الخميس، 28 يوليو 2011

مشــاهد رمضــانية

أيام قليلة ويحل علينا ضيف كريم ننتظره كل عام بشوق عارم، ولهفة كبيرة..في هذا المقال نتوقف مع بعض المشاهد والمواقف المرتبطة بهذا الشهر، والتي استحضرتها من الذاكرة، ومن معايشتنا جميعاً لكثير من جوانبها وأحداثها.

في البداية علينا أن نتذكر رمضان أيام زمان، حيث كان جميلاً بألفته وأمسياته الروحانية،كان الناس  ينتظرونه لمزيد من  العبادة والتواصل الاجتماعي برغم صعوبة الظروف المعيشية،وكان من المشاهد المألوفة المرتبطة به منظر الأطفال وهم يتنقلون من بيت لآخر يحملون بعض ما جادت به بيوتهم، كما كانت الحارات العمانية تحرص على المشاركة الجماعية في وجبة الإفطار، فالرجال والصبيان يفطرون معاً في صحون المساجد، والنساء  يتجمعن في مكان فسيح ، كل يأت بما استطاع  من ماء وتمر وبعض الوجبات التي كانت تعدها بيوت الميسورين، في مشهد جميل يوحي بمدى التواصل والتكافل الاجتماعي، وعمق العلاقة المجتمعية التي تربطهم.

كان أغلب المصلين لا يبرحون المساجد بعد صلاة التراويح، حيث يتجمعون في حلقات لتلاوة القرآن الكريم، مع حرصهم على اصطحاب أبناءهم لتعويدهم على تعلم القرآن وتلاوته ليكون نبراساً وطريقاً لهم في المستقبل، ثم تكتمل سهراتهم الرمضانية  باجتماعهم على وجبة عشاء أعدها أحد المحسنين، أو "فوالة" جاد بها بعض المصلين، يتخللها سرد لقصص من سير الأنبياء والصالحين، أو تبادل الأحاجي والألغاز، أو تداول بعض أبيات الشعر.

كانت المساجد تمتلئ في العشر الأواخر بالمعتكفين، طلباً للأجر،واقتداء بسيرة النبي الكريم، وحرصاً على اغتنام أجر ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، كما كان صوت"المسحر" شجياً وهو يحث الناس على النهوض لتناول وجبة السحور، بينما عدد من صبيان الحارة يتبعونه وهم يرددون ما يقوله من عبارات جميلة .
كما كان الشهر فرصة مناسبة لتصافي النفوس، وتصالح القلوب، لذا فكثير من المشاكل الاجتماعية تحل خلاله،  وكان طلب الأجر السماوي هو المقصد الأول لدى الكثيرين، فتجد الصياد يحرص على توزيع جزء من حصيلة يومه على الجيران والأقارب أو من قصد قاربه، وكذلك صاحب المزرعة،  دون أن يخايلهم شعور باستغلال الموقف،وحاجة الناس لسلعهم، في تحقيق مكاسب مادية غير مقبولة دينياً واجتماعياً، كما كانت بيوت كثير من الميسورين مورداً لكثير من المحتاجين والأغراب . 
هكذا كان رمضان كما عاشه آبائنا وأجدادنا، وكما عايشه بعضنا.ولكن هل عاد رمضان كما كان  سابقاً؟

لقد تباينت النظرة الآن تجاه هذا الشهر الفضيل ، فالبعض ينتظره من أجل الإكثار من العبادة، وتقوية روابطه بربه ودينه، بينما يرى فيه البعض تنوعاً اجتماعياً وثقافياً يدخل المزيد من البهجة والسرور على القلب، وينوع خياراته في قضاء وقته خلال الشهر، وبعض آخر ينتظر قدوم الشهر من أجل دوراته الرمضانية الكروية  التي تكثر خلاله، فتجد الاستعداد البدني، وتمارين اللياقة، وبرامج التغذية الصحية كي يكون على أهبة الاستعداد للاشتراك في أكبر عدد من هذه الدورات، كما يرى فيها البعض فرصة لتجربة وصفات جديدة ومتنوعة لبعض الوجبات،  ويرى فيه آخرون فرصة للمكوث أكبر قدر من الوقت أمام شاشة التلفزيون لكسر الوقت، ومشاهدة  المسلسلات والبرامج المتنوعة التي تزخر بها القنوات الفضائية المختلفة، وتتنافس بينها لأجل كسب مزيد من المشاهدين، وبالتالي عائد أكبر من الإعلانات التجارية، حتى لو كان تمويل بعض هذه البرامج والمسلسلات هو من خزينة الدولة، وحتى لو كانت بعض هذه المواد الإعلامية لا تتناسب وحرمة ومكانة الشهر الفضيل.

من بين المشاهد المرتبطة بهذا الشهر الفضيل حالياً ، التناقض بين بعض السلوكيات قبل وخلال رمضان، ففي  الأيام الأولى نلاحظ امتلاء المساجد بالمصلين، والحرص على صلاة الفجر جماعة، والإكثار من قراءة القرآن، والتواصل الاجتماعي من خلال زيارات الأقارب والأرحام، وتوزيع الصدقات، وتبادل الوجبات بين البيوت،وتوزيعها على المساجد، وكذلك زوال أثر "أدوات التجميل"من وجوه الكثير من الموظفات ، والتوقف عن بعض الممارسات الخاطئة كالتدخين مثلاً، ولكن ما إن تنقضي أيام الشهر، أو جزء منه حتى يعود كل شيء لما كان عليه، وتعود "ريمه لعادتها القديمة".ويبقى السؤال المهم :لماذا يربط البعض عمل الخير، أو التوقف عن بعض الممارسات بهذا الشهر فقط؟لم  لا يحدث ذلك طوال العام؟ حتى لو أيقنا ميزة هذه الشهر على غيره من الشهور في الأجر ومضاعفة الحسنات، ولكن الإنسان محاسب كذلك على ما سيفعله في الأشهر الأخرى.

وبينما عرف المسلمون الأوائل رمضان بفتوحاته وانجازاته العظيمة كغزوة بدر، وفتح مكة، وفتح القسطنطينية، وحرب أكتوبر 1973، وغيرها من الأحداث الخالدة والمرتبطة بذاكرة الحضارة الإسلامية، فإن كثير منا حالياً ينظر للشهر الفضيل على أنه شهر اللا عمل واللا انجاز، فهو شهر السهر ليلاً، والنوم نهاراً، فالبرامج الاجتماعية والرياضية، والمسلسلات المختلفة، والسهرات الرمضانية، لا تدع للبعض الفرصة في نوم مبكر يصحو على إثره نشيطاً قادراً على إنجاز عمله على أكمل وجه، لذا يحرص البعض على أخذ إجازته خلال هذا الشهر، بينما تجد نموذج آخر من الموظفين عابس الوجه، مكفهر الملامح، يعمل بنصف عين، يأتي بعد ابتداء وقت الدوام، وينصرف قبل انتهائه، يحاول قراءة القرآن في المصحف المجاور والذي يكون وجوده من الأساسيات في مكاتب بعض الموظفين في هذا الشهر،بينما عشرة مراجعين ينتظرون  انتهاء معاملاتهم، ويتعمد التأخر في المكوث في المصلى لأداء صلاة الظهر، علماً بأن وقت الدوام في هذا الشهر يكون أقل من نظيره في الأشهر الأخرى،  لذا لا عجب أن تقل الإنتاجية، مع أن مكانة الشهر وأهميته تستدعي أن يكون العكس هو الصحيح.
من المشاهد المرتبطة بهذا الشهر الكريم ارتفاع أسعار كثير من السلع الأساسية قبل أيام قليلة  من قدومه، ارتفاع لا تعرف له سبباً حقيقياً،فالناس هم الناس، والسكان لا يزيدوا فجأة خلال هذا الشهر، ومعظم الحاجات الاستهلاكية يطلبها الناس طوال العام، والوجبات تتقلص إلى وجبتين بدلاً من ثلاث،فلماذا الارتفاع المفاجئ في الأسعار قبل يومين أو ثلاثة من ابتداء رمضان؟ هل يكمن السبب في الثقافة الاستهلاكية السلبية لدى شريحة من المجتمع، التي تجعلهم يندفعون لتوفير أكبر قدر من هذه المستلزمات حتى لو كانت تفوق الحاجة المطلوبة؟ وهل لجشع بعض التجار والمنتجين الذين يرون في قدوم الشهر فرصة لتحقيق مكاسب مادية أكبر، وضربهم بعرض الحائط لحرمة هذا الشهر التي تتطلب تسامحهم وتساهلهم، ومراعاة آداب البيع والشراء التي حثت عليها تعاليم الدين الحنيف، دور في ذلك؟ وهل ضعف أداء بعض الجهات الرقابية المنوط بها مراقبة حركة البيع والشراء من أسباب ذلك؟

من المشاهد الطريفة المرتبطة بهذا الشهر العظيم  والتي لا أجد لها تفسيراً كذلك، هو ازدحام الشوارع بالسيارات قبل وقت قليل من موعد الإفطار، والسرعة الجنونية لبعض هذه السيارات في سبيل الوصول إلى البيت قبل موعد الإفطار، والسؤال هنا: ألا يمكنني العودة قبل ساعة أو اثنتين مثلاً من موعد الإفطار؟ وهل لابد أن أقضي معظم الوقت في السوق أو مع الأصدقاء كي يمر الوقت ولا أشعر بالجوع أو العطش ؟ ثم إنني مادمت قد تحملت ذلك طوال اليوم أفلا أستطيع تحمله لعدة دقائق لو قدت سيارتي بهدوء ورجعت متأخراً بعض الشيء؟
سيأتي رمضان بعد أيام، ومصادر الأخبار العالمية تتناقل انتشار خطر المجاعة لدى الملايين من البشر في أفريقيا، فهل سنعي الحكمة التي أوجدها الله من الصوم، ونحاول تعديل بعض السلوكيات المرتبطة بنظرتنا لهذا الشهر؟ أم ستظل بيوتنا تتباهى بكمية الطعام وأنواعه وأصنافه في تحد سافر لما يعانيه إخواننا في البشرية من خطر الموت جوعاً؟

كان رمضان وسيبقى ..شهر القرآن والمغفرة،شهر الخير والتواصل والتراحم، ليس شهراً للتسوق ، ولا شهراً لتغيير الأثاث،  والمباهاة الاجتماعية  كما يفعل البعض، فقط علينا أن نعيد له بعضاً من قيمته ومكانته، أن نعيد نظرتنا إليه، أن نستلهم نظرة سلفنا له، ونستحضر منجزاتهم فيه،  وقتها.. سيكون رمضان دواء للقلوب والأبدان..ستشفى قلوبنا من كثير من أمراضها المزمنة، وستتعافى أبداننا من جراء النظام الصحي الذي تتضمنه معطيات هذا الشهر، والذي هو بحاجة لمن يبحث عنه من خلال التتبع الصحيح لسيرة النبي (ص) وسلفه الصالح، لن ندع لسماسرة الفن والتجارة الفرصة كي يبتزوا عقولنا وجيوبنا، وسنكون أكثر حيوية وإنتاجاً وعطاء..لأننا ببساطة سنكون قد أدركنا حكمة وجود هذا الشهر، ومدى الفوائد العظيمة التي يحتويها، وكل رمضان وأنتم بخير.

الثلاثاء، 26 يوليو 2011

"قراءة في المشهد الانتخابي القادم لمجلس الشورى"

طالعتنا الصحف المحلية في يوم الخميس 7/7/2011 بنشر القوائم الأولية للمرشحين لعضوية مجلس الشورى في دورته السابعة (2011-2015)، والذين بلغ عددهم (1286) مرشحاً، من بينهم  (82) مترشحة، مقارنة ب(632) مرشحاً في الدورة الحالية، وهنا أقدم قراءة متواضعة للواقع الانتخابي الحالي، تتضمن عدداً من الملاحظات التي تعبر عن رؤية شخصية بحتة.


