الأربعاء، 20 مايو 2015

غيض من.. إزكي (1)

عندما طلبت من زملائي في جروب (أصدقاء الوطن)، - وهي مجموعة واتسابيّة تضمّ نخبة من شباب هذا الوطن الرّائعين في مختلف المجالات – أن يقترحوا لي مكاناً لزيارتي القادمة صباح الغد، كان ردّ الصديق ناصر البرومي سريعاً وحاسماً: قضي الأمر، أنتظرك غداً في ازكي!

إزكي؟! ولم لا، فلطالما قرأت الكثير عن هذه الولاية ومعالمها الشّهيرة دون أن أقوم بزيارة تفصيليّة لها عدا بعض الزيارات السريعة أو المرور الخاطف عليها في طريقي إلى نزوى أو الشّرقية.

إزكي حيث مالك بن فهم يهاجر من بلاده اليمن، لتستقبله عمان فاتحة قلبها لكلّ عربيّ، فيردّ لها الجميل بتحريرها من الفرس بعد موقعة (سلوت) الشهيرة، وحيث ما زال أحفاده يقطنون بها وبأماكن أخرى في هذا البلد الضارب بعراقته أطناب التّاريخ.

إزكي، حيث جرنان والحكايات الأسطوريّة التي نسجت حوله، وحيث حلفين بمياهه المتدفّقة من سفوح الجبل الأخضر العظيم، وحارتي اليمن والنّزار، وحيث فلج (الملكي) الذي تحدّى الغزاة الذين أرادوا كبسه فأعياهم الأمر، وحيث انطلق موسى بن أبي جابر إلى البصرة مع رفاقه من حملة العلم في رحلة ساهمت بعد ذلك في تشكيل تاريخ جديد لهذا البلد، وحيث ألّف بن جعفر جامعه الشّهير، وحيث شكّلت الطّبيعة مناخاً أدبيّاً أنجب شاعراً بحجم أبي الأحول الدّرمكيّ، وحيث نشأ وترعرع رجل العمل الاجتماعيّ التّطوّعيّ العالم والوالي والقاضي والمدبّر أبا زيد الرّياميّ، وحيث أشياء كثيرة جميلة شكّلت حكايات جميلة وأحداثاً مثيرة من أحداث التّاريخ العمانيّ على مرّ عصوره.

وعلى الرّغم من أنّ موعدي مع أبي وهب كان بعد العاشرة صباحاً إلا أنّني لم أشأ الانتظار حتّى ذلك التوقيت، وكأنّ كل الشواهد التّاريخيّة التي قرّرت الذّهاب لرؤيتها ستختفي لو تأخرت ساعة أو اثنتين! هل هي العقدة التي لا تزال تلازمني بعد أن رأيت بأمّ عيني حارات وشواهد أثريّة مختلفة تتحول إثراً بعد عين من جرّاء الإهمال واللامبالاة، والاستخفاف بقيمتها الأثريّة! ربما.

ولأنّ الوقت مبكّر بعض الشيء، استغلّ الوقت في جولة خاطفة بالولاية، لأتبعها بزيارة سريعة إلى بركة الموز القريبة، حيث فلخ (الخطمين)، وحصن (بيت الرّديدة)، وحيث البوّابة الطّبيعيّة المهيبة التي ستأخذك نحو الجبل الأخضر حيث عالم آخر من السّحر والرّوعة والجمال. قضيت في الجبل الأخضر اسبوعين أعدّهما من أجمل أيّام العمر عندما كانت هناك مؤسّسة رائعة تدعى (الهيئة العامّة لأنشطة الشّباب الثقافيّة والرّياضيّة) تنظّم ضمن فعاليّاتها المتنوّعة معسكرات عمل وطنيّ تستقطب نخبة من شباب الوطن، وتطوف بهم أرجاء السّلطنة صيف كلّ عام. في كلّ مرّة أأتي إلى هنا أقف أمام مدخل الطريق إلى الجبل متهيّباً الصّعود. هل هي الرّهبة التي لازمتني في زيارتي السّابقة عندما لم يكن الطّريق قد تمّ رصفه بعد! هل هي الحوادث التي أسمعها من فترة لأخرى عن عوائل بكاملها لقيت حتفها لأنّ دليلها خالف إحدى قواعد السّلامة المروريّة الخاصّة بالسّياقة في دروب الجبل!  قادم إليك أيّها الجبل لا محالة، إن لم يكن اليوم فإنّ غداً لناظره قريب.

