عندما كنت أسأل طلابي الذين أدرسهم في مقرر "النظام السياسي والإداري" بإحدى الكليّات الجامعيّة في بداية كل فصل دراسي إن كانوا قد اطلعوا على النظام الأساسي للدولة أم لا، أو سمعوا عن المواد التي يتضمّنها، أو عن الحقوق التي كفلها لهم، كانت معظم الاجابات تنصبّ في خانة النفي.
كنت أعتقد وقتها أن هذا الأمر يعود إلى انشغالهم الشّخصي
وعدم اطّلاعهم، حيث أن معظمهم هم من الموظّفين الملتحقين بالدراسة المسائيّة،
وبالتّالي فلا وقت للقراءة أو المطالعة، وإن كنت أستغرب في الوقت ذاته كيف أنّ
موظّفاً عاملاً في مؤسّسة مدنيّة أو أمنيّة أو عسكريّة لم يطّلع على مواد هذا
النظام وهو الذي يتعامل مع كثير منها، وترتبط بطبيعة عمله، ولكني فوجئت بأن أمراً
كهذا يتكرر مع شرائح مجتمعيّة كثيرة متباينة المستويات الثقافية والاجتماعيّة، ففي
كلّ مرّة أوجّه سؤالي لأي جمع ثقافي أو
اجتماعي أو إلكترونيّ أحضره تصبّ معظم الإجابات في خانة واحدة، حتّى تصريحات أو
مداخلات بعض المسئولين أو أعضاء مجلس الشورى لم تكن تخلو من جهل بتلك الموادّ، حتى اطّلعت
مؤخّراً على نتائج دراسة مهمّة قام بها الصّحفي النّشط أحمد بن سيف الهنائي على
عيّنة تكوّنت من 5317 فرداً، من مختلف فئات
وشرائح المجتمع ذكوراً ونساءً، وعديد التخصصات العملية والمهن والدرجات الأكاديمية،
حول ان كانوا قد اطلعوا على مواد النظام الأساسي للدولة أم لا.
وقد جاءت نتيجة الاستطلاع الذي استحوذت فئة المعلمين والإعلاميين
ورجال الأعمال والأطباء وطلاب الجامعات والمدارس والموظفون الإداريون والفنيون بالقطاعين
العام والخاص على النسبة الأكبر منه، على النحو التالي: 5159 فرد لم يطلعوا على النظام
الأساسي، فيما تمكن من قراءته 158 فرداً، أي أن حوالي 97% من عيّنة الدراسة لم تطّلع على دستور بلدها، وهي نسبة خطيرة
خاصّة إذا ما اعتبرنا أن النظام الأساسي يعتبر دستور البلد، ويشتمل على كافّة
الحقوق والواجبات، ويوفّر الإطار القانوني لتطوير وتنفيذ كافة التشريعات والسياسات
الحكومية، كما أنّه يشكل الأساس لكافة التشريعات القانونية، ويتناول الجوانب
المتعلّقة بالسلطات الثلاث التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة.
تفاوتت الأسباب حول عدم قراءته بالنسبة للمشاركين، تمركزت
أغلبها حول الجهل بوجوده أساساً، فيما كان يظن البعض أن "النظام الأساسي للدولة"
مجرد مرتكزٍ تنطلق منه المراسيم، وهو مخصّص للسّلطة العليا في نشر المراسيم فقط، ورغم
غرابة الفكرة إلا أن نسبة من يؤمنون بها تبدو كبيرة، وهو يندرج تحت الجهل بحقيقته،
فيما "ظنّت" فئة أخرى أنّهم غير مطالبين بقراءته لكونه يمثل بنوداً قانونية
تختص بالقانونين فقط وهم غير معنيون به، فيما أجاب البعض أنهم لا يرون داعياً لقراءته
دون الإفصاح عن تلكم الأسباب، عوضاً عن اعتراف البقية بتقصيرهم بقراءته وغياب المحفز
على ذلك.
تبيّن للدراسة وجود ضعف شديد في القراءة بشكلٍ خاص حول هذا
الموضوع، مع وجود إخفاق من المؤسسات التربوية والثقافية والقانونية في توعية المواطنين
والمقيمين بأهمية قراءته، عوضاً عن الصمت الإعلامي وعدم ممارسة دوره في التعريف بالنظام
وتناوله وإفراد برامج متخصصة للحديث عنه، كما اشتكى العموم (السواد الأعظم من المشاركين)
من عدم توفره وصعوبة الحصول عليه في المكتبات والأسواق والأماكن العامة، بالرغم من
توفره على مواقع الإنترنت.
فئة رجال الأعمال، رغم قلة المشاركين إلا أنه حصلت على نسبة
قراءة معدومة بلغت 0%. فيما كان فئتي "المحامون" و"الإعلاميون"
هم الأكثر حرجاً، إذ يتصور للأذهان أن هاتين الفئتين هما الأكثر اطّلاعا على النظام،
فيما رصدت الدراسة وجود بعض المحامين والإعلاميين لم يطّلعوا عليه، وإن كانوا في حقيقتهم
لا يزالون في سنواتهم العملية الأولى في المهنة.