الملاحظة الأولى هو ارتفاع عدد المرشحين في هذه الدورة بأكثر من الضعف مقارنة بالدورة الحالية، بالرغم من أن عدد السكان لم يزد بنفس النسبة، وذلك بمعدل مرشح لكل (1500) نسمة تقريباً، ولو أتينا لتحليل أسباب هذه الزيادة فإننا يمكن أن نرجعها  لأحد سببين رئيسين هما: ازدياد الوعي السياسي ، وترسخ قيم المواطنة السياسية التي تدعو إلى أهمية مشاركة المواطن في المنابر البرلمانية باعتبارها عين الشعب على الحكومة، ورقيبة لأدائها، حيث أن بعض المطلعين على الشأن المحلي يرى أن الوعي السياسي لدى المواطن قد ازداد خلال الفترة الأخيرة ، خاصة بعد الأحداث التي مرت بها السلطنة ، وبرغم اعتقادي بتأثير تلك الأحداث على فكر البعض وثقافتهم السياسية، إلا أنني لا أجده مبرراً كافياً وواقعياً حتى لو حاول كثير من المرشحين تأكيده، فالوعي السياسي، وقيم المواطنة الحقيقية لا تتشكل في بضعة أشهر، فهي عملية معقدة بحاجة إلى برامج طويلة أمد، تلعب فيها المناهج الدراسية، والبرامج الإعلامية الحرة ، والحوارات المفتوحة، وجمعيات المجتمع المدني المختلفة دوراً كبيراً في تشكيلها.

والسبب الآخر هو الوصول إلى أحد المقاعد الوزارية، خاصة بعد اختيار عدد من أعضاء مجلس الشورى في دورته الحالية لتولي مسئولية بعض الحقائب ، واعتقاد البعض أنه يمكن أن يصبح وزيراً، واضعاً نصب عينه  حرص القيادة السياسية على عملية التوازن القبلي والمكاني في عملية تعيين بعض  الوزراء، أو اختيار بعض الأكاديميين و الحاصلين على مؤهلات دراسية عالية، وهو سبب لا يمكن تجاهله أو إهماله، خاصة مع وجود نماذج كثيرة من "عبده مشتاق" في مجتمعنا، وهي شخصية كاريكاتيرية فكاهية ابتكرها الكاتب الساخر أحمد رجب للتعبير عن رغبة البعض في الوصول إلى المنصب الوزاري بأقل مجهود.


ولأننا "عيال قريـــــه..وكل يعرف خويـﱠﱠــــه"  على قول إخواننا السعوديين، فلقد حرصت على الاطلاع على معظم الأسماء المرشحة علني أجد من أعرف عنه مساهماته المجتمعية الواضحة و المعروفة على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي ، فلم تشدني سوى بعض الأسماء، وقد أكون لم أطلع على مساهمات أسماء أخرى مرشحة، أما البقية فأراهم شخصيات عادية ربما لا تؤهلهم إمكاناتهم للحصول على عضوية مجلس يفترض فيه أن يحمل هموم شعب، ويناقش خططاً وبرامج تنموية مختلفة، ويشترك في سن قوانين قد تؤثر على وضع البلد من كافة النواحي، وهنا يطرح السؤال حول ماهية المجلس ودوره وأهميته في نظر هؤلاء.
كما أن من الملاحظات على هذا المشهد الانتخابي هو  وجود تناقضات واضحة وعدم تناسب بين أعداد المرشحين مع عدد السكان في كثير من الولايات، في واقع قد يقترب من الكوميديا المؤلمة،  فتجد مثلاً ولاية لا يتجاوز عدد سكانها (10) آلاف نسمة، بينما عدد المرشحين يتجاوز العشرين، وقد يصل إلى الثلاثين والأربعين، وقس على ذلك كثير من الأمثلة، وكذلك  نلاحظ ترشح عدد من أبناء البيت الواحد، أو العائلة الواحدة ، أو القرية الواحدة، مما يعني بديهياً تفتيت الأصوات بينهم، وهذا يؤكد ما أشرت إليه من ضعف الوعي السياسي لدى قطاع مهم من المجتمع في بلد ما زالت فيه الثقافة القبلية، و"التربيطات" الاجتماعية تؤثر على العملية الانتخابية بشكل كبير، فتغليب المصلحة العامة يستدعي التوافق على مرشح بعينه تراه العائلة أو القرية أنه الأنسب والأقدر على التمثيل المناسب، ولديه الإمكانات التي تؤهله للنجاح.


ملاحظة أخرى يمكن أن نستقرئها  وهي أن بعض المرشحين يعتقد أن مجرد حصوله على مؤهل عال، واقتران اسمه بحرف"الدال"  يعطيه الحق في الترشح، مع أن هذا  الأمر من الممكن أن يكون مقبولاً  لو صاحبته انجازات مسبقة، ومشاركة مجتمعية واضحة يشعر بها أبناء ولايته ، أما الاعتقاد بأن "البرستيج" لن يكتمل إلا بالحصول على منصب أو مكانة اجتماعية توازي هذا المؤهل، فهو أمر مرفوض، فليس الغرض من الحصول على الشهادة هو تحقيق مكاسب اجتماعية أو المباهاة، بقدر ما تعني الإنجاز والعطاء في مجال التخصص بما يضيف للمجتمع الفائدة المرجوة، مع كامل تقديري لبعض الأسماء المرشحة ذات البصمات الواضحة في المجتمع.


ومن الملاحظات كذلك تكرار ترشح بعض الأسماء التي لم يحالفها النجاح في الدورات السابقة، ومع كل التقدير لعدم يأس هؤلاء، ومحاولاتهم الدءوبة للنجاح كل مرة، إلا أن السؤال المطروح هو : هل حاول هؤلاء تقييم الأسباب التي أدت إلى فشلهم في المرات السابقة، وتقديم أنفسهم بشكل يشعر فيه المجتمع أنهم يستحقون الوصول إلى المقعد البرلماني، أم أنهم تركوا الأمر لظروف الانتخابات القادمة


أيضاً يسعى البعض إلى الترشح أملاً منهم واعتقاداً بأن أدوارهم في الأحداث التي مرت بها السلطنة ، وما اشتملت عليها من عمليات حراك سياسي كالاعتصامات، قد تشفع لهم في الوصول إلى المجلس، وبعض هؤلاء لهم انتماءات سياسية معينة، والبعض الآخر بلا هوية سياسية معروفة، ومع التقدير والاحترام الكاملين لأشخاص هؤلاء ورؤيتهم وفكرهم ، ومع وجود أسماء تستحق بالفعل دخول المجلس،  إلا أنه لا يمكن المراهنة أو الاعتماد على أصوات المعتصمين لوحدها، أو أصوات القريبين من الفكر السياسي الخاص بالمرشح، وأحياناً قد لا يكفي الصوت المفوه، والفكر المتقد، والحماس العالي، فالانتخابات لعبة سياسية معقدة لها أساليبها وخباياها، وقطاع كبير من المنتخبين (بكسر الخاء)  هم من الأغلبية الصامتة، الذين قد يكون اطلاعهم السياسي ضعيف، ورؤيتهم للأحداث مختلفة، وقد لا تشغلهم العملية الانتخابية بالشكل الذي يجعلهم يبدون اهتماماً جدياً بها وبعملية اختيار المرشح المناسب.

   
توقعاتي الخاصة لشكل المجلس في دورته القادمة هي أنه لن يحصل ذلك التغيير الكبير في تشكيلته، وسيكون النجاح حليف عدد لا بأس به من الأعضاء الحاليين خاصة من مر على وجودهم بالمجلس أكثر من دورة انتخابية، ذلك أن خبرتهم الانتخابية السابقة، وتوافر الإمكانات المادية والاجتماعية لدى كثير منهم، وعملية تفتيت الأصوات التي ستحدث بين عدد كبير من المرشحين أبناء القرية أو العائلة الواحدة، وحداثة عهد كثير من المرشحين الجدد بأساليب العملية الانتخابية قد تكون عوامل رئيسة لنجاحهم، بالإضافة إلى النجاح المتوقع لعدد من الشخصيات الاجتماعية والاقتصادية المرموقة التي تدخل المجلس لأول مرة، وستكون هناك مقاعد محدودة لعدد من الشباب الذين أفرزتهم الأحداث الأخيرة.


ما زال الكثير لا يعي أهمية ومكانة دور البرلمان في المجتمع، وإلا لما وجدنا هذا العدد الهائل من المرشحين في بلد لا يتجاوز عدد سكانه المليوني نسمه، ولعله من المهم التذكير بأهمية إيجاد توعية وثقافة سياسية مناسبة في المرحلة القادمة تتواكب مع تغيرات العصر ، وإعادة تقييم شروط الترشح لمجلس الشورى، فشرط المكانة والسمعة الحسنة في الولاية، أو كونه في  مستوى مقبول من الثقافة ، وان يكون لدية خبره عملية مناسبة، هي شروط  وهمية، ومن الصعب قياسها، وغير كافية كمعايير لضبط عملية الترشح.


  إن مجرد الاعتقاد بكون الفرد مواطناً له حقوق سياسية تكفل له الترشح لا يعني قطعاً أحقيته في ذلك، فالحصول على العضوية البرلمانية يتطلب إمكانات وقدرات فكرية وسياسية واجتماعية تتناسب والدور الذي ينبغي أن يمارسه البرلمان، و في بلدان العالم المتقدمة والتي تلعب فيها البرلمانات دوراً واضحاً في الحياة السياسية والاجتماعية بها،  يتقدم المرشح متسلحاً بالعديد من الانجازات الخدمية المجتمعية ، ومجهزاً لبرنامج انتخابي واضح الملامح ودقيق الخطوات ، وقابلاً للتطبيق، ويكون ملتزماً بتطبيقه متى ما تحقق له النجاح، وأساس الانتخاب هناك هو البرنامج وليس الشخص، فمتى كان البرنامج الانتخابي ملامساً لواقع الدائرة الانتخابية، معبراً عن تطلعاتها واحتياجاتها، كتب له النجاح، وهذا الوعي لم يأت بين يوم وليلة، بل أتى بعد مخاضات عسيرة، وتجارب طويلة.

الخميس، 21 يوليو 2011

"الأعراس المعلبــة"

كنت في سيارتي ، وكانت الساعة تقترب من التاسعة ليلاً عندما لمحت المشهد: فرقة فنون عمانية مغناة تقدم لوحة فنية جميلة  من التراث العماني الأصيل، أفرادها يرتدون زياً عمانياً متكاملاً يتكون من دشداشة وعمامة صورية، يزينها خنجر عماني تقليدي ،  ورجل عجوز عصرته الدنيا بتجاربها وخبراتها يتحرك بين الصفوف بحماس شاب في العشرين، يشجع هذا، ويعطي ملاحظاته لذاك ، ربما تذكر رحلة له قبل سنوات طويلة على ظهر سفينة "غنجة" مسافرة إلى أحد المواني بحثاً عن الرزق، فزادته الذكرى حماساً. 

كلمات "الشلة " قديمة، وربما تعيد إلى الذاكرة كثيراً من التراث المغنى الذي سرق منا في غفلة من الزمن، وسط حالة تجاهل غريب من الجهات التي يعنيها الأمر. من منظر أنوار الزينة القادمة من أحد البيوت القريبة عرفت أن المناسبة هي إقامة أحد الأعراس، ويبدو أن صاحب المناسبة من المحافظين على ما تبقى من عادات وتقاليد جميلة، لذا فقد قرر أن يكون "العرس" تقليدياً،أو به شيء من روح الماضي الجميل.   أجبرني المشهد على المتابعة، وأنا الذي لا أكثر من حضور مثل هذه المناسبات، ربما لأني لا أجد فيها روح الأصالة وعبق التراث. ورأيت في التفاف الناس، واندماجهم مع الفرقة ما يدل على بحثهم عن أشياء جميلة فقدوها بمرور الزمن.

أعادني المشهد لسنوات سابقة حيث تذكرت بعضاً من  "الأعراس" التي حضرتها والتي ما زالت ذاكرتي تحتفظ بمشاهد جميلة متنوعة لعدد من الفعاليات المصاحبة لها. 
 
