الثلاثاء، 24 يونيو 2014


(إنّه زمن الدّنجو)
 

في الوقت الذي كان فيه المجتمع العماني مشغولاً بمتابعة ومناقشة تداعيات قرار مجلس الوزراء الموقّر القاضي بتعديل قرار حظر رفع أسعار السلع والخدمات الذي أصدره رئيس الهيئة العامّة لحماية المستهلك في وقت سابق، وتحديد قائمة السلع التي تراقب الهيئة العامة لحماية المستهلك أسعارها، كانت قاعة (السرايا) في فندق سيتي ستار انتركونتننتال بالقاهرة تشهد افتتاح مؤتمر "حماية المستهلك في الوطن العربي.تحديات ورؤى مستقبلية"، والذي تنظمه الهيئة العامة لحماية المستهلك بالتعاون مع مجلس الوحدة الإقتصاديّة العربيّة، وجهاز حماية المستهلك المصري، بمشاركة دولية واقليمية واسعة، وحضور إعلامي فاق التوقّع، وسط اعجاب الكثير من هذه الجهات بتجربة الهيئة الرائدة خلال الفترة القصيرة لنشأتها، واتخاذها كأنموذج يحتذى به في مجال حماية المستهلك، بل والتوصية بإنشاء هيئة عربيّة لحماية المستهلك يكون مقرّها السلطنة.

وفي الوقت الذي كانت إحدى حواسّي مشغولة بتمعّن فقرات القرار (العجيب) ومحاولاتي اليائسة لفهمه وإدراك مغزاه، كانت حاسّتي الأخرى تستمع إلى كلمات الإطراء العفويّة الصادقة التي كانت تنطلق من حناجر وأفئدة مسئولين وأساتذة ومختصّين في مجال حماية المستهلك تجاه التجربة العمانيّة غير المسبوقة عربيّاً، بينما يلاحقني مندوبي الصحف والقنوات الإعلاميّة المصريّة بسؤال واحد: ما سرّ هذا النجاح الذي يجعل الكل لا حديث له سوى هذه التجربة، بل إنّ إحداهنّ تساءلت عن جنسيّة أمين عام مجلس الوحدة الاقتصاديّة العربيّة، وهل هو عمانيّ، وذلك تعليقاً على كلمته الافتتاحيّة التي حملت عنواناً واحداً، هو عمان، وشعبها الطيّب، وتجربتها المهمّة في مجال حماية المستهلك.

أترك المؤتمر قليلاً لأعود إلى القرار، فبعيداً عن مدى كون الدنجو، والفول، والفاصوليا، ومعجون الأسنان تعدّ هي السّلع الأساسيّة الأهم بالنسبة للمستهلك العماني، وبعيداً عن أنّ اللجنة الاقتصاديّة بمجلس الوزراء لم تجد أيّة قضايا اقتصاديّة محلّيّة أخرى مهمّة لتدارسها سوى هذا القرار، وبعيداً عن أنّها لم تسمع عن الاحتكار الذي يمارسه البعض في كثير من السلع الأساسيّة وغير الأساسيّة، وبعيداً عن صمت اللجنة عن (تغوّل) الوافدين في السوق المحلّي وسيطرتهم على كثير من مفاصل الاقتصاد الوطني، وبعيداً عن أهميّة  توجيه الشباب بشكل حقيقي إلى سوق العمل بدلاً من تهافتهم على الوظائف الحكوميّة، وبعيداً عن أن هناك قضايا اقتصاديّة واجتماعيّة كثيرة بحاجة إلى قرارات (ملزمة) كهذه، وبعيداً عن وجود كثير من التوصيات والمقترحات (المهمّة) التي تطرحها الجهات المختلفة تجاه القضايا المجتمعيّة المختلفة مهملة خلف الأدراج في خبايا مجلس الوزراء قد عفى عليها الزمن وأكل وشرب منها، والتي لو نفّذ ربعها لغدا مجتمعنا مختلفاً بشكل كبير.

بعيداً كذلك عن كون غرفة تجارة وصناعة عمان (التي تم الاعتماد على دراسة قديمة لها في هذا الشأن) تعبّر عن طرف واحد فقط ألا وهم التجّار ورجال الأعمال، وهؤلاء بالطبع يتحرّكون وفق مبدأ الربح والخسارة.

