الثلاثاء، 24 يونيو 2014

لماذا "الرؤية"؟



في صبيحة كلّ يوم عمل، وبينما يقدّم لي جريدة الصّباح اليوميّة يبادرني هاني بنفس السؤال الخالد: لماذا     (الرؤية)دون غيرها؟أراها صغيرة الحجم مقارنة بالبقيّة، فلماذا لا تطلب منّي أن أحضر لك الأخريات؟

أي هاني.. ربما لا تكون جريدتي المفضّلة  هي الأكثر انتشاراً، وربّما لا تكون الأكثر في عدد الصفحات، وربّما لا تحوي الملاحق (إيّاها) التي تحوي اعلانات تعيد الشيخ إلى صباه، وتهبك فرصة الحصول على إكسير الشباب الخالد، وتمنح جسدك النضارة والنقاء، وتخلّصك من كافّة الأمراض المستعصية وغير المستعصية، ومع ذلك أنا حريص على البحث عنها صبيحة كلّ يوم، وقد أقيم الدنيا على رأسك لو لم تحضرها لي. هل تعلم لماذا كلّ هذا؟ ما يعجبني في ( الرؤية ) أوّلاً هي الواقعيّة في الطرح، فلا عناوين مثيرة، ولا تهويل في طرح القضايا والمواضيع، ولا ألوان حمراء هنا وهناك، ولا نفاق زائد عن الحد.

يعجبني فيها كذلك  أنّها تحترم وقت القارئ، فلا (لتّ)، أو (عجن) للأخبار، ولا تكرار في الأفكار. خذ معك الصفحة الرياضيّة على سبيل المثال هي صفحة واحدة ولكنها تختصر لك كل ما تحويه عشرات الصفحات في ملاحق الصحف الأخرى، وقس على ذلك بقيّة الأبواب والموضوعات.

يشدّني فيها أيضاً الحياد الصحفي والتوازن الكبير في عرض الأخبار العربيّة والاقليميّة والعالميّة دون تحيّز لهذا الطرف أو ذاك، ودون توجيه لفكر القارئ، فمادامت الجريدة لا تمثل جهة رسميّة أو  حكوميّة أو حزبيّة أو نقابيّة، وما دامت جريدة خاصّة فهي إذاً ملك القارئ لا ملك أصحابها، وإذا كان لمالكها أو رئيس تحريرها رأي فكري أو سياسي خاص فليعبّر عنه في عموده اليوميّ أو الأسبوعيّ، وليعط للآخرين فرصة طرح آرائهم حتّى لو اختلفوا معه، فهذه هي أبسط بديهيّات الصحافة، أمّا أن ترغم قارئك على مسار فكريّ معيّن، أو أن تجبره على أن يكتب في نفس الاتجاه الذي تسير فيه، أو أن تحاول توجيه فكره لمجرّد أنّك تميل للطرف هذا أو ذاك، أو لمجرّد أنّك تحبّ الوجبة أو الأغنية هذه دون غيرها، فهذه من وجهة نظري هي قمّة الديكتاتوريّة في الطرح الصحفي، حتّى لو تكفّلت ملاحقك التجارية بتحقيق المطلوب من انشائك لهذه الصحيفة، وحتّى لو اقتنعت أنّ هناك من سيشتري صحيفتك لمجرّد كبر حجمها، أو عدد أوراقها، أو احتوائها على إعلانات وظائف، أو اعلانات من النوع الذي يعيد الشيخ إلى صباه.

مما يجعلني متلهّفاً عليها كذلك هما صفحتي المقالات "رأي"، و"رؤى" اللتان أعتبرهما درّة تاج الجريدة، بمقالاتهما المتنوّعة، والمتباينة، بحيث يمكن أن تجد مقالاً يؤيّد فكرة أو قصيّة ما، وبجواره مقال آخر يعارض الفكرة تماماً، في جوّ من الحرّيّة الصحفيّة التامّة، والاحترام الكبير لصاحب المقال وللمتلقّي كذلك، وهو أمر يصعب أن تجده في صحف خليجيّة وعربيّة كثيرة يغلب عليها طابع الرأي الواحد.