كان الناس ينتظرون إقامة "العرس" بفارغ الصبر، قبل أشهر من موعده، وكانت الأعراس تقام في بيوت أصحابها، فإذا ضاق البيت عن استقبال المدعوين تمت الاستعانة بالساحات المحيطة ، مما يسمح باستقبال أي عدد منهم. كانت الأم تطلب من إحدى الشاعرات تأليف قصيدة تتغنى بصفات ابنها العريس وشجاعته وكرمه وحسن أخلاقه، ومن ثم تلحن كلمات هذه القصيدة وتؤدى من خلال الاحتفال المصاحب "للعرس". 
وكانت "العروس" تحرص على ارتداء الزي التقليدي الجميل الذي يضيف لها جمالاً  وبهجة،بينما كان "المعرس" زاهياً بزيه العماني المتكامل، وبخنجره وسيفه وبندقيته، كدلالة على الرجولة والشجاعة. كما كانت الفنون العمانية المغناة بمختلف أنواعها تتصدر المشهد ، وكان الشباب يرون في المناسبة فرصة للتباهي بملابسهم التقليدية الأصيلة، ولاستعراض مظاهر الشجاعة المتمثلة في استخدامهم للسيف أو البندقية التقليدية، وحسن أداءهم من خلال الرقصات الفنية المتناغمة مع الموسيقى التقليدية الصادرة من الكاسر والرحماني و"المسيندو" والمزمار، بينما ثمة فتيات يؤدين رقصات نسائية جميلة في احتشام وأدب. وكانت الوجبات التي تزين المائدة العمانية الأصيلة حاضرة ، وكانت مناسبة للتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، حيث لا فرق بين غني وفقير على مائدة واحدة. 

وكانت سباقات الخيل والهجن تحضر أحياناً، حسب أهمية المناسبة أو مكان إقامتها، وسط إقبال كثيف وتشجيع حماسي من قبل الحضور. ما زلت أتذكر كذلك تعاون الكل من جيران وأقارب ومعارف  في إنجاح المناسبة، فهذا يقيم إحدى أعمدة الخيام، وذاك يوزع المياه على الضيوف، وثالث يساهم في تنظيم مكان الغداء، ورابع، وخامس...الخ،  وما زلت أتذكر البائعة العجوز التي تجد في مثل هذه المناسبات باب رزق تستطيع من خلاله أن تمنع نفسها من طلب العون من الآخرين.
باختصار...كان "العرس"  العماني كرنفالاً اجتماعياً جميلاً تتبدى فيه كثير من القيم والعادات الجميلة، كالتعاون، والشجاعة، والكرم، والايثار، وغيرها من القيم الجميلة. 

ثم مرت السنوات وتغيرت كثير من الأمور المتعلقة بهذه المناسبة الاجتماعية، كما تغيرت أشياء كثيرة جميله من حولنا، فلم نعد نر "العرس" العماني الأصيل كما عهدناه، وحلت الصالات المغلقة محل الساحات المفتوحة و"أحواش" البيوت، و"الدي جي" محل الفرق المحلية، والفساتين محل الملابس التقليدية الزاهية، والبوفيه عديم الطعم محل الوجبات العمانية الأصيلة. وأصبحت كثير من الأعراس" معلبة"،فباستثناء حضور عقد القران أو "الملكة" بالنسبة للرجال، فبقية المناسبة تتحول إلى "مرقص " خاص بالنساء إن تناسب التعبير حول ذلك، الموسيقى صاخبة، وثمة بنات يتبارين في الرقص وأخريات منعهن كبر سنهن من انتقاد ما يحدث، بل قد يباركنه من خلال ابتسامة عريضة، أو هز الرأس دلالة على الانبساط والرضا. 

لقد أصبح البعض ينظر لإقامة "الأعراس" في  الفنادق على أنه نوع من التباهي والتميز عن الآخرين، وأنه كلما ارتفعت تكلفة "العرس" كلما كان ذلك دليلا على مستوى تميزهم، وعلى الوضع الاجتماعي الذي ينتمون إليه. وربما يكون الإحساس بضعف قيم التعاون والتكافل لدينا هو أيضاً من أسباب لجوء البعض إلى الصالات، حيث كل شيء مرتب وجاهز. 

نعم.. تغيرت "الأعراس"، وتغيرت معها كثير من  القيم ، وهنا أتذكر صديقي وحواره مع ابنته الصغيرة التي أصرت على لبس فستان لا يتناسب مع تقاليد مجتمعنا المحافظ، لحضور أحد هذه الأعراس ، وعندما حاول هذا الصديق الاعتراض قامت الأم والبنت معاً بمعاتبته بحجة أن هذه هي الموضة والسائد، وقد تتعقد البنت بسبب نظرات صديقاتها إلى ملابسها التقليدية، فما كان من صديقي إلا الرضوخ ، وهو يضرب أخماساً بأسداس، ويندهش لعدم قدرته هو وكثير من الآباء على منع حدوث مثل هذه المواقف تحت دعوى عدم مسايرة العصرنة والتمدن.

ويبق التساؤل المهم: لم كل ذلك التغير؟وهل يمكن أن نربط ما يحدث الآن بالتطور؟ هل يمكننا أن نعتبر الموسيقى الصاخبة والرقص الخالي من الذوق و الفساتين الخالية من الأكمام تطوراً؟ ماذا سيضير لو أقيم"العرس" في مكانه، وماذا سيتغير لو حافظنا على عاداتنا الجميلة والأصيلة في إقامتنا لمناسباتنا المتنوعة؟هل لابد من التقليد ومحاكاة الآخرين؟ هل لابد من مسايرة أي مظهر  اجتماعي دخيل؟ أولا نستطيع أن نحافظ على خصوصياتنا الثقافية والاجتماعية الأصيلة وأن نطور فيها بالقدر التي يضيف إليها لا ينقص منها؟ 

قد يستغرب البعض ويقولون: ولكننا ما زلنا نحافظ على تقاليدنا في إقامة الأعراس.وقد يكون هذا صحيحاً، وقد تكون بعض المناطق أو العائلات ما زالت تلتزم بنظام "العرس" القديم، ولكن الكفة قد بدأت تميل للأسف لصالح التغيير الحاصل في نمط هذه المناسبة. 

إن الصالات قد غزت الولايات ، بل إنني كنت مدعواً لمناسبة اجتماعية  في إحدى الولايات التي عرف عنها حرص أهلها على المحافظة على الموروث، فاندهشت حين  علمت أن "العرس" مقام في صالة أفراح، بالرغم من مساحات البيوت الواسعة في معظم بيوت هذه الولاية، صحيح أنها صالة بدائية، ولكن هذا لا يمنع من الحكم بأن التغير الاجتماعي السلبي يتحرك بطريقة أسرع مما نتخيل، فما يحدث في العاصمة من حراك اجتماعي معين، ما يلبث أن ينتقل إلى حواضر المناطق ، ومنها إلى بقية الولايات. 

إن إقامة "العرس" بشكله التقليدي الموروث، وبفعالياته المصاحبة، قد يجعلنا نساهم في المحافظة على عدد من مفردات موروثنا الحضاري، ففنوننا العمانية المغناة سيعود لها رواجها، وسيتمسك بها أصحابها بعد هجرة كثير منهم لها، بل وسيعود الذوق الأصيل  لمحبيها، بعد أن أفسدته أنواع من الموسيقى والأغاني خالية من الذوق والجمال، وستعود للملابس العمانية روحها بعد أن حل محلها أذواق غريبة في الملابس التي لا تمت لمجتمعنا بصلة، وبدلاً من أن تستفيد دار الأزياء الغربية، فإن عدداً من الخياطات العمانية ستتحسن أحوالهن المادية من جراء عودتهن لمهنتهن الأصيلة التي جار عليها الزمان، وسيسهم ذلك في ظهور أجيال لاحقة ترتبط بالمهنة وتحافظ عليها، كما ستعود لرياضات الهجن والفروسية والعرضة بهجتها وإثارتها المعتادة،  التي فقدت ككثير من مثيلاتها، كما سيعود للمجتمع شيء من تكافله الاجتماعي الذي ميزه لفترات طويلة، والذي أفسده التغير الاجتماعي السلبي الذي ساد مجتمعنا بسبب العولمة وتأثيراتها.

لنعد إلى تراثنا ومخزوننا الحضاري المتنوع، لنستلهم منه الكثير من القيم والعادات الجميلة ، فالتحضر والتمدن لا يتعارض مع الرجوع إلى الموروث، وصدق من قال" لا حاضر لمن لا ماضي له".

الاثنين، 18 يوليو 2011

مقترحات لتطوير التعليم بالسلطنة


        تابعت بسعادة غامرة التوجيهات السامية من لدن العاهل المفدى جلالة السلطان المعظم بالمضي قدماً في استيعاب المزيد من الطلاب والطالبات من مخرجات التعليم العالي، وبإنشاء جامعة حكومية ثانية تقوم على أسس مدروسة وتركز على التخصصات العلمية، واستعادت ذاكرتي توجيهات سابقة بتخصيص (1000) منحة دراسية خارجية على مستوى الماجستير والدكتوراه في عدد من المجالات العلمية الحيوية التي تحتاج إليها قطاعات العمل في السلطنة ، وزيادة عدد البعثات الداخلية بنسبة  165% عما كان مخطط له ، وقبلها التوجيهات السامية في عام 2007 بمنح مبلغ قدره (17) سبعة عشر مليون ريال عماني للجامعات الأهلية القائمة، وغيرها الكثير من التوجيهات السامية التي تعطي لقيمة العلم في هذا البلد الشيء الكثير.

     وبلا شك فإن تلك التوجيهات السامية تحمل الكثير  من  الدلالات الاجتماعية  والاقتصادية المهمة ، وتؤكد على  مدى حرص جلالة السلطان واهتمامه البالغ بمسألة دفع المسيرة التعليمية في البلاد، وعلى النهج السامي لجلالته حول اتخاذ العلم الطريق الأمثل  لتشكيل الإنسان،  ونقله نحو الآفاق الحضارية ، مع  الاحتفاظ بالقيم الأصيلة للشعب العماني.
     ولعل هذه التوجهات أضفت لدي الكثير من الراحة النفسية، فأنا المهموم بهذا الموضوع منذ سنوات طوال، وبالذات منذ فقداني لعديد من أصدقاء جيل التسعينيات من القرن الماضي الذين لم تسمح لهم نسبهم (السبعينية) بالالتحاق بجامعتنا الوحيدة، ولا بكليات التربية حلم الطلبة العمانيين في فترات طويلة، وبالتالي تدهورت أحوال بعض أولئك الأصدقاء نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، بسبب اليأس من أن يصبحوا أفراداً (محترمين) على حد رأيهم، ومن نظرة المجتمع إليهم بأنهم عالة أو زيادة عدد لا نفع منهم، وكل جريرتهم أنهم لم ينضموا لنادي (التسعينيات) الذي يكفل لهم أن يكونوا ( أفراداً صالحين)، مع تجاهل تام لظروف أولئك، وظروف مجتمعهم وأسرهم، ودون إدراك صادق لإمكاناتهم الحقيقية، وكأن النسبة هي من يحدد مدى مساهمة الفرد في مجتمعه.
كنت أتألم وقتها عندما أتأمل أرجاء جامعتي الفسيحة وأتساءل: ترى كم جامعة أخرى يمكن أن تنشأ بقيمة المبلغ الذي بنيت به؟ ألم يكن من الممكن أن يكون أصدقائي معي في ذات الجامعة أو غيرها بدلاً من تسكعهم الآن في حواري ولايتهم؟

      كما كنت أتابع تصريحات بعض مسئولينا حول تناسب أعداد المقبولين في الجامعة وكليات التعليم العالي مع فرص سوق العمل بذهول. وأتساءل للمرة الألف: هل سوق العمل أهم من فقداننا لكثير من خيرة شبابنا ؟ وإذا كانت فرص العمل محدودة فمن أين أتى آلاف الوافدين الشاغلين لأفضل الوظائف خاصة في القطاع الخاص؟

     ولو حللنا ظروف بلدنا الاقتصادية تحليلاً شاملاً دقيقاً، لوجدنا أنه لا خيار لمستقبلنا سوى بالاهتمام بالعلم والتعليم، فلا نحن نقع على بحيرات عائمة من النفط أو الغاز تكفينا للعيش في بحبوحة  سنوات طوال قادمة، ولا نحن بلد زراعي لديه اليد العاملة الكافية،  والثروات المائية الكافية، والأرض الخصبة التي تضمن مداخيل جيدة لقطاع كبير من السكان، ولا نحن دولة صناعية تكفي صادراتها لتؤمن الاستقرار الاقتصادي، بل نحن على العكس من ذلك كله، فعدد سكاننا القليل، وثروتنا المائية الشحيحة، ومواردنا المعدنية القليلة، وتحديات توفير البنية التحتية لبلد استلمها قائد النهضة بلا معالم تنموية واضحة  باستثناء بضعة مدارس ومستشفى يغلب عليهن طابع البدائية ، كلها عوامل تجعلنا نفكر في التنمية البشرية كأنسب الحلول، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تاريخ عمان الطويل مع العلم والعلماء، وتجانس الشعب العماني، وارتباطه ببلده، وولائه لقائده.

