الثلاثاء، 23 مايو 2017

في بلاد القدّيس جورج (5)

كنّا قد وصلنا إلى حديقة (رايك) بعد عبورنا لجسر السلام، وهي أشبه بميدانٍ أخضرٍ فسيح تتوزّع على جنباته المقاعد الخشبيّة، وتتوسّطه نوافير مختلفة، وتحيط به معالم حضاريّة متنوّعة، ويتوسّط الحديقة مبنى التلفريك أو الترام الجوّي الذي يربط بين المعالم السياحيّة القريبة، والذي قطعنا منه تذكرتين لجولة تشمل تلك المعالم التي كنا نراها ولا نكاد نصل إليها!

يرتفع بنا التلفريك عالياً متكرّماً ومتفضّلاً علينا برؤية أحلى لوحةٍ بانوراميّة عجيبة لا يمكن محوها بسهولةٍ من الذاكرة، حيث يمكن أن تلامس أبراج الكنائس، وتقترب من أسوار القلاع القديمة، وتساير النهر في رحلة عبوره إلى المصبّ حتى يتوقّف بنا قريباً من نصب (كارتفليس دادا)، أو  أم الجورجيين، وهو تمثالٌ ضخم من الألمنيوم يبلغ طوله حوالي عشرين متراً بني في العيد 1500 لإنشاء تبليسي، ويمثّل امرأةً ترتدي الزيّ الجورجيّ، وتحمل في يدها اليسرى وعاءً من النبيذ، وفي يدها الأخرى سيفاً مصقولاً، في إشارة إلى ترحيب البلد بالأصدقاء، وتصدّيهم للأعداء!

وعلى ذكر النبيذ، فلا شيء أوفر من النبيذ في هذا البلد، فهو يباع في كلّ محلٍ وكشك، عدا المقاهي والمطاعم والحانات، حتى لتكاد تجزم أنهم يستخدمونه بدلاً عن الماء، وتكاد مصانعه تتفوّق على أعداد الكنائس فيها، بل إن هناك مزارات سياحيّة عدّة هي عبارة عن مصانع لإعداد النبيذ يتعرّف من خلالها الزائر على كيفية تصنيعه، ومراحل عصره وتعتيقه، والفرق بينه وبين الأنواع الأخرى المنافسة، ومن العادات المتعارف عليها هنا عند إقامتك في أحد الفنادق أو الشقق، أو زيارتك لإحدى الأسر هو تقديم هدايا من زجاجات النبيذ المعتّق للضيوف في إشارة إلى الودّ والترحيب، بل إن أغلب محلات مطار تبليسي (القليلة) مخصّصة لبيعها دون غيرها من السلع!

يهبط بنا التلفريك مرّة أخرى، لنرجع عائدين حيث بائعة عصير الرمّان على مدخل الجسر، وحيث ثاني كوبٍ منه خلال ساعة. أسأل أسامه عن جولتنا التالية فيقترح علينا الذهاب إلى (متاتسميندا بارك)، وهو: مكان كلّش حلو وراح يعجبكم هوايه (يقولها بلهجته العراقيّة المحبّبه). ننطلق إلى هناك لأكتشف أنّه ذات المكان المرتفع الذي كنت أراه في كل مكان أذهب إليه في تبليسي، والذي كنت أتساءل عن كنهه، فأعتقد أحياناً أنه مركز اتصالات بسبب وجود البرج العالي الذي يتوسّطه، وأتوقّعه تارةً أنه حديقة طبيعيّة! نصل إلى بوّابته لنقطع تذاكر لنا بقيمة ثلاثة لاريّات لكل منّا ثم نقف في طابور منتظم ننتظر القطار الذي يشبه التلفريك والذي سيحملنا إلى أعلى الجبل حيث يوجد المنتزه على ارتفاع حوالي 900 متر! يأتي القطار ليحملنا وقلوبنا مضطربة كاضطراب قلب متّهمٍ يساق إلى المقصلة، ذلك أن القطار كان يصعد بشكلٍ رأسيّ وكأنّه يصعد إلى الفضاء، وأيّ توقّف أو انقطاع لسلكٍ معيّن كفيلٌ بأن يهوي بنا من علوٍ شاهقٍ كفيلٍ بتحويلنا إلى كفتةٍ أشبه بكفتة الحاج عبد العاطي بتاع علاج الإيدز، لكن الله ستر ووصلنا أخيراً إلى قمّة الجبل حيث أجمل مكان يمكن أن تزوره في المدينة، وحيث ألطف نسمة هواء يمكن أن تدغدغ مشاعرك خاصّة لو زرت المدينة خلال فترة الصيف.

