الأربعاء، 18 مارس 2015

عن أستاذ الجيل..


الدّخول إلى عالم الأستاذ والأديب والمثقّف الاستثنائي الشيخ أحمد بن عبد الله الفلاحي أمر في غاية الصّعوبة، بل هو أشبه بقارب صغير يقاوم تيّاراً قويّاً لا يستطيع الصّمود أمامه، كيف لا وأنا أتحدّث عن رجل كلّ موقف لديه بحكاية وقصّة. ما سيأتي من سطور قليلة ليس القصد منها التعريف بهذا العلم الكبير، ولا سرد شيء من سيرته، فالعارف لا يعرّف، والقاصي والدّاني يعرف جيّداً من هو أحمد الفلاحي، وما قيمته الفكريّة والأدبيّة والاجتماعيّة، وبماذا أسهم لمسيرة الحركة الثّقافيّة بالسّلطنة، وإنّما هي نماذج من مواقف يتجلّى فيها تواضع الأديب الكبير أقدّمها لنفسي أوّلاً، ولمن يرغب من زملائي كي نتأسّى بسيرة هذا الرجل، وتكون دافعاً لنا في مسيرتنا المستقبليّة الشّاقّة في عالم الكتابة والبحث، مستفيداً من معلومات تضمّنتها حوارات أجراها زملاء ومجلات ومواقع فكريّة مختلفة مع الأستاذ في سنوات سابقة.

يذهلك الفلاحي دائماً بمواقفه الإيجابيّة مع الآخرين، فقد يراودك الشّعور يوماً باليأس من جدوى ما تكتبه، وعدم تفاعل الآخرين معه، مجتمعاً كان، أم مسئولين، أم مثقّفين، وقد تصل بك الأمور إلى حدّ الرغبة في ترك الكتابة، وما إن تلتقي به، سواء كان في مجلسه الأدبيّ في منزله العامر بالخوير 1/17، أو في أيّ محفل ثقافيّ تنظّمه إحدى الجهات المحلّيّة المهتمّة بمجالات بالفكر والثّقافة والأدب حيث ستجده حاضراً على الدّوام، إلا ويتبدّد ذلك الشعور بمجرّد رؤية ابتسامته الودودة الصّادقة، وترحيبه الحارّ، وإطراءه وثنائه على ما تكتب، بل ومناقشته لك في نقاط عديدة تضمنتها كتاباتك، وكلّ ذلك كاف كي يمنحك طاقة ايجابيّة هائلة، تجعلك تودّ الإسراع نحو أقرب ورقة، أو (كيبورد) كي تكتب مقالك القادم حتّى لو لم يحن وقت كتابته بعد، وأنت تسأل نفسك في ذهول: من أين يأتي هذا الرجل بكل هذا الوقت لقراءة كل ما يكتب على السّاحة! ولماذا (يتواضع) رجل كالفلاحي للقراءة لأمثالي في الوقت الذي (يتكبّر) فيه بعض أنصاف المثقّفين عن القراءة لغيرهم لحجج ومبرّرات واهية!!   