نعم، نحن نستطيع أن نجعل من بلدنا في مصاف الدول المتقدمة في المنطقة، بل وفي العالم، إذا ما جعلنا العلم هو  طريقنا الأمثل، وتحقيق هذا الهدف يستلزم منا شيئاً من التخطيط الجيد، وكثيراً من العمل الجاد، فلا تكفي زيادة عدد الجامعات الحكومية والخاصة، أو كثرة  عدد معاهد التدريب المهني وكليات التقنية العليا، أو ارتفاع نسبة عدد البعثات، إذا لم يصاحب ذلك كله تحديداً دقيقاً  للأهداف من كل ذلك، وتغييراً في الفكر لدى المجتمع ككل حول أهمية التعليم كاستثمار طويل المدى قد يغنينا عن كثير من الثروات الطبيعية، وأن يعي الطالب أهمية اختيار التخصص المناسب لفكره ومهارته، وألا يستهين بأي نوع من التدريس ما دام قادراً على صقل مهاراته وإبراز إمكاناته، وما دام قادراً على إضافة ما يجعله يخرج إلى المجتمع قرداً مهماً منتجاً.

       يستلزم منا تحقيق ذلك أن نبدأ من الأساس ، وأن نحدد الأهداف العامة التي نريد انجازها، أي بمعنى ماذا نريد من هذا المنتج بعد نحو 16 سنة من التعليم المدرسي والجامعي، وما درجة الجودة المصاحبة له والتي تؤهله لكي ينافس في سوق العمل، وهذا الأمر يتطلب إعادة نظر في المناهج الحالية بأهدافها ومحتواها وأنشطتها، ويتطلب كذلك دراسة أوضاع المعلمين بجدية، والعمل على توفير الاستقرار النفسي والمادي الذي يضمن لهم القيام بعملهم على أكمل وجه، وتطوير مستوياتهم المهنية والاجتماعية، ويتطلب أيضاً العمل على تعزيز قيم المواطنة لدى الطلبة، والتركيز على أساليب الحوار والتعلم الذاتي لديهم، فكثير من طلابنا بلا هوية واضحة، وبلا هدف ينشده، وليس لديه تخطيط مسبق وواضح لما سيفعله بعد انتهاء 12 عاماً من التعليم المدرسي، بينما ابن صديقي الآسيوي والذي ما زال في الصف العاشر قد حدد لوالده نوعية الدراسة الجامعية  التي يريدها، واسم البلد التي يود إكمال دراسته بها، وبرر له أسباب ذلك، ووالده قد أخذ كلامه بشيء من الجدية واستعد لتوفير مصروفات ابنه، لذا لا عجب أن تغدو بلدهم في مصاف الدول المتقدمة تكنولوجياً، وتصبح قبلة للشركات المتخصصة في تقنية المعلومات على مستوى العالم، ولن نتعجب أكثر لو علمنا أن الشركات الأمريكية المشهورة في مجال تكنولوجيا المعلومات تستقطب سنوياً ما لا يقل عن 5000 مبرمج هندي، وبعضهم يظل لسنوات محددة ثم يعود لتأسيس شركته الخاصة في بلده.

    يستلزم منا كذلك إيجاد شراكة حقيقية بين القائمين على شئون التعليم المدرسي، ونظرائهم في التعليم العالي الخاص والحكومي من حيث الاشتراك في وضع البرامج وتقييمها، وتبادل الخبرات، والاشتراك في برامج الإنماء المهني المتعددة، ومن حيث التركيز على أهمية التحاق الطالب بالتخصص المناسب لإمكاناته وقدراته وليس لمجموعه فقط، ووضع معايير تقيس مدى رغبة أو قدرة هؤلاء الطلبة على الالتحاق بالتخصصات التي يريدونها، لأن العملية التعليمية ينبغي أن تكون متصلة طوال فترة الدراسة في المرحلتين بنفس الأهداف العامة دون فصل بينهما.

    يستدعي كذلك أن تتغير النظرة تجاه التعلم التقني والمهني، فمازالت شريحة من المجتمع تنظر  لهذا النوع من التعليم  نظرة دونية، وأنه مكان من لا مكان لهم بين أروقة الجامعات، وللأسف فهذه النظرة لم تتغير كثيراً منذ فترة طويلة، ومازلت أتذكر العشرات من المعارف ممن تركوا هذا النوع من التعليم لحجج واهية، دون تبصير حقيقي بأهميته من قبل الأطراف المعنية سواء كانوا أهلاُ أم وسائل إعلام، أم مسئولين عن هذا النوع من التعليم، متناسين أن المجتمع لا يقوم بدون مخرجات هذا النوع، وغير مدركين أن بعض الدول قد تقبل السباك أو النجار أو الميكانيكي الماهر للهجرة إليها، وفي نفس الوقت قد ترفض حامل شهادة الدكتوراه في أحد التخصصات الإنسانية، لأن هذه المجتمعات تدرك جيداً أهمية هذا النوع من التعليم، ومدى تأثيره في المجتمعات المتقدمة المتواصلة النمو الاقتصادي، ولربما يعود جزء من هذه النظرة الدونية لدينا تجاه التعليم التقني إلى ضعف الاهتمام به في مدارسنا في ظل نظام حصص لا يسمح كثيراً بأن نكشف عن إمكانات الطلاب المهنية، خاصة بعد إلغاء نظام التعليم الثانوي التجاري والصناعي والزراعي الذي كان مطبقاً في فترة من الفترات.

        يستدعي ذلك مراجعة أنظمتنا التعليمية من فترة لأخرى، للتحقق من مدى مواكبتها للتطور الحاصل في المعلوماتية، والاطلاع على تجارب الدول التي قدمت نماذج مجيدة في الاستثمار في مجال  التنمية البشرية، وأخذ المفيد من هذه التجارب بعد تطويعها لتتماشى مع واقع المجتمع العماني وخصائصه المختلفة.
يتطلب أيضاً التفعيل الجيد للتكنولوجيا في التعليم، فمازالت كثير من الأسر لا تقتني  جهاز حاسوب واحد، ومازال التعامل الورقي سائداً، ومازالت كثير من أنماط التعليم تعتمد على التلقين والحفظ والمحاضرة.

يستلزم منا أيضاً الاهتمام بالبحث العلمي بشكل جاد، وتخصيص ميزانيات مفتوحة لتمويل المشاريع والبحوث المختلفة، وتوفير المطبوعات العلمية المحكمة، فبلدنا زاخرة بالكثير من الخبايا المهمة في كافة المجالات، أين نحن مما تحويه بحارنا وصحارينا وجبالنا وسهولنا وودياننا، وأين نحن من تراثنا الزاخر بأنماط الثقافة المختلفة.

يستدعي ذلك تخصيص يوم للعلم، تخصص فيه جوائز على أعلى مستوى  لتكريم المجيدين في مجالات العلم المختلفة سواء كتشجيع للبعض، أو كتقدير للبعض الآخر، وتعرض فيه آخر ما توصلنا إليه من نتائج  لمشاريعنا ودراساتنا وبحوثنا المتعددة.

     يستلزم الاستفادة من العشرات من الباحثين والمتخصصين القابعين خلف المكاتب، والذين ينتظرون من يحن عليهم بدعوتهم لندوة، أو للاشتراك في بحث، أو لإلقاء محاضرة، أو لعرض نتائج ما قام به من دراسة في إحدى مجالات المعرفة المتنوعة.

يستلزم برامج إعلامية موجهة،تبدأ من الناشئة، تفعل الحوار، وتعرض للنماذج المجيدة من أبناء الوطن، وتناقش ما يتم تجميعه من ملاحظات قد تثري العملية التعليمية، وتجعل الشباب أكثر وعياً بأهميتها وأهميتهم في تشكيل مستقبل وطنهم، وتكون عوناً لصانع القرار من خلال ما تطرحه من رؤى وأفكار بناءه.
يتطلب كذلك مشاركة جادة من القطاع الخاص وأصحاب رؤوس الأموال، فلا يكفي أن نتبرع لبناء مسجد فقط، أو لدعم فريق الكرة بالنادي الفلاني، ما الذي يمنع لو تبنى بعض المقتدرين تدريس عشرة طلاب كل سنة على سبيل المثال، أو لو خصصت بعض المؤسسات نسب محددة من إجمالي دخلها لدعم العملية التعليمية في المجتمع المحيط بها.

يتطلب الاهتمام بالتعليم أشياء كثيرة قد لا تكفيها عشرات المقالات.. الأهم من هذا وذاك هو أن نعي بصدق أن العلم هو طريقنا الحقيقي والمضمون للحفاظ على مكاسبنا التي تحققت، ولضمان الرخاء الذي تحقق، فبلد الخليل وابن القاسم وابن دريد والسالمي  وغيرهم ممن سطرت كتب التاريخ أسماؤهم مقترنة بعمان لقادرة على إنجاب أسماء أخرى يكون لها السبق في مجالات العلم المختلفة، تكمل مسيرة من سبقها، وتستحث من يليها على مواصلة السير في نفس الطريق.

