الثلاثاء، 24 يوليو 2012

قراءة في أخبار الهيئة


تطالعنا وسائل الإعلام المختلفة يومياً بالعديد من الأخبار المتعلقة بعمل الهيئة العامة لحماية المستهلك في مجال ضبط ومراقبة الأسواق ومحاربة الغش التجاري وغيرها من الأعمال والمهام التي تقوم بها الهيئة.
وفي هذا المقال سأستعرض عدداً من هذه الأخبار ليس ترويجاً للهيئة ، أو تجميلاً لأعمالها، بقدر ما هو محاولة لوقفة متأنية لما وراء هذه الأخبار، وما تحمله من رسائل ومؤشرات.

الخبر الأول :" تمكن مجموعة من مأموري الضبط القضائي بإدارة حماية المستهلك بمحافظة شمال الشرقية من ضبط كمية من الدجاج المجمد منتهي الصلاحية من شهر يناير الماضي 2012".
خبر قد يبدو عادياً ، ولكن لا تستغربوا إن أوردت لكم المعلومة الآتية التي قالها لي صديق مختص في مجال الأغذية تعليقاً على هذا الخبر " لو وضعت اللحوم المنتهية الصلاحية  في بركان ثائر فلن يكف ذلك لقتل الفطريات التي بها". لا تعليق.

الخبر الثاني : " تلقت الهيئة بلاغاً يفيد بأن أحد العمالة الوافدة التي تعمل في إحدى محطات الوقود يقوم باستبدال الزيت ذات الجودة العالية من العبوات المخصصة له بزيت أقل جوده ومن ثم بيعه للمستهلك ، حيث اتضح بأن هذا  العامل  قام بتفريغ ما يقارب من 99 علبة زيت ذات جوده عالية بزيت قليل الجودة ".
ترى كم منا من ذهب لتغيير زيت سيارته ووقف يراقب العامل أثناء عملية تغييره؟ لا أعتقد أن هذا العامل سيقوم بما قام به لو وجد من يراقبه ويتابع عمله لا أن يذهب إلى أقرب مقهى بانتظار انتهاء العامل من مهمته دون أن يكلف نفسه عناء السؤال أو حتى مراقبة مؤشر الزيت.

الخبر الثالث : "تم ضبط  أحد بائعي الفواكه يقوم ببيع مجموعه من صناديق المانجو الغير مغطاة على ناصية أحد الشوارع، وبعد فحص الكرتون تلاحظ بأن البائع قام بتقليل عدد الكمية الحقيقية في كل كرتون عن طريق وضع مجموعه من الأكياس في أسفل الكرتون لتغطية الكمية التي قام بإنقاصها من كل كرتون ".
للأسف فكثير منا يتوقف عند أول بائع متجول يصادفه اعتقاداً منه برخص البضاعة التي يبيعها دون أن يضع في اعتباره مدى قانونية العمل الذي يقوم به هذا البائع، أو مدى جودة البضاعة التي يبيعها، أو وجود ضمان على هذه البضاعة، وهذا ما يجعل مجال الغش والتقليد والتزييف مفتوحاً لدى مثل هؤلاء الباعة.

الخبر الرابع : "ورد إلى مأموري الضبط القضائي بالهيئة  بلاغ يفيد بأن أحد محلات بيع الملابس النسائية يقوم ببيع تبغ محظور، وبعد عمليات التفتيش على المحل تبين لهم بأن صاحب المحل بحوزته أكثر من 70 زجاجه مشروبات كحولية يقوم بالترويج لها".

تخيلوا.. خياط ملابس نسائية يبيع مشروبات روحية في محل مخصص لغرض تجاري آخر. وألا يمكن أن تذهب ظنوننا إلى أشياء أخرى أكثر خطورة تتعلق بالجوانب الأخلاقية والأدبية؟ ماذا سيخسر بعضنا لو تحامل على نفسه ودخل مع زوجته أو ابنته أو أخته عند ذهابها إلى محل الخياطة؟ ثم ألا يمكن للفتاة العمانية أن تكون خياطة ماهرة كما كانت أمها وجدتها في السابق؟ وهل تحتاج مثل هذه المهنة إلى خبرات خارقة لا تتوافر إلا في الوافد الأجنبي؟ عجبي.

الخبر الخامس: "قدم أحد المستهلكين بلاغاً بشرائه كمية من المياه المعدنية من إنتاج إحدى شركات المرطبات ، وأثناء استعماله لتلك المياه اكتشف احتواء إحدى العلب على شوائب وترسبات سوداء اللون وبعضها فارغ وغير معبأ بطريقة كاملة ووجود مادة داكنة على غطاء بعض العلب".

مع كثرة أنواع المياه  المعدنية التي تزخر بها أسواقنا،  ومع الانتشار الكبير لمصانع إنتاج وتعليب المياه المحلية بمختلف أحجامها تحت مسميات براقة، هل فكر أحدنا يوماً في مدى صلاحية هذه المياه ونظافة مصادرها وتطابقها مع المواصفات المطلوبة، وهل قام أحد منا بأخذ عينة من المياه التي اعتاد أن يشتريها من الأسواق أو سيارات نقل الماء وتحليلها في أحد المعامل التابعة لبعض الجهات المختصة كي يطمئن قلبه،  أم أننا كالعادة نشتري ونأكل ونشرب في صمت رهيب تاركين كل شيء للعناية الإلهية؟

الخبر السادس : "تم ضبط كمية من المواد الغذائية منتهية الصلاحية نوع جلي ماركة (تياري ورويال)، يعود تاريخ انتهائها إلي شهر أكتوبر الماضي 2010م، وهذه الأنواع دائماً ما تستخدم خلال الشهر الكريم ".
بضاعة منتهية منذ حوالي سنة ونصف، وقبلها بضاعة منتهية منذ 17 عاماً، وبينهما بضائع منتهية الصلاحية منذ مدد مختلفة، والسبب أن بعضنا يشتري وهو مغمض العينين، دون أن يكلف نفسه عناء قراءة تاريخ انتهاء الصلاحية، متأثراً أحياناً ببعض العروض المغرية المضللة حول الحصول على كميات مضاعفة من سلع مختلفة بنصف الثمن دون أن يسأل نفسه لماذا قام المحل بذلك، وهل له علاقة بقرب انتهاء هذه السلع؟

الخبر السابع: " تم ضبط مطعم يقوم بطهي سلع منتهية الصلاحية ويقدمها للمستهلكين دون علم المستهلك بذلك،  وبعض هذه  السلع قام العامل بإحضارها من بلاده في آخر زيارة له ، وهي كذلك منتهية الصلاحية وغير مطابقة للمواصفات العمانية الأمر الذي يشكل خطرا على المستهلك ويلحق الضرر بصحته وسلامته"

هذا العامل له كل الحق في أن يفعل ذلك مادام بعضنا قد اعتاد الأكل في المطاعم المختلفة برغم أنه قد وقف في الطابور الطويل بعد نزول الراتب، واشترى كمية من المأكولات قد تكفي لإطعام قرية بأكملها، وما دام هذا                 ( البعض) يدخل المطعم أو المقهى ويأكل ما يشتهيه دون أن يفكر ولو لمرة في أشياء من قبيل النظافة الشخصية والعامة للعامل والمكان، والجودة، والصلاحية، وغيرها.