يأسرني في (الرؤية) احترامها وتقديرها لكتّابها والمنتسبين إليها، فبرغم البون الشاسع في الإمكانات المادّيّة مقارنة ببعض المؤسسات الصحفيّة الأخرى، إلا أن كتّاب الرؤية لهم قيمتهم الكبيرة لدى أصحاب المؤسسة، فعدا المكافئات الشهريّة التي تدفع لهم، فإنّه لا تكاد تمرّ مناسبة اجتماعيّة ما دون دعوتهم لحفلات إفطار أو غداء أو تكريم، يلتقون فيها معاً، يجددون صداقاتهم، ويناقشون أفكارهم ورؤاهم في جو أدبيّ واجتماعيّ نكاد نفتقده كثيراً في حياتنا اليوميّة.

مّما يجعلني أرفع القبّعة كذلك لهذه المؤسّسة هي مبادراتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأدبيّة المتنوّعة، والتي هي بحاجة إلى سلسلة مقالات قد لا توفيها حقّها، خذ لديك على سبيل المثال لا الحصر: منتدى الرؤية الاقتصادي، جائزة الرؤية الاقتصادية، مبادرة "مركز الرؤية للشباب" لتعزيز ثقافة ريادة الأعمال"، مكتبة السندباد المتنقلة للأطفال، دعم طباعة الكتب المتنوعة...ألخ.

ترى هل سمعت عن ( حاتم الطائي)؟  لا أقصد حاتم الطائي الذي درست سيرته في تاريخ العرب القديم، والذي سمعت عن حكاياته الأسطورية في الكرم هنا وهناك، أقصد الأستاذ حاتم بن حمد الطائي رئيس تحرير جريدة الرؤية. عموما لا اختلاف كبير بين الشخصيتين، فهما من نفس القبيلة، ويحملان كثيراً من الجينات المتشابهة. الأستاذ حاتم الطائي هو رجل أعمال، ولكنّه في نفس الوقت صحفي ناجح، وسينمائي بارع. يعني باختصار هو رجل مثقّف وهنا مربط الفرس. أن تكون رئيس تحرير مثقّف خير من أن تكون رئيس تحرير غني أو ذو واسطة، الأمران يختلفان تماماً لكل من درس الصحافة أو عمل بها، أو حتّى يتابع خباياها بشكل مستمر . كان بإمكان الأستاذ حاتم أن يستثمر أمواله في عشرات المشاريع التي قد تجلب الربح المضمون دون "دوخة رأس"، ولكنه اختار الاستثمار في مجال يعلم جيداً أنّه سيعاني في سبيله الكثير، وسيبذل الأكثر، كل ذلك مقابل الفكرة والرسالة والهدف الذي آمن به. أمثال الاستاذ حاتم يخلصون جدّاً للفكرة التي آمنوا وحلموا بها منذ صغرهم، لذا ليس غريباً أن يكون مكوثهم في مكاتبهم الصحفيّة أضعافها في صالوناتهم الوثيرة، وأن تكون رائحة أحبار الطباعة أكثر شذى من روائح العطور الباريسيّة. لا يمكن لصحيفة أن تنجح ما لم يكن ورائها رجل يقدّر بالفعل حجم المتاعب التي يمكن أن يجنيها من وراء رسالة صحيفته، وبالتالي يمتلك النفس الطويل في الصبر والاستمرار، وهذا لن يتأتّى ما لم يكن هذا الرجل من نفس (الكار)، أي أنّه تشرّب الصنعة، وعرف أسرارها، وهذا ما ينطبق على رئيس تحرير (الرؤية).

هل تعرف (عبد الله خميس)؟ في زمن أصبح فيه كثير ممّن يدّعون الثقافة والتنوّر يتعاملون مع الآخر بحسب توجّهاته الفكريّة، ويحوّلون اختلاف الرؤى إلى خلافات شخصيّة، مقدمين المبدأ الذي يقول "إن لم تكن معي فأنت ضدّي"، ولتذهب العبارة القائلة" اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة" إلى الجحيم،   إلا أن عبد الله  خميس هو شخص آخر مغاير لهؤلاء تماماً، فبالرغم من أنّه يحمل أفكاراً وتوجّهات قد تختلف مع كثيرين من كتّاب صفحة "رؤى" التي يشرف على إعدادها(وهذا حقّه)، ومع أن بعضاً لا بأس به من مقالات هؤلاء الكتّاب قد تتعارض مع قضايا يؤمن بها عبد الله، أو تحمل نقداً لها، إلا أنّه لم يسع يوماً لكي يمارس ديكتاتوريّة معيّنة، أو أن يفرض رأياً أو أسلوباً أحاديّاً يطغى على الصفحة، أو أن يستبدل كتّابها بآخرين يشاركونه نفس التوجّه الفكري، بل على العكس تماماً، فهو خارج حدود الصّفحة قد يناقشك في آرائك وتوجّهاتك حول قضيّة فكريّة ما حتى الصباح، وقد يختلف معك مليون درجة، ولكنّه مستعد أن يواجه العالم بأكمله من أجل حقّك في نشر فكرتك كاملة دون أي تغيير أو تعديل، وقد يترك الصحيفة نفسها فيما لو شطب حرف واحد من مقالك دون رغبتك، ولا تتعدى ملاحظاته أو تدخّلاته إبداء رأي بشكل مهذّب في تغيير عنوان المقال إلى آخر أكثر تأثيراً أو وضوحاً، أو حذف كلمة صيغت بشكل لغوي غير سليم. شخص كهذا هل يتكرر كثيراً في صحفنا العربيّة؟