ألتقي بناصر في منزله الجميل بحارة (الرّسيس)، وبعد تبادل العلوم والأخبار، وفنجان قهوة أعدّ بعناية كعادة العمانيّ الأصيل عندما يحتفي بضيفه نبدأ رحلتنا مع التّاريخ الإزكويّ، حيث كانت البداية من حارة (اليمن)، وهي أحد أعرق حارات ازكي وأجملها، قرأت عن هذه الحارة وشقيقتها (النّزار) كثيراً، بل لا يكاد يمرّ سطر من كتاب تاريخ يسطّر لإزكي دون أن يذكرهما، وكنت أتخيّلهما مجرّد بيوت متناثرة هنا وهناك، بل كنت أعتقد أنّ مصطلح (حجرة) يعني الغرفة الصّغيرة لا الحارة المتكاملة إلى أن وقفت عليهما في زيارتي وأصابني الذّهول ممّا رأيت. للّه درّك أيّها العمانيّ، ستجعلني أموت كدراً يوماً ما وأنا أرى منجزاتك تستبدل بأخرى لا طعم لها ولا لون ولا قيمة!

تستقبلنا الحارة بلوحة تعريفيّة وضعها أبنائها في مدخلها للتعريف بها وبتاريخها وآثارها وعلمائها الذين مروا عليها عبر السّنين، وهي خطوة جميلة تعرّف الجيل القادم بتاريخ أجدادهم ومآثرهم وإنجازاتهم. ترى هل سأرى نفس اللوحة على مدخل حارة العقر في نزوى، أو حارة (السّندة) في جعلان، أو بيت الرّسّ في علياء وادي بني خروص، أو في غيرها من الحارات العمانيّة التي طالها مرض النّسيان! أتمنى ذلك.

أقف على أحد مداخل الحارة مذهولاً مبهوراً، فهي بأسوارها العالية تقع على تلّة عالية تحيط بها مزارع  النّخيل والموز والمانجو والسّفرجل والليمون. أتذكّر بيتاً للشّاعر خلفان بن محمّد المغتسي الرّواحي واصفاً الحارة في مجمل حديثه عن ازكي في قصيدة رائعة له:

ويامن القصد ميموناً إلى يمن.. ترى المكارم والغرّ الميامينا

ولأنّ ناصر يعرف أنّني سأسأل كثيراً، وسأندهش أكثر فقد أعدّ للأمر عدّته، ونسّق مع اثنين من أبناء الحارة وهما الوالد سليمان البهلاني، والشاب محمود القصّابي كي يرافقانا في جولتنا ويشرحان لنا ما استشكل علينا معرفته، فكانا نعم المرافقين، فكانت الجولة الرّائعة في هذه الحارة بتقسيمها المعماريّ الفريد وكأنّها لوح شطرنج قد قسّمت مربّعاته بطريقة طوليّة وعرضيّة متناسقة، فالبيوت مصطفّة على خطوط مستقيمة، وهي متمايزة في حجمها بحسب وجاهة وثراء صاحبها، وهي تكاد تتشابه في تقسيماتها الدّاخليّة من صباحات، ودهاريز، وسلالم، وغرف نوم، و(مطاهير)، ومخازن.

في جولتنا بالحارة مررنا على عدد من المجالس العامّة. أعود بذاكرتي إلى الوراء لأتخيّل الرّجال وهم يلتقون كلّ صباح لتناول الإفطار الجماعيّ معاً، أو للإحتفاء بضيف عابر أو قاصد، أو لمناقشة أمر عاجل يهمّ سكّان الحارة، أو لتبادل المطارحات الأدبيّة والفكريّة المتنوّعة، بينما الصّغار بزيّهم التّقليديّ يتلقّون بدايات دروسهم في رحلة انطلاقهم نحو عالم الرّجولة والمسئوليّة الذي كان يبدأ في زمنهم مبكّراً..جداً!!