وخلال تجوالنا في المكان الذي أنشئ عام 1905 اكتشفنا أنه متعدّد المعالم والأغراض والأنشطة، فهو مدينة ملاهي تضم العديد من المناشط الترفيهيّة المختلفة للأطفال من مدينةٍ مائيّة، وبيوت رعب، ومجسّمات لحيوانات منقرضة، وألعابٍ كهربائيّة، وغيرها من الألعاب المختلفة، وهو في ذات الوقت حديقة طبيعيّة مترامية الأطراف، يحتوي على أماكن للمشي، وأخرى للجلوس والتأمّل، وثالثة للعشّاق والمحبّين الذين لا يجد بعضهم ارتياحاً في التعبير عن مشاعرهم سوى في حضرة الجميع وكأنهم يقولوا لمن حولهم: اشهدوا أننا عشّاق!! يضم المنتزه كذلك مناظير موزّعة على السور المحيط به، تعمل من خلال دسّ عملةٍ معدنيّة في فتحة مخصّصة لذلك، ويمكن من خلالها استكشاف معالم المدينة التي يمكن مشاهدتها وكأنّها لوحةٌ واحدة من هذا الارتفاع! كما يتوسّطه برج عالِ الارتفاع يستخدم لأغراض الاتصالات ويعدّ من معالم المدينة لارتفاعه الشاهق، ويضم مبنى ضخم يحتوي على عدّة شرفات، وبه مطعم ذو إطلالة رائعة، عدا المقاهي العديدة المتناثرة في أرجاء المنتزه.

كان من بين المناظر التي شدّت انتباهي وأنا أكتشف المدينة من خلال المنظار المقرّب المثبّت على سور المنتزه تلك الكاتدرائيّة الضخمة التي تتوسّط المدينة بقبّتها الذهبيّة الجميلة، كنت قد رأيت خلال جولاتي السابقة عدداً من الكنائس المختلفة لكنها جميعاً كانت دون هذه الكنيسة في الحجم أو الشكل، أفتح العم جوجل للبحث عن معلوماتٍ أوفى عنها كما أفعل في كل مرّة أستكشف فيه معلماً لم يسبق لي زيارته مستغلاً توافر (الواي فاي) المجّاني داخل المنتزه حيث لم أكن قد استخرجت شريحة هاتف بعد، ليجيبني العم جوجل أنها كاتدرائيّة الثالوث المقدّس، أو (تسمندا ساميبا) والتي تعد الصرح الديني الأكبر في جورجيا قاطبة، بل إنها تعدّ من أبرز الكنائس الأرثوذكسيّة على مستوى العالم.

ولأنني هاوٍ للتاريخ، مغرمٌ بدروسه كغرامِ قيسٍ بليلى، ولأنه كان تخصصي الرئيس طوال سنوات طويلةٍ من دراستي كان لزاماً عليّ زيارتها، وهاتفٌ خفيّ ينبعث بصوتِ الدكتور محمد أمين أستاذي الذي درست على يديه تاريخ أوروبا في العصور الوسطى يحفّزني كي أذهب وإلا خصم شيئاً من أعمال السنة! نتوجّه إلى الكنيسة التي بنيت على ضفّة نهر كورا والتي تنتصف المدينة لنقف أمام باحتها الكبيرة حيث النوافير المتوزعة على يمين ويسار الأدراج التي تأخذك لبوابة المبنى، وحيث المساحة الخضراء التي تغطّي تلك الباحة، وحيث السياح يتوزّعون لأخذ السيلفي بعيداً عن التاريخ وهمومه!  

