الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

فتّش عن المرأة


(1)
عاملة المنزل تسافر إلى بلدها، فيضطر الزوج  لجلب الوجبات من المطاعم، وإحضار والدته  للمساعدة في تربية الأطفال لحين عثوره على من يقوم بعمل الشغالة حتى موعد عودتها. الزوجة موجودة ولكنّها لم تتعود القيام بأمور البيت، ولا تعرف الطبخ، فالعاملة كانت تقوم بكل شيء.

(2)
يشتكي أحدهم من زوجته التي تود استكمال دراساتها العليا تاركة وراءها أطفالها لكي تقوم العاملة بتربيتهم خلال فترة سفرها، ويتحدّث آخر عن مدى المعاناة التي يجدها من جراء انشغال زوجته بمسئوليات وظيفتها التي تجعلها تتغيب وتنشغل طوال الوقت في اجتماعات وزيارات، وكل ذلك على حساب بيتها وأسرتها. مواقف كهذه ستسمعها كثيراً في جلسات النميمة الجماعيّة.

(3)
زوج وزوجة يسافران  للاستجمام تاركين طفلاً لم يبلغ السنة من العمر. هذا الطفل لا يهتمّ  كثيراً بوجود أمه قدر اهتمامه بوجود المربية الآسيوية التي تولت العناية به وتربيته.

(4)
ما وجه الشّبه بين  دور الأم، وبين غرفة العمليات في أوقات الحروب وإدارة الأزمات؟ هل لأنّ الأم  (ينبغي) أن تكون الأكثر اطلاعاً على أحوال أسرتها، والأكثر قرباً، والأقدر على اقتراح أو اتخاذ وسائل التربية المناسبة، في ظل انشغال الرجل (بدوره)في توفير متطلبات البيت، وإعالة الأسرة.

(5)
كم من القصص الهادفة التي سمعناها ونحن على حجر أمهاتنا، وكم من أناشيد وأغاني جميلة مليئة بالحنان المتدفق مازالت آذاننا تحن إلى سماعها، وكم من مواقف حياتية مرّت علينا كانت الأم أو الجدّة أو الأخت الكبرى لنا بالمرصاد إما بالإثابة، أو بالتوجيه، بل وكم من القيم والمواقف التي شربناها مع حليب أمهاتنا؟الآن (بعض) النساء يقتصدن في إرضاع أبنائهنّ خوفاً على صدورهنّ من التّرهّل.

(6)
الغرف المريحة ذات الأصباغ الغالية، والألوان الزّاهية، والرسومات الجميلة، والأسرّة الوثيرة،  والألعاب المتنوّعة، والمعلّمين الخصوصيين، وزيارة المجمّعات التجاريّة نهاية كل شهر، وحفلات أعياد الميلاد، هل تعفي بعض الأمّهات من تأنيب ضمير التربية والاهتمام (الحقيقي) بأبنائها؟

(7)
التغير الحادث في أسلوب حياة شريحة مهمّة من الشباب والبنات من حيث أنماط التفكير، والأحلام، واللبس، والحوار، والتعامل مع الآخرين هو  نتاج للتربية التي نشأوا عليها، فليست المدنية في تغيير نوع الملابس، أوفي هيئة اللبس، بل المدنيّة هي الارتقاء بالفكر والوجدان. دور الأسرة بشكل عام، والأم بشكل خاص مؤثر جدّاً في تشكيل فكر هذا الجيل سلباً أم ايجاباً.
 
(8)
بيوت بها بنات  في سنّ المراهقة والشباب، بينما من يعدّ الطعام رجل آسيوي ربما لم يتجاوز سنه الثلاثين، وفتيات تجاوزن العشرين وهنّ لا يعرفن كيف تسلق البيضة، وفتيان تجاوزوا هذا السن وهم لا يعرفون كيف يمسكوا بفنجان القهوة. من المسئول؟

(9)
عندما تحاور (بعض) البنات تفاجأ بأن معظم أحلامهن تنحصر في  استكمال الدراسة، أو الحصول على فرصة عمل مناسبة تمكنها من تحقيق أحلامها المتمثلة في شراء سيارة جديدة، أو اقتناء جهاز حاسوب جديد، أو الحصول على آخر ما تم التوصل إليه في مجال الموضة بدون التطرق لحلم تكوين الأسرة، أو تنشئة الجيل، بل إنّ بعضهن يرى في هذه الأفكار شيئاً من الرجعية والتخلف.