السبت، 16 يوليو 2011

من المسئول عن قطاع الشباب


        لا شك أن الشباب في كل أمة هم ذخيرتها وعدتها للمستقبل، ولا شك أنهم أغلى وأثمن الثروات.. بهم تتباهى الأمم على غيرها،وبهم تتقدم،  ولم تقم الحضارات إلا بسواعد أبنائها الشباب، كيف لا وهم عماد الأمة وسندها.
     ولا شك أن من أهم أهداف التربية قديماً وحديثاً هو إيجاد الفرد أو الشاب الصالح، النافع لنفسه وأمته، لذا أولت حكومات الدول المختلفة كل اهتمامها ورعايتها بقطاع الشباب، ومنها حكومتنا التي كان من أولوياتها الاهتمام بالشباب العماني للارتقاء به، وإخراج جيل صالح مفيد لنفسه، ولوطنه، وأمته.
     وليس أدل على ذلك من المنطوق السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم في العيد الوطني السادس "إننا أصدرنا أوامرنا لوزرائنا بأن يولوا شبابنا عناية خاصة، وأن يتيحوا لهم كافة الفرص، لكي يؤدوا دورهم على الوجه المرضي في بلادهم"
       لذا..تم تخصيص عام للشبيبة، و آخر للشباب، كما كان لهم جهات معينة تهتم بهم، حيث  ألحق قطاع الشباب بوزارة الإعلام ، ثم بوزارة التربية والتعليم، كما تم إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الشباب الذي تشرف برئاسة حضرة صاحب الجلالة له، ثم مع بداية التسعينيات من القرن الماضي تم إنشاء الهيئة العامة لأنشطة الشباب  الثقافية والرياضية التي قامت بكثير من الجهود في المجالات الاجتماعية والثقافية والرياضية، من خلال الإشراف على أنشطة الأندية المختلفة، وإقامة معسكرات العمل المتنوعة، وتنظيم الفعاليات الأدبية التي تهدف إلى الكشف عن الإمكانات الإبداعية لدى الشباب العماني في مجالات الشعر والقصة والرواية وغيرها، إضافة إلى تفعيل الأنشطة الفنية في مجال الموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية، وقد أسهمت هذه الجهود برغم بعض الملاحظات إلى ظهور نماذج من الشباب العماني المجيد في مختلف المجالات، وكانت هناك روزنامة متنوعة من الأنشطة والفعاليات الشبابية طوال العام.
     كما أسهم مسرح الشباب في ظهور جيل تشكلت على يديه ملامح الحركة الفنية والإعلامية في السلطنة، وكان للنادي الثقافي جهوده الواضحة ، كما كانت المسابقات الثقافية والاجتماعية تجد صدى واهتماماً كبيراً من قبل طلاب المدارس، والشباب المنتسبين للأندية.
         ثم فوجئنا بإلغاء هذه الهيئة، وإنشاء وزارة للشئون الرياضية، ولم تعد هناك جهة بعينها خاصة بالشباب، كما بدأت أنشطة الأندية غير الرياضية في الاضمحلال، بحجة  عدم وجود جهة ترعى وتتابع وتهتم بهذه الأنشطة، وأصبح معظم الدعم المادي المقدم للأندية يصب لمصلحة الأنشطة الرياضية، وخاصة مجال كرة القدم، مما أدى إلى اختلال منظومة الأنشطة التي ينبغي أن تقدم إلى قطاع الشباب من خلال الأندية.
      كما أن المطلع حالياً على الأنشطة التي توجه للشباب العماني، يجدها متفرقة ومتناثرة بين عديد من الجهات، دون وجود رابط حقيقي مشترك، أو تنسيق مبرمج بينها،  فهناك أنشطة تقدمها وزارة التربية والتعليم، وبرامج أخرى تعنى بها وزارة الشئون الرياضية، وفعاليات تنظمها وزارة التراث والثقافة، ولكن يبقى السؤال الأهم: هل هناك أهداف مشتركة محددة سلفاً لهذه البرامج جميعها؟ وهل هناك لجنة مشتركة قامت باستعراض هذه البرامج المقدمة من تلك الجهات، وقيمت تلك البرامج ، وآلية تنفيذها، ووضعت لها روزنامة محددة للتنفيذ؟
     كما أن كثيراً من الشباب، وخاصة في القرى والولايات البعيدة عن مراكز المناطق والمحافظات لا يجدون الأنشطة التي تخاطب إمكاناتهم، ومواهبهم، وتسهم في  القضاء على وقت الفراغ لديهم بكل سلبياته، فلا مراكز شباب رياضية تصقل مهاراتهم في هذا المجال، ولا بيوت ثقافة بمسرحها ومرسمها وناديها العلمي  وقاعات المطالعة الورقية والالكترونية بها،  كي تنمي الملكات الثقافية والعلمية والابتكارية لديهم، ولا مكتبات تثري معلوماتهم العامة، وتربطهم بما درسوه، وبما يحدث من تسارع معلوماتي عالمي، ولا معسكرات عمل تركز على الجانب القيمي المتمثل في أهمية خدمة المجتمع المحلي والمحافظة على مكتسباته، ولا مسابقات متنوعة تخلق لديهم شيء من الإثارة والمتعة الهادفة، مما يجعلهم يكتسبون بعض الاتجاهات السلبية، أو يقومون بشيء من الممارسات الخاطئة من جراء الفراغ القاتل، أو يضطرون إلى إقامة أنشطة بإمكانات ذاتية متواضعة، وغير واضحة الأهداف والمعالم،  أو يتيح الفرصة لبعض الجهات أو الأفراد في القيام بالدور البديل لدور الحكومة في هذا الجانب، وعلينا ألا ننسى أن كثيراً من الأفكار المتعارضة مع سياسات وأهداف الحكومات في بعض الدول، وبخاصة العربية والإسلامية، لم تظهر إلا عندما تخلت تلك الدول عن أدوارها تجاه فئة الشباب لصالح جهات أخرى.
      لذا.. فإن إنشاء مؤسسة تعنى بالشباب سواء كانت وزارة، أم هيئة، أم مجلس، أم تخصيص قطاع ملحق بإحدى المؤسسات الحكومية ذات العلاقة،  لهو من الأمور المهمة ، حيث أنه على عاتق تلك المؤسسة ينبغي أن تترجم رؤية الدولة لقطاع الشباب، وتوضع الأهداف الواضحة والقابلة للتحقيق من خلال البرامج التي سيتم تنفيذها، ويجيب على السؤال الرئيس الهام: ما نوع المخرجات التي تبتغيها الدولة من هذه الفئة؟
    كما أن وجود هذه المؤسسة من شأنه أن يلملم كافة الأنشطة المقدمة للشباب في روزنامة مترابطة ذات أهداف واضحة قابلة للقياس،إضافة إلى أن تركيز هذه المؤسسة على قطاع الشباب مع توافر الإمكانات المادية الكافية قد يتيح لهم في كافة أرجاء الوطن الاستفادة من هذه  البرامج المقدمة.
      إن شبابنا في ظل التسارع المعلوماتي المتدفق، وتأثيرات العولمة المختلفة،  بدءوا  يفتقدون إلى كثير من القيم والاتجاهات الايجابية تجاه أنفسهم ومجتمعهم، لذا فإن العمل على استرجاع واكتساب هذه القيم لن يأتي إلا من خلال البرامج والفعاليات الموجهة والهادفة والمتنوعة، كما أن  كثيراً من المشكلات الاجتماعية  والفكرية المتعلقة بهم قد تتناقص متى ما وجدوا اهتماماً حقيقياً، و متنفساً يشغلون به وقت فراغهم بشيء مفيد، من خلال هذه المنظومة من البرامج ، وكل ذلك لن يحدث إلا إذا وجدت جهة بعينها يقوم على عاتقها هذا الأمر.

"التكافل الاجتماعي..ضرورة ملحة"


في أحد أعدادها السابقة،  طالعتنا جريدة عمان بتحقيق مؤلم يتعلق بإحدى المسنات، وهذا الموضوع يجعلنا نتناول قضية التكافل الاجتماعي وأثرها في المجتمع العماني.
      في كتابه المهم والذي يتناول جوانب من الملامح الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لولاية صور، ويعرض نماذج لعدد من أبناء الولاية في مجالات الإدارة والأدب والتعليم والطب التقليدي، تناول الباحث حمود بن حمد الغيلاني قضية التكافل الاجتماعي بشيء من الاهتمام، وأشار إلى  عدد من مظاهر هذا التكافل لدى المجتمع العماني، ككفالة كبار السن والاهتمام بهم من قبل الأبناء والجيران والأقارب، وكفالة الصغار والأيتام حيث كانت كثير من الأسر المقتدرة تحتضن اليتامى وتحرص أشد الحرص على الاهتمام بهم وحماية حقوقهم، كما كانوا يولون الأطفال والصغار من أبنائهم اهتماماً خاصاً من حيث التربية وتعليم القرآن الكريم والعبادات وحقوق الأسرة والمجتمع.
 كما اهتموا بكفالة الفقراء والمساكين،فقد كان الكثير من الميسورين يقومون بزيارات ليلية لتقديم العون والمساعدة لبعض الأسر المحتاجة، حيث كانوا يطرقون الأبواب ويضعون الأموال أو المواد الغذائية والملابس أمام الأبواب قبل خروج أهل البيت لمعرفة من أتى بهذه الحاجات، إضافة على التزامهم بإخراج الزكاة وتوزيعها، واهتمامهم الكبير بزكاة الفطر ، حيث يتم إخراجها قبل أيام العيد ليستعد الفقير واليتيم والمسكين للاحتفال بالعيد أسوة بالمقتدرين، كما أن ثلث الأضحية في العيد الكبير يوزع كاملاً على تلك الفئات المحتاجة .
كما اهتموا برعاية حقوق الجار،كزيارته في المرض، ومشاركته في الأفراح والأتراح، وكانت لا توقد نار طبخ إلا ولهذا الجار نصيباً مما طبخ في بيت جاره، سواء أكان هذا الجار فقيراً أم غنياً.
 كما كانوا يولون  الضيف والغريب اهتماماً ورعاية قصوى، بغض النظر عن كونه قاصداً للزيارة أم غريباً، وكانت مجالس البيوت عامرة بزوارها، وكان الضيف عندما يحل في منزل أحد الأشخاص يعتبر ضيفاً للجميع، حيث كان الكل يتسابق على الاحتفاء به، ودعوته للضيافة، ومساعدة المضيف للقيام بكافة واجبات الضيافة اللازمة.
       والحقيقة أننا كجيل قد عايشنا بعضاً من مظاهر هذا التكافل، قبل أن تمتد يد العولمة لتغير كثيراً من الملامح الجميلة للمجتمع ، أذكر أني كنت صغيراً عندما ذهبت والدتي للحج لأول مرة، وبما أنني أصغر أبنائها، فقد كنت أرى نظرات العطف والاهتمام في عيون جاراتنا تجاهي، وكنت أحظى بمعاملة خاصة من قبلهن، كي يعوضنني عن فقدان حنان  الأم،كما أتذكرهن وهن يملأن أرجاء البيت تنظيفاً وترتيباً عند رجوع والدتي، كما أتذكر عشرات الأسماء الغير مشطوب عليها في دفاتر حسابات والدي التاجر، وعندما كنت أسأله ببراءة الطفولة عن سبب عدم دفعهم لما عليهم، كان يقول لي: لو كان معهم لسددوا ، لا تنس أنهم جيراننا. وأتذكر كذلك  تسابقنا كإخوة على توزيع بعض ما يحضره الوالد رحمه الله أو أحد الإخوة  الكبار من سفر ما على جيراننا وأقاربنا، كما أنه لا يمكن أن تقام وليمة منزلية ما دون دعوتهم ، وكنا نتبادل مع جيراننا  ما تجود به موائد طعامنا اليومية، وكانت من المرات النادرة أن يأتي يوم الجمعة ونتناول طعام الغداء في عدم حضرة أحد من معارف العائلة أتى من قريته البعيدة  لتأدية صلاة الجمعة، وذلك لعدم توافر مسجد جامع في مكان سكنه، وكان الجيران والأقارب يمتنعون عن مشاهدة التلفزيون أو الاستماع للأغاني لمدة ثلاثة أيام عند وفاة أحدهم من باب الاحترام والتضامن مع أسرته في مصيبتها، كما كانت البيوت مفتوحة في كل وقت دون تحفظ كئيب كما هو حادث الآن، وكانت من العادات الاجتماعية الرمضانية الجميلة التي لا يمكن نسيانها هي مظاهر الإفطار الجماعي للرجال والنساء والصغار، كل على حدة، في جو حميمي يوحي بمدى الترابط والتلاحم،  وكان أفراد المجتمع الواحد  يتشابهون إلى حد كبير في ملابسهم وأنماط سكنهم، دون تمييز بين فقير وغني، كما كان سكان الحي عندما يفتقدون أحد جيرانهم في بعض الصلوات يذهبون للسؤال عنه للاطمئنان، ومازلنا نتذكر توجيهات وتأنيب، بل وتأديب بعض جيراننا أو أقاربنا الكبار لنا في حالة القيام بسلوك خاطئ ما في عدم حضرة ولي الأمر، دون خوف من غضب الوالد أو زعل الأم،حيث لم  تكن مظاهر التحفظ، واللامبالاة قد انتشرت بعد في المجتمع،لذا لم يكن غريباً أن نقابلهم بمظاهر الاحترام والتقدير والتوقير، فجارنا نطلق عليه (أبويه) أو عمي فلان، وزوجته هي  أمي أو عمتي أو خالتي فلانة، مما ساهم في توطيد العلاقات الإنسانية بين أبناء المجتمع، وأكسبهم التلاحم ، وزاد من روابط التواصل الجميل.
كثيرة هي المواقف الجميلة التي أتذكرها ويتذكرها كثير ممن عايش تلك الأيام، قبل أن يدور الزمن دورته، ونفقد بعضاً من قيمنا وعاداتنا الجميلة في عدد من أنماط العلاقات الإنسانية، لحجج واهية، كأن ندعي أن الزمن قد تغير، أو أننا نعيش عصر السرعة، أو أن الكل مشغول بهمومه وحياته،  أو أنه لم يعد هناك من يحتاج لأحد في هذا الوقت، وفي الواقع أن كل هذه الحجج واهية، فنحن من عقد حياتنا بإدخال كثير من أنماط الحياة الغريبة عن مجتمعنا، ونحن من نشغل أنفسنا بكثير من الأعباء الغير مهمة في بعضها، فالمجتمع هو المجتمع، والناس هم أنفسهم، والأقارب والجيران وكبار السن والأيتام والأرامل والفقراء ما زالوا موجودين، بل إن التغيرات المجتمعية المختلفة التي طرأت بسبب نمط حياتنا الجديد قد أدى لوجود حاجة ملحة للتكافل الاجتماعي ربما أكثر مما كان عليه سابقاً، فكثير منا يشكي هم الديون، وهموم أمراض العصر، والوحدة، وغيرها من الهموم، فما الذي  يمنع أن نعيد تنظيم حياتنا الاجتماعية على أساس سليم، وأن نستلهم من تجارب الذين سبقونا الشيء المفيد لمجتمعنا، فهم لم يهتموا بمظاهر التكافل إلا عندما أحسوا أنهم كمجتمع لن يستطيعوا العيش في أمان اجتماعي دون تفعيل مظاهره.
نعم، ربما تكون كثير من الظروف قد تغيرت، وربما تحسنت الظروف الاقتصادية لدى كثير من الأفراد مما جعلهم يشعرون باستقلالية عن الآخرين، وربما اعتقد البعض أن الخدمات الحكومية بإمكانها أن تحل مكان المجتمع في تقديم الرعاية والاهتمام للفئات المحتاجة، ولكننا بذلك نتناسى أننا مجتمع عربي إسلامي له خصوصيته الثقافية والاجتماعية المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وتميزه قيم أصيلة حفظت لهذا المجتمع روحه وترابطه وتماسكه على مدى سنين طويلة، لذا لا يمكن لنا أن نتخلى بكل بساطة عن هذه القيم لمجرد شعورنا بعدم الحاجة للآخر، أو لأن هناك جهات يمكنها أن تقوم بدور الرعاية الاجتماعية، فنجاح أي مجتمع يعتمد على مدى التعاون بين صناع القرار وبين المجتمع، وبدونه لا يمكن لأي طرف أي يقوم بمهمته على أكمل وجه.
أتمنى أن نراجع أنفسنا كمجتمع متعلم نال من أدوات العلم والثقافة الشيء الكثير ، وأن نحافظ على ما تبقى من ملامح قيمية أصيلة لدينا، وأن نحاول استعادة ما ذهب منها،  والوسائل التي ينبغي إتباعها لتحقيق ذلك كثيرة ومتنوعة، والأهم من هذه الوسائل هو الاعتقاد الحقيقي بأهمية عودة كثير من المظاهر الاجتماعية إلى مجتمعنا، وضرورة وجودها، كي لا يتحول هذا المجتمع إلى كيان بلا روح أو طعم، وما قد ينتج عن ذلك من كثير من المشاكل الاجتماعية التي عانت منها عدد من المجتمعات الغربية، والتي بدأ بعضها في محاولة دراسة الإسلام علهم يجدوا في قيمه ما يعيد لمجتمعاتهم كيانها وترابطها بعد عقود طويلة من التفسخ الاجتماعي بسبب اعتقادهم أن الحضارة المادية هي الغاية.
     وأختتم مقالي هذا بموقف ذكره أستاذنا حمود الغيلاني في كتابه، والذي يدل على مدى التكافل الاجتماعي الذي كان سائدا في المجتمع العمانيً ، ويتعلق بأحد تجار مدينة صور الميسورين، كان يضرب به المثل في الثراء ، وفي نفس الوقت كان رجل خير وبر وعرف عنه مساعدته لأبناء مدينته، حتى لقب "بجابر العثرات"، حيث كان عائداً إلى منزله في مساء أحد الأيام برفقة أحد العاملين معه، وبينما كان يمر ببيت من السعف ، سمع امرأة تحاول تهدئة أطفالها الذين مسهم الجوع، فقالت لهم: ناموا، وهل أملك أنا أموال فلان؟ فما كان من هذا الرجل إلا أن رجع إلى بيته في ساعتها، وأمر عامله أن يحمل كل ما تحتاجه تلك الأسرة من أرز ودقيق ودهون وغيرها، وأن يترك ما يحمل في ساحة البيت وأن ينصرف دون أن تدري صاحبة البيت من أتى بتلك الحاجات.