أقف الآن وسط الكنيسة بعد أن تخطيت الأدراج العديدة التي توصل إلى المبنى، ها هي المنمنمات والرسومات واللوحات الزيتيّة التي تصوّر السيد المسيح وأمه العذراء والقديسين تتوزع على جدران الكنيسة كما هي العادة في كافّة كنائس الشرق! أتأمل السقف فأتخيّل مايكل أنجلو يرسم لوحة العشاء الأخير، ثمّة راهبٍ أو أبٍ يمرّ بجواري ليشعل بعض الشموع هنا وهناك فتتداعى أمامي كل القصص التي قرأتها عن عصور أوروبا الوسطى، وعن هجمات البربر، وعن سطوة الكنيسة، وصكوك الغفران، وغيرها من ملامح ذلك العصر.
آخذ جولة سريعة في أقسام الكنيسة الخمسة، وأمر على مصلى الملائكة، ويوحنا المعمدان، ثم أتذكر ملل رفاقي في الخارج تاركين هذا الترف الفكري، وحصة التاريخ هذه لأمثالي، لنستكمل جولة أخرى من جولاتنا وسط أجواء من البرودة القارسة في ربوع مدينة الدفء.

الاثنين، 8 مايو 2017

في بلاد القدّيس جورج (3)

الساعة العاشرة من صباح أول يوم لنا في جورجيا. كنت قد انتهيت من جولتي الاستكشافيّة الصباحيّة في شارع روستافيلي الشهير، ويمكن القول إنني تعرّفت على نصف معالم المدينة خلال تلك الجولة. تذكّرني تبليسي بمدينة الرباط المغربيّة، حيث المدينة (ملمومة)، واضحة المعالم، ذات تصميمٍ هادئ غير مزعج للعين، يمكن أن تحفظ طرقاتها بعد جولة أو اثنتين وكأنها قرية صغيرة لا عاصمة لدولة!

يصل أسامة ليأخذنا في جولة اليوم الأول التي خصصناها لمعالم العاصمة. أسامة شابٌ عراقي يعمل مرشداً في شركة السياحة التي يملكها صديقي المصري كريم البنهاوي الأصل، الشبراوي النشأة. ابن بنها العسل الذي أتى ليجرّب حظّه وينجح في جورجيا المشهورة بالعسل كشهرة الهند بالفلفل. يا لمفارقات الأيام! وأقدارنا بيد السماء يا نهر البنفسج! لم أعتد التعاقد مع مكاتب سياحيّة، ولا الاستعانة بأدلاء أو مرشدين في أيّ بلدٍ أزوره، تاركاً كل شيء للتجربة والاستكشاف، وبعضٍ من حصيلةٍ معرفيّة بسيطةٍ عن البلد التي أنتوي زيارتها، فلا روعة تعادل لهفة استكشاف الأماكن، ولا جمال يوازي الانبهار بالمجهول! لكنني كسرت القاعدة هذه المرة لأسبابٍ عدّة أهمّها رغبتي في توفير إقامة مثاليّة لمرافقي الذي يصحبني لأول مرّة طوال الأيام الثمان التي سنقضيها وأنا الذي اعتدت السفر وحيداً كذئبٍ متفرّد، وقد يعود ربّما إلى قلقٍ داخليّ من المجهول في بلدٍ ليس معروفاً جداً بالنسبة لي، ولم أذاكره جيّداً كما فعلت في رحلاتي السابقة!