هذه نماذج من أخبار قمت باختيارها بطريقة عشوائية، وهي أخبار قد تحمل دلالات كثيرة لعل من بينها أن كثيراً من الممارسات الخاطئة التي تقوم بها بعض الفئات تعود في أساسها إلى الثقافة السلبية لدى (بعض) المستهلكين، الأمر الذي يغري بعض المنتجين وأصحاب المحلات والبائعين لاستغلال هذه الثقافة في القيام بمثل هذه الممارسات التي استعرضنا بعضها.

جرب أن تضع لك خارطة تسوق محددة في كل مرة، جرب أن تقارن بين السلع المتشابهة من حيث الجودة والسعر، جرب أن تقف قليلاً مع كل سلعة وتطالع بطاقتها الغذائية من حيث المكونات وتاريخ انتهاء الصلاحية، جرب أن تقارن بين سعر السلعة المدون على الرف وفي الفاتورة، جرب أن تحصل على فاتورة الشراء في كل مرة وتراجع محتوياتها، جرب أن تتساءل مع كل اعلان تجاري أو عرض تسوق مغر تراه حول مدى مصداقية هذا الإعلان. لن يأخذ منك كل ذلك سوى دقائق معدودة قد تضمن لك أشياء كثيرة من ضمنها كرامتك التي قد يهدرها بائع بسيط لاعتقاده بأنك مستهلك "ساذج" يمكن الضحك عليه بسهولة.

الثلاثاء، 17 يوليو 2012

مشاهد وتساؤلات 7


(1)
"أكثر من 200 ألف ريال حجم المبالغ التي استرجعتها الهيئة العامة لحماية المستهلك لصالح المستهلكين وذلك خلال النصف الأول من عام 2012م"
خبر ينبغي أن نتوقف معه تحية شكر وتقدير إلى العاملين بالهيئة العامة لحماية المستهلك على جهودهم الواضحة والتي تدل على مدى الرغبة الأكيدة

(2)
في مطار القاهرة ونحن راجعون وينما كنا ننتظر الرحلة في قاعة الانتظار سألني أحد أصدقائي من رفاق الرحلة: بحكم أنك كثير الأسفار إلى القاهرة فما أندر موقف مر بك بالمطار في أسفارك السابقة؟

أجبته: ليس موقفاً واحداً ولكنها كثر، خذ معك مثلاً أن أصل المطار وأركب (باص) الطيران العماني الذي سيقلنا في رحلة العودة، ثم نكتشف أن به عطلاً يستدعي انتظارنا لبضع ساعات، وهو موقف تكرر معي في 3 رحلات متوالية خلال السنوات الأخيرة.

قال لي وهو يبتسم: إذا أبشر، فالطائرة بها عطل وقد لا نسافر الليلة.
إلى متى يا ناقلنا الوطني؟

 (3)
بهيئته الرثة وملامحه المستكينة التي لا تخلو من تصنع خبيث استوقفني ذلك الآسيوي أمام أحد المجمعات التجارية الكبيرة بمسقط مستغلاً وجود عائلتي معي ، وقال لي بصوت متهدج ضعيف وهو يمد إلي بتلفون يبدو من هيئته أنه من الموديلات الحديثة المتطورة: أنا مسكين وبحاجة إلى نقود كي أرسلها إلى عائلتي، فهل يمكنك شراء هذا الهاتف المحمول؟
نفس المشهد تكرر أمامي أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان، والغريب أن من يقوم به هم من أبناء جنسية آسيوية بعينها.
عندما حكيت المشهد لصديقي المتخصص في مجال الإلكترونيات بادر بتحذيري من الوقوع في فخ شراء مثل هذه التلفونات حيث أنها غالباً ما تكون مقلدة بحيث تبدو طبق الأصل من النوعيات الأصلية وقد لا يستطيع الشخص العادي التفريق بينها.
في آخر مشهد تكرر أمامي يوم أمس بالقرب من مسجد "الزواوي"  بالخوير توجهت لصاحب العرض بهذا السؤال : إذا كنت تدعي الحاجة إلى المال فمن أين أتيت بقيمة هذا الجهاز الذي تدعي أنه من ماركة أصلية حديثة غالية الثمن؟ وبالطبع لم تكن هناك إجابة.

 (4)
في إحدى محلات البيع بالتجزئة التابعة لإحدى شركات بيع مشتقات النفط في العاصمة مسقط استوقفني هذا الحوار بين الشابة العمانية التي تعمل محاسبة في هذا المحل وبين زميلها : من اليوم لن آخذ أي إجازات، زوجتي تطلقت وأتت هي وأولادها للعيش معنا، وهذا معناه زيادة مصروفات البيت، وبما أنني الوحيدة التي أعمل في البيت، فلابد أن أعمل في أوقات المناوبات المختلفة عل راتبي يزيد قليلاً.
ثم استدركت: وحتى لو عملت 24 ساعة في اليوم طوال أيام السنة فلن يكفي راتبي المتواضع لمصاريفي، فما بالك بمصاريف والدتي وإخواني وأختي وأبناءها.
ثم قالت بتهكم لا يخلو من مرارة: ثانوية عامة وفوقها دبلوم محاسبة وآخرتها محاسبة في دكان وراتبي حتى ما واصل 230 ريال. يعني لازم واسطة علشان اشتغل حالي حال الناس؟
بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف مع العبارة الأخيرة إلا أن هناك كثيراً من الشباب هم بحاجة لمن يلتفت إليهم ويشعرهم بالأمان الاجتماعي وبأهميتهم ضمن النسيج الاجتماعي ضمن خطط (حقيقية) تتجاوز (الشو الإعلامي) الذي نطالعه أحياناً، كي لا يتحولوا إلى قنابل موقوتة مستقبلاً.
لو وفرت كثير من المبالغ التي تصرف على مشاريع وخطط وندوات ومؤتمرات وحلقات عمل وهمية، وأسفار خارجية غير ذات جدوى، وتمت الاستفادة منها في إقامة مشاريع حقيقية يمكن لها أن تستوعب الآلاف من الشباب في مختلف المجالات، فلربما أصبح الوضع أفضل حالاً.

