الاثنين، 23 سبتمبر 2013

"مزاج للبيع"

"اكتشف مأمورو الضبطية القضائية خلال الجولة التفتيشية الإعتيادية التي يقومون بها، وجود كميات من التبغ  المحظور بيعه، والخمور المهرّبة في أحد المحلات التي تمارس نشاط  بيع الأدوات المنزلية والكماليات  في ولاية السيب، حيث تم ضبط 21 زجاجة خمر، وكميات كبيرة من التبغ غير المدخن والسجائر المخالفة".

هذا الخبر ذكّرني بخبر سابق  مشابه مفاده "ضبط أحد الباعة من الجنسية الآسيوية بمحل لبيع الملابس النسائية في الخوض يبيع مشروبات كحولية (خمور)، حيث وجد بحوزته أكثر من 70 زجاجه مشروبات كحولية ( خمور) يقوم بالترويج لها وبيعها لبعض المتعاملين معه".

تخيّلوا معي.. محلّ لبيع المواد والأدوات المنزليّة، وآخر لخياطة الملابس، وكلاهما يقع وسط حيّ شعبيّ مأهول بالسّكّان، وكلاهما كذلك يتعامل مع شرائح مجتمعيّة مختلفة الفئات والأعمار، يبيعان مشروبات (روحيّة) وسط مجتمع يسوده طابع التديّن والمحافظة والتمسّك بالقيم. قد نجد لهؤلاء بعض المبرّرات الواهية إن كانت هذه الضبطيّات قد اكتشفت وسط أحياء خاصّة بالعمالة الوافدة، أو في أماكن منزوية بعيدة عن الأعين، أو في محلّ يقع على قارعة طريق صحراويّ بعيد، أمّا أن يتم ضبطها في محلّات خصّصت أساساً فهي قمّة الجرأة، أو .. اللامبالاة.

إذاً هي سوق سوداء لبيع الممنوعات في منتصف النّهار، وتحت ضوء الشمس، وعلى مرأى من العامّة، ومادامت هناك خمور تباع بهذه الطريقة فهناك بالتأكيد أشياء لا تقلّ خطورة  ليس أقلّها حلويّات الأطفال المغشوشة، ولا الإطارات القديمة المعاد استخدامها، ولا البطاطا التي يعاد بيعها بعد جلبها من المرادم، ولا بقايا الجلود والعظام المجلوبة من المسالخ، ولا الأطعمة والمأكولات المعاد استخدامها، ولا المواد الغذائيّة منتهية الصلاحيّة والتي تباع علناً أو بعد تغيير تواريخ انتهائها، ولا زيوت السّيّارات المغشوشة،  وليس أهونها  المخدّرات بأشكالها وأنواعها "، والتي سمعت أحد متعاطيها البائسين يجيب القاضي في إحدى الجلسات التي حضرتها عندما سأله عن كيفيّة الحصول عليها: " إنها تعرض علينا علناً في الشوارع،  جرّب أن تسأل أي آسيوي تقابله وهو سيدلّك بكل بساطة على من يبيعها لك".

بالمختصر المفيد هناك شبكات وافدة تدير جلّ هذه الممارسات المشبوهة والتي تهدّد أمن البلد وسلامته على كل المستويات والأصعدة، وسط حالة صمت رهيبة من قبلنا بحيث  أصبح الخوف من الوقوع في الجرم لدى هؤلاء غير موجود إن لم يكن منعدماً من الأساس، يدفعهم إلى ذلك عوامل كثيرة يمكن اختصارها في ضعف سطوة القانون، وثقافتنا الاستهلاكية السلبية في كثير من جوانبها، والصورة الذهنيّة المرسومة لدى هؤلاء عن أنّنا مجتمعات مرفّهة لا مبالية، ويمكن الضحك عليها بأبسط الطرق.

القضيّة الأولى من وراء هذا الطرح  هي أن ما يمرّ به مجتمعنا من تفشّي وتنامي لمثل هذه الحالات من الممارسات الاقتصادية والاجتماعية (اللا إنسانية) سبق وأن مرّت بها دول مجاورة ،  عانت منها واكتوت بنارها، واتخذت مقابلها عدداً من الخطوات والإجراءات التصحيحيّة، أما نحن فلن نقوم بدراسة تجارب تلك الدول، ولن نتحرّك إلا إذا وقع الفأس في الرأس، أو "بعد خراب مالطا" كما يقولون، هذا إذا تحرّكنا من الأساس.