الجمعة، 15 يوليو 2011

حماية المستهلك

استبشر العمانيون خيراً بعد صدور المرسوم السامي رقم 26/2011، والذي يقضي بإنشاء "الهيئة العامة لحماية المستهلك"، والذي أتى كدليل أكيد على الاهتمام السامي بكل ما من شأنه توفير العيش الكريم لأبناء هذا البلد، وكذلك للحاجة الماسة والملحة لوجود مثل هذه الهيئة للقيام بأدوار توعوية ودفاعية، من خلال التوعية بثقافة الاستهلاك لدى المجتمع، ومواجهة العديد من القضايا المتعلقة بالغلاء المعيشي، ومحاربة الاحتكار والغش وغيرها.
         وبما أن الهيئة  مازالت في مراحل وضع لبناتها الأولى، فإنه من المهم طرح بعض التساؤلات المهمة المتعلقة بعملها في المرحلة القادمة، ومن بين هذه التساؤلات : ما الأهداف التي تسعى الهيئة إلى تحقيقها، وهل تقتصر تلك الأهداف على مراقبة أسعار السلع الاستهلاكية، والحد من ظاهرة الغلاء المعيشي فقط؟ أم ستتعداها لتحقيق أهداف أكثر شمولاً ؟ وما آلية العمل الذي ستقوم بها الهيئة نحو تحقيق أهدافها؟وما نوعية الموظفين الذين سيلتحقون بالعمل في الهيئة؟ وهل هم موظفين عاديين يتم اختيارهم بشكل روتيني من بين قوائم الباحثين عن عمل ، أم أن هناك مواصفات معينة مطلوبة ينبغي على الملتحق بالعمل في الهيئة أن يمتلكها؟ وهل ستوجد لدى الهيئة الصلاحيات الكافية التي ستمكنها من تحقيق أهدافها دون الاصطدام بمصالح البعض، ودون وجود خطوط حمراء تعيقها نحو التقدم لتحقيق تلك الأهداف؟ وهل ستكون هناك ازدواجية مع جهات حكومية أخرى  في تنفيذ بعض الأعمال ؟  وهل سيكون للمواطن دور في عمل الهيئة بحكم أنه الأقرب للواقع، والأكثر حرصاً على التصدي لكل ما من شأنه أن يضر بحياته المعيشية، خاصة وأن كثير من جمعيات حماية المستهلك في العديد من الدول هي جمعيات أهلية تحظى بدعم حكومي، أثبت كثير منها نجاحات عديدة ساهمت في تحسين الوضع المعيشي للمستفيدين من تلك الجمعيات.
أو بالأحرى :ماذا ينتظر المجتمع من هيئة حماية المستهلك؟
  برأيي أنه من المهم أن تقوم الهيئة في أقرب وقت  بتنظيم برنامج إعلامي  يشتمل على ندوات متنقلة، وموضوعات صحفية مسجلة، وحوارات تلفزيونية وإذاعية، وتدشين موقع إلكتروني  للهيئة، وذلك للإجابة على التساؤلات السابقة، وعلى غيرها من التساؤلات التي تطرح في الشارع، كي يكون الكل على بينة من الأهداف التي ستسعى الهيئة إلى تحقيقها، و الخطوات التي ستتبعها لتحقيق هذه  الأهداف، والدور الذي ينبغي على المواطن القيام به لمساعدة الهيئة في تحقيق هذه الأهداف.
         وفي سبيل رغبتي في التعريف ببعض المهام التي ينبغي على هيئة حماية المستهلك القيام بها، فقد قمت بالاطلاع على عدد من اللوائح والقوانين المتعلقة بتنظيم أعمال هيئات وجمعيات حماية المستهلك في عدد من الدول المختلفة، ذلك أن الاطلاع على تجارب الآخرين من شأنه أن ينوع الخيارات، ويقدم خلاصات تجارب تلك الدول في هذا المجال، ومن بين الأهداف التي ينبغي على الهيئة أن تعمل على تحقيها ما يلي: المساهمة في نشر ثقافة الاستهلاك، ذلك أن جزء من المشكلة التي يعانيها المجتمع تتمثل في ضعف الثقافة الاستهلاكية لدى قطاع كبير من المجتمع، ويتجلى هذا الأمر في كثير من المظاهر الدخيلة على المجتمع في مجالات اللبس ونوعيات الأكل،وغيرها،  وكذلك اللامبالاة من قبل البعض أما جهلاً أو تعمداً، عند قيامهم بشراء منتج معين، كعدم الاهتمام بقراءة بيانات المنتج ومدى صلاحيته، أو الاهتمام بفاتورة الأسعار المصاحبة، أو شراء بعض الأصناف بكميات مبالغ فيها، أو عدم الرغبة في الدخول في نقاش معين مع مقدمي بعض السلع والخدمات عند إحساس هذا المستهلك بوجود خطأ ما، أو محاولة تلاعب من قبل مقدم هذه الخدمات. وأيضاً عدم تناسب الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية  للبعض مع رغبتهم في امتلاك بعض الكماليات أو الضروريات، كبناء المنازل الفخمة ،أو اقتناء السيارات الفارهة، أو تغيير بعض الكماليات من وقت قصير لآخر، لمجرد التباهي ، أو بسبب الرضوخ لضغط مجتمعي معين، وهذا بالطبع يؤثر على الوضع المادي للفرد، ومن ثم يمتد تأثيره على الوضع الاقتصادي للبلد بشكل عام، لذا فإن التوعية السليمة من خلال عرض التجارب السلبية والايجابية لشرائح من المجتمع في هذا المجال،ونتائج التأثيرات السلبية لبعض العادات على الوضع الاقتصادي للمجتمع والدولة ككل، واستقراء  بعض عادات المجتمع العماني الأصيلة في مجال التكافل الاجتماعي، وآلية توفير المئونة المنزلية الأساسية في البيت العماني سابقاً، من شأنه أن ينعكس إيجابا على ثقافة المستهلك العماني، وبالتالي الحد من كثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المجتمع حالياً بسبب ضعف هذه الثقافة .

 ومن الضروري وجود مكاتب قانونية في فروع الهيئة التي ستغطي محافظات ومناطق السلطنة، ذلك أن وجود قانونيين متخصصين من شأنه أن يقدم للمستهلك النصائح الصحيحة التي تمكنه من التعامل مع بعض الجهات التي تستغل جهل هذا المستهلك، وتعرفه كذلك على آلية الشراء، والتعامل مع المنتجات المختلفة، كما يمكن لهذه المكاتب أن تتلقى شكاوى المستهلكين  المتعلقة بالاحتيال والغش والتلاعب في السلع أو الخدمات والمغالاة في أسعارهما ، ومتابعتها، للحفاظ على مصالحهم، وبالتنسيق مع الجهات الرسمية، ويمكن للهيئة أن تمثل المستهلكين في بعض القضايا المرفوعة تجاه أية جهة ما شعر المستهلك بأنها قد قدمت له خدمة ساهمت في إلحاق الضرر به.