 (5)
هل تريد أن تستمتع بأجازة مدفوعة التكاليف تقضي من خلالها أياماً جميلة في ربوع خريف صلالة الساحر؟ الحل سهل، ما عليك سوى المبادرة في الاشتراك بإحدى الندوات أو الدورات التدريبية (الكثيرة) التي تعقدها المؤسسات الحكومية المختلفة خلال هذا الفصل.
ترى هل هناك علاقة طردية بين الطاقة الايجابية التي تنتاب (بعض) المسئولين، وبين الطقس الخلاب لخريف صلالة بحيث تجعلهم أكثر رغبة في النهوض بالموارد البشرية التابعة لمؤسساتهم من خلال تنظيم عشرات الندوات والمؤتمرات خلال هذا الفصل لدرجة أننا أصبحنا نشعر بوجود ( إسهال ) إعلامي من خلال تغطية هذه الفعاليات، أم أن الأمر لا يعدو أكثر من كونه رغبة في الحصول على إجازة لقضاء أيام جميلة تحت دعوى تنظيم فعالية تتعلق بمصلحة العمل وتنشيط السياحة المحلية، والتعريف بمعالم البلد، إلى آخر هذا الحشو الذي مللنا منه.
سؤال بريء آخر: إذا كانت كثير من الغرف والأجنحة بالفنادق والنزل السياحية بالمحافظة محجوزة مسبقاً لصالح منظمي هذه الفعاليات، فأين سيجد السائح المحلي والخارجي مكاناً للإقامة؟

 (6)
سيدي معالي وزير السياحة الموقر: عائلتي الصغيرة تعاتبني دائماً وتتهمني بالتقصير لأني لا أستطع أن أوفر لهم قضاء بعض الأيام الجميلة في إحدى الأماكن السياحية بالسلطنة.
سيدي الوزير: لقد ملت عائلتي مجمعات مسقط التي آخذهم إليها في كل مرة، وحفظوا حتى ألوان جدرانها، ولكن ماذا أفعل، فهذا ما بوسعي فعله، فإمكانياتي المادية لا تمكنني من أخذهم إلى خارج السلطنة، ومنتجعات مصيرة ومسندم وصلالة والخيران وبندر الجصة يبدو أنها ليست لمتوسطي الحال أمثالي، والأشخرة والرستاق ونزوى وغيرها من المدن العمانية ذات التنوع السياحي الهائل لا توجد بها الإمكانات السياحية التي تمكن عائلتي من قضاء يوم واحد بها لدواعي تتعلق بنوعية ومدى توافر الاستراحات والمكاتب السياحية وأماكن الترفيه ونوعية المطاعم الموجودة، وإذا كانت هناك أماكن أخرى تنصحني بها الوزارة فأنا لا أعلمها ربما لأن إعلامكم السياحي لم يصل إلي برغم أنني مواطن مخلص أقرأ الصحف اليومية بانتظام، وأتابع كافة البرامج الإعلامية التي تبثها وسائل الإعلام المحلية.
ماذا أفعل يا معالي الوزير؟ لقد غلبت، وغلب أمري معي.

 (7)
أيام قليلة ويحل علينا ضيف كريم ننتظره كل عام بشوق عارم، ولهفة كبيرة، وهنا أتذكر بعض المشاهد المتناقضة التي ترتبط بهذا الشهر الفضيل والتي من بينها امتلاء المساجد بالمصلين في بداية أيام الشهر، والحرص على صلاة الفجر جماعة، والإكثار من قراءة القرآن، وزوال أثر "أدوات التجميل"من وجوه الكثير من الموظفات، والتوقف عن بعض الممارسات الخاطئة كالتدخين مثلاً، ونموذج الموظف عابس الوجه، مكفهر الملامح، الذي يعمل بنصف عين ويكاد لا يطيق نفسه، يأتي بعد ابتداء الدوام، وينصرف قبل نهايته، يشغل وقته بقراءة القرآن في المصحف المجاور، ويكمل وقته الباقي في مسجد المؤسسة التي يعمل بها، والتي تدعونا إلى تساؤل مهم : لماذا يربط البعض عمل الخير، أو التوقف عن بعض الممارسات بهذا الشهر فقط؟ لم لا يحدث ذلك طوال العام؟
كل رمضان وأنتم بخير

الأربعاء، 11 يوليو 2012

مدرسة دار الفلاح



http://alroya.info/ar/alroya-newspaper/internal/36013--q-q-----
الرؤية- د. محمد بن حمد العريمي