هل عرفت الآن لماذا أحرص على قراءة هذه الجريدة كل صباح؟

 

(إنّه زمن الدّنجو)
 

في الوقت الذي كان فيه المجتمع العماني مشغولاً بمتابعة ومناقشة تداعيات قرار مجلس الوزراء الموقّر القاضي بتعديل قرار حظر رفع أسعار السلع والخدمات الذي أصدره رئيس الهيئة العامّة لحماية المستهلك في وقت سابق، وتحديد قائمة السلع التي تراقب الهيئة العامة لحماية المستهلك أسعارها، كانت قاعة (السرايا) في فندق سيتي ستار انتركونتننتال بالقاهرة تشهد افتتاح مؤتمر "حماية المستهلك في الوطن العربي.تحديات ورؤى مستقبلية"، والذي تنظمه الهيئة العامة لحماية المستهلك بالتعاون مع مجلس الوحدة الإقتصاديّة العربيّة، وجهاز حماية المستهلك المصري، بمشاركة دولية واقليمية واسعة، وحضور إعلامي فاق التوقّع، وسط اعجاب الكثير من هذه الجهات بتجربة الهيئة الرائدة خلال الفترة القصيرة لنشأتها، واتخاذها كأنموذج يحتذى به في مجال حماية المستهلك، بل والتوصية بإنشاء هيئة عربيّة لحماية المستهلك يكون مقرّها السلطنة.

وفي الوقت الذي كانت إحدى حواسّي مشغولة بتمعّن فقرات القرار (العجيب) ومحاولاتي اليائسة لفهمه وإدراك مغزاه، كانت حاسّتي الأخرى تستمع إلى كلمات الإطراء العفويّة الصادقة التي كانت تنطلق من حناجر وأفئدة مسئولين وأساتذة ومختصّين في مجال حماية المستهلك تجاه التجربة العمانيّة غير المسبوقة عربيّاً، بينما يلاحقني مندوبي الصحف والقنوات الإعلاميّة المصريّة بسؤال واحد: ما سرّ هذا النجاح الذي يجعل الكل لا حديث له سوى هذه التجربة، بل إنّ إحداهنّ تساءلت عن جنسيّة أمين عام مجلس الوحدة الاقتصاديّة العربيّة، وهل هو عمانيّ، وذلك تعليقاً على كلمته الافتتاحيّة التي حملت عنواناً واحداً، هو عمان، وشعبها الطيّب، وتجربتها المهمّة في مجال حماية المستهلك.

أترك المؤتمر قليلاً لأعود إلى القرار، فبعيداً عن مدى كون الدنجو، والفول، والفاصوليا، ومعجون الأسنان تعدّ هي السّلع الأساسيّة الأهم بالنسبة للمستهلك العماني، وبعيداً عن أنّ اللجنة الاقتصاديّة بمجلس الوزراء لم تجد أيّة قضايا اقتصاديّة محلّيّة أخرى مهمّة لتدارسها سوى هذا القرار، وبعيداً عن أنّها لم تسمع عن الاحتكار الذي يمارسه البعض في كثير من السلع الأساسيّة وغير الأساسيّة، وبعيداً عن صمت اللجنة عن (تغوّل) الوافدين في السوق المحلّي وسيطرتهم على كثير من مفاصل الاقتصاد الوطني، وبعيداً عن أهميّة  توجيه الشباب بشكل حقيقي إلى سوق العمل بدلاً من تهافتهم على الوظائف الحكوميّة، وبعيداً عن أن هناك قضايا اقتصاديّة واجتماعيّة كثيرة بحاجة إلى قرارات (ملزمة) كهذه، وبعيداً عن وجود كثير من التوصيات والمقترحات (المهمّة) التي تطرحها الجهات المختلفة تجاه القضايا المجتمعيّة المختلفة مهملة خلف الأدراج في خبايا مجلس الوزراء قد عفى عليها الزمن وأكل وشرب منها، والتي لو نفّذ ربعها لغدا مجتمعنا مختلفاً بشكل كبير.