(10)
الأب الذي يسمح لابنته بالنوم حتى الظهيرة، وبألا تمارس أي عمل منزلي، وبأن تقتني جهاز اتصال محمول وهي لم تكمل الخامسة عشر من عمرها، وبأن تذهب إلى المجمّع التجاري برفقة صديقاتها، وبأن تمتلك سيارة عند دخولها الجامعة دون الحاجة لذلك، هل سيستطيع تغيير تفكيرها عندما تكبر ويكون حلم تكوين الأسرة، وتربية الأبناء آخر همّها؟ والزوج الذي يختار زوجته (لمجرّد) أنها تعمل، وأن لديها راتب يمكن من خلاله تحقيق بعض أحلامه، هل سيكون حائلاً بين زوجته وبعض أحلامها؟ وهل سيحثها على أن تقوم بدورها الحقيقي في البيت حتى في ظل وجود الشغالة؟


(11)
ليس عيبا أن نعلّم بناتنا أن يكنّ جزءا مهماً من البيت، مهما كانت درجة الرفاهية الاقتصادية التي تعيشها الأسرة، وبغض النظر عن عدد العمالة المنزليّة الموجودة، ففي عملهنّ حفاظاً على وقتهن، وصحّة لهن، وكسراً لبعض الغرور، ومزيداً من القيم التي قد يحتجنها مستقبلاً.

(12)
كل عمليات المحافظة على قيم المجتمع ومكتسباته لن تجد نفعاً ما لم تقم المرأة بدورها الحقيقي، كما أن المدنيّة التي ستحوّل المرأة إلى شبه رجل هي مدنيّة زائفة. نجاح المرأة الحقيقي  لا يأتي بالحصول على الشهادات العالية، أو المناصب الكبيرة، بل بمدى تعلق أبنائها بها، وحرصهم على وجودها بينهم، يرون فيها القيمة الكبرى، والموجّه، وصانع القيم.
النجاح الحقيقي للمرأة هو في مدى قدرتها على تكوين أسرة متماسكة، وعلى أن تكون مهمّة لدى أسرتها،  وأي نجاح دنيوي آخر قد يعتبر فشلا لها ما لم يتوافق مع قدرتها على القيام بواجبها الرئيس وهو تنشئة الجيل الصالح القادر على القيام بمسئولياته تجاه نفسه وربه ووطنه.
أيتها الأمهات ..الجنة تحت أقدامكن،  فلا تبعدن أنظاركن عنها.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

(الرباط.. الأخضر يليق بك)



بعد يوم واحد  قضيناه في كازا، نغادرها إلى الرباط العاصمة حيث مكان انعقاد المؤتمر. نستغل الطريق السريع، وهو طريق واسع يمر بأطراف المدن الواقعة بين المدينتين كعين حرّودة، المحمّديّه، بو زنيقة، وادي الشراط، الصخيرات، تماره، وهي مدن تعانق المحيط الأطلسي، وتعدّ جميعها مصايف سياحية جميلة.

طوال الطريق الذي يزيد عن 90 كيلو، كان اللونين الأبيض و الأخضر يعانقان ناظرينا، فالأول هو لون البيوت، والآخر هو لون الطبيعة المحيطة، فأينما ولّيت بصرك فلن تجد أمامك سوى غابة  من الأشجار الوارفة، أو بساط عشب أخضر، وكأنها لوحة ضخمة قام أحدهم بلصقها على الأرض، هذا ونحن في بداية الخريف، فما بالكم بالربيع، وما أدراك ما ربيع المغرب.

قبل دخولنا الرباط يستقبلنا الحزام الأخضر الذي يلفّ المدينة، وهو مشروع حكومي يتم تنفيذه من خلال تشجير الشوارع والأماكن المحيطة بالمدينة. أصرخ بلا شعور وسط ذهول من معي: هل تريدون أن تصيبونني بالجنون أيها المغاربة؟ المكان كلّه أخضر فلماذا الحزام؟ اعرف مناطق في بلدي كانت عبارة عن واحات خضراء ثم أصابها التصحّر، أو غزتها نباتات متطفّلة قضت على كل ما هو أخضر سواها في ظل صمت رهيب من قبل المسئولين عن البيئة لدينا. هل تريدون مثالاً واحداً؟ خذ معك (وادي سال) على سبيل المثال لا الحصر.