        كما أن على الهيئة مكافحة تضليل المستهلك عبر  الإعلانات التي تقدمها بعض المؤسسات والشركات التجارية والمالية في وسائل الإعلام المختلفة ،والتي تقدم معلومات غير حقيقية عن منتجات معينة، كإعلانات البنوك، أو وكالات السيارات،والعقارات بأنواعها  أو تؤثر على صحتهم، كالإعلانات المروجة لفعالية بعض الأدوية، و السجائر، والأغذية السريعة المشبعة بالدهون، والمشروبات الغازية، وغيرها، ويمكن للهيئة هنا أن تطالب من الجهات المختصة منع ظهور بعض الإعلانات في الوسائل الإعلامية التي تخاطب شرائح بعينها كالأطفال مثلاً، أو في بعض أوقات البث الإعلامي المرئي أو المسموع، خاصة إذا ما علمنا التأثير الكبير الذي تمارسه الإعلانات على ثقافة المستهلك، وبالتالي ظهور كثير من الأضرار التي ينتقل أثرها إلى المجتمع بشكل عام.
   كما أن من الأعمال المهمة التي ينبغي على الهيئة القيام بها،عمل مسح ومقارنة لأسعار المنتجات المختلفة، والقيام بعرض أسعار هذه المنتجات بشكل يومي أو دوري، من خلال موقع الهيئة الإلكتروني، ووسائل الإعلام المختلفة، كي يكون المستهلك على بينة بها، وكذلك  التأكد من صحة البيانات الخاصة بها، والتي تحدد محتواها، بحيث تكون هذه المنتجات  مطابقة للمواصفات القياسية والمتطلبات الصحية والبيئية والسلامة والأمان الخاصة بها. وللهيئة إصدار القرارات أو تقديم التوصيات  بحظر استيراد أو تصدير أو بيع أو عرض بعض المنتجات التي قد تشكل خطورة على سلامة المستهلك، ومن الضروري أن تتوافر لديها الإجراءات القانونية التي تمكنها من اتخاذ الإجراءات الوقائية للحد من مخاطر هذه السلع وبما يتفق مع الاتفاقيات الدولية للسلامة المهنية .
        كما أنه من المهم وجود فريق فني متخصص يقوم بإعداد الدراسات والبحوث ، وعقد المؤتمرات والندوات والدورات ، وإقامة المعارض ذات العلاقة بنشاط حماية المستهلك ، ونشر نتائج تلك الدراسات والبحوث أولاً بأول ، وكذلك تقديمها للجهات الحكومية كل حسب اختصاصه، وذلك للوقوف على المشاكل التي تتعلق بحقوق ومصالح المستهلكين، وتقديم المقترحات لعلاجها.
     ومن الضروري لعمل الهيئة أن  يكون لها خطة عمل مشتركة مع عدد من المؤسسات الحكومية الأخرى، كالتربية والتعليم في مجال توعية النشء بالمبادئ الأساسية لثقافة المستهلك، من خلال عدد من الأنشطة والبرامج والمسابقات، أو تضمين بعض الدروس والأنشطة في المنهاج، وكذلك مع وزارة الإعلام من خلال إيجاد مساحات إعلامية كافية للقيام بالتوعية الاستهلاكية، ومع وزارة التنمية الاجتماعية من خلال حصر الفئات ذات الدخول المتدنية، أو بعض الفئات الأخرى كالأيتام والأرامل والمعوقين، لإيجاد آلية لمساعدتهم على مواجهة كثير من القضايا المتعلقة بالغلاء المعيشي من خلال وسائل عدة، كتوفير بطاقات تموين محددة لهم، يتم من خلالها حصول هذه الفئات على السلع الأساسية بأسعار مخفضة، والتنسيق مع عدد من المؤسسات والشركات التجارية الأخرى لتقديم خدمات خاصة لها،  أو اقتراح إنشاء محلات  تجارية حكومية تقوم بتوفير السلع الاستهلاكية  الأساسية بأسعار مناسبة، كما هو الحال في بعض الدول.
 كما أن على الهيئة التعاون مع الهيئات واللجان الدولية ذات العلاقة بحماية المستهلك ،وذلك للوقوف على الأنشطة والبرامج التي تقوم بها تلك الهيئات واللجان، ومعرفة الجديد الذي تقوم به في مجال حماية المستهلك.
      وعلى الهيئة ألا تغفل الدور الذي ينبغي على المواطن تقديمه من أجل مساعدتها على القيام بأعمالها، وبالتالي تحقيق أهدافها، ذلك أن المواطن هو المستهدف من  هذه الخدمات، وهو  الأقرب للحكم على مدى نجاح وفاعلية الأدوار التي تقوم بها الهيئة، لذا فمن المهم إيجاد التواصل معه من خلال موقع الهيئة الالكتروني، أو من خلال المساحات الإعلامية الأخرى المقروءة والمسموعة والمرئية، والاهتمام بملاحظاته المختلفة، والأخذ بمقترحاته، وكذلك الأخذ برأيه في بعض السياسات أو الدراسات، والتوصل إلى آلية عمل مشتركة بين الطرفين نحو الإبلاغ والتصدي لبعض مظاهر الاحتيال أو الغش أو الاحتكار التي قد يقوم بها بعض مقدمي السلع والخدمات.
ختاماً.. يمكن للهيئة العامة لحماية المستهلك أن تقوم بأدوار ايجابية من شأنها أن تغير من كثير من جوانب الثقافة الاستهلاكية السلبية لدى بعض شرائح المجتمع، وأن تسهم في تحقيق شيء من الاستقرار الاقتصادي للمجتمع، متى ما  اتضحت الأهداف الفعلية التي تسعى الهيئة لتحقيقها، ومتى ما توافرت الإمكانات المالية والضمانات التشريعية  التي تمكنها من تحقيق أهدافها، ومتى ما تم  اختيار العناصر الوظيفية المناسبة التي تعي أهمية الدور المنوط بالهيئة، والتي لديها من الخبرات القانونية أو الإعلامية، أو في مجال العمل المجتمعي،  ما يساعد الهيئة على القيام بدورها على أكمل وجه، ومتى ما أتيح للمواطن أن يسهم بفعالية في هذا المجال، ويطلع بواقعية على أعمال الهيئة وانجازاتها.

"السيارة الخاصة..غاية أم وسيلة"

في كتابه" ماذا حدث للمصريين" يسرد الدكتور جلال أمين قصة جميلة عن والده العالم الكبير أحمد أمين ، والذي برغم تيسر حالته المادية فإنه رفض أن يشتري سيارة  خاصة به إلا بعد أن اضطراره لذلك بسبب بعد مكان عمله، وذلك بالرغم من تيسر الأمور في تلك الفترة(الثلاثينات من القرن العشرين)، وقلة الازدحام في الشوارع، ورخص ثمن السيارات وقتها.

ويمضي الدكتور جلال أمين ليذكر أنه وبالرغم من أن والده قد اشترى السيارة،  إلا أنه (جلال) أو أياً من إخوانه  لم يفكروا يوما أن يسوقوها أو أن يذهبوا بها في مشاوير خاصة، أو أن يتباهوا بها أمام زملائهم، ذلك أن النظرة للسيارة وقتها تكمن في كونها وسيلة وليست غاية أو مدعاة للتباهي.

تغير الزمن الآن، وتغيرت كثير من القناعات الشخصية والمجتمعية، وأصبحت السيارة لدى الكثيرين ضرورة اجتماعية ملحة، ومظهراً من مظاهر التغير، وأصبح أمام كل بيت عدد من السيارات لا يعبر عن الاحتياج الحقيقي لها، وأصبحت السيارة كالموبايل، والعطر، واللابتوب...وغيرها.وسيلة تباهي لا ضرورة.

     ويبدو أن هناك أسباباً عدة لظاهرة الانتشار الكثيف للسيارات الخاصة، والتي قد لا تعبر بالضرورة عن حالة رخاء اقتصادي مرتفع، في ظل ارتفاع لمعدلات التضخم، وزيادة أسعار كثير من السلع الأساسية والكمالية، ولعل من بين هذه الأسباب هو  أن السيارة أصبحت  من أكثر السلع فعالية في التعبير عن الصعود الاجتماعي، وأصبح العجز عن اقتنائها دليلاً  على الفشل لدى البعض، كما أن بعضهم يرى فيها تعبيراً واضحاً ودعاية كبيرة لما يمتلكونه من وجاهة أو مكانة معينة قد لا توفرها لهم أشياء أخرى يمتلكونها كنمط المسكن أو نوعية المأكولات، أو غيرها.
        كما أن من أسبابها كذلك، انتشار ظاهرة المحاكاة لدى البعض،  أو رغبتهم في التميز عن الآخرين ، أو على الأقل عدم الإحساس بأنهم أقل منهم إمكانية ، فبعضنا يرى أنه ليس أقل من جاره أو صديقه أو زميله الذي اقتنى سيارة ما، ولذا تجده يسعى بشتى الطرق لامتلاك سيارة خاصة بمواصفات رفاهية عاليه، دون التفكير في ما قد تجره هذه الخطوة من نتائج سلبية، ودون وعي أو إدراك بأن المباهاة والتنافس الحقيقي هو في مدى جودة العمل والإنتاج، وفي قدرتنا على تطوير أدائنا وإمكاناتنا الذاتية، لا التباهي بأمور مادية قد تتغير أهميتها بتغير الزمن.
وهذه النظرة الاجتماعية القاصرة ربما لا توجد بهذا الشكل المبالغ فيه في كثير الدول المتقدمة التي تقدس العلم، وتجل قيمة العمل،  كما هو الحال لدينا، فكثير من الناس هناك أحوالهم المادية جيدة ،ولكنهم لا ينظرون إلى السيارة كغاية، وإنما كوسيلة قد يضطرون إلى امتلاكها، بل إن بعضهم لا يكاد يغير سيادته إلا لأسباب قاهرة، ولا يهتمون كثيراً بمدى رفاهية السيارة بقدر اهتمامهم بمدى عمليتها، ومناسبتها لظروفهم العملية والحياتية، وبعضهم يستخدم الدراجة الهوائية، وآخرون يستخدمون وسائل المواصلات العامة.
هناك يمكن أن تقابل أناساً محترمين للغاية وهم يقرؤون الجريدة في إحدى وسائل المواصلات العامة، أو واقفين على محطة الباصات ينتظرون وصول احدها، دون خجل أو خوف من أن يراهم أحد معارفهم فيقلل من شأنهم، أو ينظر لهم نظرة دونية.
كما أن ضعف الاهتمام بوسائل المواصلات العامة كالباصات بأنواعها، وخطوط الترام، والقطارات يجعل الاتجاه إلى اقتناء السيارة الخاصة لدينا أمراً مهماً لدى شريحة كبيرة، وحتى لو وجدت بعض هذه الوسائل بالفعل، كالباصات مثلاً إلا أننا نصطدم بنظرة البعض السلبية تجاه استخدامها، والذي يمكن أن نرده إلى ضعف الثقافة الشخصية، وانتشار ظاهرة الثقافة الاستهلاكية في مجتمعنا، معللين ذلك بأنها تقلل من قيمتهم الاجتماعية، وتساويهم بالفئات البسيطة التي تلجأ لاستخدام هذه الوسائل بسبب ظروفها المادية التي لا تسمح باقتناء سيارة خاصة، وبإلقائنا نظرة على حركة سير إحدى هذه المواصلات نجد بالفعل أن هناك عزوفاً من قبل شريحة مهمة من المجتمع عن استخدامها بالرغم من جودتها ونظافتها إذا ما قارناها بقريناتها في عدد من الدول الأخرى.
     ويبدو أن التسهيلات الخادعة التي تمنحها بعض المؤسسات المالية جعلت من اقتناء السيارة الخاصة أمراً يسيراً على شريحة كبيرة من المجتمع، الذين تغريهم هذه التسهيلات والعروض البراقة، فيندفعون دون تبصر حقيقي، ودون إدراك للفخ المنصوب، والمتمثل في مزيد من الفوائد تجنيها هذه المؤسسات يجعل من الشخص يدفع ضعفي القيمة الحقيقية للسيارة أحياناً، أي أنه يستنزف من جهده وعمله مبالغ كبيرة كان بإمكانه أن يستثمرها في أشياء أهم، ومشروعات أكثر جدوى ونفعاً.
     كما أن التساهل في تطبيق قوانين المرور في بعض الأحيان له دوره في ذلك،  ففي الغرب مثلاً  قد يدفع الفرد نصف راتبه كغرامات لتجاوزات بسيطة، كالوقوف في الممنوع، أو الوقوف صفا ثانياً،أو التأخر في تجديد السيارة، كما أن القانون يطبق على الكل بشكل متساو، فعندما يتجاوز الوزير، أو أية شخصية عامة،  السرعة القانونية، فانه تسحب رخصته ويغرم، وقد يتم إيقافه عن مزاولة السياقة لمدة معينة، ونفس الكلام ينطبق على باقي المواطنين، مما تجد البعض هناك يلجئون لاستخدام وسائل النقل العمومي  خوفاً من الوقوع في خطأ مروري ما، أو خشية من تجاوزهم لقانون مروري معين، بينما الأمر لدينا مختلف،  فكثير من الحالات يمكن تجاوزها، ويمكنك بالكلمة الطيبة، أو بتدخل أحد المقربين أو المعارف أن تلغي غرامة ما قبل وصولها إلى الجهاز، وبالتالي لا توجد تلك الخشية الكبيرة، التي تجعلك تفكر ألف مرة قبل اقتنائك لسيارة خاصة.
ولم يعد أمر اقتناء السيارات الخاصة ظاهرة خاصة بالذكور فقط، بل أصبحت المرأة تنافس الرجل في ذلك، وإذا ما استثنيا بعض الحالات النسائية التي تستدعي ظروفها امتلاك سيارة خاصة، فماذا يمكننا أن نقول عن ظاهرة امتلاك الأخريات لها؟ هل من الضرورة أن تمتلك ربة البيت التي يتواجد زوجها باستمرار في نفس مقر سكن عائلته لسيارة خاصة؟ وهل من الجدوى أن تمتلكها كذلك الفتاة التي يمتلك والدها أو إخوتها المقيمون معها سياراتهم الخاصة الكفيلة  بتوفير مطالب العائلة المختلفة ؟ ذاك سبب أعيده كذلك لضعف التوعية، وتلاشي  بعض القيم في ظل ظاهرة حراك اجتماعي سلبية أثرت على ثقافة المجتمع بشكل عام.
أسباب كثيرة غير تلك التي سردتها أدت إلى انتشار هذه الظاهرة، وهي ظاهرة قد لا تكون سلبية إذا كان مردها هو الرغبة في مزيد من الإنتاج  والعمل وتحقيق مكاسب اجتماعية تعود بالنفع على المجتمع والفرد، فشوارع الصين مكدسة بملايين السيارات، ولكن تواجدها في الغالب مرتبط بحركة إنتاج وعمل دءوب، أثر على وضع الدولة هناك اقتصادياً واجتماعياً، بينما لدينا مرتبط بثقافة تغريب شاملة امتدت لتشمل قطاعات كثيرة من النواحي الاجتماعية والثقافية المختلفة، في ظل تجاهل رهيب لما قد يحدثه انتشار هذه الثقافة على كافة المناحي .
      إنني لا أنادي بأن نمتنع عن اقتناء السيارات الخاصة، أو أية مظاهر مادية أو تكنولوجية أخرى، فكثير من هذه الوسائل وجودها مهم وضروري، الأهم هو أن تكون لدينا من الثقافة والوعي كمجتمع وكأفراد ما يجعلنا قادرين على تحديد أسباب امتلاكنا لهذه الوسائل، وآلية استخدامنا لها، بحيث تتحول لوسائل معينة على الإنتاج، أكثر من كونها وسائل ترف يرتبط وجودها لدينا بتحقيق مكاسب اجتماعية وهمية بعيدة كل البعد عن الأسباب الحقيقية التي أوجدت لأجلها.