القضيّة الأخرى هي أنّ (بعضنا) لا يفرّق بين (الجيب) العام والخاص، أو بين الجسد الكبير والصغير، فمادام جيبه الخاص يمتلئ نهاية كل شهر ببعض الفتات، فلا مانع أن يثقب الجيب العام للدولة ككل، وأن يتم استنزاف مواردها بتصرّفات (شيطانيّة) كهذه، ومادام جسده سليماً لم يتأثر بعد بنتائج مثل هذه التصرّفات، فلا يهمّه أن يتم نخر الجسد الكبير للمجتمع بالأمراض الفتّاكة، وتدمير الطاقات الشبابية، وخلخلة الاقتصاد،  وسلّم لي على.. الكفيل.

القضيّة الثالثة هي  أنّنا حتّى الآن لسنا جادّين في التصدّي لهذه الممارسات، أو حتّى محاولة تقنينها، والدليل على ذلك هي القوانين التي لم تستطع أن تحدّ من خطورة هذه الممارسات التي هي في ازدياد، والتي تكشف لنا الضبطيات اليوميّة للجهات المختصّة عن عشرات الممارسات التي تصيبنا بالذّهول والاستغراب، ومازالت مشاريع القوانين الجديدة أو المعدّلة تتناقل كحجر النّرد من مكتب لآخر، ومن جهة لأخرى.

القضيّة الرابعة هي نظرتنا المغلّفة بالرحمة والعطف، أو بالمصلحة أحياناً تجاه تلك الفئات، فبعضنا يغضب عندما يتم مسّ ممارسات هؤلاء ولو بكلمة، أو الحديث عن تقنين أو ضاعهم، أو الحدّ من سطوتهم الزائدة وسيطرتهم على المفاصل الأساسيّة للسوق والاقتصاد بشكل عام، وأقصد تحديداً ذوي "الشنبات السوداء" الذين تراهم أمامك في كل مكان يصل إليه بصرك في العاصمة، في الشارع، وفي المجمّع التجاري الكبير، وفي المطعم الفخم، وفي البنك، وفي الحديقة العامّة، بسيّاراتهم الفارهة، وبالأختام والأساور وسلاسل الذهب التي تغطّي المعصم والرّقبة، وبالشّعر الكثيف الذي يملأ الظّهر والرقبة ولا تسألني كيف عرفت ذلك، على اعتبار أنّ هؤلاء يسهمون في دفع عجلة الاقتصاد، والمساهمة في بناء الوطن. وبعضنا الآخر ينظر للفئة الأخرى التي يراها (تشحت) بطريقة غير مباشرة عند مكائن سحب الأموال، وفي مواقف السيارات، على أنّهم بسطاء يستحقّون العطف والشّفقة، وهو الأمر الذي يجعلهم يستغلون هذه النظرة للتمادي في السلوكيات التي ما تلبث أن تتحوّل إلى سلوكيّات  أكثر خطورة على المجتمع،  اعتماداً على  منطق (بلد الفرص الوافرة)، و(الناس اللامبالية).

والحلّ.. سنظل نردّد كثيراً كلاماً من قبيل التوعية والتثقيف للمجتمع حول بعض السلوكيّات الاستهلاكيّة، والنظر في قوانين العمل والاستثمار الحاليّة ، وسنّ قوانين أكثر حزماً وصرامة، ووو. ولكن يبدو أن كل ما قلناه، وما سنعيده مستقبلاً ، هو من قبيل الفضفضة فقط، وقد نطالع في المستقبل أخباراً أكثر فظاعة وذعراً، عن ممارسات تقوم بها هذه العمالة أو تلك، وكعادتنا في كل مرّة سنغصب مؤقّتاً، ثم "تعود ريمه إلى حالتها القديمة".
يسألني صديق ظريف: ترى هل هذه المشروبات أصليّة أم مغشوشة. يا راجل؟ هو دا وقته؟

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

في مقاهي المحروسة (11)

الأمفتريون

إبريل 2007.. جوّ القاهرة ربيعيّ مترب. كنت قد لازمت شقّتي الصغيرة بسبب جرح في صدري نتيجة انزلاقي في ليلة جمعة ممطرة عاصفة، يومها ظهرت الشهامة المصريّة الحقيقيّة متمثّلة في عمّ سيّد البوّاب، وعمّ صابر حارس العمارة، اللذين حملاني على وجه السرعة إلى مستشفى الجنزوري الخاص القريب من المكان، وكانت النتيجة ثمانية غرز في الصدر، وتنبيهات بملازمة الفراش وعدم ممارسة أي نشاط بدني، ومن حينها انزويت في شقّتي لا يعلم أحد ما حدث لي باستثناء بعض المقرّبين من الأصدقاء الذين استنكروا غيابي.