للتعليم في عُمان حكاية تختلف جذريًّا عن بدايات التعليم -التعليم النظامي- في كثير من الدول العربية الأخرى، فعُمان لم تعش الصراع بين الموقفين المتضادين، الموقف الذي يقول: "لا تعلموا أولاد السفهاء العلم" فقصره على فئة معينة وبطريقة معينة، والموقف الذي تولى كِبره طه حسين الذي عمم التعليم على جميع المصريين الفقراء منهم والفلاحين.
فعُمان بلد آخر يرفض فكرة الصراع بين الحداثة والتقليد، بلد يمزج بين الجيد من القديم والجيد من الجديد، لذلك كانت قصص التعليم فيها لاسيما تعليم البنات مثالاً لقصص النجاح والريادة، ومدرسة "دار الفلاح" من المحطات البارزة على جبين هذا الوطن الجميل التي ساهمت في تفتح الزهور ونمو الأشبال على حروف اللغة والكتابة الأبجدية، مدرسة " دار الفلاح" دائما تهمس في أذن العاجز منا ببيت جرير:
دع الطريق لمن لا يضيء المنار بها
واقعد حيث اضطرك القدرُ
حتى يكون الطالب فيها أحد الرواد الذين يضيئون طريق النور، طريق الإبداع، وكذلك كانوا. 
وهنا سنعرض لقصة إنشاء مدرسة "دار الفلاح" التي تعود نموذجاً رائعاً من نماذج الإصرار المجتمعي على نشر العلم والمعرفة بكافة السبل المتاحة في عصر شهد كثيراً من التحديات المختلفة في المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسنعتمد في تقريرنا على ما أورده الباحث والمؤرخ حمود بن حمد بن جويد الغيلاني الذي تناول تاريخ تلك المدرسة في كتابه المهم " ولاية صور" والذي تناول جوانب من تاريخ الولاية في عدد من المجالات المختلفة.
فكرة إنشاء المدرسة
قبل حوالي 70 عاماً من اليوم فكر أهل صور في إنشاء أول مدرسة نظامية تقدم عدداً من العلوم الحديثة لأبنائهم، وعهدوا بالمهمة إلى المعلم والمربي الفاضل عبد الله بن أحمد الغزالي، فكانت مدرسة "دار الفلاح" أو مدرسة "الغزالي"، والتي فتحت أبوابها في منطقة الساحل عام 1942م.
وقد لا تكون هذه المدرسة هي الأولى في تاريخ الولاية التي انتشرت فيها وقتها عدد من مدارس تعليم القرآن الكريم واللغة العربية والرياضيات بمفهومها القديم "الحساب"، وقد كانت هذه المدارس تأخذ شكلاً بدائياً بحسب ظروف تلك الفترة، مع عدم اقتصارها على جنس معين، ولكن "دار الفلاح" كانت أنموذجاً جديداً للمدرسة العصرية الحديثة بحسب ظروف تلك الفترة.
ولعل من بين الأسباب التي جعلت أهل صور يهتمون بالعملية التعليمية وقتها، ويولون القائمين عليها اهتماماً ورعاية كبيرين هو اهتمامهم بالملاحة البحرية، لذا فقد حرصوا بالتالي على تعليم أبنائهم لمبادئ الحساب كي يعرفوا حساب النجوم ومواقعها وقياساتها، وخطوط الطول والعرض، وقياس الأبعاد والمسافات وأعماق البحار، وسرعة سير السفينة.
ولأهمية الحدث المجتمعي المتمثل في افتتاح تلك المدرسة النظامية الحديثة والتي كانت نتيجة لوعي مجتمعي شامل تمثل في توافق الرغبة من قبل شيوخ واعيان المدينة، وتعاونهم في تحمل الأعباء المادية المتعلقة بها، فقد تفاعل معها المجتمع الصوري بشكل كبير، وقيل فيها كثير من القصائد الشعرية التي نورد منها هذه الأبيات لإحدى شاعرات الولاية وقتها:
الحمد لربي شكر وجب
على آلاء صور وكل العرب
ألا يا صورهم فلقد طلع
هلالك من بعد ما قد غرب
وهذه مدرسة للوطن
تسمى فلاح عيام الرغب
دار الفلاح لأبنائها
كأم وخال وعم وأب
المبنى المدرسي
وفي بداية افتتاحها، كان مبنى المدرسة يتكون من خمس غرف؛ أربع منها استخدمت كفصول دراسية، بينما استخدمت الغرفة الخامسة كمكتب لإدارة المدرسة، بالإضافة إلى باحة المدرسة الواسعة التي استخدمت في اقامة الأنشطة المصاحبة للعملية التدريسية.
ونتيجة لازياد أعداد الطلاب بسبب الإقبال الكبير عليها، فقد تم اضافة سبعة فصول أخرى ليبلغ اجمالي الفصول الدراسية أحد عشرة فصلاً دراسياً، وبلغ عدد طلاب في إحدى السنوات الدراسية حوالي سبعمائة طالب.
الهيئة التدريسية
وتولى الأستاذ والمربي عبد الله بن أحمد الغزالي إدارة المدرسة والتدريس فيها كذلك يعاونه عدد من المدرسين منهم أخوه علوي بن أحمد الغزالي، وسعيد بن مبارك بن جويد الغيلاني، وعبد الله بن عبد الكريم الفارسي، وعبد الله بن سالم الحضرموتي الذي استدعاه عبد الله الغزالي للتدريس بالمدرسة، ويوسف بن ابراهيم المخيني، إضافة إلى عدد من الطلاب المجيدين وقتها والذين تم تكليفهم بالقيام بعملية التدريس لزملائهم ومنهم ناصر بن عبد الله المخيني، وراشد بن عبد الله آل فنه، وصلاح بن عيسى الزدجالي.
المناهج الدراسية
وتنوعت المناهج الدراسية التي درست لطلاب مدرسة "دار الفلاح"، ولم تقتصر على مواد بعينها بل شملت اللغة العربية حيث كان يتم تدريس النحو من خلال ألفية ابن مالك، كما كان الطلبة يأخذون دروساً في الفقه تشمل دراسة التطبيقات الصحيحة للواجبات والفروض الملازمة لسلوكيات المسلم في عبادته خلال حياته اليومية، كما درس الطلاب التجويد من خلال تعليمهم لكيفية قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة خالية من اللحن، بالإضافة إلى علم التوحيد والذي اشتمل على دراسة الإلوهية والربوبية والأسماء والصفات.
ودرس الطلاب كذلك الحساب والرسم "الخط العربي"، بالاضافة إلى دراسة جزئية لبعض العلوم المختلفة حسب الحاجة إليها كعلم الفلك، وذلك بالتركيز على دراسة مواقع النجوم وأوقات خروجها لأهمية ذلك للطلبة، الذين لم يكن لهم من وسيلة لتحصيل الرزق مستقبلاً سوى بالعمل غالباً في مجال الملاحة البحرية.
نشيد الصباح
وكان للمدرسة نشيدها الصباحي الذي يحمل كثيراً من المعاني التربوية والدينية والوطنية، وكان الطلاب يحرصون على حفظ هذا النشيد وترديده بصوت عال أثناء الطابور الصباحي، وهنا نقتطف بعضاً من أبيات ذلك النشيد:
يا ربنا بالفاتحة
هبنا العلوم الناصحة
ومن القلوب الخاشعة
ألطف بنا والمسلمين
إنا وقفنا طائعين
وفي المواهب طامعين
فهب لنا حسن اليقين
إنك مجيب السائلين
يسر لنا أمورنا
واشرح لنا صدورنا
واستر لنا عيوبنا
فأنت بالستر تعين
وانصر لنا وأيد
سلطاننا زاكي الندى
ربي اكفه شر العدا
وشر كل المؤذيين


إغلاق المدرسة 
واستمرت المدرسة في أداء مهمتها ما بين عامي 1942 و1952، حيث تم إقفالها رغم محاولات بعض أبناء المدينة لافتتاحها مرة أخرى ونشر رسالة التعليم كما فعل الشيخ سعيد بن مبارك بن جويد الغيلاني الذي لم يوفق في مسعاه نظراً لبعض الظروف التي أعاقت هذا الأمر في تلك الفترة، ثم اضطر إلى إنشاء المدرسة الدينية الصورية في نفس مبنى "دار الفلاح"، وذلك بعد عودته من مكة المكرمة حيث أنهى دراسته وتخرج في مدارسها، واستمرت المدرسة الجديدة لمدة أربعة أعوام ساهمت في تخريج جيل من الطلاب الذين عملوا في مجالات الخطابة والإمامة أو العمل في بعض المنافع العمومية أو الخاصة.
إزالة المبنى
وكانت جناية ما يعرف "بشهر البلديات" كبيرة على هذا الإرث التاريخي المهم، فقد قامت البلدية بإزالة ما تبقى من المبنى الأثري المهم وساوته بالتراب، وهو الذي احتضن يوماً ما منارة علم قامت وسط ظروف مجتمعية وثقافية صعبة، ونثرت نفحاتها العلمية في أرجاء المجتمع الصوري، وساهمت في تخريج جيل من الشباب المتعلم كان انطلاقة لأجيال أخرى ساهمت فيما بلد في نهضة المجتمع العُماني بشكل عام وتقدمه.