طفنا كذلك بعدد من المساجد المتوزّعة هنا وهناك. أسأل نفسي: ترى في أيّهم كتب محمّد بن جعفر جامعه الشّهير في القرن الثالث الهجريّ، وأين كان يستقبل أزهر بن جعفر طلابه ومريديه! وفي أيّهم كذلك تعلّم وعلّم ودوّن ونسخ علماء من أمثال جعفر بن محمّد، والفضل بن جعفر، وسعيد بن المبشّر، وجعفر بن زياد، وعمر بن شائق، ومسعود بن غانم، والدّرمكيّ الأب والابن، وغيرهم من سلسلة طويلة من العلماء الذين أنجبتهم القشع، والعلم، والمصفّيا، وعدبي، والبرزى، والحارات الأخرى القريبة!

في إحدى الحارات الجانبيّة يشير الوالد سليمان إلى أحد البيوت المجاورة لـ(تركبة) حلوى عمانيّة قائلاً: هذا هو البيت الذي نشأت فيه وترعرعت، وتزوّجت فيه قبل أن أغادر الحارة القديمة. أتخيّل الوالد سليمان وهو يذهب كلّ صباح مع أقرانه كي يهاديهم صاحب التّركبة ببعض الحلوى السّاخنة الملفوفة في (خصفة صغيرة) يطيرون بها فرحاً ليتناولونها قرب ضاحية مجاورة، أو على ضفّة فلج (العلم) القريب. بل أكاد أشمّ رائحة الحلوى الزّكيّة وهي تنضج على نار هادئة أوقدت من سمر عمانيّ، واستخدم في اعدادها ماء الورد الطبيعيّ المجلوب من الجبل الأخضر، والهيل الذي تشمّ رائحته من مسافة عدّة فراسخ، والسّمن الذي تعبت بدويّة عمانيّة تقع خيمتها على أطراف صحراء بعيدة في تذويبه وحفظه. أين هي القهوة يا ناصر، فالحلوى لا يحلو طعمها بدون قهوة عمانيّة مرّة بنكهة الهيل والزّنجبيل الطّاغية عليها. أقولها في سرّي طبعاً.

هذا هو جامع إزكي العريق بتصميمه المعماريّ الفريد بمحاريبه وأروقته واسطواناته المتعدّدة، يقال إنّه كان يشتمل على64 اسطوانة و3 أروقة، اختصرت فيما بعد عندما تمّ ترميمه في زمن الإمام عزّان بن قيس. رأيت كثيراً من المساجد في عمان ولكنّي ربّما لأوّل مرّة أرى جامعاً قديماً بهذه السّعة والضّخامة، اذا ما استثنيت جامع (القباب) في جعلان كوني عشت لفترة من الزّمن بجواره.

قبل أن نغادر الحارة أسألهم عن عين سعنة، وآه من عين سعنة، فلطالما خلد هذا الإسم بذاكرتي منذ سنوات طويلة عندما قرأت (نونيّة) الدرمكيّ لأوّل مرة، وحفظتها بعد ذلك، وردّدتها كثيراً في كلّ محفل أو مساجلة شعريّة أشترك بها، وهي القصيدة التي شغلت الكثيرين من أرباب الأدب في عمان وقتها، وعارضها شعراء كثر، وسارت الرّكبان من الرّستاق إلى العلياء فنزوى وإزكي وسمائل ومسقط بالرّدود والآراء حولها ما بين مؤيّد مدافع، ومعارض منتقد، الأمر الذي يشهد على مدى ما وصل إليه أدباء عمان وعلمائها من سمعة كبيرة في مجال النّحو والبلاغة والنّقد الأدبيّ، وهي القصيدة التي يقول مطلعها:

ما بين بابي عين سعنة واليمن.. سوق تباع بهال القلوب بلا ثمن.