ندخل المدينة في طريقنا إلى فندق (سوفيتيل) مقرّ إقامتنا. عدا اللون الأخضر المنتشر في كل مكان،  وعدا الكمّيات الهائلة من الزهور والورود التي تغصّ بها طرقات المدينة وميادينها، فقد بهرني المنتزه الطبيعي الضخم القريب من الفندق، والذي ذكّرني بغابات أوروبا كما قرأتها في القصص، وكما رأيتها في بعض أفلام الرعب الرديئة، وقد أزورها يوماً ما في حال توثيق علاقاتي بمسئولي بعض الجمعيات الثقافية أو الصحفية بالسلطنة. وقتها قد ألفّ العالم كلّه في عام واحد بحجة توثيق العلاقات والتعرف على التجارب الدولية في تلك المجالات.

في طريقنا إلى (الوزّان)، وهو مطعم شهير في حيّ أجدال، يأخذنا مرافقنا موسى في جولة سريعة في أحياء العاصمة. تبدو الرباط وكأنها مدينة صغيرة تستطيع أن تلفّها برجليك، وتنقسم المدينة التي أسّسها الموحدون في أواسط القرن الثاني عشر، إلى قسمين : القديم، والذي يمكن أن ترى ملامحه من خلال السور والأسواق الشعبية والمساجد القديمة، والجديد الذي تنتشر فيه كافة المؤسسات والمباني العصريّة الحديثة.

مما يميّز الرباط كذلك إطلاق الأسماء الاسلامية على الشوارع والزنقات، فأينما تمر إلا وتطالع  اسماً لصحابي جليل، أو عالم شهير يتصدر واجهة أحد الشوارع، وكأنّه تأكيد لمدى الاهتمام الكبير الذي يوليه المغاربة للتراث والثقافة العربية والاسلامية.

نزور مبنى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة في حيّ حسّان، المبنى قديم تجاوز التسعين عاماً، إلا أنك لا تشعر بقدمه بفضل الديكورات والرسومات الرائعة التي تملأ جنبات المبنى الذي يستوعب حوالي ثلاثين قناة تلفزيونية  وإذاعية موجّهة، من بينها قنوات خاصة بالمغتربين المغاربة في شتّى بقاع العالم، وأخرى باللغة الأمازيغية لغة السكّان الأصليين.

من الأشياء التي شدّتني خلال زيارتنا لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون اطلاق أسماء عدد من الممثلين والمذيعين والصحفيين الكبار أو الراحلين  على  بعض الاستديو هات كأليفي حفيظ وأحمد الطيب وغيرهم، ترى هل سنرى يوماً ما قاعة باسم الصحفي سليمان الطائي أو طالب المعولي، أو استيديو باسم سالم الصوري أو جمعان ديوان  ، أو مسرحاً باسم الفنّان صالح زعل، أو سعد القبّان أو غيرهم من أسماء الرعيل الأول الذي ساهم في وضع لبنة الصحافة والفن في السلطنة متحدّين ظروفاً فكريّة واقتصاديّة ومجتمعيّة عديدة واجهتهم.

ذات مغربية جميلة أخذنا موسى إلى شارع (القناصل) الذي يقع بالقرب من الودّاية، والذي سمّي بهذا الاسم لأنه كان مقراً  للبعثات الدبلوماسية في القرن 18، ويعد مع (السويقة) من أشهر الشوارع التجارية  الشعبية بالرباط، بل يمكن اعتباره متحفاً للصناعات التقليدية المغربية بمختلف أنواعها، حيث تصطف على جانبيه عشرات المحلات التقليدية وكأنهم سفراء للثقافة المغربية التي تحاول تحدي رياح التغيير العاصفة.

أما (السويقة) فهو سوق شعبي، وهو عبارة عن أزقة ضيقة تصطف على جانبيها الكثير من المحلات الصغيرة التي تبيع كل شيء، وغالباً ما يكون السوق مزدحماً بالبشر طوال اليوم وكأنك في حيّ (العتبة) في مصر. من هناك اشتريت ورفاقي عدداً من المنتجات والملابس التقليدية كالتكشيطة، والجلباب، والقفطان، والبلغة، وزيت الزيتون، وبعض أنواع الصابون المغربي، وزيت أرجان الذي يفتخر به المغاربة كعلامة تجارية تخصّهم.

المتسوّلون كثر في شوارع الرّباط، ولكنّهم ليسوا كالمتسوّلين الذين يمكن أن تراهم في عواصم عربية أخرى، فهم أكثر لطافة في التعامل، أذكر أنّ أحدهم طلب منّي أن أساعده فأخبرته أنني لا أحمل محفظتي في الوقت الحالي، وكان هذا صحيحاً، فما كان منه إلّا أن ردّ عليّ بابتسامة " مرة أخرى أن شاء الله".