العمل التطوعي .. فريق الرحمة أنموذجاً


" لمحبي الخير يدعوكم فريق الرحمة (فريق عمان الخير سابقاً) لحضور الملتقى القانوني (فك كربه)الذي سيقام يوم ١٢ / ٧ /٢٠١٢، والذي سيتضمن سوقاً خيرياً يصاحبه فعاليات لنشر الوعي القانوني، ويهدف إلى جمع تبرعات لبعض السجناء لسداد ديونهم البسيطة التي تتراوح من 200 إلى 1000 ريال ليكونوا مع أسرهم في شهر رمضان. المكان جنب ساحة" قهوة المكان في سيتي سنتر الموالح،  من 9 صباحا حتى 9 مساء."

كان هذا الإعلان الذي قرأته في إحدى الصفحات الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) مدخلاً استطعت من خلاله التعرف على أنشطة وفعاليات هذا الفريق، وذلك من خلال زيارتي لصفحتهم الخاصة في نفس الموقع، وأذهلني ما اطلعت عليه من زخم الأعمال التي يقوم بها ، والإنجازات التي حققها خلال فترة وجيزة منذ تأسيسه  وحتى الآن، والتي أثبتت لي صحة رهاني  على مدى قدرة أبناء هذا الوطن على العطاء، وعلى أن مجتمعنا زاخر بكثير من الأفكار والمبادرات المجتمعية المهمة، والتي هي بحاجة إلى مزيد من تسليط الضوء عليها، وتقديمها للآخرين كي يكون هناك تبادل للأفكار والمشاريع.

وكي أطلع القارئ الكريم على أعمال هذا الفريق وإنجازاته، فسأقدم في السطور القادمة نبذة عنه، حيث أنه جمعية قيد التأسيس كانت انطلاقتها عام 2006 في ولاية السيب، ومن ثم توسعت أعمالها الخيرية في بقية ولايات السلطنة، وتهدف إلى تقديم عدد من البرامج الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتنوعة والهادفة التي تخدم مختلف شرائح المجتمع، و تضم 9 لجان عمل (لجنة الأيتام، الأسر المعسرة، البرامج، اللجنة القانونية،اللجنة الدينية، اللجنة الصحية، لجنة الطوارئ،الخدمات العامة، البحث الميداني)، يديرها حوالي 203 مندوب متطوع  مؤهل من مختلف الولايات.

ويلاحظ على مناشط الفريق تنوعها وتغطيتها لكثير من الجوانب المختلفة، فهي لا تكتفي  بتقديم المساعدات المادية والعينية للمحتاجين فقط وإنما تتعداها لتشمل كثيراً من المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة،  ففي مجال كفالة اليتيم وصل عدد الأيتام الذين يكفلهم الفريق حوالي 1200 يتيم، وهناك 500 أسرة معسرة تستفيد من خدمات الفريق ، كما يتم تقديم المساعدات الموسمية لعدد 4000 أسرة، و هناك مشاريع الأسر المنتجة التي تهدف إلى تحويل الأسر التي على  تعتمد على مساعدات الجمعية إلى أسر منتجة من خلال مساعدتها في تنفيذ عدد من المشاريع كمشروع الخياطة المنزلية، ومشروع حلويات العيد، ومشروع توفير الوجبات للمناسبات، ومشروع بيع المواد الغذائية البسيطة داخل البيوت وغيرها من المشاريع المنتجة، ومشروع عيدية اليتيم، ومشروع إفطار عابري السبيل.

وفي المجال التوعوي ينظم الفريق مشروع "سراج" للتوعية ضد المخدرات وهو برنامج توعوي موجه للطلبة من فئة الأصحاء حول ظاهرة الإدمان ومخاطرها المختلفة، كما قام الفريق بافتتاح عدد من مدارس محو الأمية داخل مصليات النساء ملحقة بالمساجد لتعليم الأمهات مبادئ القراءة والكتابة،  بالإضافة إلى عدد من المشاريع الأخرى المتنوعة كمشاريع الأندية الصيفية، والأيام المفتوحة،وتنظيف المساجد، ومشاريع أسواق الخير، ومشروع فك رهن منازل الأيتام، ومساعدة الراغبين في الحج والاعتمار لأول مرة، والبحث عن وظائف لأبناء الأسر المعسرة، ومشاريع ترميم المساجد ودور العبادة، وتوفير الأجهزة الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة.

ويهتم الفريق بإنشاء صناديق تكافلية في عدد من الولايات كصندوق تكافل بدية الذي تأسس في مطلع العام الحالي وقام بالعديد من البرامج المتنوعة كان آخرها تنظيم حفل الزواج الجماعي لحوالي 30 شاباً، كما قام الفريق بتوزيع مساعدات بأكثر من مليون ريال عماني خلال العام 2011.

كما يستعد الفريق حالياً لتنظيم أكثر من 20 فعالية في شهر رمضان القادم تتنوع في مناشطها ما بين
مشاريع " إفطار صائم" ، وتوزيع كسوة العيد، وتوزيع الشنط المدرسية بكامل مستلزماتها في نصف شهر رمضان على عدد من الأسر المعوزة، حيث تم تجهيز 4000 شنطة مدرسية بكامل مستلزماتها لعدد 1500 طالب وطالبة، كما سيتم توزيع كسوة لعدد 1300 يتيم عبارة عن دشاديش للأولاد وملابس  مدرسية متكاملة للبنات، ومشروع إفطار عابري السبيل في المعبيلة الصناعية وهو إفطار يومي لعمال الكراجات يستفيد منه أكثر من ألف عامل سنويا في شهر رمضان، كما سيتم تنظيم سوق الرحمة الخيري للأسر المنتجة في منتصف رمضان، ومشروع "دعوة خير "  حيث سيقوم مجموعة من  الشباب المنتسبين للفريق بعمل جلسات رمضانية توعوية في نهاية كل أسبوع في الشواطئ والحدائق والشوارع العامة، وسيتم تنظيم سحور يومي لعابري السبيل في خيمة ستقام أمام بوابة مقر الفريق مع برامج ثقافيه تدار بواسطة متطوعين، إضافة إلى مناشط ثقافية تتمثل في تنظيم دوره أسبوعية في مقر الفريق في التفسير ، وإعداد مطوية خاصة لشهر رمضان توزع داخل كراتين المواد الغذائية لتستفيد منها الأسر، وتنظيم إفطار جماعي في أربع قرى نائية لنشر الرسالة الرمضانية تدار بواسطة متطوعي الفريق في الولايات، وبرامج رمضانية ثقافية واجتماعية أخرى متعددة ولا مجال لحصرها هنا.

