الأحد، 16 نوفمبر 2014

حليب بنكهة السّم!!

ملاك صغير يقوم من نومه باحثاً عن زجاجة الحليب الخاصّة به، تعطيه أمّه الزجاجة فيضعها في فمه بينما ينمّ ثغره عن ابتسامة جميلة توحي لمن يلمحها بأنّ الحياة ما زالت رائعة مادامت تحوي هذه الورود المتفتّحة، ويعاود استكمال نومه غير مدرك أو آبه بأنّ هناك أياد يمكن أن تفكّر – ولو لمجرّد التفكير- أن تؤذي ملاكاً مثله، من أجل حفنة أموال تجعل جيبها أكثر تضخّماً، وقلبها أكثر ساديّة وسواداً، فمهما كان الشّرّ موجوداً، فلا يمكن أن يصل لدرجة كهذه. أيّ شيطان هذا الذي يوحي للبعض أن يحقّق مآربه الدّونيّة على حساب طفل! تبّاً لمن يفكّر في أمر كهذا.

مجمل الحكاية والرّواية أّيّها القارئ الكريم أنّنا نعيش في مسرحيّة طويلة الفصول، ولكنّها ليست مسرحيّة خارجيّة هذه المرّة، بل هي (للأسف) محلّيّة يشترك فيها ضيوف شرف خارجيين يلعبون دور البطولة في كلّ مرّة، مع (سنّيدة) محلّيين. السيناريو ذاته، والمستهدف هو نفسه كما في كلّ فصل، ولكن مع تغيير طفيف في أسماء الأبطال، الأسماء فقط.
مسرحيّة تأبى أن تنتهي فصولها برغم صيحات جمهور الدّرجة الثانية وهتافاتهم واحتجاجاتهم المتكرّرة. والضحيّة وطن وبراءة أطفال مستهدفة.

ملخّص السيناريو: تفتح الستارة ليطلّ منها بضعة أشخاص عددهم يشكّل رقماً مشئوماً لدى بعض الحضارات، تقترب الكاميرا منهم وهم يتبادلون العبارات الآتية: الأول ويبدو من هيئته أنّه الزعيم والعقل المدبّر: فكّروا معي أبناء جلدتي في وسيلة سريعة للرّبح، فالسّنوات تمرّ والمثل يقول " اذا هبّت رياحك فاغتنمها"، ونحن لن نفني عمرنا في هذه البلد مقابل مبلغ معلوم نتقاضاه آخر الشهر.
يكمل الثاني: وهذا معناه أن نفكّر في خطّة جهنّميّة تحقّق لنا هذا الرّبح بأيّ ثمن.
يقاطعه الثالث: ولماذا ارهاق الوقت والذّهن في التّفكير! فلندع التفكير لأمور أخرى أكثر أهميّة. الحل سهل وبسيط ومضمون، فلنفعل كما يفعل كثير من أبناء جلدتنا الآخرين. هل تذكرون قضيّة الحلويّات الشهيرة؟ فلنفعل مثلهم ولكن لنكن أكثر حذراً هذه المرّة، بضاعة فاسدة أو موشكة على الانتهاء نأتي بها، ومع بعض الأكياس والأختام والملصقات تكتمل العمليّة، ولا من شاف ولا من درى.
يأخذ الرابع زمام الحديث قائلاً: دعونا نفكّر في بضاعة تنفع لهذا الغرض، الحلويات وجرّبت من قبل، الأرز أصبح موضة قديمة، اللحوم لا لا. وجدتها، ما رأيكم ببودرة حليب مجفّف قاربت على الانتهاء؟ أعرف لكم من يستطيع أن يوفّر لنا شحنات منها ولو من آخر الدّنيا، وزيادة في الحرص لن نأت ببضاعة منتهية، بل سنحضرها قبل انتهائها بشهر أو اثنين، ومن ثمّ نفرغها في أكياس أخرى، ولنزد سنة أو اثنتين في مدّة الصلاحيّة فأختام الطّباعة موجودة، و(حبايبنا) في الشركات الأخرى ذات الصّلة مستعدّين لخدمتنا على (حباب) عيونهم إذا كان في الأمر مصلحة مشتركة، أو حتّى بدون علمهم طالما أنّ التواريخ سليمة.