ورغم مسيرته الحافلة بالإبداع والعطاء والتي بدأت منذ سنّ السابعة عندما قرأ كتب من أمثال "تلقين الصبيان" و"الجامع الصحيح" و"نونية أبو مسلم"، و"دلائل الخيرات"، و"السيرة الجامعة" وغيرها من أمّهات الكتب، والذي صدح حينها بصوته مترنّماً بقصائد طويلة كنونيّة أبي مسلم، والفتوحات لابن شيخان السالميّ، وقصائد "التوبات"، والذي كان شغفه بالمجلدات الضخمة السوداء يجبر والدته(رحمها الله) على أن تضعها في مكان مرتفع لا يتسنّى الوصول اليه لعلمها بمدى شغفه وولعه بها، مروراً بمحطّات فكريّة مهمّة كاختيار والده له في صباه كي يكون قارئ السبلة في سهرة الرجال في بلدته وما أدراكم بسهرات الرّجال ورمساتهم في عمان سابقاً! وحفظه للمعلّقات السبع كاملة، والنونيّة، وأراجيز الشّيخ محمد بن عيسى الحارثي، وقصيدة الشيخ السالمي البائيّة، وقصيدة ابن الرومي في الأوطان، وقصيدة ابن الوردي اللاميّة، وبائية أبي تمام، وقصائد للمتنبّي والنبهاني والستالي والشريف الرضي! واقترابه من أعلام عمانيّة وعربيّة كبيرة في مجالها كمحمد السالمي، وعبدالله الطائي، وإبراهيم العبري، وسالم بن حمود السيابي، وعبدالله بن علي الخليلي، وأحمد بن عبدالله الحارثي، وأحمد بن حمد الخليلي وعبدالله بن صخر العامري وهلال بن سالم السيابي، ، ومحمد حسنين هيكل، وقبّاني، والبردوني، وإبراهيم العريض، ونجيب محفوظ، والطيب صالح، وعبدالرحمن منيف، وعشرات غيرهم ممّن التقاهم وحاورهم، أو مّمن انغمس في قراءة فكرهم وأدبهم، وزيارته لكثير من دول العالم والتقائه بنخبها الفكريّة والثقافيّة، وعمله كملحق ثقافيّ في مصر والبحرين لأكثر من عشر سنوات حضر خلالها مئات من المحاضرات والندوات والمعارض وعروض المسرح والسينما والموسيقى, ومساهمته في ظهور مشروعات أدبيّة رائدة برغم كلّ التحدّيات التي واجهها كالثّقافة الجديدة، والغدير، وسعيه بكل جهده من أجل انشاء كيانات ثقافيّة تلملم شتات الأدباء وأرباب الثّقافة في عمان، كالنادي الثّقافي، والمنتدى الأدبي، وجمعيّة الكتّاب والأدباء، سواء بالمطالبة ومقابلة المسئولين، أو بالنّشاط الفكريّ والإشراف على مناشط تلك المؤسّسات، ومساهمته كمذيع في تأسيس الإذاعة العمانيّة، حيث صدح بصوته وفكره من خلالها لسنوات عديدة، وجوبه العالم بحثاً عن أيّ كتاب جديد يصدر هنا أوهناك، وتاريخ طويل آخر من سيرة لا تنتهي.

أقول إن الأديب الفلاحي وبعد كل تلك الرّحلة الطّويلة مع الإبداع والعطاء، إلا أنه يزداد تواضعاً كلّ يوم لدرجة تذهل القريبين منه والبعيدين كذلك، فعندما سأله الأديب يحيى بن سلام المنذري في حوار أجراه معه على صفحات مجلّة نزوى العدد 29 عن مشروعه لكتابة سيرته الذاتيّة كان ردّه ".. أسأل نفسي إن كان يحق لمثلي إصدار سيرة ذاتية وما أنا إلا مواطن عادي.. "!!

هكذا ببساطه يرى الفلاحي نفسه لم يقدّم شيئاً يستحق كتابة سيرته الذّاتيّة برغم مشواره الحافل في وقت يعكف فيه أطفال في مجال الفكر والأدب على كتابة الأجزاء اللاحقة من سيرهم الذاتيّة!!

وعندما سأله كذلك حول عدم نشره كتاباً يضم مقالاته الكثيرة والمتعدّدة، أجاب: ".. ما زلت أتردد في الإقدام على خطوة كهذه لعلّني أتخوّف من ألا تكون هذه الكتابات في مستوى يؤهلها للنشر، ومازال الأمر قيد التفكير والنظر, وعلّني قد أغامر باختيار مجموعة منها تتقارب موضوعاتها بعد التشاور مع الأصدقاء".

أستاذ الجيل، وشيخ المثقّفين، وعريف قبيلتهم (كما وصفه أستاذ الأدب العربي الكبير أحمد درويش بذلك)، ما زال متخوّفاً بعد كلّ تلك المسيرة الثّقافيّة من ألا تكون كتاباته في مستوى يوهّلها للنشر، وما زال يفكّر، ويعتبر الأمر بمثابة المغامرة!! أي أستاذي الكبير، أعرف أحدهم  لم تتجاوز علاقته بالكتابة أشهر معدودة قد أصدر كتاباً يتناول فيه نظرته للحياة والمجتمع من خلال مقالاته!! وأعرف آخرين لم يصلوا الأربعين من العمر بعد تجاوز عدد إصداراتهم أصابع اليدين (والرّجلين ربّما!)، فمادام الأمر لا يتجاوز الحصول على عضويّة مؤسّسة ثقافيّة ما، وعلاقات هنا وهناك، وطباعة وتوزيع مجّانيّ، فلماذا لا يقوم أمثال هؤلاء بطباعة أيّ شيء يطرأ على بالهم!! هل سينتظرون لحين نضوج أفكارهم! هل سيقتفون مسيرتك الطّويلة مع الفكر والإبداع! أم أنّهم سيختصرون المسافة ما دام كلّ شيء قد أصبح متاحاً و(مباحاً)!!