تجروا بما احتكروا به وتحكموا..  فجواب من يستام منهم لا ولن.

 

الأربعاء، 13 مايو 2015

في بيت الشيخ


بعد جولة سريعة في العوابي، نبدأ رحلتنا في أعماق وادي بني خروص حيث المقصد الأخير هو الوقوف على أطلال (بيت الرأس). على مدخل الوادي يربض (بيت الفوق) أو البيت الغربي كحارس أمين له، نتوغّل بضعة أمتار قليلة ليطلب منّي حارث أن ننزل قليلاً كي أطّلع على الكتابات الموجودة على سفح أحد الجبال المحيطة بمدخل الوادي، وكم كان انبهاري كبيراً وأنا أرى كتابات عديدة لم تمتد إليها يد العبث والتّخريب برغم مرور مئات السّنين عليها، كما شدّني جمال الخطّ، وسعة الإطّلاع ممّا يؤكّد على النّهضة الفكريّة والأدبيّة التي شهدتها الولاية على مرّ عصورها، فهذه كتابة تخبر بوقوع محل شديد في الولاية، وتلك أخرى تتحدّث عن هجرة عدد من أبنائها إلى الهند والسّواحل بسبب المحل الذي وقع، وثالثة تحوي أبيات شعر جميلة في الأدب والتحلّي بمكارم الأخلاق، ورابعة تتناول أبيات إحدى المعلّقات، وكتابات أخرى لا يسع المجال لسردها. لو كانت تلك الكتابات في أماكن أخرى أعرفها لاستبدلها بعض شباب اليوم بعبارات من مثل " أبو فلان والعالم"، " مدريدي حتّى الموت"، " الكنج"، وعبارات أخرى مشابهة تدلّ على خواء فكريّ سقيم!!

نواصل طريقنا وسط الوادي لنمرّ على (الهجير) وهي قرية كانت تقع على طريق يصل الى الجبل الاخضر، يخبرني حارث أنها تحوي قرية حجرية موغلة في القدم وكذلك غرفة حجرية تشبه الكهف، بها الكثير من الكتابات القديمة. رائع يا حارث، ولكن أين الوقت الذي يكفي لمشاهدة كلّ هذا؟ يبدو أنّ كلّ قرية سنمرّ عليها بحاجة إلى يوم كامل لا بضع دقائق!

ها نحن الآن نصل إلى قرية ستال الشّهيرة. من هذه القرية خرج أعلام مشهورين منهم الشاعر أبو بكر السّتالي شاعر النّباهنة ، والإمام الصّلت بن مالك الذي كان له مسجد بها يدعى (الغبرة)، يحدّثني حارث عن آثار بيته الحجريّ التي ما زالت قائمة على تلّة قريبة تطلّ على القرية. كانت ستال مركزا إداريّاً وثقافياً واقتصاديّاً للوادي في عصور مختلفة.

 نترك ستال لنقف عند أطلال قرية قديمة قريبة منها تدعى (قرية الصّلوت) بحصنها الأثريّ المقام على تلّة عالية، ومسجدين متلاصقين لا أعرف سبباً لبنائهما جنباً إلى جنب يعرفان بمسجدي الصفاة، ومسجد للعبّاد في أعلى الجبل المطلّ على القرية. في كلّ مرّة أدخل فيها أطلال قرية قديمة أشعر برجفة تهزّني وأنا أتخيّل حياة النّاس بها وحركتهم، وجلبة الأطفال هنا وهناك، وثغاء أغنامها، وتغريد طيورها عندما كانت عامرة بالحياة يوما ما. ترى هل هي الحرب!؟ هل هو الوباء!؟ هل هو المحل!؟

هاهي قرية (ثقب) بفلجها المنحدر من قمم الجبال ليسقي باسقات النخيل فيها. يعجبني انبساطها الذي لم أكن لأتخيّله في مثل هذه المناطق الجبليّة. هذه القرية أنجبت شاعراً سيرتبط ذكره بها، وسيخلّدها في أشعاره إلى أن يشاء الله. إنّه سالم بن غسان اللّوّاحي الخروصي، الذي ولد في القرن التاسع الميلادي واشتهر بلمستة السّلوكيّة أو ما يعرف بشعر الزهد والتصوف، والذي أحبّ خير البقاع مكّة لدرجة العشق، بل إنّه كنّاها بليلى دلالة على عشقه وشوقه إليها.