الأول مذهولاً وكأنّه وجد (التايهة): عفارم عليك يا واد يا رفيق، هذه هي الأفكار ولا بلاش. لن آخذ منك (كوميشناً) هذا الشّهر. الضمير كان نائماً وقتها، ولم يتمكّن من سماع حوارهم الشّيطانيّ هذا وكأنّهم مسوخ في جانب النّجوم.

إذاً ما فهمناه من الحوار السّابق هو تكرار لسيناريوهات سابقة ليس أقدمها قضيّة الحلويّات الشّهيرة، ولا قضيّة خلط الأرز وإعادة تعبئته، ولا إعادة تغليف وبيع لحوم مجهولة المصدر، ولا ولا ولا من قائمة طويلة بانتهاكات ضحيّتها الأساسيّة هو المستهلك العماني، وكأنّ تشريعات أو طقوس أو تعاليم دينيّة قديمة خاصّة بالفاعلين الرئيسيين في هذه القضايا أوصت بذلك!

والحل!! والحل!! لقد زهقت من ممارسات كهذه حتّى لأكاد أتقيّأ في كلّ مرّة أقرأ فيها عن خبر مشابه. هل حكم علينا أن نموت لمجرّد أن تنتفخ جيوب البعض! هل سيفرض علينا أن نمتنع عن الطّعام والشّراب ( وربّما عن التنفّس) مستقبلاً لأجل أن نبقى على قيد الحياة! وهل تبقّت دولة في العالم لم تصدّر لنا منتجاً منتهياً أو يكاد! ولماذا نكون نحن الحائط المائل الذي يستند عليه البعض، والسّلم المكسور الذي يحاولون تسلّقه للوصول إلى قمّتهم المزعومة!!

أولن تنتهي نظرة البعض المغلّفة بالرحمة والعطف، أو بالمصلحة أحياناً تجاه تلك الفئات، ودفاعهم الشّرس عنهم ضدّ أيّ نقد يطال أدوارهم وممارساتهم السلبية تجاه مجتمع آواهم من جوع، وسطوتهم الزائدة، وسيطرتهم على المفاصل الأساسيّة للسوق والاقتصاد بشكل عام على اعتبار أنّ هؤلاء يسهمون في دفع عجلة الاقتصاد، والمساهمة في بناء الوطن!!

أولا يمكن (للبعض) ممّن يقدّم الغطاء القانوني والرعاية لأمثال هؤلاء أن يفرّقوا ولو لمرّة واحدة بين (الجيب) العام والخاص، أو بين الجسد الكبير والصغير! أولا يمكن لجيبي أن ينتفخ إلا بثقب الجيب العام للدولة ككل من خلال استنزاف مواردها بتصرّفات (شيطانيّة) كهذه تستنزف مئات الملايين في فواتير العلاج طلباً للشفاء من أسقام وأمراض نتجت عن تصرّفات هذه الفئة التي يبدو أنّها خرجت إلى الحياة معدومة الضمير. أولا يعلم هؤلاء أنّ النّار قد تحرق الجميع دون تفرقة! وهل نخر الجسد الكبير للمجتمع بالأمراض الفتّاكة، وتدمير الطاقات الشبابية، وخلخلة الاقتصاد مبرّر كاف ومهم لتحقيق الرّبح السّريع والمضمون!