ولطالما كنت أتباهى بين أصدقائي المقرّبين بقدرتي على قراءة كتاب بأكمله في ليلة واحدة، إلى أن كنت يوماً ما في مجلسه العامر، وحانت منّي التفاتة إلى بعض الكتب المصفوفة بجانب المسند القريب منّي، وعندما بدأت في تصفّحها مستغلاً انشغال الأستاذ بحديث هاتفيّ، إذ بي أفاجأ بكثرة الحواشي والملاحظات والتعليقات والتعقيبات التي خطّها (الأستاذ) على هوامش تلك الكتب، علماً بأنّها في مجالات متعدّدة، وعلماً بأنّها كتب مطبوعة، أي أنّها تجاوزت مرحلة التّحكيم أو الإجازة للطّباعة.

هنا فقط وجدت إجابة لتساؤل كنت أطرحه على نفسي في كلّ مرّة ألتقي بها أستاذنا: من أين يأتي بكلّ ذلك التّدفّق المعرفي الهائل! وهنا كذلك أدركت الفرق بين المثقّف الحقيقي الذي يشتغل جيّداً على ثقافته، وعلى ما يملكه من مخزون فكريّ، وبين من قرأ سطراً من هنا وآخر من هناك وانبرى لينصّب من نفسه كاتباً وباحثاً ومفكّراً!!

أي أستاذي الكبير.. إذا كان الآخرين لديهم طه حسين، أو ميخائيل، أو إيليا، أو العقّاد، فنحن لدينا أحمد الفلاحي. هم قامات طوال في مجال الفكر والأدب ، وأنت لا تقلّ عنهم شأواً وشأناً لدينا. تكفي بصماتك الشّاهدة على كلّ انجاز فكريّ تمّ تحقيقه في هذا البلد، يكفي كلّ الأجيال المتعاقبة من المبدعين الذين تخرّجوا على يديك، يكفي مجلسك الأدبيّ العامر الذي يعدّ مدرسة فكريّة رصينة لا تقلّ أهمّيّة عن المدارس العمانيّة الفكريّة التي أنجبت أعلاماً مازال فكرهم يعطّر المجتمع بشذاه. ستظلّ رقماً صعباً ومهمّاً وعلماً شامخاً في مسيرة الثّقافة العمانيّة التي لم ولن تتوقّف، وسأظلّ أأمل أن أصحو يوماً ما على قاعة أو مكتبة أو مدرسة قد كتبت باسمك، أو أطروحة علميّة تناقش شيئاً من فكرك، أو تلامذة مدرسة يتحلّقون لدراسة سيرتك، فهذا أقلّ القليل لحفيد سحبان والمبرّد وابن دريد والسّتاليّ والبهلانيّ والخليليّ ومن أتى قبلهم أو بعدهم من ربابنة الفكر العماني.

 

الأربعاء، 11 مارس 2015

وجه من بلادي(3)


طوال سنوات عمري الفائتة كنت أتخيّل "روي" عبارة عن بضعة شوارع مزدحمة تحيط بها الجبال من كلّ جانب، وآسيويّين يملؤون المكان. وبرغم أحاديث بعض الزّملاء عن وجود عمانيّين يسكنون بها، إلا أنّني لم أكن أقتنع أو بالأحرى أستوعب ما يقولونه، فأين سيسكن هؤلاء والمكان إما شوارع، أو بنايات، أو جبال!!