بعيداً كذلك عن كون غرفة تجارة وصناعة عمان (التي تم الاعتماد على دراسة قديمة لها في هذا الشأن) تعبّر عن طرف واحد فقط ألا وهم التجّار ورجال الأعمال، وهؤلاء بالطبع يتحرّكون وفق مبدأ الربح والخسارة.

بعيداً أيضاً عن أنّ المبرّر القائل بأنّ قرار رئيس الهيئة بحظر رفع الأسعار يخلّ بمبادئ الاقتصاد الحرّ من منطلق أن "الاقـتصاد الوطني أساسه مبادئ الاقـتصاد الحـر"، كما أشار النظام الأساسي بذلك، هو مبرّر واهي كون أنّ هذا النظام أتى بكلمة مهمّة قبل الجملة السابقة بحيث يكون البند كالآتي "الاقـتصاد الوطني أساسه (العدالة) ومبادئ الاقـتصاد الحـر، وقوامـه التعاون البناء المثمـر بين النشاط العـام والنشاط الخاص"، إذاً فالعدالة قد سبقت تلك المبادئ، وتحقيق هذه العدالة يستدعي عدداً من الأمور يأتي قرار رئيس الهيئة كأحدها.

 بعيداً عن التساؤل البديهي الذي يمكن أن يطرحه أيّ متابع للقرار حول كيف للمجلس أن يسمح لقراراً كهذا طيلة ثلاث سنوات أن يثبّط عمليّات الانتاج، ويقتل روح الابتكار، ويخفّض الجودة، ويوجد سوق سوداء ألخ ألخ ألخ ألخ، دون تدخّل من قبلهم، وأين هي المؤشرات التي توضّح ذلك، ولماذا الآن فقط بدأ الشعور بخطورة ذلك القرار.

بعيداً عن علاقة السوق السوداء بقرار حظر رفع أسعار السلع، علماً بأنّ السوق السوداء (كا يعلم أيّ طفل في الروضة) تنشط في حالات عديدة من بينها وجود احتكار للسلع من قبل البعض، أما في حالة قرار رئيس الهيئة فالموضوع يتعلّق بتثبيت أسعار السلع مع عدم الممانعة في تخفيضها، فكيف سيشجع على ظهور سوق سوداء.

بعيداً عن كلّ هذا وذلك، يبدو أنّنا مقدمون في المرحلة القادمة على تغيير كثير من الثقافات المجتمعيّة لدينا بحيث يصبح (الدنجو) والفول والفاصوليا الحمراء هي الوجبات الأساسيّة لدينا، ويبدو أن قائمة الطعام التي كنت أتندّر عليها وأنا أراها مكتوبة على ظهر عربات الفول المحمولة في شوارع القاهرة كلّ صباح ستصبح إلزاميّة بالنسبة للعبد لله ولغيره من المواطنين، وليس غريباً أن يصحى الفرد منّا صباحاً ليجد زوجته قد أعدّت له بعضاً من الفاصوليا الحمراء، والفول بالزّيت الحار، وبعض (الدنجو) المطبوخ، ولا تستغرب عزيزي القارئ إن رأيت في طريقك محلات وأكشاك جديدة صمّمت على طريقة محلات (الكرك) بتسمياتها المختلفة، وبدلاً من عبارات شاي بالحليب، أو شاي كرك بالهيل، أو خبر الرغال، ستظهر مصطلحات غذائيّة جديدة مثل فول مدمّس، فول نابت، فول بالدقّة، فول بالليمون والبصل، فول بالبيض والطحينة، فاصوليا بالطماطم، حمّص الشام.

كما أنّ معرض الكتاب القادم قد يحوي كتباً جديدة للطبخ على غرار (50 طريقة لإعداد الفول)، (الفول المدمّس..كل وغمّس)،( دنجو ام خلفان)، (فوائد الفاصوليا في الشريعة الإسلاميّة والعلم الحديث).

ولا تنس عزيزي القارئ أننا مقبلون على شهر رمضان الكريم، وبما أنّ اليوم سيكون طويلاً، والأجواء حارّة، فلا طعام أفضل من الفول كي تتناوله في السحور، فهو ( يخلّي البطن زيّ الزلط) على قول أحبابنا المصريين، ومع الفول سيكون صيامك هذه السنة خفيفاً، بحيث لن تشعر معه بالجوع أو العطش.