وإلى متى ستظل الهيئة العامة لحماية المستهلك هذا الفارس المغوار الذي يمتطي صهوة جواده ممتشقاً حسامه مدافعاً عن مجتمعه وأهله صامداً في ظلّ تحدّيات كهذه، وفي ظل تجاهل لمتطلبات أساسية تعينها على استكمال دورها المهم كالميزانيّة الكافية، والمختبرات العلميّة المجهّزة، ومراكز الفحص المتكاملة، والأعداد الكافية من الكوادر البشريّة المؤهّلة والمتخصّصة في مجال الفحص والدراسات والقانون والتوعية، والقوانين الرّادعة التي تعينها على أداء مهامها، وأشياء أخرى كثيرة أرى أنّه من العبث أن أعيد ذكرها في ظل إصرار البعض على النظر إلى الهيئة كمنافس سحب البساط من تحت أقدامهم لا كشريك حقيقي في حماية هذا الوطن.
يا سادة يا كرام.. ماذا تنتظرون بعد! لقد وقع الفأس في الرأس عشرات المرّات، ولقد شجّت رؤوس كثيرة، وخربت "مالطا"، فمتى ستتحرّكون!! كفانا تناقلاً للقوانين من مكتب لآخر وكأنّها أحجار نرد في لعبة طاولة.
شيئاً من الجدّيّة يرحمكم الله.

الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

لماذا يحبّون السّلطان

 هو سؤال وجّهه لي ابني ذات ظهيرة ونحن نتابع تقريراً عن احتفاليّة إحدى الولايات فرحاً بخطاب السلطان المطمئن لشعبه عن صحّته.

ما دمت قد سألت فاسمع مني ما سأرويه لك: كانت بلدك ذا تاريخ وحضارة موغلة في القدم تعود لآلاف السنين، وكان لأهلها منجزات كثيرة ساهمت في تغيير أوجه عديدة من العالم. تاجروا مع دلمون وسومر وأكّد وبابل وطيبة وملوخه وعيلام وأرض كنعان وحمير وسبأ، ووصلوا إلى الهند والصين وسرنديب وما حولهما، وعرفت تلك البقاع فضلهم في نشر الدين واللغة وما اشتمل عليهما من قيم كثيرة، وأقاموا امبراطوريّات واسعة امتدّت لمئات السنين، وابتكروا أنظمة اقتصاديّة وزراعيّة ومعماريّة وسياسيّة ما زالت تدرّس في كثير من الجامعات والمعاهد العلميّة، وخرّجت أعلام بارزين في مناحي مختلفة أضافوا الكثير إلى سجلّ الحضارة العربيةّ والإسلاميّة الزاخر. ثمّ تكالبت عليها ظروف مختلفة أعجزتها وأرجعتها سنوات طويلة إلى الوراء حتّى غدت أشبه ما تكون بأوروبّا في العصور الوسطى: تخلّف، وجهل، وأمراض فتّاكة، وانقسام وفرقة مجتمعيّة على أسس قبليّة ساذجة، بل إنّ البعض وصفها وقتها بقوله" هي قطعة من العالم القديم دجل وترّهات وخزعبلات، وظلام فوق ظلام، وأناس طيّبون يروحون ويغدون. الوقت هو أرخص السّلع في عمان، الناس يخلعون أسنانهم بالدوبارة، ويأكلون المكرونة بالسّكّر"، بينما صرخ  آخر مستغرباً " لماذا يريد النّاس أن يعيشوا هناك؟ ومن يستطع أن يخرج الحياة من هذه الجبال!!"

وفجأة.. وكما يقال في الأمثال "من رحم الظّلام يولد الأمل"، ظهر فارس يمتطي حصاناً أبيض، ولكنّه كان هذه المرّة حقيقة وليس حلماً. فارس شعر بحجم المعضلة التي تعانيها بلده، واستشعر المأساة والمعاناة التي يعيشها مواطنيها، فكانت الانطلاقة نحو تحقيق حلم أشبه بالخيال، حلم لا يفقه أسراره سوى من عايش الوضعين، وقارن بين الحالتين.