نتجاوز قرية (صنيبع) لنصل إلى (الهجار) حيث نشأ الوارث بن كعب ثالث الأئمّة في عمان، والشهيد الذي ضحّى بحياته في سبيل إنقاذ رعيّته من المساجين! أسأل عن مسجده (الغمامة) ليجيبني حارث بأنّه لايزال موجوداً. يقال إن الهجار كانت مشهورة بالألواح الحجرية التي كان يستخدمها الطلبة في الكتابة، وبنوع من الحجارة الصغيرة  كالطبشور يكتب به على تلك الألواح!

نحن على مشارف (مسفاة الشريقيّين) وهي مكان آخر جميل في هذا الوادي، كثيراً ما كنت أسأل عن معنى المسفاة وهو اسم شائع لعدّة قرى في عمان، قد يكون الجواب هو مفرد مسافي، أي العيون الجارية كثيرة المياه. في القرية حصن باسمها، وفيها كذلك ولد الإمام عزّان بن تميم الذي تولّى الامامة قبل نهاية القرن الثالث الهجري، والذي في عهده حارب العمانيّون بعضهم بعضاً بدعوى الانقسام إلى يمنيّة ونزاريّة، الأمر الذي سمح للعدوّ الخارجي بدخول البلد وقتل الإمام، ودخول عمان في نفق مظلم امتدّ طويلاً، وهو أمر تكرّر بعد ذلك بنفس المشهد. فقط اختلفت المسمّيات! يقدّم لنا التّاريخ دروساً وتطبيقات عمليّة مرتبطة بالهويّة والمواطنة والتّعايش الايجابي. فقط هي بحاجة إلى من يقدّمها للأجيال بشكل مثاليّ بعيداً عن الاكتفاء بمجرّد السّرد والحفظ والتّلقين!! فهمنا الصّحيح لأحداث تاريخنا المحلّيّ قد يجنّبنا كثيراً من الاشكالات التي نحن في غنى عنها، وقد يسهم في اتّساع رقعة الاتّفاق على حساب نقاط الاختلاف!

ها هي (العلياء) تقترب بقراها الصّغيرة الجميلة كالمحصنة والهودنية والمرخ وعين كرفس وصقر وسحكون والدار، عندما تذكر العلياء فلابدّ من ذكر العالم الرّبّانيّ الكبير، أو(الشيخ الرئيس)، وأقصد به رجل الدّين، والعالم، والأديب، والشّاعر، والمحقّق، والمؤلّف الشيخ جاعد بن خميس الخروصيّ الذي عاش في القرن الثامن عشر الميلاديّ، وهو الذي كتب في النحو، والبديع، والقوافي، والسلوك، والتّصوّف، وعلم الأخلاق، وفي الصّنعة الإلهية، والتراكيب الكيميائية، والفلك، وأسرار الحروف، والرياضة الروحية والروحانية، والذي كان من أهم أسباب زيارتي للوادي هو الوقوف على أطلال بيته، وتخيّل الجّو المحيط الذي صنع كل ذلك الإبداع!

 ألمح على التّلال القريبة بعد قرية (حدس) بيوتاً تحمل طرازاً معماريّاً مشابهاً لبيوت صنعاء القديمة، ترى هل انتقلنا فجأة لليمن! لو أخذت صورة للمكان ونشرتها في أيّ وسيلة إعلامية دون ذكر اسم المكان لاعتقد الكثيرون أنّ الصورة يمانيّة. أسال رفاقي عن المكان فيجيبني أحدهم بابتسامة: إنّنا في صنعاء الآن! صنعاء؟ ولكن صنعاء هناك في اليمن! أقولها باستغراب. يردّون عليّ بذات الابتسامة: تلك صنعاء اليمن، وهذه صنعاء عمان! نعم نحن في صنعاء، وفي هذا المكان بنى الإمام سيف بن سلطان أرض صنعاء وما زال وسورها موجوداً حتى يومنا هذا. يضيف رفاقي: لا تنس أنّ لدينا (سقطرى) أخرى كذلك، أنظر في ذلك الاتّجاه، تلك هي!

