الأربعاء، 16 أبريل 2014

( رجل بألف )

قبل سنوات من الآن كنت في زيارة إلى أحد الأصدقاء في إحدى ولايات السلطنة، وبينما كنّا في مجلسهم العامر، إذ بصورة لأحد المشايخ قد وضعت في برواز جانبي. سألت عن صاحب الصورة فقيل لي إنّه الشيخ حمود الصوّافي.

لم أعر موضوع الصورة أهمّيّة وقتها، وقلت لنفسي: لربّما هو أحد الشباب المتأثّر بشيخه لدرجة الهوس. ولكنّ اسم الشيخ ظلّ يتردّد على مسامعي كثيراً بعد ذلك من حديث بعض الأصدقاء والمعارف الذين حرصت على أن أسألهم عن هذا الشيخ (الظاهرة) خاصّة وأنّ أصداء مدرسته الصّيفيّة، ورحلاته شبه السنويّة إلى شرقي أفريقيا أصبحت لا تفارق مسمعي في كل جلسة يأتي فيها ذكر الشيخ، حتّى وقع في يدي كتاب بعنوان "الشيخ حمود بن حميد الصوافي.. سيرة حياة" للمؤلف سالم بن مسعود الصّوّافي.

عندما اطّلعت على الكتاب، وقرأت شذرات عن حياة الشيخ في كتب أخرى كالنمير، و"قل هذا سبيلي" أدركت وقتها أن كل ما عرفته من قبل ربّما لا يساوي شيئاً من مواقف الشيخ وصفاته التي أترككم مع بعضها كما نقلته أو أعدت صياغته من الكتاب المشار إليه، فالشيخ مدرسة أخلاقيّة في كلّ شيئ، وهو في مواقفه المختلفة يضرب لمن حوله المثل، ويقدّم لهم الدروس في كيفيّة التعامل مع الآخرين واحتوائهم، وهي أمثلة قد تعجز برامج التنمية البشريّة الحديثة بكل أناقة مقدّميها، وبرغم أسعارهم المبالغ فيها أن يأتوا بجزء منها، فهو "عندما يرى يتيماً فإنّه يرفع غطاء رأسه من مصر ّ أو كمّة فيمسح على رأسه"، كما أنّه عند مروره على مجموعة من الأطفال فإنه يبادرهم بالسّلام، أو ينحني ليقترب منهم، ويداعبهم ويباسطهم في الكلام، كما كان من عادته بعد أن ينهي درسه الفقهي في مسجده أو قبل صلاة العيد، أو قبل صلاة الاستسقاء أن يسأل عن الصّغار فيوزّع عليهم بعض المبالغ النقديّة، أو شيئاً من اللوز والجوز، وذلك ليذهب الوحشة من قلوبهم، وليدخل شيئاً من السّعادة على قلوبهم.

أمّا في جانب التّكافل الاجتماعي فكثير من القصص والمواقف تدلّ على وقته الكثير الذي يقضيه في سبيل مساعدة الناس وإعانتهم على قضاء حوائجهم الدينيّة والدنيويّة، فكم من شاب ساعده على قضاء دينه وكشف كربته، وكم سعى إلى تخليص معاملة في دائرة من الدوائر الحكوميّة، وكم اجتهد لمساعدة شخص في اقتراض مبلغ من المال للزواج أو لقضاء دين، وكان يعاتب المقرّبين منه إذا ما علم أنّ ثمّة فقير أو محتاج يسكن في المنطقة، ولا يعلمون بحاله ولا بأحواله، ويرى أنّ ذلك من التقصير في الناس، فهو " يضجّ الجالس عنده من كثرة الزّحام وحاجات الناس، والشيخ مسرور تظهر البشاشة عليه، وعندما يسافر إلى الحجّ أو إلى مسقط أو إلى أيّ مكان آخر فإنه يتّصل ويسأل : هل هناك ضيوف، هل هناك صاحب حاجة؟ افتحوا الباب لهم".

كما أنّ إحسانه لم يقتصر فقط على البشر، بل تعدّاه إلى الحيوانات كذلك، حيث تجد القطط في بعض الأحيان تقترب من منزله فيسمع مواءهنّ فيستجيب الشيخ، ويأمر أحد طلابه بالإحسان إليهنّ ويقول : أكرموا الأضياف. يقول أحد طلابه" تسحرت معه ذات ليلة، فسمعته يتّصل بأهله ليحضروا شيئاً من الطعام للقطط، لأنّ الطّعام المقدّم للشيخ وطلابه في تلك الليلة لا يتناسب مع القطط".