وطوال سنوات طفولتي وصباي أيضاً عندما كنت أزور العاصمة في زيارات متقطّعة مع إخواني الأكبر سنّاً كنت أعتقد كذلك أنّ سكّانها يختلفون عن بقيّة سكّان عمان، بحيث يبدون لي وكأنّهم من كوكب آخر، وأنّ ملابسهم وبيوتهم ومأكولاتهم تختلف عنّا، ولأنّهم متطوّرين فإنّهم لا يلقون التّحيّة على الآخرين عندما يلتقون بهم في الشّوارع والحارات كما نفعل نحن سكّان الولايات البعيدة الذين نعتقد أنّ السّلام فريضة لا تقلّ أهمّيّة عن تأدية الفرائض الدينيّة، وأنّ عدم قيامك بإلقاء التّحيّة على الآخرين أو ردّك عليها يعتبر منقصة أيّما منقصة، وعيباً يلاحقك ذنبه إلى آخر العمر. مع مرور السّنوات تغيّرت كثير من تلك القناعات وبقي بعض منها راسخاً إلى أن ساقتني الأقدار ذات مغربيّة إلى أن أضلّ طريقي وسط إحدى حارات روي الضّيّقة وألتقي بجمال الوهيبي!

كان جمال - وهو شابّ اقترب من الثّلاثين أو تجاوزها بقليل- مشغولاً عند مناداتي له بالحديث مع أهله، ويبدو أنّهم كانوا متأهّبين للذهاب في مشوار عائليّ ما، عندما قطعت عليه حديثه لأسأله عن كيفيّة الخروج من الحارة، وكي يدلّني على أقرب الطّرق التي تؤدّي إلى الشّارع العام.

بعد التّرحيب والسّلام والدّعوة لتناول القهوة حاول جمال أن يصف لي طريق العودة، وعندما شعر بحيرتي وعدم استيعابي لوصفه قطع حديثه وفتح باب سيّارتي مستأذناً إيّاي في الرّكوب بجواري كي يدلّني بنفسه تاركاً مشاويره العائليّة لوقت آخر، رافضاً كلّ محاولاتي لإثنائه عن هذا الأمر.

كعادة العماني عندما يلتقي بالآخر سألني جمال في ودّ عن اسمي ووجهتي، وسبب قدومي إلى المكان، وعندما عرف السّبب وهو رغبتي في إضافة بعض الإكسسوارات المهمّة لسيّارتي الجديدة، وحيرتي في معرفة الأماكن المناسبة لشرائها، أصرّ مرّة أخرى على مرافقتي للأماكن التي يعرفها في المنطقة والمناطق المجاورة، وعرض عليّ خبرته في هذا المجال، وتولّى المفاصلة والاستفسار نيابة عنّي مع أصحاب تلك المحلات، وكان يناقشهم وكأنّه صاحب السّيّارة لا أنا، وهكذا ظلّ يفعل على مدى أكثر من ساعتين قضيناها معاً نتنقّل من محلّ لآخر، ومن منطقة لأخرى! وعندما انتهت جولتنا ورغبت في العودة، وبعد رفضي لكافّة محاولاته كي أتناول وجبة العشاء أصرّ على النزول عند ناصية الطّريق وعاد إلى منزله راجلاً خوفاً من أن أضلّ طريقي مرّة أخرى برغم بعد المسافة نسبيّاً بين المنزل وأقرب شارع.

طوال المدّة التي قضيناها معاً تحدّثنا في أشياء كثيرة وكأنّنا نعرف بعضاً منذ سنوات طويلة لا منذ سويعات قليلة! واكتشفت وجود أصدقاء وزملاء عمل مشتركين بيني وبينه! وعرفت من خلاله معلومات عن تاريخ المكان، وسكّانه، ومدى حرصهم على البقاء في المكان الذين عاش فيه أجدادهم وآبائهم من قبل برغم كل التحدّيات (والمغريات) كذلك التي تشكّل ضغطاً عليهم للخروج من المكان إلى أماكن أخرى متمسّكين به، ورافضين تركه للعمالة الوافدة كما فعل آخرون قبلهم!!

كان بإمكان جمال أن يكتفي بأن يصف لي الطّريق، أو أن يوصلني إليه دون أن يلزم نفسه بمرافقتي أو بإبداء كل ذلك الحماس والاهتمام لدرجة تركه لأعماله وارتباطاته خاصّة وأنّه لا توجد سابق معرفة بيننا، كما أنّ هيئتي لا توحي بكوني شخصيّة مهمّة تستدعي الاهتمام بها أو التقرّب منها، ولكنّ قيم العماني المتأصّلة في داخله هي من جعلته يفعل ذلك، وهي ذات القيم التي نعتقد أحياناً أنّها ذهبت بلا رجعة، ولكنّها تظهر في الوقت المناسب فاتحة كوّة كبيرة من الأمل والتفاؤل بأنّ مجتمعنا ما زال بخير. تصرّف كهذا قد تجد نسخاً كثيرة مشابهة له في أماكن كثيرة من هذا الوطن. 