في القهوة الصفراء، وهي إحدى مقاهي الرباط الكثيرة التي تتميز بالشّياكة والنظافة وحسن التصميم كانت جلستنا اليومية للتلذّذ بطعم (الأتاي) المغربي الأصيل، و(حليب سخون)، بل وبصفاء الروح. لا شيء يمكن أن يكدّر صفوك. بمجرّد أن تلتفت يمنة ويسرة تكتشف معنى الجمال الذي تحدّث عنه الشعراء وهاموا به كثيراً، بل وجنّ بعضهم بسببه. هنا لا يمكن إلا أن تحب الشعر وتستحضره. وهنا كذلك لابد أن يكتب على كل طاولة البيت التالي: الصّبا والجمال ملك يديك.. أي تاج أعزّ من تاجيك

هي قهوة بلون الشوكولاتة، أو هي الشوكولاتة ذاتها، تودّ لو التهمتها فالتهمت معها شياكة تصميمها، وجمال روح العاملين بها، وابتسامات مرتاديها. هل تعمّد صاحبها أن (يرسمها) بذلك الشكل حتى لتعتقد أنها كعكة حقيقية كبيرة لا مجرد مبنى صبغ باللونين الأصفر والبنّي الداكن.

زيارتك للرباط قد تجعلك تفكر في قراءة التاريخ الأندلسي مرة أخرى، ذلك أن هذا التاريخ الذي نستحضر منه السهول الخضراء اليانعة، والطيور المغرّدة، والفتيات الحسان المستلقيات على الخمائل، وصوت الطرب الأندلسي الجميل يمكن أن تراه حاضراً عند زيارتك (صومعة حسان)التي شيدت في عصر دولة الموحدين، أو قصبة (الوداية) بسورها ومسجدها المسمى بالعقيق، أو موقع (شالة) على أطراف نهر أبي رقراق الذي تتراكم فيه آثار حضارات رومانيّة وأندلسيّة ومغاربيّة.

الرّباط حكاية جميلة لا يكفيها مقال. مازالت ذاكرتي تحتفظ لها بعشرات المواقف الجميلة والطريفة التي لن تستطع خريطة العالم أن تمحوها. ما تزال أشعار إبراهيم ترنّ في ذاكرتي، وما برحت صوري الشخصية تتحدث عن براعة (البرنس) خالد في التقاطها، ومازالت حلاوة حديث رئيس وفدنا، وغزارة معلوماته، وبراعة أسلوبه الخطابي تضيف إلى ثقافتي المتواضعة الشيء الكثير في كل مرة أرافقه فيها.

لا أجد للختام  سوى أبيات  من أغنية مغاربية جميلة رافقتنا طوال رحلتنا، صحيح أن موسى كره الأغنية والمطرب والمحلّ، بل والبلد بأكملها من كثر  إلحاح إبراهيم عليه بتشغيلها في كل مرّة نركب فيها معه، ولكنها بلا شك ستبقى ذكرى طريفة تذكّرنا بأيام من الحلم عشناها هناك:
بافيني يا خوتي بافيني..بافيني وأصحاب الهذرة خاطيني.. بافيني وباغي نعيش وحداني.. ربّي الفوقاني هو اللي يداوي حالي.

د. محمد بن حمد العريمي
MH.ORAIMI@HOTMAIL.COM

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

يوم في كازا



كانت الرغبة في زيارة المغرب بالنسبة لي حلماً مؤجّلاَ لطالما تمنيت أن يتحقّق يوماً ما وذلك لكثرة ما كنت أسمعه من وصف جميل لهذا البلد والمغلّف بعبارات المدح والثناء المبالغ فيها، والتي جعلتني أتخيّلها عالماً آخر لا يمتّ لعالمنا بصلة.
وعندما تقرّر زيارتي للمغرب للمشاركة في إحدى الندوات العلميّة المتعلّقة بمجال عملي، كان الهاجس الذي ظلّ يساورني طوال الأيام التي سبقت موعد السفر هو ما كنت أتخيّل رؤيته هناك ، وما الذي سيميزها عن غيرها؟ هل هي المناظر الطبيعية، أم التطور الحضاري، أم ماذا بالضبط؟ ولماذا لا يقولون نفس الشيء عن بلدان عربية أخرى اشتهرت بعراقتها وتقدمها، لذا كانت اللهفة طاغية ، والرغبة ملحّة في استباق الأيام وحلول موعد السفر.