وسط ذهول حقيقيّ ممّا يحيط بي من أجواء بانوراميّة خرافيّة ساهم في تشكيلها الجوّ المنعش، والمناظر الخلابة، وتشكيلات الجغرافيا المحيطة، وأصداء الرّوايات والأحداث التاريخيّة المرتبطة بالمكان والتي ظللت لسنوات عديدة أقرأها وأنا أحاول تخيّل مكانها، نصل أخيراً إلى (بيت الرأس)، وهو البيت الذي بناه الشّيخ جاعد، والذي شهد كثيراً من انتاجه الفكريّ الغزير. أصعد إلى البيت سالكاً السّلالم الحجريّة التي تؤدّي إليه، في منتصف درجات السّلم أقف فجأة لأتأمّل ما حولي. ترى كم من مرّة سلك فيها الشيخ هذا الطريق في رحلة ذهابه وعودته إلى مسجده، وكم من طالب علم صعد هذه الدّرجات يوماً ما بحثاً عن إجابة لمسألة استعصى عليه حلّها، وكم من مبعوث أرسله أحد الأئمّة أو السّلاطين أو الشيوخ كي يطلب من الشّيخ رأياً في قضيّة ما، بل كيف بنيت هذه الدّرجات؟ وكيف استصلحت الأراضي الزّراعيّة المحيطة به؟ وكيف تمّ شقّ هذه السواقي وتلك بينما نحن على تلّة جبل!؟

    وأنا أتأمّل ما تبقّى من جدران وأعمدة في بيت الشّيخ، وما تبقّى كذلك من آثار منزل مجاور يقال إنّه كان استراحة صيفيّة لأحد السّلاطين، تأخذني ذاكرتي إلى الاسكندرية حينما كنت أبحث يوماً ما مع صديقي الشّاعر محمد السّناني عن بيت (كفافيس)، الشاعر اليونانيّ الشهير الذي عاش لفترة من الزمن في بيت بشارع النّبي دانيال تحوّل بعد وفاته إلى متحف يقصده عشّاق أدبه من مختلف أنحاء العالم. ذاك في الاسكندريّة، أما في وادي بني خروص فقد أصبح بيت الشّيخ بقايا أطلال حاله كحال البيت المجاور له، وكحال كثير من البيوت والحارات والقلاع المتناثرة في أرجاء عمان!


 

الأربعاء، 6 مايو 2015

إلى ســـوني!!

تاركاً نخل شاذون بتاريخها العريق الذي لم تسعفني السّاعات القليلة التي قضيتها بها في إدراك أبعاده المختلفة، معجباً بما يقوم به شبابها من أنشطة مختلفة تسهم في صناعة وهج متجدّد لهذه الولاية العريقة التي تستحقّ الكثير، في طريقي إلى العوابي، أو (سوني) كما كان يطلق عليها قديماً. كانت بداية معرفتي بسوني في المرحلة الابتدائيّة العليا عندما كنت شغوفاً بالمشاركة في المسابقات الثّقافيّة، وما زلت أتذكّر شعار الولاية (المحبرة والقلم)، كما تمّ تصويره في كتاب (أقوال عمان لكلّ الأزمان) للأديب خليفة الحميدي. عندما كنت صغيراً وأسمع ذكراً للعوابي في الإذاعة أو التلفزيون كنت أعتقد أنّهم يقصدون (الجوابي)، وهي قرية تقع في جعلان وتحيط بها عدد من واحات النّخيل، وكنت أغضب وقتها وأنا الطّفل الصغير وأقول لمن حولي: لماذا يذكرون الجوابي دائماً ولا يذكرون بقيّة القرى!!