شكراً جمال الوهيبي لأنّك غيرت كثيراً من تخيّلاتي وتصوّراتي عن أماكن وأشخاص ربّما ما كانت لتتغيّر قريباً لولا لقائي بك. شكراً لأنّك أكّدت لي ثقتي بشباب وطني ومدى تمسّكهم بقيم تناقلها المجتمع جيلاً بعد جيل مهما اعتقدنا أنّ العولمة ورياحها العاتية كفيلة بأخذها بعيداً. شكراً لأنّك أثبتت لي أنّ القشور الخارجيّة لا تعبّر دائماً عن أصالة الجوهر، وأنّ نار السّمر لا تخلّف رماداً، بل جمراً مشتعل.

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الأربعاء، 4 مارس 2015

هل سمعتم عن سلمان!!


كانت تلك هي المرّة الأولى التي ألتقي فيها (سلمان). كنت حينها في جلسة مسائيّة بأحد وديان الولاية مع أصدقاء طفولة ودراسة لم ألتقيهم منذ سنوات عديدة بسبب مشاغل وهميّة نخترعها عندما لا نجد مبرّراً حقيقيّاً لأسباب تقصيرنا في تواصلنا مع الآخر برغم تهيئ كافّة الظروف لذلك!! أمّا سبب وجود سلمان بيننا فهو رغبة أحد الحضور من الأصدقاء في أن نعيش أمسية مختلفة بتفاصيل تكاد تكون قد اختفت من واقعنا الحاليّ المعاش ابتداء من ارتشاف قهوة الزنجبيل ذات الرائحة الزّكيّة بصحبة تمر (أبو دعن) صلّاب الركب كما يطلق عليه في الولاية، وانتهاء بـ(الكافتة) وهي وجبة محلّيّة تشبه المكبوس وتعدّ بواسطة نوع من الأرز كان يكثر تناوله في جعلان قديماً، يسمى (الكراشي) نسبة إلى مدينة كراتشي الباكستانيّة.

من الوهلة الأولى لرؤيتي له توقعت أنّني سألتقي بشخصيّة استثنائيّة تختلف عن كثير من الشّخصيّات التي ألتقي بها وأتعامل معها يوميّاً في زحمة الحياة ولهث البحث عن جديدها. كان سلمان شابّاً عفويّاً بسيطاً من النّوع الذي تراه في الصّور التي تحويها كتب التاريخ عن عمانيّي زمان بسمار بشرتهم، وهيئتهم التي تدلّ على رجولة وصلابة وشموخ غير مستغرب، وملامحهم الجسديّة المتناسقة التي تكاد تقسم أنّها لا تحوي أيّ ملليجرام زائد من جرّاء تناول مأكولات دخيلة على المجتمع، وهو النّوع الذي يبدو أنّه سيندثر قريباً لو لم يبد الكثير من المقاومة بعد أن تغيّر الزّمان والمكان المحيطان به!!

عندما تحلّقنا بعد وجبة العشاء التّقليديّة الدّسمة التي أعدّها سلمان لنا لمناقشة بعض الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة التي يمرّ بها العالم، وبينما كان صوت كلّ منّا يرتفع بتأييد هذا الرأي أو معارضة ذاك، أو (التفلسف) بما يملك من معلومات تؤيّد طرحه، كان سلمان ينتحي في زاوية قصيّة من الجلسة كمستمع دون أن يحاول أن يفتي في ما نقول، أو أن يسعى لإثبات قدراته الثّقافيّة أو الحواريّة، وكأنّه يقول لنفسه: هل يعرف هؤلاء حقيقة ما يتحدّثون عنه!!  فجلّ القضايا التي نناقشها ونشغل أنفسنا بها، وترتفع أصواتنا عالياً ونحن ندافع عنها قد لا تعنيه في شيء، فهو ربّما لم يسمع عن (داعش) يوماً سوى صدفة في نشرات الأخبار، ولا يهمّه إن كان ما يقومون به من ذبح وحرق هو حقيقة أم فوتوشوب، ولم يعنه يوماً واحداً إن كان ما يحدث في مصر ثورة أم انقلاب، أو إن كانت (الرّولة) و (الملح) خدش حياء أم خروج على تابوهات محرّمة! ولا يهتم بمن سيفوز بهذه البطولة أو تلك! وماذا سيفعل برشلونة أو الرّيال في المباراة القادمة، فكل هذه الأمور يعدّها متاهات قد لا تهمّه معرفة تفاصيلها في شيء، فلماذا يفكّر في الآخرين مادام محتاجاً للتفكير في نفسه وأسباب معيشته أولاً!!