عندما نزلنا في مطار محمد الخامس كان أول ما صادفني لوحة ترحيبيّة كبيرة كتب عليها "نرحب بأبناء الجالية المغربيّة في الخارج". استوقفتني العبارة طويلاً وسرحت أتأملها، فأنا مع أسفاري المتعدّدة لا أذكر أنني رأيت مثيلاَ لهذه العبارة في أي مطار آخر، بل إن بعض هذه الدول تودّ لو أنّها كسرت ملايين القلل خلف أبنائها المهاجرين وكأنهم عالة عليها لا سند وقوة لها. كان ما رأيته باعثاّ على الأمل بأنني سأرى أشياءً جميلة كثر، ذلك أن البلد التي تحترم أبنائها المغتربين، وترحّب بهم أكثر من ترحيبها بالغريب هي بلد ينبغي أن تحترم، فما بالكم وهذا الاهتمام يتصدر بوابة العبور الأولى إلى الوطن، وكأنها رسالة تصدّر إلى القادمين ، كانت هذه اللوحة هي أولى النقاط الذي دوّنتها في ذاكرتي  وأنا أقارن بين ما أراه هنا، وبين ما رأيته في مدن سابقة قمت بزيارتها.

بأكواب (الأتاي) الساخن، وكلمات المجاملة اللطيفة تم استقبالنا ريثما تنتهي اجراءات خروجنا من مطار محمد الخامس، لنستقلّ بعدها السيارة التي كانت تنتظرنا لأخذنا إلى مقرّ إقامتنا، دون أن يعترض طريقنا متسوّل، أو أن يتزاحم علينا حامليالشنط، أو أن يلحّ علينا سائق تاكسي ثقيل دمليجبرنا على أن نركب معه ولو بالعافية، كما يحدث في بعض المطارات العربية. وكانت هذه النقطة الثانية التي وضعتها في الحسبان خلال قيامي بعملية المقارنة.

ننطلق من المطار باتجاه فندق "حياة ريجنسي" حيث مقر إقامتنا، الشوارع عادية لا تكاد تختلف عن شوارع كثير من المدن التي زرتها، والمباني ذات المباني التي رأيتها هنا وهناك، صحيح أن اللون الأخضر منتشر على امتداد البصر، ولكني ما زلت أنتظر أن أرى شيئاً استثنائياً يتوافق مع ما سمعته من حكايات أسطورية عنها. فجأة تذكرت أنني طوال نصف ساعة كاملة من انطلاقنا من المطار وحتى وصولنا إلى الفندق لم أسمع صوت (بوق) سيّارة واحدة برغم زحمة الشارع وكثافة الحركة المرورية التي تصادفت مع يوم العطلة الرسمية في البلد. إذاً هذا شيء آخر يضاف إلى قائمة المقارنة.

بعد ساعة من وصولنا إلى الفندق أقرر النزول لا كتشاف الشوارع المحيطة به، وهي عادة أفعلها في كل مدينة أنزل بها، فما بالكم وأنا أتحدث عن مدينة استثنائية بحسب الصورة الذهنيّة التي رسمتها لها، وما بالكم كذلك وأنا سأغادر هذه المدينة  في اليوم التالي ذاهباً إلى الرباط العاصمة حيث مكان انعقاد الندوة.

يقع الفندق  في ساحة الأمم المتحدة والتي كانت تسمى ساحة فرنسا زمن الاحتلال الفرنسي للمغرب ، وبالقرب  من مجسم الكرة الأرضية الذي أنشئ في سبعينيات القرن الماضي، وأصبح من معالم كازا الشهيرة،  كما لا يبعد سوى كيلو متر واحد عن ميناء المدينة، يوماً ما وقبل حوالي 70 عاماً من الآن صورت في هذه الساحة مشاهد من الفيلم  الأمريكي الرومانسي الشهير "كازابلانكا" الذي قامت ببطولته انجريد برجمان وفري بوغارت، لذا فليس غريباَ أن ترى كثيراً من السياح يتوافدون لرؤية الأماكن التي صورت فيها تلك المشاهد.