كنت قد اتّفقت مع (ناصر) على أن يجهّز لي برنامجاً مناسباً يغطّي الوقت القصير الذي سأقضيه برفقته في ربوع الولاية، ويليق بتاريخ العوابي كما كان يحدّثني عنه في لقاءاتنا بعد كلّ محاضرة. ناصر بن محمّد الخروصي أحد طلابي في برنامج الوثائق بكلّيّة الشرق الأوسط، ومن المهتمّين بتاريخ ولايته، وكان يحرص على أن يبعث لي بكلّ جديد يتعلّق بتاريخ العوابي، ويدعوني دائما لزيارتها، كيف لا وهو سليل أسرة توارثت العلم منذ القدم، وحفيد عالم كبير كالشّيخ جاعد بن خميس الخروصي. ترى هل توجد أسرة واحدة في العوابي ليس لها باع في العلم والمعرفة!! أذكر قصّة حدثت لي قبل سنوات مع أستاذ لبناني كبير متخصّص في العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة، وينتمي إلى أسرة أدبيّة عريقة، كان يريد أن يلتقي بأحد علماء عمان ومفكّريها، ومن حسن الحظّ أنّ الشيخ العالم والأديب مهنّا بن خلفان الخروصي كان يقضي بضعة أيّام بالأشخرة فأخذته له، وبعد سهرة ثقافيّة جميلة إذ بذلك الأستاذ يبدي انبهاره الشديد، وإعجابه اللامتناهي بما يملكه الشّيخ من معلومات في مختلف الأبواب والمجالات حتّى التي تتعلّق بلبنان تاريخيّاً وجغرافيّاً ودينيّاً، وقال لي" الآن فقط صدّقت كل ما كنت تقوله لي عن المدرسة العمانيّة وعن مكانة علمائها. كنت أعتقد أنّ في كلامك نوعاً من المبالغة، ولكن بعد حواري مع الشّيخ أدركت أنّك لم تعطها حقّها الكافي كما ينبغي"!

في طريقي إلى العوابي أتخيّل عشرات الأحداث التي مرّت هنا وهناك من حولي، جيوش وقوافل وعلماء عبروا هذا الطّريق من وإلى الرستاق وما حولها، أتأمّل الجبال السّوداء المحيطة بالطريق فأشعر وكأنّها على وشك أن تنطق بما رأته. في هذه المناطق صنع جزء كبير ومهمّ من تاريخ هذا البلد العريق. ترى هل مرّ محمّد بن (بور) من هنا وهو في طريقه لحرق مكتبات الرّستاق وكبس عين كسفتها الشهيرة! وفي أيّ بقعة مجاورة أدرك النوم التاجر اليمنيّ في عهد الامام سلطان بن سيف الثاني قبل أن يسرقه أحدهم وقبل أن يأمر الإمام بمن (يقصّ) أثر السّارق ويلاحق أثره حتّى لو وصل حدود السّند في دلالة مهمّة على تسامح العمانيّين مع غيرهم! أترك تخيّلاتي قليلاً لأركّز في الطّريق فهي المرّة الثانية التي أصل فيها إلى هنا بعد رحلة جامعيّة يتيمة إلى الرّستاق ونخل قبل سنوات اقتربت من العشرين. هذه لوحة تدلّ على الطريق المتّجه إلى وادي مستلّ، يا لوادي مستلّ! لا يذكر هذا الوادي إلا وتتناثر الأشياء الجميلة من حولك، فراشات وورود وخوخ ومشمش ورمّان وعنب. على ذكر العنب أتذكّر بيت شعر للسّتاليّ يقول فيه:

إن عزّت (الخمر) من هيت فهات لنا.. ما استلّ من مستل أو سيق من سيق

ربّما لم يكن السّتاليّ يقصد الخمر الحقيقيّة، لكنّها دلالة بليغة على ما يتميّز به هذا الوادي وقراه المتعدّدة كالهجير، وحدش، والجميلة (وكان)، وغيرها من القرى الرابضة على امتداده من آيات سحر وجمال أبدعها الخالق.