تبدأ جولتنا من شارع روستافيللي مروراً بذات الأماكن التي مررت عليها صباحاً باتجاه ميدان الحريّة حيث محطة توقفنا الأولى. أشير بإصبعي إلى الماكدونالدز الذي كان ظهوره تحدياً لحقبة ثمانين عاماً من الثقافة الإشتراكيّة، ثم إلى مبنى الاوبرا بتصميمه الأندلسيّ. يليه مبنى البرلمان القديم لجورجيا بأعمدته العالية كأنك في قلب بيزنطه القديمة! والمتحف الوطنيّ الجورجيّ، وكنيسة كاشفيتي بقبّتها المدبّبة التي لن تجدها سوى في كنائس جورجيا. لا شيء أكثر من الكنائس هنا، كما هي الجوامع في إسطنبول، والمآذن في القاهرة. وسط استغراب من أسامة وأحمد، فكيف لي أن أعرف كل هذا وأنا الذي ما زالت رجلي ساخنة، أو بالأحرى يفترض أنها المرّة الأولى التي أرى فيها هذه المعالم!! لم أخبرهم بالطبع أنني قطعت هذا الشارع صباحاً ومررت على كل حجر فيه بينما هم يتدثّرون بفراشهم هرباً من لسعة بردٍ قارسة في مدينة تسمى بمدينة الدفء! 

تقف السيارة في إحدى نواصي ميدان الحريّة بساحته الواسعة، وفنادقه الراقية، ومقاهيه (الشيك) التي تحيط به. يعد هذا الميدان قلب العاصمة، وهو يمثّل ذات الأهميّة التي يمثلها ميدان التحرير في القاهرة، أو الكونكورد في باريس، ومنه تنطلق المظاهرات والأحداث الساخنة، بل إنّه كان الساحة الرئيسية زمن الثورة الجورجية عام٢٠٠٣. يميّز الميدان عمود شاهق الارتفاع عليه تمثال ذهبي. نأخذ جولة سريعة في ساحته، وبعضاً من صورٍ سنبعثها فيما بعد هنا وهناك. يقترح علينا أسامه أن نجرّب الكاشابوري أو (الخاشبوري كما يطلق عليه البعض) وهي فطيرة مصنوعة من عجينة تشبه عجينة البيتزا مغطاة بالجبن. المطبخ الجورجي مطبخ متنوّع، وهو متأثر بلا شك بالمطبخ الروسي، وهناك العديد من المطاعم الجورجيّة الراقية التي تقدّم الطعام الجورجيّ الصميم الذي يشتهر بلذّته ووفرة كميّاته المقدّمة وتنوّع أطباقه، فهناك الخينكالى وهي وجبة شبيهة بالزلابية تطهى مع البطاطس ولحم البقر والجبن أو الفطر، وهناك (كاشابورى أدجارولى) وهو عجينة على شكل قارب تغطي سطحها الجبن الذائب تتوسطها بيضة مسلوقة. على الرغم من تنوّع ولذة الأطباق التي يقدّمها المطبخ الجورجي إلا أن التخوّف من طريقة الذبح، أو عدم توافق المكوّنات مع الشريعة الإسلاميّة يجعل العديد من السيّاح العرب والمسلمين ينفرون من تلك المطاعم مفضّلين عليها المطاعم التركيّة والإيرانيّة التي تقدّم نفسها بكلمة (حلال) الموضوعة على واجهة مداخل تلك المطاعم! 

من مقهى دونكين دوناتس الذي يقع على ناصية ساحة الميدان والذي تناولنا فيه إفطارنا الصباحيّ المكوّن من أقداح الشاي والقهوة وأطباق الخاشبوري، نكمل جولتنا حيث ندخل شارع (كوت أفخازي) المؤدي إلى تبليسي القديمة، وهو شارع يشابه الشوارع المنتشرة في منطقة السلطان أحمد في إسطنبول القديمة حيث مكاتب السياحة، والمطاعم الكلاسيكيّة، والمقاهي المفتوحة، والبازارات، وحيث الكنائس المتلاصقة والبيوت القديمة التي رمّمت وحوّلت إلى نزل وحانات ومطاعم لنصل بعدها إلى ميدان تبليسي القديمة، حيث نلمح لافتةً ضخمة كتب عليها باللغة الإنجليزيّة عبارة (أنا أحب جورجيا) وحولها العديد من السيّاح الذي يلتقطون السيلفي أو الصور الجماعيّة أمامها.