الحياة بالنّسبة لسلمان تعني قريته الصّغيرة، وجيرانه القريبين، وحيواناته التي يقوم بتربيتها والاهتمام بها وكأنّها جزء من أسرته، ما عدا ذلك فكلّ اهتمام بما لا يعتبره شيئاً مهمّاً بالنسبة له يعدّه تطفّل غير مرغوب، وهي – أي حياته- تنتهي يوميّاً بعد صلاة العشاء بعد أن يكون قد أطعم أغنامه وآواهنّ إلى حظيرتهنّ، وبعد أن تناول عشاءه المكوّن من مواد طبيعيّة غالباً كعادة بقيّة وجباته، ثم صلّى جماعة مع جيرانه وتبادل معهم باقتضاب آخر الأخبار المتعلّقة بقريتهم لا بغيرها من العالم، ثمّ يأوي إلى فراشه دون أن ينشغل حتّى الفجر بالكتابة في مواقع التّواصل الاجتماعي المختلفة عن الوجبة التي أكلها اليوم، أو عن الإبرة التي أعطيت له، أو صورته وهو في المقهى بينما مفتاح سيّارته الثّمينة، وهواتفه الثّلاثة، وكتاب فلسفيّ لم يقرأ حرفاً منه تملأ مساحة الطاولة التي يجلس عليها! أو الدّخول في نقاشات جدليّة عقيمة مع عشرات المجموعات في الواتساب، أو التّفكير فيما سيفعله برشلونه في مباراته القادمة!! 

القرية بالنسبة لسلمان هي عطره المكوّن من امتزاج تربتها مع رائحة شجرها الذي يشمّه مع كلّ فجر يبزغ، ووطنه وعالمه الذي لا يعرف غيره، والذي يحرص على الحفاظ عليه مقاوماً كلّ حالات التغريب والتجريف الفكريّ في زحمة ما يسمّى بالتطوّر والتمدّن، وهو لا يغادرها سوى في عدّة حالات: يوم الجمعة عندما يستعدّ من الصّباح الباكر للذّهاب لتأدية صلاة الجمعة في إحدى القرى الكبيرة المجاورة مرتدياً أفضل ثيابه، ناثراً عليها عدّة رشّات من عطر اشتراه لهذا الغرض، أو عند الذّهاب إلى مركز الولاية من حين لآخر لبيع بعض أغنامه وشراء مستلزماته الشّخصيّة، أو عند حدوث أمر اجتماعيّ طارئ كعيادة مريض، أو تأدية واجب عزاء، وهو أمر لا تهاون فيه، فدونه قطع الرّقاب. سلمان لا يجيد استخدام البريد الالكترونيّ، أو (الواتساب)، أو الرّسائل النّصّيّة، أو الاتّصال الهاتفيّ في تأدية واجباته الاجتماعيّة عبر جمل ورسائل مجاملة باردة لا تحمل دفء الصّدق والاحساس الحقيقيّ بالآخر . الحياة بالنسبة لسلمان هي الحقيقة والصدق وحده.

قد يعدّ البعض سلمان زائدة لا يحتاجها المجتمع المتمدّن، وقد ينظر البعض الآخر إلى تفاصيل حياته على أنّها ردّة وتخلّف، وقد يعتقدها آخرون أنّها من قصص الماضي التي سمعوها يوماً ما وانتهت مع آخر قصّة حكتها لهم جدّة راحلة، ولكنّ سلمان بالرغم من ذلك موجود يقاوم كلّ هذا.   هو حارس أمين لبيئته، محافظ على وجوده ووجودها، منافح عن ثقافتها، يعيش حياته كما ينبغي أن يعيشها هو لا كما يريد الآخرين له أن يعيشها. هو رجل صادق مع نفسه والآخرين، لا يمارس هواية التّجمّل ولا التّلوّن. هو وجه آخر جميل من الوجوه التي تعيش في هذا الوطن.


د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com