بعيداً أيضاً عن أنّ المبرّر القائل بأنّ قرار رئيس الهيئة بحظر رفع الأسعار يخلّ بمبادئ الاقتصاد الحرّ من منطلق أن "الاقـتصاد الوطني أساسه مبادئ الاقـتصاد الحـر"، كما أشار النظام الأساسي بذلك، هو مبرّر واهي كون أنّ هذا النظام أتى بكلمة مهمّة قبل الجملة السابقة بحيث يكون البند كالآتي "الاقـتصاد الوطني أساسه (العدالة) ومبادئ الاقـتصاد الحـر، وقوامـه التعاون البناء المثمـر بين النشاط العـام والنشاط الخاص"، إذاً فالعدالة قد سبقت تلك المبادئ، وتحقيق هذه العدالة يستدعي عدداً من الأمور يأتي قرار رئيس الهيئة كأحدها.

 بعيداً عن التساؤل البديهي الذي يمكن أن يطرحه أيّ متابع للقرار حول كيف للمجلس أن يسمح لقراراً كهذا طيلة ثلاث سنوات أن يثبّط عمليّات الانتاج، ويقتل روح الابتكار، ويخفّض الجودة، ويوجد سوق سوداء ألخ ألخ ألخ ألخ، دون تدخّل من قبلهم، وأين هي المؤشرات التي توضّح ذلك، ولماذا الآن فقط بدأ الشعور بخطورة ذلك القرار.

بعيداً عن علاقة السوق السوداء بقرار حظر رفع أسعار السلع، علماً بأنّ السوق السوداء (كا يعلم أيّ طفل في الروضة) تنشط في حالات عديدة من بينها وجود احتكار للسلع من قبل البعض، أما في حالة قرار رئيس الهيئة فالموضوع يتعلّق بتثبيت أسعار السلع مع عدم الممانعة في تخفيضها، فكيف سيشجع على ظهور سوق سوداء.

بعيداً عن كلّ هذا وذلك، يبدو أنّنا مقدمون في المرحلة القادمة على تغيير كثير من الثقافات المجتمعيّة لدينا بحيث يصبح (الدنجو) والفول والفاصوليا الحمراء هي الوجبات الأساسيّة لدينا، ويبدو أن قائمة الطعام التي كنت أتندّر عليها وأنا أراها مكتوبة على ظهر عربات الفول المحمولة في شوارع القاهرة كلّ صباح ستصبح إلزاميّة بالنسبة للعبد لله ولغيره من المواطنين، وليس غريباً أن يصحى الفرد منّا صباحاً ليجد زوجته قد أعدّت له بعضاً من الفاصوليا الحمراء، والفول بالزّيت الحار، وبعض (الدنجو) المطبوخ، ولا تستغرب عزيزي القارئ إن رأيت في طريقك محلات وأكشاك جديدة صمّمت على طريقة محلات (الكرك) بتسمياتها المختلفة، وبدلاً من عبارات شاي بالحليب، أو شاي كرك بالهيل، أو خبر الرغال، ستظهر مصطلحات غذائيّة جديدة مثل فول مدمّس، فول نابت، فول بالدقّة، فول بالليمون والبصل، فول بالبيض والطحينة، فاصوليا بالطماطم، حمّص الشام.

كما أنّ معرض الكتاب القادم قد يحوي كتباً جديدة للطبخ على غرار (50 طريقة لإعداد الفول)، (الفول المدمّس..كل وغمّس)،( دنجو ام خلفان)، (فوائد الفاصوليا في الشريعة الإسلاميّة والعلم الحديث).

ولا تنس عزيزي القارئ أننا مقبلون على شهر رمضان الكريم، وبما أنّ اليوم سيكون طويلاً، والأجواء حارّة، فلا طعام أفضل من الفول كي تتناوله في السحور، فهو ( يخلّي البطن زيّ الزلط) على قول أحبابنا المصريين، ومع الفول سيكون صيامك هذه السنة خفيفاً، بحيث لن تشعر معه بالجوع أو العطش.

بالمناسبة.. حمّص الشام هو اسم الدلع للدنجو.

د.محمد بن حمد العريمي

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.