بهذه الأعمال والمشاريع يثبت فريق (الرحمة)أن خدمة المجتمع والمساهمة في بنائه ونهضته لا يقتصر على العمل الحكومي فقط، فالشراكة الحقيقية بين الدولة والأفراد هي من الأمور المهمة لنجاح أي مجتمع،كما أن الحكومة لا تستطيع الوصول بخدماتها لكل فرد في هذا الوطن، ولا معرفة الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لكافة المواطنين، لذا فإننا كأفراد أو كمؤسسات مجتمع قد نكون أكثر عوناً للحكومة في هذا الجانب، متى ما أيقنا بأهمية التواصل المجتمعي، وضرورة إيجاد التقارب بين أفراد المجتمع.

وإذا لم نقم نحن أبناء هذا الوطن الذين نعمنا من خير التنمية،  بهذه الأعمال التطوعية،فلن ننتظر الآخرين كي يقوموا بها، فنحن الذين ضربنا للعالم أروع الأمثلة في تكافلنا الاجتماعي عند تعرض بلدنا للأنواء المناخية، قادرون على أن نستمر على نفس النهج، وأن نعزز هذا التكافل بمزيد من نماذج العمل التطوعي الهادف المنظم الشامل.

إن كثيراً من فئات المجتمع، هم بحاجة لدعمنا وتشجيعنا ومساندتنا ورعايتنا واهتمامنا وخبراتنا، وكثيراً من الأعمال التطوعية بانتظارنا. إن هذا البلد قد أعطانا الشيء الكثير، وحان الوقت لكي نرد (شيئاً) من هذه العطاءات، وباقة شكر إلى كل عمل تطوعي من شأنه أن يسهم في خدمة المجتمع، ويستغل الطاقات الشبابية المتنوعة،ويبدد الصورة السلبية المرسومة تجاه دور المجتمع في مجال العمل التطوعي.