هاتف الشّقةّ يرنّ. المتحدث هو محمد البلوشي. بعد السلام والسؤال عن الحال وشيء من العتاب المهذّب نتّفق على أن يزورني في اليوم التالي.

محمد صديق عزيز، جمعتنا ذكريات جميلة في 6ش عدن بالمهندسين حيث سكنّا معاً لفترة من الزمن، وحيث ذكريات العمل المشترك في نادي الطلبة، وذكريات أخرى كثيرة. يكمل محمد دراسته العليا في الفنون الجميلة، وتحديداً في فنّ النحت الذي تخصّص فيه، وملك عليه كيانه لدرجة أن صالة شقّتنا تحوّلت إلى متحف مفتوح من كثرة المعروضات التي لم ترحم توسّلاتنا.


في العاشرة من صباح الخميس يصل محمد بأناقته المعهودة، حاملاً (بوكيه) ورد كبير، وصندوقاً من التمر المحشو باللوز. هكذا هو محمد. هو الاتيكيت ذاته يمشي على قدمين.

حدّثتني كثيراً يا صديقي عن مصر الجديدة وجمالها. هي فرصة أن أراها على أرض الواقع، أريد أن أشاهد مبانيها الجميلة وشوارعها الواسعة التي رأيتها في أفلام حليم وشادية وصباح، والتي طالما سمعتك تتغنّى بها في جلساتنا الخاصّة. لك ذلك يا عزيزي، هيا بنا إذاً.

ننزل من الشقّة باتجاه ميدان روكسي، أول ما يصادفنا حديقة (الميرلاند) الشهيرة بمساحتها الخضراء الشاسعة ، هذه الحديقة يا صديقي كانت يوماً ما جنّة خضراء، تجعل زائر الحديقة يشعر كأنه انفصل عن العالم الخارجي، ودخل إلى عالم جديد سمته الجمال. لم تعد الحديقة كما كانت، كأي شيء جميل يذهب ولا يعود.

في طريقنا إلى الميدان، نتوقف على الرصيف انتظاراً لمرور الترام أو (التروماي)كما يحلو للبعض تسميته، أو (الزقزوقة) كما يدلّعه آخرون بسبب صوته المميّز على القضبان. الترام هو أحد معالم مصر الجديدة الشهيرة، يقول المصريون "اللي يركب التروماى لازم يبقى صاحب مزاج ومش مستعجل"، لذا ليس غريباً أن تشاهد نوعية من الركّاب من كبار السن ، وهم يركبونه كهواية يوميّة يتذكّرون فيها أثر مجد غابر للمكان، مكتفين بالتطلّع إلى واجهة المحلات، ومداخل البنايات، وقد يفتحون أحياناً حواراً سياسياً مع الجار القريب يمكن أن تتحوّل إلى صداقة مؤقّتة تنتهي عند المحطّة القادمة.

أنظر يا صديقي، هذا هو ميدان (روكسي )الشهير ، هنا قلب مصر الجديدة، هذا هو نادي "هوليليدو"، وتلك هي كلّيتي على مرمى حجر في شارع المقريزي، وذاك هو محل "العبّودي" الشهير المتخصص في ملابس السهرة والأفراح، وهناك سينما روكسي وغرناطة. هل ترى تلك الأبراج الشاهقة؟ انها أبراج عثمان أحمد عثمان أشهر رجال السلطة والأعمال زمن السادات.


ندخل شارع إبراهيم اللّقّاني أحد الشوارع المتفرعة من الميدان، كنت أعتقد سابقاً أن صاحبه قريب لأستاذي المرحوم أحمد اللّقاني، ثم اكتشفت فيما بعد أنه مجرد تشابه أسماء وأن هناك فارقاً زمنياً في النشأة يزيد عن 400 عام بين الاثنين. ينبهر محمد بفن العمارة الذي يميّز مباني الشارع على الطرازين الإسلامي والقبطي حيث تمتزج وتتجانس الزخارف والأقواس والقباب العربية بالأعمدة الرومانسية ذات التيجان المنقوشة، ومشربيّاتها المصنوعة من الأرابيسك، وبواكيها الواسعة.