كانت المسئولية كبيرة، والتحدّيات أعظم، تخيّل نفسك في بلد بلا مؤسّسات أو قوانين، وبلا أدنى مستوى من البنية التحتيّة، وحدود مفتوحة لم يتمّ ترسيمها، وشعب نصفه إمّا غارق في وحل الأمراض والجهل، أو مهاجر يبحث عن لقمة عيشه بعيداً عن وطنه، عدا ذلك كلّه فهناك من يبحث عن الإنفصال، وعيون خارجيّة تراقب ما يحدث بدقّه بحثاً عن ثغرات تفرض من خلالها أجندة معيّنة. تحدّيات تجعل القضاء عليها يكاد من ضروب المستحيل، وحلماً من أحلام اليقضة والخيال.
برغك كل تلك التحدّيات إلا أنّ هذا القائد الفذّ قد تجاوزها جميعاً فاستطاع خلال أعوام أن يصنع عماناً جديدة تختلف عمّا كانت عليه. عاد العمانيّ إلى بلده كي يسهم في بنائها، وتطوّرت السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة لنصبح دولة ذات دستور ومؤسّسات، وتوحّدت البلاد تحت ظلّ قائد واحد وعاصمة واحدة، ورسّمت الحدود لتقضي على خطر قنابل موقوتة كانت يمكن أن تهدّد مستقبل أجيال قادمة، وقضي على كثير من الأعراف الإجتماعية التي ساهمت في تفرقة المجتمع، ووصلت التنمية إلى وهاد وقفار لم نكن لنسمع عنها من قبل، وأصبح العمانيّ يحاضر في جامعات أكسفورد ومونبيلييه والسوربون وغيرها، ولعبت السلطنة دور الراعي لتسوية الكثير من الملفّات العالميّة الشائكة، وغيرها الكثير من منجزات لا يمكن حصرها هنا، بل هي كامنة في داخل كلّ عمانيّة وعماني.

أي بنيّ: عندما يخرج الناس بالآلاف للإحتفاء بهذا الرجل العظيم فهم لا يقومون بذلك نتيجة ضغط أو اجبار، فلا حزب حاكم لدينا يسيطر على مقدّرات الدّولة وينشر صبيانه هنا وهناك ليحشدوا الناس وكأنهم مقاولي أنفار، ولا اتحاد قوميّ أو اشتراكيّ أو طليعي يمارس دعاية سياسيّة فاسدة، ولا أجهزة أمن قمعيّة تعدّ على النّاس أنفاسهم وتدسّ بمخبر أمام كل بيت لتحصي من خرج ومن لم يخرج. في عمان يخرج الناس طواعيّة يدفعهم ولاء وجميل يحفظونه تجاه هذا القائد الذي أعاد للبلد حضارتها وصنع مجدها من جديد. هو حبّ بني مما قدّمه للوطن، وكبر بحجم ما أعطاه له ولشعبه. باختصار.. هم يخرجون لأنهم ببساطة يحبّونه بصدق.

وقد تسألني بنيّ: هل كلّ هؤلاء صادقين في مشاعر الفرح التي يظهرونها؟ لم أدخل قلوب النّاس كي أقيس مشاعر فرحهم أو حزنهم، ولكن لابدّ في كلّ زمان ومكان من طبّالي زفّة يندسّون وسط البقيّة بحثاً عن مصالح أحاديّة ضيّقة الأفق من قبيل من يتباهى بنحر كذا رأس من الإبل أو البقر وهو الذي يتردّد مليون مرّة قبل أن يتبرّع بحفنة ريالات من أجل استكمال مبنى خدميّ، أو مساعدة محتاج لجأ إليه، وهو الذي كان يمكن أن ينفق نفس المبلغ في أعمال أكثر ديمومة واستمراراً ليس أقلّها بناء مكتبة أهليّة، أو رصف شارع داخليّ، أو فكّ كربة عدد من المساجين بسبب مبالغ زهيدة لم يستطيعوا سدادها، أو التبرّع لمؤسّسة خيريّة تخدم المجتمع، ومن قبيل المسئول الذي يتوشّح الشّال، ويتظاهر بالدّعاء وهو الذي يعطّل مصالح الناس، ويبطء من وتيرة عجلة التنمية بسياسات مؤسسته التي تجاوزها العصر، ومن قبيل من يلتقط صوراً لنفسه ودموعه تهطل مدراراً، ثمّ لا يترك موقعاً ولا وسيلة تواصل دون أن يظهر للناس دموعه، ومن قبيل من يغلّف سيّارته بصور السّلطان ثم يقطع الإشارة، أو يكسر حاجز السّرعة المحدّد، أو (يفحّط) في الشوارع، ونماذج أخرى متعدّدة.