تتميّز المدينة القديمة بشوارعها الضيقة وأبنيتها المحافظة على خصائص العمارة القوقازيّة فأغلب المباني هنا مؤلّفة من طابقين أو ثلاثة، كما أنها تتميّز بمشربيّات ونوافذ واسعة وكأنك في قلب مدينة شرقيّة. الساحة التي هبطنا فيها تعجّ بالحركة والنشاط: بازارات تعجّ بأنواع الهدايا والتذكارات، وأخرى لعرض وبيع السجّاد. مجموعة من أصحاب السيارات حولوا مركباتهم إلى معارض مفتوحة للبرامج السياحيّة التي يقدّمونها، بعض الباعة من الرجال والنساء من مختلف الأعمار يبيعون العسل والعصير الطازج الذي يتم عصره أمامك. جرّبت بعدها شرب كوب من عصير الرمّان فندمت ألف مرّة على كل لحظة واتتني لشربه ولم أفعل! مجموعة من الحمّامات الكبريتيّة المبنيّة من الطين والفخار والتي تعد من أسباب شهرة البلد سياحيّاً. مسجد الجامع المبني على الطراز الفارسي والذي يعدّ الوحيد في المدينة وتقام به صلاة الجمعة. عدد من البيوت ذات الطابقين والثلاثة التي تطل على الساحة وعلى النهر الصغير الذي يفصلها عنه. وسط جوّ منعش لا يخلو من لسعة برد خفيفة نواصل جولتنا وسط كل هذا حتى نصل إلى الشلال الذي ينبع منه النهر ثم نعبر جسراً علّقت على أطرافه مجموعة من الأقفال كتبت عليها أسماء العشّاق والمحبّين كتقليدٍ اشتهر به المكان، أو لارتباطه بأسطورةً أو خرافةٍ معيّنة! لنصعد بعدها سلّماً حديدياً يصلنا إلى الحارة المعلّقة والتي تتميّز بإطلالتها الجميلة على المدينة، ونظافتها الشديدة، وحسن تنسيق بيوتها، وكأنك في رقعة شطرنج لا وسط حارة سكنيّة! لنعاود الصعود حتى نصل قلعة ناريكالا الشهيرة.

د. محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 2 مايو 2017

في بلاد القدّيس جورج (2)

أصحو مبكّراً في أول يوم لي في تبليسي متلهّفاً على اكتشاف المدينة ريثما ينتهي أحمد من إعداد القهوة العمانيّة وتجهيز التمر بأنواعه السكّري والشيشي والخلاص وهي أنواع مستوردة في بلد كانت تفتخر بالنخلة كشعار! موعد جولتنا السياحيّة يبدأ في العاشرة صباحاً وهو موعد متأخر بالنسبة لي وأنا الذي اعتدت على أنزل إلى الشارع منذ الصباح الباكر، وقبل أن تستيقظ الطيور، وكأن هناك ما سيفوتني حتى لو كنت أزور المدينة ذاتها للمرة الألف! أطالع مؤشر الحرارة فأجدها دون العاشرة في المدينة التي يعني اسمها عند الجورجيين (مدينة الدفء) وأنا الذي كنت متلهّفاً لمعانقة الربيع الذي كنت أسمع وأقرأ عن أزهاره ووروده ومروجه الخضراء في أغاني الإذاعة، ومناهج المرحلة الابتدائية دون أن أشمّ رائحة لوردة، أو ألمح أثراً لمرج، سوى رائحة الغبار، وسوى الرياح المحمّلة بالحصى والأتربة والتي تضطرك لتغطية عينيك طوال الطريق من المدرسة إلى البيت خوفاً من احمرارها دون أن تقدر على وأد حلمك في رؤية الربيع يوماً ما!