ولأنني عاشق للمقاهي فقد كان من الطبيعي أن تشدني المقاهي الكثيرة التي تتميز بها الشوارع القريبة من الفندق في كازا القديمة، والتي كانت كاملة العدد بزبائنها الذين كان حديثهم مزيجاً بين السياسة والرياضة والشئون المحلية والخاصة، وفي "مقهى فرنسا" التاريخي المقابل لفندق حياة، والواقع بين ملتقى شارع محمد الخامس وساحةالأمم المتحدة، والذي أنشأته سيدة فرنسية عام 1946، وكان المكان المفضل للتجار الفرنسيين أيام الاستعمار، شربت قهوة فرنسية ستحتفظ بها ذاكرتي طويلاً كاحتفاظ المقهى بتاريخ المكان، وفي"القهوة الخضراء" القريبة احتسيت (أتاياً) لم أذق ألذّ منه نكهة وطعماَ من قبل وكأنني أشربه لأول مره. في كازا لا يفوق عدد المقاهي سوى تعداد البشر القاطنين بها، وكأنما أضحت تلك المقاهي جزءاً من حياة سكانها اليومية.
تجولت في سور "باب مراكش"، وسوق الدار البيضاء، وفي زنقات شارعي محمد الخامس والجيش الملكي ، البنايات بيضاء على اسم المدينة،وصممت على الطراز المورسكي، هنا يباع كلشيء، خاصة الألبسة الجاهزة والأحذيةوالمصنوعات الجلدية والمجوهرات الفضية. لمن عاش مثلي فترة طويلة في  مصر سيعتقد لأول وهلة أنه في شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، أو في صفية زغلول بمحطة الرمل بالإسكندرية. المعالم تتشابه كثيراً، وأثر المستعمر يبدو واضحاً من خلال تصميم الشوارع والبنايات. ما يميز كازا أن شوارعهاواسعة ونظيفة، ولا أثر لقمامة ملقية على الطريق، كما أن الكل مستعد أن يمنحك ما تشاء دون انتظار لمقابل.
في المساء نستقل السيارة المخصصة لنا لأخذ جولة سريعة في "عين الذئاب البشرية"  والتي يسميها البعض اختصاراً بعين دياب، وهي إحدى أهم الأماكن السياحية في كازا. بمجرد ركوبنا ينطلق صوت نجاة يتبعها حليم برائعته " الرفاق حائرون".برغم فترة الاستعمار الطويلة إلا أن المغاربة عاشقون للتراث العربي، مغرمون بفنونه، محافظون على ملامحه، تجد ذلك في تصميم أسواقهم، واختيارهم لمسمياتهم الحياتية المختلفة، وأسماء زنقاتهم وشوارعهم، وحبّهم للطرب الشرقي الأصيل. أسأل موسى سائق السيارة عن أوضاع البلد فيجيبني بأنها مطمئنة، وأن الحكومة تسعى جاهدة لتحسين الأوضاع، وأن الأوضاع أصبحت أفضل مما كانت عليه في السابق، وستصبح أفضل وأفضل بتعاون الجميع. أسأله إن كان منتمياً لحزب معيّن، فيجيبني بالنفي وأنّه يؤيد أية حكومة تعمل لصالح المواطن بغض النظر عن انتمائها الفكري والسياسي.
موسى مثال للمواطن المغربي المثقف، فهو بالرغم من عمله السابق كعسكري، وعمله الحالي كسائق إلا أنه يتمتع بثقافة عالية، ودراية شاملة بتاريخ بلده، واطلاع كبير على كافة الأنشطة الحكومية في مختلف المجالات، وكان موسوعة شاملة استفدت منه كثيراً في معرفة أدق تفاصيل تاريخ المدينة  ومعالمها المختلفة، فلا نكاد نمرّ على معلم تاريخي أو حضاري ما ونستفسر عنه ،  أو نناقش قضية محلية مختلفة أو خبراً ورد في إحدى الصحف إلا وينطلق موسى شارحاً كل ما يتعلق بتاريخ ذلك المعلم أو تلك القضية،  وكأنك أمام أستاذ جامعي لا سائق بسيط.
في بعض الدول يستقبلك سائق التاكسي بعبارات النقد الجارح لسياسات حكومة بلده، والاستياء من الأحوال المعيشية والعامة، والتي تجعلك تكوّن صورة ذهنيّة قاتمة  عن البلد التي تزورها، وتغدو أكثر توتراً طوال فترة إقامتك، وتجعلك تتمنى لو لم تقم بزيارة تلك البلد من الأساس.
في كازا رأيت كل شيء أبيض كاسمها. البيوت، والشوارع، وحتى قلوب الناس.
1

الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

نقاط على هامش الاضراب


(1)
بمناسبة الاضراب الذي ينوي بعض المعلمين القيام به اليوم ( وقت كتابة المقال): هل المطلب المادّي هو المطلب الأساس؟ وماذا لو تم رفع راتب المعلم أو علاواته الفنيّة، أو تم ايجاد كادر خاص للمعلم، هل تنتهي المشكلة؟ وهل ستصبح العملية التعليمية أكثر نجاحاً وتقدّماً؟ وهل ستتطور فجأة كافة القدرات والامكانات المتعلقة بالمعلم. وهل الإضراب احتجاجاً على وضع العمليّة التعليميّة برمّتها أم قاصراً على وضع المعلًم فقط؟ وهل الرسالة موجّهة لوزارة التربية والتعليم فقط، أم موجّهة للمجتمع ككل بحكم أن العملية التعليمية عملية مجتمعيّة تشاركية؟
سؤال آخر: هل تم استنفاذ كافة الحلول قبل البدء في تنفيذ الاضراب، أم لم يكن هناك حوار جادّ من الأساس.