هؤلاء يا بنيّ لا يشكّلون من المجتمع سوى أقلّه، فعمان الحقيقيّة أكبر من ذلك بكثير. عمان الحقيقيّة هي جدّتك التي برغم معاناتها مع المرض إلا أنّها لا تنس أن تسألني في كلّ مرّة أزورها عن حال السّلطان وصحّته، خاتمة سؤالها بكلّ أنواع الأدعية التي تحفظها من أجل أن يمنّ الله عليه بالشّفاء والعافية، عمان هي المرأة الأمّيّة التي قالتها بكلّ عفويّة وصدق" نعيتني يا قابوس"، عمان هي الشيخ الأعمى الطّاعن في السّن والذي برغم سنواته التي قاربت التّسعين إلا أنّ سماعه لصوت السلطان جعله يستعيد كثيراً من سنوات عمره التي مضت، ويتذكّر بندقيّة ربّما اعتقد أنّه لن يراها بقيّة عمره بعد أن حلّ الأمن والأمان محلّ القلاقل والفتن التي كانت تشكّل خبزاً يوميّاً في حياته وحياة الآخرين فأخرجها من (سحّارته) العتيقة، وانطلق لحوش بيته يمارس عملاً نسيه منذ سنين طويله بينما صدى الطلقات تجلجل الحارة بأكملها وهو الذي لا يرى، ولكنّها البصيرة، عمان هي الصيّاد البسيط الذي يخرج فجر كلّ يوم متحدّياً البرد والموج وتقلّبات الطّقس باحثاً عن بضعة سمكات يصطادها كي يبيعها سعيداً قنوعاً بما رزقه الله. هي المزارع الذي مازال متمسّكاً بأرضه، وهي الحرفي الذي مازال كالماسك على الجمر وهو يرى الوافدين يسرقون منه مهنته التي هي جزء من تاريخ هذا البلد، عمان هي هؤلاء وغيرهم من المخلصين من كلا الجنسين الذين يبنونها بكلّ صدق، والذين يؤمنون أنّ الاخلاص في عملهم، والمحافظة على مكتسبات هذه النهضة، والتمسّك بقيم هذا البلد وأصالته هي أفضل ردّ للجميل يقدّمونه إلى وطنهم، وإلى عاهل بلادهم وباني نهضتهم.
عمان هي أنت وأقرانك ممّن صدحتم عالياً "بالروح..بالدّم نفديك يا قابوس"، وأنتم الذين لم يجد الرياء أو التزلّف سبيلاً بعد إلى قلوبكم.

هل عرفت الآن لماذا يحبّ العمانيّون قائدهم!!


الأربعاء، 5 نوفمبر 2014

ما بين المشهدين"بالروح ..بالدم.. نفديك يا قابوس"

أول مقال نشرته في علاقتي المتواضعة مع الكتابة الصحفية


كــان المشهد مهيباَ....حافلات مدرسية تمتلئ بطلاب في عمر الزهور، جلهم متوشحين شعارات وطنية متنوعة، ويهتفون بصوت عال مزلزل " بالروح ..بالدم...نفديك يا قابوس".

ترجل الطلاب من الحافلات التي تقلهم وانتظموا في صفوف، وبخطوات منظمة توجهوا نحو بوابة المديرية، ومازال الصوت يهدر "بالروح ..بالدم ..نفديك يا قابوس".

أعادني المشهد وقتها إلى صورة لصاحب الجلالة صورته مع والده وهو طفل لم يتجاوز الخامسة يلبس زي الأطفال التقليدي العماني. وقتها دققت في الصورة جيدا ...وأتاني هذا التساؤل:كيف لهذا الطفل أن يغير مصير أمة؟وهل كان يدري وقتها أن آمال شعب بأكمله سوف تتحقق من خلال عزمه..وطموحه....وإخلاصه..وتفانيه تجاههم؟؟وهل جال بخاطره لحظة الصورة أنه سيصبح شخصية يحتذي بها العالم في حسن الإدارة وحجم المنجزات؟

تذكرت تلك الصورة .. والتي لا أنكر أنها أسالت دمعة من عيني يوماً ما.تذكرتها وأنا أسمع صوت الطلاب الهادر يعاهدونه على الفداء.تذكرتها وأنا أرى البراءة...والصدق على محياهم وهم يرددون العبارة.