الاثنين، 9 يوليو 2012

الملبق.. ذاكرة الفن الجميل

http://www.alroya.info/ar/alroya-newspaper/arts-and-culture/36565-qq-------

صالح بن ثويني العلوي أو "الملبّق" كما يحلو له أن يُنادى.. رجلٌ ستينيٌّ كانت بدايته مع الفن منذ نعومة أظافره، وبالتحديد منذ ركوبه على سطح السفن وعمره سبع سنوات. ويبدو أن أصوات المطارق، ونقرات أرجل البحارة على سطح السفينة، وتصويت النهامين، والشلات البحرية التي يرددها أولئك البحّارة، وهم يسلون أنفسهم في أوقات العمل الشاقة، ساهمت كلها في تشكيل ذائقته الغنائية، وجذبه إلى هذا المجال، حتى أصبح خبيراً بفنون المنطقة، عالماً بأسرارها، ومتخصصاً في صناعة أدواتها.
وفي بيت عتيق ودكان قديم معلقاً على واجهته لافتة بعنوان: "الملبق لبيع وصناعة الآلات الموسيقية التقليدية".. فيما يتبادر الى الذهن تساؤل عما اذا كانت تلك الحرفيات ما زالت باقية في صور؟! البعض يرى أن كل شيء تراثي وجميل مصيره الفناء والتلاشي كما صارت مصانع السفن التقليدية إلى زوال، ولكن لحسن الحظ أن الموسيقى ما زالت تقاوم حينما عجز الخشب عن فعل ذلك، وليس ذلك لشيء إلا لوقع الأولى اللذيذ- من اللذة على حد تعبير رولان بارت- ولبراعة هذا الرجل العتيد وتفوقه في تلك الصناعة وجلجلة الألحان، كما كان الفارابي يفعل حينما أضحك الأمير بصوت الموسيقى ثم أبكاه بها ثم أنام الأمير ومن معه بصوتها أيضًا في تلك الليلة الشهباء.
في الصغر، وبينما كانت شاشة تليفزيون سلطنة عمان من ضمن المصادر القليلة المعروفة بالعالم، كان منظر فنان إيقاعي يظهر في كورال الأغاني الوطنية يجذب كثيرين، وأغاني الفنان سالم بن علي سعيد التي كانت تسجل في لندن، ورجل يرتدي الدشداشة الصورية، ويلبس نظارات مميزة الشكل. وكان الفضول يعتريني كي أعرف من هو هذا الرجل المحظوظ الذي يحظى بالظهور على شاشة التليفزيون، حتى عرفت بعد فترة من الزمن أن تلك الشخصية الصورية هو فنان شعبي يدعى صالح بن ثويني العلوي.
سافر "الملبق" إلى الكويت وعمره تسع سنوات، وظل بها ثلاث سنوات حيث استبد به الشوق إلى صور وفنونها التي لم يقاوم ألم البعد عنها، فعاد كي يعمل بحاراً لمدة 15 عاماً تنقل من خلالها كطائر نورس من ميناء لآخر حتى نهاية موسم الأسفار في أواخر الستينيات من القرن الماضي، جامعاً حصيلة لا بأس بها من الفنون والايقاعات والشلات المختلفة.
ومع بداية النهضة المباركة التحق بالعمل في قطاع البلديات، ثم انتقل إلى "الإسكان" التي ظل بها حتى عام 1983، وفي هذا العام رغبت وزارة الإعلام  في عمل مشروع لجمع وتوثيق الموسيقى والغناء والرقص العماني التقليدي بالتصوير التليفزيوني والتسجيل الصوتي والتوثيق الفوتوغرافي وصحائف البيانات، لذلك قامت بالاتفاق مع المرحوم الدكتور يوسف شوقي على القيام بهذه العملية، وكان من الضروري البحث عن خبير فني محلي متخصص في هذا المجال كي يكون عوناً للدكتور في تنفيذ هذا المشروع، لذا فقد تمت الاستعانة بـ"الملبق" للقيام بهذا الدور، ونتيجة لذلك فقد تم نقل خدماته إلى وزارة الإعلام؛ وذلك للاستفادة من خبرته ومعرفته بالفنون العمانية المغناة على تنوعها وثرائها.
ويتحدث "الملبّق" بفخر عن الفترة التي قضاها موظفاً في وزارة الإعلام؛ حيث إنه كان مرافقاً ومساعداً لعدد من كبار الباحثين كالمرحوم الدكتور يوسف شوقي، والدكتور عصام الملاح، وعزيز الشوان وغيرهم الذين رافقهم في مراحل عملية توثيق الموسيقى العمانية، والتي يرى أنها "عرفت العماني بالعماني الآخر" على حد وصفه.
وعن تجربته مع المرحوم يوسف شوقي، يقول الملبق: "كان أمامنا تحدٍ كبير، وهو زيارة كل موقع من مواقع التجمعات السكانية ذات الأهمية الفولكلورية حيثما كانت، ومهما بعدت، أو كان الطريق إليها شاقاَ أو خطراَ، وبحيث يشمل ذلك كل ولاية، وكل محافظة وكل منطقة على رقعة أرض السلطنة، وذلك لتجميع كل ما يتعلق بالفنون المغناة وتسجيل جميع أنواع وأنماط الغناء والرقص التقليدي دون استثناء لأي منها، حتى لو كان بعض هذه الأنماط أو الأنواع قد اختفى من الحياة العمانية المعاصرة بسبب ما يشهده المجتمع العماني الحديث من تطورات وتحولات في عهد النهضة".
وبلغت حصيلة هذا المسح الشامل 415 شريطاَ، تحتوى على ما يزيد على 1300 مادة مصورة، تشكل جزءا كبيراَ من مشروع الأرشيف القومي للموسيقى التقليدية العمانية، ساهم في انجازها ما يربو على 166زيارة قام بها الفريق، غطت ولايات السلطنة ومحافظاتها ومناطقها جميعها تغطية كاملة.
وزار "الملبّق" الكثير من الدول العربية والعالمية للتسجيل والتقى بالعديد من الفنانين الخليجيين والعرب؛ مثل: أحمد الجميري، والدكتور عبد الرب إدريس، ونبيل شعيل، وإبراهيم حبيب، وعبد الله الرويشد.. كما أسس فرقة "الشراع" للفنون الشعبية بولاية صور في منتصف التسعينيات، والتي ما زالت تزاول عملها في المناسبات المحلية المختلفة.
ونتيجة لجهوده الكبيرة في مجال التوثيق الفني وإجادته كعازف فقد حصل على شهادات تكريم عديدة، وشهادة من المعهد العالي للموسيقى بالقاهرة، كما تم تكريمه في مهرجان الأغنية العمانية، ومهرجان عام التراث، وفي عامي الصناعة، ولكن التكريم الأكبر بالنسبة له هو اعتزازه بقيادته لـ164 إيقاعيا شاركوا في تقديم "السيمفونية العمانية" عام 1985 أمام المقام السامي.
وبعد إحالته إلى التقاعد في بداية تسعينيات القرن الماضي، قام بافتتاح ورشة تخصصت في كل ما يتعلق بأدوات الفنون العمانية من صناعة وإصلاح وصيانة، وتجميع الفلكلور المغنى بمختلف مجالاته.
وفي ورشته الصغيرة، يمكنك أن تجد كل ما تبحث عنه مما يتعلق بالموسيقى العمانية، فهو لا يكاد يفوّت مناسبة غنائية شعبية كانت أم رسمية دون أن يقوم بتسجيلها وحفظها حتى أصبحت لديه مكتبة فنية متكاملة قوامها مئات الأشرطة والتسجيلات، كما تتراص على جوانب الورشة أنواع مختلفة من الطبول والأدوات المستخدمة في الفنون العمانية المغناة بمختلف أشكالها، بينما يطالعك على أركانها العشرات من الصور التذكارية وشهادات التقدير والشكر التي تشكل سيرة ذاتية غنية لهذا الفنان المجيد.
وبحزن كبير، يتحدث "الملبّق" عن واقع الفن العماني المغنى؛ حيث يرى أنه في ركود بسبب ابتعاد أصحاب الخبرة نتيجة لتجاهلهم وضعف الاهتمام بهم، فشركات الإنتاج تبحث عن مواصفات خاصة للفنان لا يشترط فيها الإمكانات العالية، كما أن الإيقاعيين الحاليين لا يملكون الخبرة الكافية حسب وجهة نظره.
ومن ذكرياته العالقة والمتناقضة في مشاعرها لا يزال يتذكر بألم  مشهد وفاة الدكتور يوسف شوقي على يديه في نزوى، بعد أن كانوا قد فرغوا لتوهم من إفطار صباحي يفترض أن يعقبه تنقل إلى مدينة عمانية أخرى كي يستكملوا مسيرة جمع  المفردات الغنائية العمانية في كل بقعة من بقاع السلطنة.
كما لا يكف عن الضحك وهو يتذكر ذلك الموقف الطريف الذي تسبب فيه دون قصد؛ عندما قام بإشعال بضع جمرات كي يضع عليها بعضاً من حبات اللبان والبخور، بعد فراغه من صيانة عدد من الطبول في غرفته بالطابق الخمسين في أحد فنادق لندن، حيث دوت أجراس الإنذار بالصفير في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وحدث الهرج والمرج في أرجاء الفندق، وهرع النزلاء يركضون في كل حدب وصوب معتقدين بأن حريقاً قد شب بينما كان "الملبق" وقتها مسترخ على سريره وهو يدندن بلحن عماني قديم عله ينسيه مرارة الغربة، ويحمله إلى "مخا" حيث الأهل والأحباب، ولا يدر بما يحدث خارج أسوار غرفته.
وفي إحدى جلساتنا المتكررة -التي أحرص عليها كلما استبد بي الملل- قلت له: تُرى لو كنت في إحدى الدول التي تهتم بأصحاب العطاء أمثالك ألا تعتقد أن الوضع سيكون مختلفاً؟ أعتقد أن المكتبات وقتها ستتنافس على تدوين سيرتك الذاتية، وتسويقها كأكثر الكتب مبيعاً، وستقدمك الأكاديميات الفنية المتخصصة في مجال الموسيقى كمحاضر لطلابها باعتبارك صاحب خبرة طويلة، ومتخصص في مجال قد يصعب على أساتذة الموسيقى الأكاديميين أنفسهم امتلاك جزء مما تحمله مهما أفنوا عمرهم في دراسته.
يكتفي "الملبق" بالقهقهة حتى تبان سنه الفضية ويمتنع عن التعليق.