هذه قرية (المهاليل)، يوماً ما وقبل حوالي 300 عام من الآن مات المئات من الأطفال والنّساء والشّيوخ جوعاً وعطشاً في كهوف جبالها هرباً من صراع العمانيّ ضدّ ابن جلدته العماني!! هكذا هو التّاريخ.. لا يرحمك عندما توسّع نقاط الإختلاف الضّيّقة مع شركاءك في الوطن والهويّة على حساب مساحات الإتّفاق الواسعة!!

أصل إلى مدخل (سوني) أو العوابي الحاليّة والتي يعني اسمها الضواحي والمفرد عابية، وهي الارض غير المستغلة زراعيا مع قابليتها للزراعة، باحثاً عن مركز البريد حيث ينتظرني مضيفي لأجد نفسي أمام (بيت الفوق) وهو الحصن الذي بناه الشيخ جاعد بن خميس كسكن له ولعائلته، ثم استكمل بناءه في عهد الأئمة والسلاطين اللاحقين. قل لي يا ناصر إنّ موعدنا هو عند (بيت الفوق) لا مركز البريد. في مكان كالعوابي لا مكان للأشياء الحديثة في حضرة التاريخ!!

يأخذني ناصر إلى بيت ملاصق لمكتبة الشيخ ناصر بن راشد الخروصيّ، وهو صنو الإمام سالم بن راشد وأحد ولاته وقضاته على العوابي وولايات أخرى، وكان مشهوراً بشدّته في الحقّ، وحزمه، وطلبه للعلم واهتمامه به، كيف لا وهو خرّيج مدرسة النور السالميّ! لم تتسنّ لي فرصة دخول المكتبة لضيق الوقت، ولأنّها كانت مغلقة وقت وصولي، لكنّي عوّضت هذه الفرصة من خلال ما رأيته وأبهرني في مجلس البيت المجاور لها، والذي اكتشفت أنّه بيت الصّديق المهندس حارث الخروصي الذي كان زميلاً لي في إحدى مجموعات الواتساب المهتمّة بالتّاريخ العماني دون أن نلتقي من قبل، وكانت فرصة جميلة للقاء صديق أراه لأوّل مرّة برغم الحوارات والنقاشات الكثيرة التي جمعتنا عبر أثير التكنولوجيا!!

وبرغم أنّه ترك الهندسة إلى عالم الأعمال الحرّة، وبرغم المشاغل الجمّة التي ترتبط بمثل هذه الأعمال، إلا أنّ كلّ هذا وذاك لم يشغل حارث عن عشقه للتّاريخ، فقد حوّل مجلسه العامر إلى متحف شامل للآثار العمانيّة من نقود مختلفة، وأنواع أسلحة، وأواني، ومشغولات فضيّة، وغيرها. ما يشغل بال حارث في المرحلة القادمة هو إنشاء متحف مصغّر لهذه الآثار تمكّن الآخرين من سيّاح وباحثين ودارسين ومهتمّين من التعرّف على آثار الولاية ودراستها. هو الدّعم فقط!

ألحّ على رفاقي بأن نستغلّ الوقت قبل الغروب كي أتعرّف على أكبر قدر ممّا يحتويه وادي بني خروص من آثار ومعالم، ولكي أتخيّل مشهد تنصيب هذا الإمام أو عزل ذاك، ولكي أشمّ رائحة شجر اللّيمون الذي أوصى به الإمام الوارث بن كعب لأبناء الوادي، ولأعيش الحالة الوجدانيّة التي عاشها اللّوّاح الخروصيّ، أو السّتاليّ، أو الغشريّ قبل أن يشرعوا في كتابة قصيدة جديدة من قصائدهم التي ستبقى طويلاً في ذاكرة ووجدان الشّعر العربيّ، ولكي أتتبّع خطوات الشّيخ جاعد وهو في طريقه إلى مسجده ليقضي وقته اليوميّ في القراءة والتّأليف، بل ولكي أقرأ أكبر قدر من صفحات هذا السّفر العظيم، فما الوادي إلا كتاب تاريخ ضخم مفتوح، وهي جولة أرجي الحديث عنها للمقال القادم بإذن الله.