وتساءلت : أترى الصوت هو صوتهم أم إن هيبة الموقف وصدق الإحساس هو من جعله هادراً قويا ؟وهل تلك النضارة في وجوههم هي نضارة اعتيادية ...أم إنها نضارة الحب الحقيقي الخالص من الرياء والتزلف؟وهل تعرف تلك الورود اليانعة معنى الرياء والتزلف؟بالقطع لا...فهي لا تعرف سوى معاني البراءة...والحب ....والأمل.

قارنت بين المشهدين: إن البراءة والصدق لقاسم مشترك بينهما، كما أن من جعل براعم المستقبل وأملها الواعد يقومون بتلك المسيرة الصادقة المعبرة عن شيء بسيط مما يكنونه من مشاعر حب وولاء لصاحب الصورة الأخرى هو إخلاصه وصدقه.. وما فعله من أجلهم...ومن أجل وطنهم.

وتذكرت بين المشهدين عشرات المشاهد الأخرى لصاحب الصورة الثانية: أربعون عاماُ أتت متسلسلة بمنجزاتها.
تسلسلت صور منجزاته، وتضحياته من أجل وطن قدر له أن ينتظر فارسه طويلاً..فأتى في الوقت المناسب، وكان على الموعد.
توالت صور التعليم ما بين ظل شجرة..وما بين أحدث الجامعات وأرقاها.وأتت صور الصحة ما بين سيارات متنقلة..وبين مستشفيات يحسدنا عليها الغرب.وكذا توالت باقي المنجرات.

تذكرت مدى الزهو الذي كان يغمرني عند سفري ومعيشتي بعدد من الدول، وكيف كانت البسمة الممزوجة بالفخر تغمرني عندما يقال لي : أنت من بلد السلطان قابوس ..كم نحن نغبطكم عليه.

وتذكرت المرات العديدة التي كنت أنسى سيارتي مفتوحة وباب البيت كذلك ولا يفكر أحد أن يقترب منهما، وتخيلت الأجيال القادمة ومدى الأمان الذي سيستمر بعد ترسيم الحدود مع دول الجوار.

كثير من الصور جالت بخاطري ....المشاهد عديدة والمغزى واحد " انجازات تتوالى ..بخطى مرسومة بدقة".
وقتها هتفت بلا شعور "بالروح ..بالدم..نفديك يا قابوس"

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

حماية بنكهة عالميّة

"حصلت السلطنة ممثلة في الهيئة العامة لحماية المستهلك مؤخراً على جائزة القمّة العالمية كأفضل تطبيق حكومي للهواتف الذكية على مستوى العالم لعام 2014م، وجاء فوزها ضمن المسابقة السنوية التي تنظمها منظمة الأمم المتحدة بالتعاون مع هيئة اليونيسكو واليونيدو والاتحاد العالمي لتقنية المعلومات والاتصالات والتنمية بمشاركة لجنه تحكيمية تضم 60 خبيرا  يمثلون 50 دوله".