"العمل التطوعي..ضرورة اجتماعية"

حميد بن عامر هو اسم مستعار  لمواطن بسيط يسكن في  إحدى التجمعات الصحراوية بالمنطقة الشرقية، قابلته صدفة في إحدى المؤسسات التعليمية بالمنطقة، ودار بيننا حوار متبادل حول عدد من القضايا المرتبطة بسبب مجيئه إلى هذه المؤسسة.
       كان الغرض من مجيئه هو متابعة رسالة قديمة سبق أن  تقدم بها إلى المسئولين بهذه المؤسسة حول آلية فتح فصل دراسي بالمنطقة التي يسكن بها  لتعليم بعض سكان ذلك التجمع الصحراوي مبادئ الكتابة والقراءة والحساب، وبعض المعلومات المتعلقة بأمور الدين والصلاة.
       المسافة بين المنطقة التي يسكن بها هذا المواطن، وبين المدينة التي توجد بها المؤسسة تتجاوز 150 كيلو متر، تقطعها سيارة الدفع الرباعي في حوالي 3 ساعات، وذلك لعدم وجود طريق واضح المعالم ، حيث أنه عبارة عن كثبان رملية متراكمة على امتداد البصر، وبدون سائق محنك خبير قد لا تستطيع الوصول إلى تلك المنطقة، ومع ذلك فهذا الأمر لم يثنه  عن المجيء ومتابعة الموضوع .
     حميد نفسه لا يعرف القراءة أو الكتابة بالرغم من أنه من مواليد النهضة ، وهذا الأمر لا يضيره كثيراً  لو تعلق بأي أمر دنيوي، لكنه يتضايق - كما يقول- عندما يدخل إحدى دور العبادة، ويرى من حوله يتلون القرآن، وهو يتفرج عليهم دون أن يقدر على فعل ما يقومون به، وهذا الأمر جعله أكثر حماساً ورغبة في تحقيق حلمه وحلم الآخرين في منطقته.
خلال حوارنا،حدثني حميد عن محطات في حياته..تحدث عن ظروف منطقتهم الجغرافية من حيث بعدها عن المراكز الحضرية بالمنطقة، وطبيعة النشاط الاقتصادي الممارس فيها،والذي كان يحتم عليهم التنقل بحثاً عن الكلأ والمرعى، مما جعل الاهتمام بالتعليم في منطقتهم ضعيفاً،  وحكى لي قصة رحلته يوماً ما  مع خاله الذي يعمل بإحدى الدول المجاورة، وكيف أنه طلب من خاله أن يعلمه قصار السور، وبعض الأدعية طوال مسافة الطريق الطويل.
يشيد حميد بدور الحكومة التي قامت ببناء مدرسة تتوسط التجمعات الصحراوية ، ولكنه يرى أنها لوحدها غير كافيه، وذلك لتباعد المسافات بين هذه التجمعات، ولوجود العشرات من سكان هذه المناطق ممن فاتهم قطار التعليم قبل افتتاح المدرسة.
    الشخصية التي أتى حميد لكي يرشحها لتعليم الناس في منطقته ، ليست من خريجي الجامعات، ولا ممن يشار إليهم بالبنان في الثقافة والمعرفة، ولكنها فتاة متزوجة بسيطة الثقافة، أتاحت لها ظروف انتقالها إلى إحدى القرى مع زوجها، فرصة استكمال دراستها حتى حصولها على شهادة الدبلوم العام، لذا.. فهي في نظره ونظر الآخرين، الإنسان المناسب لتعليمهم مقارنة ببقية الموجودين بالمنطقة.
    ختم حميد حواره معي بعتاب وجهه إلى المتعلمين – كما أسماهم - و المسئولين عن بعض المؤسسات الحكومية، حول تجاهلهم لمنطقته التي يسكنها، فهي تعاني من نقص في كثير من الخدمات الصحية والاجتماعية، وأهالي المنطقة لا يستطيعون تركها، لأنها في النهاية موطنهم الذي ارتبطوا به، ولأن ظروف المعيشة تحتم عليهم ذلك، فغالبية السكان يمتهنون حرفة تربية الحيوانات، وهم لا يعرفون عملاً بديلاً لذلك.
كما طالب في نهاية حديثه  بتبني البعض سواء كانت جهات حكومية أم خاصة، أو أفراد لفكرة تسيير قوافل تنموية متكاملة من وقت لآخر لتقديم الخدمات المتنوعة لمثل هذه التجمعات، والتي هي بأمس الحاجة لهذه الخدمات، وللتعريف بها، ونقل واقع الحياة بها للآخرين؟
       هذا السرد يقودنا إلى قضية هامة، وهي واقع العمل التطوعي ومدى تحقيقه للأهداف المرجوة منه في مجتمعنا، حيث إن مثل هذه الحالات قد تتكرر في مجتمعات وقرى مختلفة لم تتح لها ظروفها الجغرافية والاجتماعية الاستفادة الكاملة من كافة معطيات النهضة المباركة في مختلف المجالات.
     نعم، لم تأل الحكومة جهداً في نشر مظلة الخدمات المختلفة في معظم بقاع ومناطق السلطنة،  ولكن تبقى هناك بعض الحالات الاستثنائية التي هي بحاجة إلى دور من قبل الأفراد ومؤسسات المجتمع لممارسة أدوار اجتماعية مكملة لدور الحكومة التنموي في هذه المناطق.
ويبقى التساؤل المهم: أو لا يمكن لي كفرد أن أخصص يوماً في السنة أقوم فيه بعمل تطوعي في مجال عملي دون دعوة رسمية أو خاصة  من أحد، ودون انتظار لهبة أو تكريم، ودون رغبة في شو إعلامي؟
ألا يمكن لرجل الأعمال، أو المعلم، أو الطبيب، أو الممرض، أو رجل الدين، أو غيرهم من فئات المجتمع، أن يخصصوا جزءاً من أوقاتهم أو إمكاناتهم، لتقديم خدمات تطوعية في مجتمعهم المحيط، أو مجتمعات أخرى في وطنهم يشعرون أنها بحاجة  لإمكاناتهم، سواء كان هذا العمل التطوعي المقدم بالاشتراك مع آخرين، أم جهد شخصي.
لماذا نجد بعض المجتمعات الأخرى الذي نتهمها عادة بضعف القيم وعدم ترابط المجتمع لديها، تهتم بمثل هذه الأعمال التطوعية، ويتبرع بعض رجال أعمالهم بكامل ثرواتهم لهذه الأعمال، بينما نحن الذين نتغنى طوال الوقت بقيمنا وحضارتنا  نعاني من ضعف المشاركة المجتمعية، ومن تأثر قيم التكافل الاجتماعي بفعل تأثيرات العولمة المتراكمة.
هل الأمر مرده لضعف وعي وثقافة بأهمية مثل هذه الأعمال، أم لظننا أن الحكومة هي وحدها من يقع عليها عبء تقديم كافة الخدمات دون مشاركة مجتمعية أو فردية منا؟
إن خدمة المجتمع والمساهمة في بنائه ونهضته لا يقتصر على العمل الحكومي فقط، فالشراكة الحقيقية بين الدولة والأفراد هي من الأمور المهمة لنجاح أي مجتمع،كما أن الحكومة لا تستطيع الوصول بخدماتها لكل فرد في هذا الوطن، ولا معرفة الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لكافة المواطنين، لذا فإننا كأفراد أو كمؤسسات مجتمع قد نكون أكثر عوناً للحكومة في هذا الجانب، متى ما أيقنا بأهمية التواصل المجتمعي، وضرورة إيجاد التقارب بين أفراد المجتمع، وبالتالي فإن نشر التوعية بأهمية العمل التطوعي ودوره في خدمة المجتمع والارتقاء به لهو من الأمور الضرورية والهامة.
وإذا لم نقم نحن أبناء هذا الوطن الذين نعمنا من خير التنمية،  بهذه الأعمال التطوعية،فلن ننتظر الآخرين كي يقوموا بها، فنحن الذين ضربنا للعالم أروع الأمثلة في تكافلنا الاجتماعي عند تعرض بلدنا للأنواء المناخية، قادرون على أن نستمر على نفس النهج، وأن نعزز هذا التكافل بمزيد من نماذج العمل التطوعي الهادف المنظم الشامل.
إن كثيراً من فئات المجتمع، هم بحاجة لدعمنا وتشجيعنا ومساندتنا ورعايتنا واهتمامنا وخبراتنا، وكثيراً من الأعمال التطوعية بانتظارنا.
تخيلوا لو زرع بعضنا شجرة واحدة فقط أمام بيته، أو قامت جماعة منا بتسوية أرض فضاء لإقامة متنزه بسيط لأبناء حيهم عليها، أو تبرعت مجموعة من معلمينا بمحو أمية عدد من المواطنين، أو قام عدد من أطبائنا بعلاج عدد من الحالات المرضية، أو تبنت جماعة من مثقفينا عدد من القضايا المجتمعية، وقس على ذلك أشكال عديدة من هذه الأعمال المجتمعية الهامة.
لو فعلنا ذلك فباعتقادي سيكون مجتمعنا أكثر إشراقاً وجمالاً.