بالمناسبة.. حمّص الشام هو اسم الدلع للدنجو.

د.محمد بن حمد العريمي

 

 

 

الأحد، 8 يونيو 2014

(كيف نرتقي بمنظومة التعليم)


في ندوتنا شبه اليوميّة قال لي: إذا ما أخذنا في الاعتبار تاريخ عمان الطويل مع العلم والعلماء، وتجانس الشعب العماني، وارتباطه ببلده، وولائه لقائده، وحرص جلالة السلطان واهتمامه البالغ بمسألة دفع المسيرة التعليمية في البلاد، ونهجه السّامي نحو اتخاذ العلم الطريق الأمثل لتشكيل الإنسان العمانيّ، ونقله نحو الآفاق الحضارية مع الاحتفاظ بالقيم الأصيلة للشعب العماني، فإنّنا نستطيع أن نجعل من بلدنا في مصاف الدول المتقدمة في المنطقة، بل وفي العالم ككلّ. فما الذي يستلزمه منّا تحقيق ذلك؟
 قلت له: موضوع كهذا يكاد يكون قد أشبع بحثاً ونقاشاً، وكثيرة هي الندوات والمؤتمرات والورش، بل وحتّى الجلسات الخاصّة والعامّة التي تناولته، ووضعت لأجله عشرات المقترحات والتوصيات التي تنتظر فقط من يلتفت إليها بصدق ويأخذ ببعض ما ذهبت إليه.
وما دمت قد طرحت السؤال فلا بأس بشيء من التكرار حوله، وإليك هذه النقاط: يستلزم منا تحقيق ذلك أن نبدأ من الأساس، وأن نحدّد الأهداف العامة التي نريد انجازها، أي بمعنى ماذا نريد من هذا المنتج بعد نحو 16 عاماً من التعليم المدرسي والجامعي، وما درجة الجودة المصاحبة له والتي تؤهله لكي ينافس في سوق العمل، فلا تكفي زيادة عدد الجامعات الحكومية والخاصة، أو كثرة  عدد معاهد التدريب المهني وكليات التقنية العليا، أو ارتفاع نسبة عدد البعثات، إذا لم يصاحب ذلك كله تحديداً دقيقاً  للأهداف من كل ذلك، وتغييراً في الفكر لدى المجتمع ككل حول أهمية التعليم كاستثمار طويل المدى قد يغنينا عن كثير من الثروات الطبيعية، وأن يعي الطالب أهمية اختيار التخصص المناسب لفكره ومهارته، وألا يستهين بأي نوع من التدريس ما دام قادراً على صقل مهاراته وإبراز إمكاناته، وما دام قادراً على إضافة ما يجعله يخرج إلى المجتمع فرداً مهماً منتجاً.
    يستلزم منا كذلك إيجاد شراكة حقيقية بين القائمين على شئون التعليم المدرسي، ونظرائهم في التعليم العالي الخاص والحكومي من حيث الاشتراك في وضع البرامج وتقييمها، وتبادل الخبرات، والاشتراك في برامج الإنماء المهني المتعددة، ومن حيث التركيز على أهمية التحاق الطالب بالتخصص المناسب لإمكاناته وقدراته، ووضع معايير تقيس مدى رغبة أو قدرة هؤلاء الطلبة على الالتحاق بالتخصصات التي يريدونها، لأن العملية التعليمية ينبغي أن تكون متصلة طوال فترة الدراسة في المرحلتين بنفس الأهداف العامة دون فصل بينهما.
    يستدعي كذلك أن تتغير النظرة تجاه التعلم التقني والمهني، فمازالت شريحة من المجتمع تنظر  لهذا النوع من التعليم  نظرة دونية، وأنه مكان من لا مكان لهم بين أروقة الجامعات، وللأسف فهذه النظرة لم تتغير كثيراً منذ فترة طويلة، ومازلت أتذكر العشرات من المعارف ممن تركوا هذا النوع من التعليم لحجج واهية، دون تبصير حقيقي بأهميته من قبل الأطراف المعنية سواء كانوا أهلاً أم وسائل إعلام، أم مسئولين عن هذا النوع من التعليم، متناسين أن المجتمع لا يقوم بدون مخرجات هذا النوع، وغير مدركين أن بعض الدول قد تقبل السباك أو النجار أو الميكانيكي الماهر للهجرة إليها، وفي