(2)
ألم يحن الوقت لوجود جمعية معلّمين مستقلة تجمع التربويّين في كيان واحد، وتتبنى مطالبهم ، وتعالج همومهم، وتزيل كثيراً من الاحتقان المتبادل، وتحقق عدداً من المطالب الاجتماعية التي ستضيف الكثير لبيئة العمل، ليس أقلها المعاش التقاعدي، أو حق العلاج، أو تنظيم المناشط الاجتماعية، أو حماية حقوق المعلم والدفاع عنه، وأشياء كثيرة لا يمكن حصرها في هذه المساحة.

(3)
وما دمنا نؤلف الأشعار، وندبج الخطب في الحديث عن دور المعلّم ومكانته في المجتمع، ألم يحن الوقت لإيجاد كادر خاص به يشتمل على مخصصات مالية تتناسب والجهد الذي يبذله، ويراعي التطور الفكري والوظيفي له بشرط تدرجه في عمله، وعدم انتقاله إلى مراحل تدريسية أو وظيفية أعلى إلا بعد اجتيازه اختبارات كفاية مناسبة للمرحلة القادمة، وربط ذلك بالعلاوات المالية، على أن يمر المعلم الجديد بعد تخرجه من كلية التربية بسنة امتياز، يتعرض خلالها لعدد من برامج الإنماء المهني طوال عام كامل، وبعدها يتم الحكم على مدى صلاحيته لممارسة المهنة.
هذا الأمر (ربّما) من شأنه أن يحقق مبدأ التنافسية ، ويجعل المعلم أكثر حرصاً على تطوير مستواه الأكاديمي والمهني.

(4)
في ظل الحديث عن مئات الكوادر التربوية من حملة المؤهّلات العليا: ماذا لو تمت (خصخصة) بعض الخدمات التعليمية الموازية كالإرشاد النفسي وتصميم المناهج والتدريب، بحيث تقوم بها مراكز ومؤسسات محلّيّة خاصّة وفق معايير عامة تطرحها الوزارة. ألن يكون في ذلك استفادة من مئات الطاقات والكوادر المتخصصة التي أنهكها الروتين؟ ولماذا لا يسمح لي كمتخصص في المناهج أن أشترك في تصميم منهج ما بالتعاون مع متخصص في المادة وآخر في التصميم، وأنافس زملاء آخرين في ذلك، وبالتالي يكون أمام الوزارة خيارات أفضل وأشمل وفق معايير عامة تضعها هي، وفي نفس الوقت أشعر أن ما درسته لم يذهب هدراً، وكذلك لا أنشغل بهم البحث عن تحسين الوضع الوظيفي من خلال منصب بعيد كل البعد عن تخصصي. 


(5)
ميزانية التعليم ترتفع كل سنة بمقدار ٣٠٠ مليون تقريباً كل عام.
السؤال الأول: هل تتوازى جودة المخرجات مع هذه الزيادة السنوية؟
السؤال الثاني: هل هناك تنويع وتغيير حقيقي في البرامج تتوازى مع هذه الزيادة؟
السؤال الثالث: ماذا لو حدث عائق أعاق هذه الزيادة في سنة ما. هل ستحدث انتكاسة في تنفيذ الخطط والبرامج بحجّة انخفاض الميزانيّة السنويّة؟

(6)
من منطلق أن العمليّة التعليميّة وتكوين شخصية الطالب الذي نريد قضية كبرى لا يقتصر تنفيذ برامجه على جهة بعينها. هل هناك تنسيق وتكامل وسياسة شراكة بين وزارة التربية وبقية الوزارات المعنية كالثقافة والاعلام والشئون الدينية والتنمية وغيرها في وضع خطط مشتركة لتنفيذ برامج متوافق عليها، وموجهة نحو تعزيز الاهتمام بالطالب من خلال البرامج التي تكمل دور المدرسة، وتعزز تحقيق الأهداف العامة المرسومة سلفاً ، أم كلٌ يعمل وفق هواه؟ بمعنى هل يتم دراسة نتائج دراسات وتوصيات هذه الجهات وتنفيذ برامج مشتركة من واقع هذه النتائج بحيث تؤدي الانشطة المختلفة ثمارها المرجوة؟ أم كل طرف ينفذ برامجه لمجرد أن يزيل الحرج عنه ويقول للرأي العام أنني فعلت ما هو مطلوب مني؟