خبر صحفيّ قرأته قبل بضعة أيّام في بعض صحفنا المحلّيّة مع تجاهل اعلاميّ كالعادة لتحليل أبعاده ومضامينه ودلالاته المختلفة، وكأنّ تحقيق انجاز عالميّ في مجال كالتكنولوجيا هو أمر اعتيادي يجب أن يمرّ مرور الكرام، ونحن الذين نملأ الدنيا صراخاً طوال الوقت حول تأخرنا التكنولوجي، وحول الغرب الذين سبقونا بمراحل في هذا المجال، ثمّ عندما يأتي أحدنا فرداً كان أم مؤسّسة ليقدّم تجربة مهمّة، أو يحصل على سبق أو انجاز معيّن نصاب فجأة بالخرس الإعلاميّ، وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأنّ إنجازاً لم يقدّم، أو وكأنّه لابدّ أن تكون انجازاتنا جميعها في مجالات الرياضة أو الفنّ (مع احترامي الكبير لها) كي نرى (الفزعات)، وكي نتابع الشيخ فلان وهو يتبرّع بكذا ألف صوت، والشيخ علان وهو يقدّم آلافاً من الرّيالات دعماً لهذا أو ذاك، مع ابتسامة عريضة للشيخ بينما صورته تنتشر في وسائل التواصل كانتشار النار في الهشيم، وكلّ هذا تحت مظلّة الوطنيّة وحبّ البلد طبعاً، بينما نفس هؤلاء الشيوخ قد يتردّدون ألف مرّة قبل التفكير في التبرّع لبناء مجلس عام أو منزل يأوي أيتاماً أو معوزين. بالمناسبة ما أخبار المخترع العماني سلطان الصبحي؟   

 نعود لحديثنا عن الجائزة التي حصلت عليها هيئة حماية المستهلك، فالأمر أصابني بشيء من الحيرة والاستغراب، فأنا أتفهّم مثلاً أن يتمّ اختيار الهيئة ضمن أفضل ست هيئات وأفراد بإقليم الشرق الاوسط لمنظمة الصحة العالمية في مكافحة التبغ، ولم أفاجأ عندما تم اختيار تجربة الهيئة كأفضل خمس انتصارات كبرى للمستهلكين في العالم، ولا أستغرب عندما أسمع عن زيارات تقوم بها شخصيّات عالميّة مهمّة في مجال حماية المستهلك لمقرّ الهيئة للتعرّف على تجربتها الرائدة بحسب وجهات نظرهم، أو أن دولاً ومؤسسات عريقة توقّع معها اتفاقيّات تفاهم للتعاون المشترك وتبادل الخبرات والبرامج، وغيرها من الانجازات، فهي تصبّ في النهاية في صميم عملها في مكافحة الظواهر الاقتصاديّة السلبيّة، وتعريف المستهلكين بحقوقهم وواجباتهم، والدّفاع عن هذه الحقوق، حتّى لو أسلنا كثيراً من الحبر حول الأدوار الاستثنائيّة التي تقوم بها الهيئة في هذا المجال، والمياه الراكدة الكثيرة التي حرّكتها، ولكنّنا سنقول إن الإنجاز هو أمر ينبغي أن يكون، لا أن يستغرب حدوثه.  ولكن أن تفوز بجائزة عالميّة، وفي مجال كالتقنية وهو مجال ثانويّ مساعد بالنسبة لبرامجها وأنشطتها الأخرى، فهذا أمر يدعو للتوقّف والتساؤل وبعضاً من التحليل والاستنتاج.

برأيي أنّ فوز الهيئة بهذه الجائزة يعني أمراً مهمّاً ألا وهو أنّ الشّعار الذي ترفعه     "الجودة لا التّعدّديّة" هو شعار حقيقي وواقعي وليس مجرّد كلام انشائي لأجل الشو، فما دمنا نتحدّث عن حماية مستهلك فلا مجال لأنصاف الحلول، فإمّا الجودة وإلا، فالأمر يتعلّق بأبعاد صحيّة وبيئيّة واقتصاديّة لا مجال للمزاح أو التهاون فيها، وعندما تعزّز الهيئة جهودها بأفكار تكنولوجيّة كهذه فهي تعي بالفعل أهميّتها في توعية المستهلك وتعزيز ثقافته الاستهلاكيّة.

