيما سيأكلون اليوم
أو غداً، المهم وجبة تسد الرمق وتعينهم على
مواصلة الرحلة حتى يقضي الله أمراً كان
مفعولا.
بجوار محل عم ربيع تقع فرشة محمود (4) لبيع
الصحف والمجلات وبعض الكتب والأقراص المدمجة. محمود شاب مكافح، أتى من بلدته الصعيدية
البعيدة كي يبحث عن فرصة رزق، حاله كحال الكثيرين من أبناء وطنه الذين بخل عليهم وطنهم
بخيراته، ووهبتها لحفنة بسيطة تحكم في مصائر
البقية، وترى فيهم مجرد زيادات لا حاجة لوجودهم.
أتأمل الصحف والمجلات كي أنتقي منها ما يناسبني. أختار "الأهرام" التي اعتدت قراءة صفحة
الوفيات بها كعادة قديمة ما زلت محتفظاً بها حتى الآن، لن أشتر الأخبار أو الجمهورية،
فالأهرام ستقوم بالواجب في تلميع صورة الحكومة. من صحف المعارضة أختار الوفد. وجود
أسماء قامات صحفية كجمال بدوي وعباس الطرابيلي كافية بأن أختارها دون تردد. كنت ولا
أزال معجباً بما كتبه جمال بدوي وبخاصة في التاريخ الإسلامي. أختار "الأحرار"
كذلك، ربما لمحاولة اكتشاف هذا الحزب الذي كان يمثل اليمين عندما فكر "السادات"
في إنشاء المنابر السياسية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وكلف المرحوم مصطفى
كامل مراد بإنشاء الحزب الذي نشأ كمنبر سياسي ثم تحول إلى حزب الأحرار الاشتراكيين
عام 1977. أتردد في اختيار "التجمع"، لن أجد فيها سوى اتهامات متوالية للإخوان
المسلمين بأنهم سبب كل بلاوي الدنيا ومشاكلها،
ومقالات متطرفة عن تطرف الإسلام السياسي. لا يهمني الإخوان في شيء، ولكن صحيفة تدعي
أنها تمثل حزباً معارضاً كان يجدر بها أن تتصدى
لممارسات حكومة الحزب الوطني الحاكمة لا أن توفر عليه مهمة مهاجمة المعارضة الحقيقية
المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين. أشتري كذلك جريدة "آفاق عربية" (5).
برغم أنها تتبع لحزب الأحرار إلا أنني سمعت أن الإخوان قد اتفقوا مع إدارتها على دعمها
مقابل أن تكون منبراً وواجهة لهم، من الصحف الخاصة أختار "المصري اليوم"،
و"الأسبوع"، و"النبأ".
حان الآن وقت الشاي بعد وجبة المأكولات البحرية الدسمة،
ما أحلى أن (تحبس) بشاي ثقيل بعد وجبة سمك، ولكن أي مقهى سأختار، فالميدان يضج
بمقاهيه الشعبية الكثيرة. في الناحية المقابلة ألمح لافتة (مقهى إنديانا). هذا الاسم
ليس غريباً علي. ترى أين قرأت عنه؟ نعم تذكرت،
أليس هذا هو المقهى الذي كان يجلس عليه صدام حسين في نهاية الخمسينيات بعد فراره من
العراق إثر فشل محاولته لاغتيال عبد الكريم قاسم، كان صدام دائم التردد على مقهى إنديانا،
وربطته بعم حنفي صاحب المقهى علاقة وطيدة امتدت لما بعد توليه الحكم في العراق. تذكرت
شيئاً آخر قرأته في مذكرات الولد الشقي محمود السعدني. كان السعدني قد كتب عن الجلسات
الثقافية التي كانت تجمعه في المقهى في خمسينيات القرن الماضي بعدد من الرموز الأدبية
من أمثال أنور المعداوي ورجاء النقاش وسليمان فياض وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-بطل
سلسلة روايات "ما وراء الطبيعة" التي تصدرها المؤسسة العربية الحديثة ، عجوز
أعزب ضئيل البنيان أصلع الرأس، يدخن كقاطرة مر عليها الزمان ويقيم في حي الدقي، تقدمه
السلسلة كهادم للأساطير. برغم أنه شخصية خيالية
إلا أنني كنت دائماً ما كنت أتأمل عمارات
الدقي وأقول بنفسي: ترى في أي عمارة كان يسكن .
2- أحد أعلام الجغرافيا
المصريين. اسمه بالكامل جمال محمود صالح حمدان، استقال من الجامعة وتفرغ لدراساته وبحوثه،
ترك 29 كتاب و79 بحث ومقالة، أشهرها كتاب "شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان"
،عثر على جثته نصف محروقة في شقته 25 ش أمين الرافعي بالدقي ، يقال ان الموساد هو وراء
اغتياله بسبب كتاباته التي فضحت كثيراً من ادعاءات اليهود.
3- حاولت مرة أن أقنعه بأن يفتح مشروعاً مشابهاً في السلطنة،
فأخبرني بأنه مصاب بالالتهاب الكبدي كحال الكثير من المصريين البسطاء.
4- ظل لفترة من الزمن بعد انتقالي من الحي يحدث من يلتقي
بهم صدفة من الأصدقاء الذين يسكنون في نفس الشارع عن الخليجي غريب الأطوار الذي كان
يهتم يومياً بشراء نسخ من كل الصحف والمجلات التي يبيعها. ترى هل كان يقصدني؟
5- تم اغلاقها فيما بعد ، ووقتها أصدرت كتلة اعضاء الاخوان
في مجلس الشعب بياناً يؤكد على "أن منع صدور آفاق عربية يمثل المزيد من خطوات
التراجع عن الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير". ما أشبه اليوم بالبارحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.