نفس الوقت قد ترفض حامل شهادة الدكتوراه في أحد التخصصات الإنسانية، لأن هذه المجتمعات تدرك جيداً أهمية هذا النوع من التعليم، ومدى تأثيره في المجتمعات المتقدمة المتواصلة النمو الاقتصادي، ولربما يعود جزء من هذه النظرة الدونية لدينا تجاه التعليم التقني إلى ضعف الاهتمام به في مدارسنا في ظل نظام حصص لا يسمح كثيراً بأن نكشف عن إمكانات الطلاب المهنية، خاصة بعد إلغاء نظام التعليم الثانوي التجاري والصناعي والزراعي الذي كان مطبقاً في فترة من الفترات.
        يستدعي ذلك مراجعة أنظمتنا التعليمية من فترة لأخرى، للتحقق من مدى مواكبتها للتطور الحاصل في المعلوماتية، والاطلاع على تجارب الدول التي قدمت نماذج مجيدة في الاستثمار في مجال  التنمية البشرية، وأخذ المفيد من هذه التجارب بعد تطويعها لتتماشى مع واقع المجتمع العماني وخصائصه المختلفة.
يتطلب أيضاً التفعيل الجيد للتكنولوجيا في التعليم، فما زالت كثير من الأسر لا تقتني  جهاز حاسوب واحد، ومازال التعامل الورقي سائداً، ومازالت كثير من أنماط التعليم تعتمد على التلقين والحفظ والمحاضرة.
يستلزم منا أيضاً الاهتمام بالبحث العلمي بشكل جاد، وتخصيص ميزانيات مفتوحة لتمويل المشاريع والبحوث المختلفة، وتوفير المطبوعات العلمية المحكمة، فبلدنا زاخرة بالكثير من الخبايا المهمة في كافة المجالات، أين نحن مما تحويه بحارنا وصحارينا وجبالنا وسهولنا وودياننا، وأين نحن من تراثنا الزاخر بأنماط الثقافة المختلفة.
يستدعي ذلك تخصيص يوم للعلم، تخصص فيه جوائز على أعلى مستوى  لتكريم المجيدين في مجالات العلم المختلفة سواء كتشجيع للبعض، أو كتقدير للبعض الآخر، وتعرض فيه آخر ما توصلنا إليه من نتائج  لمشاريعنا ودراساتنا وبحوثنا المتعددة.
     يستلزم الاستفادة من العشرات من الباحثين والمتخصصين القابعين خلف المكاتب، والذين ينتظرون من يحنّ عليهم بدعوتهم لندوة، أو للاشتراك في بحث، أو لإلقاء محاضرة، أو لعرض نتائج ما قام به من دراسة في إحدى مجالات المعرفة المتنوعة.
يستلزم برامج إعلامية موجّهة، تبدأ من الناشئة، تفعّل الحوار، وتعرض للنماذج المجيدة من أبناء الوطن، وتناقش ما يتم تجميعه من ملاحظات قد تثري العملية التعليمية، وتجعل الشباب أكثر وعياً بأهميتها وأهميتهم في تشكيل مستقبل وطنهم، وتكون عوناً لصانع القرار من خلال ما تطرحه من رؤى وأفكار بنّاءه.
يتطلب كذلك مشاركة جادة من القطاع الخاص وأصحاب رؤوس الأموال، فلا يكفي أن نتبرع لبناء مسجد فقط، أو لدعم فريق الكرة بالنادي الفلاني، ما الذي يمنع لو تبنى بعض المقتدرين تدريس عشرة طلاب كل سنة على سبيل المثال، أو لو خصصت بعض المؤسسات نسب محددة من إجمالي دخلها لدعم العملية التعليمية في المجتمع المحيط بها.
يتطلب الاهتمام بالتعليم أشياء كثيرة قد لا تكفيها عشرات المقالات.. الأهم من هذا وذاك هو أن نعي بصدق أن العلم هو طريقنا الحقيقي والمضمون للحفاظ على مكاسبنا التي تحققت، ولضمان الرخاء الذي تحقق، فبلد الخليل وابن القاسم وابن دريد والسالمي وغيرهم ممن سطّرت كتب التاريخ أسماؤهم مقترنة بعمان لقادرة على إنجاب أسماء أخرى يكون لها السبق في مجالات العلم المختلفة، تكمل مسيرة من سبقها، وتستحث من يليها على مواصلة السير في نفس الطريق.