وكان في تربيته للنشء يعتمد أسلوب القدوة، ففي إحدى المرّات وعندما سمع بإحدى النكبات الجوّيّة التي أصابت إحدى الدول الإسلاميّة، ذكّر الناس بعد إحدى الصلوات بمصاب إخوانهم، ودعاهم إلى الوقوف معهم، ثم أعقب كلامه بالتطبيق المباشر إذ تبرّع بشيء من المال، ثم قال : أين الطلبة؟ هل معكم شيء؟ تفضلوا ولو بمائة بيسة فإنها تنفع.

وكان يضرب به المثل في صلة الجيران والإحسان إليهم وحفظ حقوقهم حتى لو انتقل ذلك الجار إلى مكان آخر، ففي إحدى المرّات توفّي أحد الأشخاص من أهل البلد، فذهب الشيخ لتعزية أهله، وقال للطلبة "إنّ هذا الرجل كان جاراً لنا عندما كنّا نسكن في الحارة القديمة".

وبرغم رحلته الطّويلة مع العلم ومجالسه وعلماءه، إلا أنّك تراه متواضعاً وكأنّه طالب علم في مقتبل عمره، فقد حدث أن زاره سماحة المفتي في مدرسته بالصّيف، وأثناء جلوسه معه فجأة جثا الشيخ على ركبتيه ووضع يده على الأرض، وأخذ يسأل المفتي في العلم الشريف.

كما كان يجلّ أساتذته، ويشدّ الرحال لزيارتهم من وقت إلى آخر رغم ظروفه الصحيّة، وتقدّمه في العمر، ومشاغله الكثيرة، وقد يترك كرسيّه الذي يضطر للجلوس عليه إذا حضر أحد أساتذته أو أحد كبار السّن إلى مجلسه.

وفي تدريسه لطلّابه يحرص على ألا يعتمدوا على الإجابات الجاهزة دائماً ويتركوا جانب البحث والتنقيب عن المسائل، فهو مثلاً يوجّه طلابه حين يسأله أحدهم عن مسألة فيقول له: راجعها في الكتاب الفلاني وأتنا بالخلاصة، أو أن يسكت عن سؤال يسأله إياه أحد طلابه لأنه لم يحسن تركيب السؤال، أو أن يستنكر على أحد الطلاب استسهاله الحصول على إجابة لمسألة معيّنة من كتاب واحد دون البحث في الكتب الأخرى التي تناولت المسألة.

كما عرف الشيخ بسعيه في القيام بالاصلاح بين الناس وحل المشاكل التي قد تنشأ بين الأطراف المختلفة في بلدته أو خارجها، ومن القصص التي تروى عنه أنّه تأخّر في مرة عن موعد ضربه لأحدهم، فعاتبه صاحب الموعد على التأخر، فأخبره الشيخ بأنّه ماذاق طعم النوم أكثر من يومين، تؤرّقه خصومة حصلت، ويوقظه التفكير في حلّها. وفي إحدى المرّات مرّ على طفلين يتشاجران، فأصلح الشيخ بينهما، وأعطى كلّ واحد منهما مبلغاً من المال".

ولو تتبّعنا سيرة الشيخ الصّوافي في مختلف المجالات فنحن بحاجة إلى سلسلة مقالات قد لا تنتهي، وما ذكرته هنا ما هو إلا نزر لا يكاد يذكر من مواقفه التي كدنا أن نيأس من أن نجد من يعطيها اهتماماً في هذا العصر الذي تداخلت فيه الكثير من المفاهيم، وأصبحت القيم والهويّة تحت وطأة عواصف العولمة، والأمر الذي دعاني لكتابة هذا المقال هي النظرة الضيّقة التي يحملها البعض (وأقول البعض) من مدّعي الثقافة والتنوّر والتحضّر تجاه بعض رجال الدين،بحيث اعتقدوا أن أيّ صاحب لحية أو مظهر يدلّ على التّديّن فهو بالضرورة متشدّد غير متنوّر، لا عمل له سوى تهديد الناس بعذابي القبر والنّار، يعادي الإبداع ويرفض أيّ جديد، بل يغالي (هؤلاء المتنوّرون) أحياناً بإطلاق صفات مغلوطة على أمثال هؤلاء المتديّنين كوصفهم بحبّ الأكل وكثرة الزواج وغيرها، بينما هم أنفسهم (أقصد هؤلاء البعض) قد لا يعرفون أبسط مبادئ الوضوء، ولا أذكار الصّباح والمساء، وربّما لم يصلّ أحدهم من أسبوع أو أكثر، ولم يزر رحماً له منذ سنوات، ولم يتصدق يوماً ما ولو بريال، ثم يأتون للحديث عن التنوّر والتحضّر والانفتاح وكأن كل هذه المصطلحات لا يمكن تحقيقها سوى بالقصص والروايات والمقالات لا بالعمل الحقيقي، وكأنّهم هم الوحيدون الذين خلقوا لذلك.

أمّا عن مدرسة الشيخ فهي عنوان كتاب لا مقال.. ففيها من العجب العجاب ما يكفي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.