أنزل من الشقّة التي تقع في شارع سيمون جاناشيا نسبة إلى المؤرخ الجورجيّ العظيم، والمتفرّع من روستافيلي والذي تذكّرني ملامحه بشوارع المهندسين ومدينة نصر في القاهرة مع فارق رهيب في الهدوء، وصوت (الكلاكسات) والبوّابين وباعة الخبز والروبابيكيا وكل ما يمت بصلة قرابة إلى ثقافة الشوارع في مصر، والتي تعد بحد ذاتها ظاهرة لها عشّاقها ومحبّيها ومريديها! لأهبط درجات الشارع المرصوف بحجر الإسكافي متأملاً ما حولي من بنايات ومحلات وأشجار وسط هدوء قاتل لا يبدده سوى مرور شخص أو اثنين من كبار السن يبدو أنهما اعتادا التريّض صباحاً على الرغم من أن اليوم يصادف عطلة رسميّة لأجد نفسي أخيراً في شارع روستافيلي أحد أكثر شوارع تبليسي بل جورجيا شعبيّة وشهرة.

وعلى الرغم من أن روستافيلي يعد الشارع الأكبر والأشهر في تبليسي إلا أن هدوءه لم يكن أقل من الشوارع الجانبيّة التي تتفرّع منه برغم عدد سكان العاصمة الذي يفوق المليون نسمة، وهو رقم كبير في بلد لا يتجاوز عدد سكّانها حاجز الخمسة ملايين نسمة، إلا أن هذا الهدوء قد يعد سمة ظاهرة في هذا البلد لدرجة أن أحد الأصدقاء طلب مني أن أصوّر له مقطعاً يحوي مجموعة من البشر ليتأكد من أنني لست في أحد القطبين بعد أن طغت ظاهرة الهدوء على صوري المتعدّدة التي كنت أبعثها له بين الحينة والأخرى!

وسط أجواء باردة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وملابس خفيفة لا تتوافق بتاتاً مع الأجواء المحيطة وأنا الذي تركت مؤشر الحرارة في مطار مسقط عند 41 درجة عصراً، ووسط نظرات استغرابٍ (مؤدّبة) من قبل المارّة القلائل في هذا الوقت المبكّر من صباح الأحد تجاه هذا الكائن الفضائيّ الغريب الذي يرتدي شورتاً وقميصاً فضفاضاً يصلح لكل شيء عدا اللبس في أجواء كهذه كنت أقطع الشارع الجميل الذي سمّي بهذا الاسم نسبة إلى شاعر جورجيا الكبير شوتا روستافيلي وسط حالة انبهار كبيرة، فها هي النظرة الذهنية المسبقة عن هذه الدولة تبدأ تدريجياً في التغيّر، ولم تعد الطبيعة وحدها هي ما كنت أعتقد أنه يميّزها كبلد سياحي، فعلى جانبي الطريق الذي أكتشفه لأول مرّة، والذي سأحفظه عن ظهر غيب بعد يومٍ واحد فقط توزّع العديد من عمّال النظافة الذي لا أعلم بالضبط ماذا يفعلون في شارع هو أنظف من رئة طفل، وعدا بعض أوراق الشجر المتساقطة فإنك بالكاد تلمح ورقة أو منديلاً أو ذرّة تراب هنا أو هناك، وطوال سيري كنت ألمح العشرات من المباني التاريخيّة الجميلة التي تضم مؤسسات حكوميّة، ومتاحف، وكنائس، وفنادق، ومحلات وغيرها من الأنشطة، فها هي الأكاديميّة الجورجيّة للعلوم، وهذا متحف جورجيا الوطني، وتلك كنيسة كاشفيتي، وذاك متحف سيمون جاناشيا، وها هو مبنى البرلمان بأعمدته الرومانيّة المميّزة، وساحته الضخمة، وحرّاسه الأنيقين كلوردٍ انجليزيّ. وعلى امتداد الطريق ستلمح العديد من التماثيل النصفيّة أو الكاملة لشخصيات جورجيّة عديدة، وتنتصب هنا وهناك ساعات ضخمة تنبّه الناس إلى الوقت في زمن أصبح الوقت فيه آخر اهتمامات البشر! وستلاحظ مساحات صغيرة من أرصفة الشارع يستخدمها الباعة في بيع بعض المنتجات الحرفية اليدوية والاعمال الفنية من لوحات ومنحوتات صغيرة، وستمر بالعديد من المقاعد الخشبية العامّة أو التي تخص المقاهي العديدة المتناثرة والتي تغريك بالجلوس للتأمل، أو لاحتساء فنجان قهوةٍ صباحيّ، أو لالتقاط الصور الشخصيّة التي لن تجد خلفيّة أجمل مما يحيط بك! 