(7)
أليس حريّاً بأعضاء مجلس الشورى ان يتبنّوا مراجعة القوانين المتعلقة بالعملية التعليمية انطلاقاً من دورهم التشريعي والرقابي المتاح لهم أكثر من ترديد المطالب التي ينادي بها العاملون في القطاع وبالتالي الظهور بمظهر الأبطال المناضلين المدافعين عن حقوق المعلّم كونه الشريحة الأكثر تأثيراً في الانتخابات، فهذا دور الاعلام لا دور المجلس، فمازالت هناك قوانين كثيرة عتيقة تعرقل المسيرة التعليمية، ومازال هناك تشابك أدوار مع مؤسسات أخرى، ومازالت هناك ضبابية وعدم وضوح رؤية حول ماذا نريد من المنتج التعليمي. هنا يأت دور المجلس الحقيقي.


(8)
عملت لفترة من الزمن كمعلم، (فرض) عليّ خلالها أن أكون مشرفاً على جماعات طلابيّة مختلفة لا رابط مشترك بينها ابتداء من المسرح وانتهاء بالكشّافة، وكنت أناوب كل صباح وأحياناً في الفسح المدرسيّة، ومرّات أنظّم حركة ركوب الطلاب للحافلات في نهاية الدوام. هل هذا من صميم عملي كمعلّم؟ وهل توضع المناشط لمجرّد سدّ خانة في الجدول المدرسي أم ايماناً بدورها المهم في صقل الشخصيّة الطلابية وو.. الى آخر بقيّة الطقم من العبارات الرّنّانة؟

(9)
نسمع كثيراً عن الدعم المادي الذي تقدّمه بعض مؤسّسات القطاع الخاص لدعم العمليّة التعليميّة من خلال انشاء المباني المدرسيّة، ورعاية الاحتفالات، ودعم بعض الأنشطة.
السؤال المهم: أين دور المؤسّسات الخاصّة والاقليميّة في تقديم برامج تخصص لتأهيل التربويّين وتطوير أدائهم المهني في مختلف المجالات ولا أقصد هنا دعم المشاغل والملتقيات البسيطة، وأين هي مساهمة المؤسسات التربوية والثقافيّة الإقليميّة والعالميّة التي نحرص على أن نكون أول الملتزمين بدفع حصصنا السنوية فيها، أم أن حضورنا فيها يقتصر على الدفع الفوري، والمشاركة في اجتماعاتها الدوريّة ، والورش، وحفلات التكريم التي تقيمها، بينما تذهب البرامج والانشطة والفعاليات لدول أخرى مازالت لم تدفع حصّتها عن أعوام عشرة سابقة.

(10)
ماذا عن المناصب القياديّة في الوزارة والمديريّات المختلفة؟ هل هناك معايير واضحة في الاختيار تسري على (الكل)، أم أن هناك بعض المؤثرات تتدخل في اختيار (البعض)؟ وهل مازلنا نتعامل (أحياناً) بمنطق (القريب من العين قريب من القلب)؟ وهل كون فلان عمل يوماً ما مع المسئول الجديد علّان مسوّغ كاف لاختياره في منصب قيادي؟ وهل وهل وهل.

(11)
من العبارات السائدة لدى البعض: المعلّم لا يداوم سوى حصتين أو ثلاث في اليوم، كما أنه يقضي أكثر من نصف السنة في اجازات، ومع ذلك يتقاضى راتباً عالياً، فلماذا المطالبة كل حين وآخر بتحسين وضعه.
قد يكون هذا صحيحاً، ولكن عندما تذهب للمدرسة لتجد أن طالباً لم ينجح المجتمع بكافّة مؤسساته في تشكيله يحذفك بطوب لمجرد أنك كنت حازماً معه بالأمس، أو يثقب إطار سيّارتك، أو يتلفّظ عليك بكلمة نابية تكون كافية لأن تهدر كرامة وشخصيّة كنت تحرص على الحفاظ عليها أمام ابنك أو تلميذك المؤدّب.
وقتها.. قد نعرف لماذا يعاني البعض.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com