أستنتج كذلك أنّ فوز الهيئة بجائزة عالميّة كهذه أنّها ترسّخ لصناعة "ثقافة حماية مستهلك" لدى أفراد المجتمع، فبدلاً أن تقتصر معارفهم على الدين، أو الشعر، أو الأدب، أو الفكر بمختلف أشكاله، فلماذا لا تكون لدينا ثقافة خاصّة بحماية المستهلك من حيث صحّته، وسلامته، وحقوقه وواجباته، في ظلّ تسارع تكنولوجيّ واقتصاديّ  رهيب يفرض علينا كثير من التّحدّيات، وصناعة ثقافة كهذه لا تأتي من خلال بضعة أخبار صحفيّة هنا وهناك عن ضبطيّات أو أحكام قضائيّة، ولا من خلال نشرات ورقيّة بين الحين والآخر، ولكن بمخاطبة المستهلك عن قرب، والوصول إلى كافّة الشرائح، ولكلّ المستويات. وفي ظلّ إعلام بديل أصبح يفرض نفسه كلّ يوم على الساحة العالميّة والمحليّة كان لزاماً على أيّ مؤسّسة ناجحة أن تتواكب مع هذا التطوّر، وأن تطوّر من أساليبها لمواكبته. ولعلّ ما قامت به الهيئة من خلال انشاء صفحات لها في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ، واليوتيوب، وجوجل بلس، ومدى التفاعل الكبير الذي تشهده هذه الصفحات والوسائل لهو دليل على هذه الرغبة، وهذا الجهد.

أفهم أيضاً أنّ "الدماغ" عالية لدى مسئولي الهيئة، فالأمر لا يتعدّى مجرد إصدار الأوامر، أو الإشراف العام على البرامج المنفّذة، بل يتعدّاها إلى الاشتراك الحقيقي في صنعها كأحد أفراد الفريق، والجلوس على طاولة واحدة مع المشرفين على تنفيذها، وعصف الذهن، لذا فليس غريباً أن تأتي هذه البرامج إعلاميّة كانت أم تكنولوجيّة مختلفة في طرحها وتنوّعها.

إنّ وجود مسئول يعي أهميّة التجديد والابتكار وتقديم المختلف، والبحث عن أفكار غير مسبوقة، والاشتراك مع الآخرين على طاولة واحدة لممارسة أنواع مختلفة من العصف الذّهني للخروج بأكبر قدر من هذه الأفكار أمر أفضل بكثير من مسئول كلّ يسخّر جلّ امكاناته الفكريّة في ممارسة دور الرّقيب لمجرّد الحفاظ على المساحة الفاصلة بين الخطّين الأحمر والأخضر، وكي يتأكّد أنّ كرسيّه لن يتأثّر بأفكار كهذه، أو أنّ " كل شيء تمام".

بعيداً عن الجائزة فالتطبيق يحوي أشياء كثيرة مهمّة قد تفيدك في حياتك اليوميّة، فمن خلاله يمكن أن تتحقّق من أسعار السلع الأساسيّة من خلال المرصد الموجود به، ويمكنك كذلك التعرّف على استدعاءات السيارات، فقد تكون طراز سيّارتك إحدى الطرازات التي شملها الاستدعاء لمعالجة عيب تصنيع ما، وينبّهك إلى أبرز التحذيرات المتعلّقة بسلعة ما، كما يدّلك على أقرب منفذ للبيع يمكن أن تتوجّه له، ويعرّفك على كيفيّة تقديم شكوى في حالة اضطرارك لذلك، كما يقترح لك خطّة استهلاك يمكن أن تناسب وضعك الاقتصاديّ، إضافة إلى مجموعة من الأخبار والنصائح والإرشادات التي يقدّمها لك والتي يمكن أن تعرّفك بكثير من الحقوق والواجبات التي قد نتناساها أو نتجاهلها في زحمة الفوضى التي نعيشها أحيانا.

في ظلّ وجود كثير من البرامج التي تحفل بها هواتفنا الذكيّة، والتي تتضمّن عروضاً ودعوات لشراء أشياء كثيرة قد لا نحتاجها، فإنّ وجود تطبيق المستهلك الإلكتروني بجانب تلك التطبيقات قد يكون جدار حماية لك يحميك من الإصابة بأعراض الهوس الشرائي، وقد يجعلك تفكّر كثيراً قبل الانسياق خلف أيّ إعلان مضلّل يستهدف جيوبنا وعقولنا كذلك.