وطوال رحلة الكيلو والنصف الممتدّة بين شارع كوستافا حيث يبدأ روستافيلي، وانتهاءٍ بليبراتي سكوير أو ميدان الحرية حيث سرّة المدينة، وحيث ينتهي الشارع عند الميدان الجميل الذي ينتصفه عمود رخامي يعلوه تمثال ذهبي، ويحيط به مباني تاريخيّة مهمّة كأوبرا تبليسي، ومسرح الباليه، وفنادق فخمة كفندقي الماريوت وبلتيمور، شدّني من ضمن العشرات من الأمور التي أثارت انتباهي أمرين مهمّين: أولهما هو ذلك التناقض العجيب بين ثقافتين تنتمي كل منهما إلى معسكر مختلف تماماً، وهو أمرٌ سألاحظه فيما بعد عند زيارتي لمدن وأماكن أخرى في جورجيا، فطوال سيرك في الشوارع سترى سيّارات ومباني تنتمي إلى حقبة الشيوعيّة والفكر الاشتراكي، وأخرى تعبّر تماماً عن التحوّل العكسي تجاه الرأسماليّة والثقافة الغربيّة، حيث تتجاور البنايات السكنيّة الضخمة القبيحة المنظر بشققها الضيّقة والتي كانت تعبّر عن نظام التضامن الاجتماعي في مجال الإسكان زمن الاشتراكية مع العمارات الكلاسيكيّة القديمة التي أعيد تجديدها لتتحوّل إلى فروع لفنادق ومطاعم ومقاهي ومحلات غربيّة، وحيث ترى ماكدونالدز مقابلاً لمطعم يقدّم أطباقاً جورجيّة وروسيّة صميمة، وحيث تقف سيّارات لادا الرخيصة وبقية إخوتها من منتجات المصانع زمن الحقبة السوفييتيّة مع نظيراتها الحديثة من منتجات مصانع اليابان وأوروبا والولايات المتحدة!


الأمر الآخر الذي شدّني في أول يوم لي في مدينة الدفء وسيشدّني في بقيّة المدن كذلك هو المحافظة الصارمة على المباني القديمة، بحيث يمنع هدمها وإزالتها أو استبدالها بأبراج إسمنتيّة قبيحة الشكل، بل يعاد ترميمها وتحويلها إلى مقرات لأنشطة اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو فكريّة متنوّعة، وويل لمن يخالف هذا الأمر! لذا فلا عجب أن تتحوّل شوارع تبليسي أو باتومي إلى تحفة فنّيّة رائعة بفضل الملامح الجميلة لتلك البنايات التي تتوزع على طول الشوارع الرئيسة والتي تفنّن في تصميمها عباقرة الفن المعماري في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بحيث تشعر وكأنك تتجوّل في متحف مفتوح لا مدينة حيّة، وبحيث تشعر كذلك وكأنك في قلب باريس أو لندن أو فيينا! أعرف أماكن أخرى من خارطة العالم يتفنّن البعض فيها بهدم التراث المادّي على اعتبار أنّه يشوّه المكان، وعلى اعتبار أنّه مكان لتجمّع الحشرات والهوام والحيوانات الضالّة! وعندما تناقش بعض المتنفّذين من أعضاء برلمان أو مسئولي حكومة حول أهميّة وجود قانون ينظّم المحافظة على هذه الشواهد، ويقنّن عمليّة هدمها، وينظّم آلية الاستفادة منها باعتبارها شواهد تاريخيّة وفكريّة وسياحيّة، ينظر إليك ببلاهة وتعجّب ولا مبالاة كعربيّ وسط حارة صينيّة ولسان حاله يقول: يا عمي روح العب بعيييد!!