أثنت الدراسة على بادرة جريدة "عمان" قبل عام،
في طباعة "النظام الأساسي للدولة" وتوزيعه على القرّاء في أعدادها اليومية
الصادرة، وكان ذلك أثناء التعديل الأخير في النظام الأساسي، وهي بادرة جيدة خصوصاً
وأن الجريدة تطبع أكثر من 10 آلاف نسخة.
أوضحت الدراسة
أيضاً أن مجلس الشورى تبنّى تقديم مقترحٍ لوزارة التربية والتعليم في إدخال "النظام
الأساسي للدولة" في المنهج الدراسي القادم، بمتابعة مباشرة من رئيس المجلس.
أوصت الدراسة بضرورة الحديث عن "النظام الأساسي للدولة"
إعلامياً وثقافيا وتربوياً واجتماعياً، وبمجرد الحديث عنه تتفتّح الرغبة للآخرين للاطلاع
عليه، وهذا ما حدث مع جزء من المشاركين الذين تواصلوا مع "الزمن" في كيفية الحصول عليه لقراءته.
تواصلت "الدراسة" مع عدد من المتخصصين الذين توصّلوا
جميعاً إلى وجود "كسل" لدى الإنسان العماني في الاطلاع على أنظمته وقوانينه،
أوعزوا ذلك إلى الأمن والطمأنينة وتوسع مظلة العدل في البلد الذي جعل الجميع يشعرون
بالراحة والاستقرار الاجتماعي والسياسي والتنموي، إضافة إلى أن المجتمع الحديث بعد
تولي صاحب الجلالة الحكم انشغل بالبناء والتعمير ومواكبة العصر تقنياً وعلمياً، كل
ذلك ساهم في غياب المجتمع عن نظامه الأساسي، مطالبين في الوقت ذاته بوجود مبادرات من القطاعين الحكومي
والخاص وحتى الأهلي والأفراد في المشاركة بتفعيله وإثارة الفضول حوله لدفع الناس لقراءته،
فيما يطالب بعض القانونين والمثقفين بضرورة مساءلة الجهات المعنية التي لم تطبق بعض
ما نصّ عليه النظام الأساسي في الدولة، فهناك قصور في التطبيق في جوانب القضاء وغيره.
انتهت نتائج الدّراسة التي قام بها الصّحفي الرائع أحمد بن سيف الهنائي، وهي بلا شك دراسة في غاية الأهميّة،
ونتائجها تهمّ عدداً من الجهات المسئولة عن تنمية الوعي الحقوقي والقانوني
والمجتمعي لدى أفراد المجتمع، فمعرفة المواطن بحقوقه التي كفلها له النّظام ، واطلاعه
على المبادئ الموجّهة لسياسة بلده في مختلف المجالات، وإدراكه لاستقلاليّة السلطات
الثلاث التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، تجعله أكثر ثقة واطمئناناً، فهو سيشعر
أنّه في دولة مؤسّسات حقيقيّة، كما أنّها تسهم في جعله أكثر حرصاً على الالتزام
بعدم الوقوع في أخطاء أو هفوات نتيجة عدم معرفته بالواجبات المطلوبة منه، إضافة
إلى أنّ مبادئ كالعدل والمساواة وتكافؤ الفرص والتعاضد والتراحم وغيرها من المبادئ
والحقوق التي تمتلئ بها مواد النظام هي مبادئ تسهم في تعزيز الوحدة الوطنيّة، ولا يقلل من
أهميتها عدم تواكب بعض القوانين المطبّقة حالياً مع هذه المبادئ، أو التصرّفات
والسياسات الفرديّة التي تحسب على الأفراد لا على النظام، وهي مهمّة بحاجة إلى
قيام السلطة التشريعيّة بمراجعة وتعديل وسنّ تشريعات تتناسب وطبيعة المرحلة كي يشعر المواطن بأهميّة مواد النظام الأساسي
وتحققها بشكل كبير على أرض الواقع.
فهل سنرى في المستقبل القريب اهتماماً يتوازى مع هذه
الأهميّة، وهل سيعود أبنائنا من مدارسهم يوماً ما وهم يحملون في حقائبهم نسخاً من
هذا النظام، وهل سنرى ولي الأمر يحرص على وضع نسخة في مكتبته كي يطّلع عليها بقية
أفراد الأسرة، ولتجاور الكتب الفخمة المجلّدة التي يشتريها كل عام من معرض الكتاب
كديكور يزيّن به صدر مجلسه، وهل ستتكفّل اللجنة الوطنيّة للشباب بتنظيم ورش عمل تشمل
كافّة أنحاء السلطنة تناقش مدى إلمام الشباب العماني بمواد دستوره ومعرفة حقوقه
وواجباته التي كفلها لهم، وهل سنرى برامج اعلاميّة
حواريّة مباشرة تستهدف توعية المجتمع بأهميّة اطّلاعه على القوانين والتشريعات
التي تهمّه من خلال الحوار المباشر ، وهل ستخصّص مؤسّسات التعليم العالي مواداً
أساسيّة كانت أم اختياريّة تركّز على غرس الثقافة القانونيّة لدى طلّابها
تساؤلات أترك اجابتها للمستقبل القريب.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.