السبت، 7 يوليو 2012

الأندية.. والدور المفقود


كانت إجازة عيد الفطر المبارك عندما دعاني زميلي لحضور إحدى الفعاليات الاجتماعية في النادي الذي يشترك فيه في تلك الدولة العربية التي كنت أقيم بها لغرض الدراسة  في ذلك الوقت.
عند دخولي بوابة النادي المدعو إليه غمرني الانبهار، واستبدت بي الدهشة، فهو ليس كالنادي الذي أعرفه في بلدي، فمرافقه وخدماته متنوعة، وأنشطته متعددة، وبرتاده كافة أطياف المجتمع، فهذا يمارس رياضة المشي في ممر مخصص لذلك، وذاك يتصفح جريدته المفضلة في المقهى الملحق  بالنادي، وأولئك يمارسون ألعاب مختلفة في ملاعب وصالات متعددة، وعدد من كبار السن يثرثرون في ركن هادئ حول قضية ما، كما شدتني لوحة الإعلانات ، فهذا إعلان عن تنظيم رحلات سياحية جماعية  بأسعار مخفضة، وتلك إعلانات متنوعة عن دورات مختلفة بأسعار تشجيعية، إضافة إلى الإعلانات المتعلقة بمواعيد المحاضرات والندوات الثقافية، والأجمل من ذلك منظر النجيل الأخضر وهو يغطي جنبات النادي في منظر بديع.
وبينما أشرب قهوتي في إحدى شرفات النادي، جال بخاطري حال الأندية معنا، ومرت بذاكرتي صورة أحد أقاربي وهو يوبخ ابنه على ذهابه للنادي، وكيف أن ذلك سيؤثر على أخلاقه، وعلى مستواه الدراسي، وتولدت لدي التساؤلات الآتية:
- ما  الهدف المنشود من إقامة الأندية لدينا؟؟
- وهل تقوم تلك الأندية بدورها المنشود(اجتماعي – ثقافي – رياضي) كما تدعي اللوحات المعلقة على بوابات تلك الأندية؟
- ولماذا تلك النظرة التشاؤمية تجاه الأندية من قبل عدد كبير من أفراد المجتمع؟
- وكيف يمكن النهوض بحال الأندية لدينا كي تقوم بالأدوار المنوطة بها ؟

       إن للأندية دوراً مهماً في تكوين شخصية الفرد، كما أنها ينبغي أن تقوم بأدوار تربوية مساندة لدور الأسرة والمدرسة في صقل النشء وتهذيبه، إضافة إلى أن الأندية ومن خلال أنشطتها المتعددة في مختلف المجالات تساهم في الكشف عن المواهب والملكات المتعددة لدى الشباب، ومحاولة صقل تلك المواهب وإخراجها إلى النور، كما أن الأفراد المنتسبين لها سيقضون مع مرافقها وأنشطتها وقتاً مفيداً يغطي فراغهم، ويستفيدون منه حياتياً، مع التأكيد على أن كثير من المشكلات الاجتماعية المتعلقة بفئة الشباب قد تتناقص متى ما وجدوا متنفساً يشغلون به وقت فراغهم بشيء مفيد، لذا حرصت الدول على الاهتمام بإقامة الأندية ودعمها.
      والذي ينظر إلى حال أنديتنا يجد العجب العجاب، فبرغم أننا دولة قليلة الحجم السكاني نسبياً، وبرغم الحالة الاقتصادية الجيدة بشكل عام للدولة والأفراد، غير أننا نجد أن هناك تغييباً لدور الأندية،  فمن يطلع على أحوال كثير من الأندية لدينا يجد أن اهتمامها يكاد ينحصر في لعبات محددة، وعلى رأسها كرة القدم، أي أن الأندية تخدم عدداً محدوداً من المجتمع لا يتجاوز المائة شخص هم عداد أفراد الفرق الكروية بتلك الأندية، و الأنشطة الثقافية والاجتماعية مغيبة بشكل كبير إلا فيما ندر، والقاعات المخصصة لتلك الأنشطة إما مهملة، أو مخصصة كمخازن للأدوات الرياضية، كما أن مباني العديد من الأندية غير مصممة بشكل يتناسب وقيام النادي بدوره المنشود، فكثير من هذه المباني إما أنها قديمة الإنشاء، أو صغيرة الحجم بما لا يتوافق مع الأنشطة التي ينبغي أن تمارس فيها،   كما أن هناك عزوفاً عن الاشتراك في إدارات تلك الأندية، بحجة قلة الدعم، وكثرة المشاكل الإدارية والمالية المتعلقة بها، لذا فليس من الغريب أن نفقد العشرات من المواهب المتنوعة في مختلف المجالات بسبب ضعف دور الجهات التي ينبغي عليها البحث عن تلك المواهب واحتضانها وتأهيلها.
برأيي أنه على الدولة أن تعي أهمية دور الأندية المجتمعي ، وأن يعاد النظر في وضع الأندية الحالي،وأن يتم تغيير الصورة المرسومة حالياً للأندية من جانب قطاع كبير من المجتمع، وأن  تكون هناك إستراتيجية واضحة للاستفادة من أدوار تلك الأندية ثقافيا واجتماعياً ورياضياً، يتم الاعتماد في وضعها على الاطلاع على تجارب العديد من الدول المختلفة، وأخذ رأي المجتمع نفسه بمختلف أطيافه حول الخدمات التي ينبغي أن تقدم من خلال تلك الأندية، وأن يكون للقطاع الخاص دور مهم في إدارة تلك الأندية، وبرأيي أن كثير من الأسر على استعداد للاشتراك في تلك الأندية وبمبالغ محددة، متى ما وجدت أن هناك خدمات مناسبة ومفيدة يقدمها ذلك النادي عدا كرة القدم، ومن اشتراكات الأعضاء، وتأجير بعض مرفقاته تستطيع إدارة النادي الصرف على أنشطته المختلفة.
فهل سيأتي اليوم الذي سيكون فيه النادي  ملاذنا وقت الفراغ، نلتقي فيه بأصدقائنا، ونقيم فيه حفلاتنا الخاصة، ونمارس فيه أنشطتنا المتنوعة، ويجد فيه أبنائنا غايتهم من التكوين الثقافي والجسدي؟أتمنى ذلك.

B+ Episode 2 - باسم يوسف شو (مع طلعت زكريا) الحلقة ٢

إلى متى أيها الناقل الوطني

في مطار القاهرة ونحن راجعون سألني أحدهم. ما أندر موقف مر بك بالمطار في أسفارك السابقة؟
أجبته: ليس موقفا واحداً ولكنها كثر ... أن أصل المطار وأركب (باص) الطيران العماني الذي سيقلنا، ثم نكتشف أن به عطلاً يستدعي انتظارنا لبضع ساعات.
قال لي وهو يبتسم: إذا أبشر ... فالطائرة بها عطل وقد لا نسافر الليلة.


إلى متى يا طيراننا العماني؟

عبدالمنعم العامري- صادت فؤادي من التراث اليمني

مهرجان صور 96 4

مركز المعلومات ودعم اصدار القرار