تأمّل من حولك يا صاحبي، هنا ستجد أشهر محلات الأحذية والحقائب والمنتجات الجلديّة، هذا فرع "عمر أفندي " أحد أعرق المحلّات في مصر، وذاك هو "الشبرواي" أحد أشهر المطاعم الشعبيّة في مصر، والذي يمكن أن تجد له فرعاً في كل حارة قاهريّة.

نشرب كوبين من المانجو عند (أبو حيدر ) أشهر محل للعصائر والشاورما في الشارع لنواصل مسيرنا إلى شارع الأهرام الذي يتقاطع مع الشارع لنلمح على الناحية الأخرى منه حيّ (الكوربة) أصل مصر الجديدة وأحد أعرق أحيائها، وهي تعنى بالإيطالية الانحناءة أو القوس. ذاك فندق (هليوبوليس بالاس) درّة تاج الكوربة وأول مبنى فيها، وتلك كنيسة البارون أو كنيسة (البازيليك ) التي بنيت بناء علي طلب من البارون البلجيكي "ادوارد امبان" باني ومخطّط مصر الجديدة، وفيها دفن. هنا يمكن أن تأكل كيكاً مصنّعاً بطريقة منزليّة في المقهى السويسري «هوم ميد كيك، ومن شوارع بيروت أو بغداد القريبة يمكنك أن تشتري لأطفالك أفضل الملابس وأجودها.

نصل إلى محطّة استراحتنا.. مطعم (أمفتريون ) الذي يقع على ناصية الشارع من اليسار عند تقاطع شارعي اللقاني والأهرام. ندخل المطعم الذي تميّزه واجهته العريضة، ولافتته البلاستيكيّة التي تغطي المكان بأكمله والتي تتكون من شعار شركة كوكا كولا الشهيرة يتوسطها اسم المطعم باللغتين. وهو يتكون من أجزاء ثلاثة : المطعم، والحديقة، والتراس. نختار الحديقة كون الجو معتدل، وهي فرصة للاستمتاع بصوت الترام الذي يمر قريباً من هنا، فقط علينا أن نكون حذرين عند التعامل مع الباعة الجائلين الذين لا ينقطعون عن المكان، فما بالنا لو اكتشفوا أننا من الخليج.

بطبيعته الهادئة وبذوقه الفنّي يبدي محمد إعجابه بالمكان وتصميمه الذي هو مزيج من فن العمارة الأوروبي والهندي، وبالصور الفوتوغرافية التي تحيط بالمكان وتوثّق لحضوره التاريخيّ، وكذلك لوجود بعض التحف الجميلة التي حرص أصحاب المكان على ابقائها ربّما رمزاً لتاريخ عريق يحمل في ثناياه عراقة الماضي الأصيل .

يسألني محمد عن أصل تسمية المطعم ، فأجيبه بأنها تسمية يونانيّة نسبة لأحد أشراف مدينة طيبة في الأساطير اليونانية، لذا فهو في الأصل مطعم يوناني، وقد مرّ على انشائه أكثر من 90 عاماً، حيث يعود تاريخ افتتاحه إلى عام 1922، و آلت ملكيته اليوم إلى أحد رجال الأعمال المصريين كحال كثير من المحلّات والمطاعم والمباني بعد قرارات التأميم الشهيرة زمن عبد الناصر، والتي أدّت إلى هجرة الكثير من الجاليات الأوروبيّة واليهودية لهذا السبب، وقد شهد كغيره من المطاعم والمقاهي المصريّة العريقة صالونات أدبيّة شهيرة ، وكان من أبرز روّاده الناقد الكبير عبدالقادر القط، والسياسيّ البارز أسامة الباز، وغيرهم . يبدي محمد اعجابه بمعلوماتي فأجيبه أنني استقيتها نتيجة زيارات سابقة للمطعم وحواراتي مع أصحابه.

يأتينا النادل العجوز فنطلب ليموناً بالنعناع ، وطبق مهلبية مع الأيس كريم. يلمحنا ماسح الأحذية فيأتي عارضاً خدماته علينا، نوافق لأنّنا لا نملك حقّ الرفض لأسباب إنسانيّة، ولأسباب أخرى تتعلّق بالإلحاح كذلك. ألمح شبح "عم رمضان" بائع الصحف في الفرشة القريبة من المطعم فأناديه لأتزوّد بحصيلتي اليوميّة من الصحف المختلفة.

ما بين الكلام ، ومفاصلة بائع جائل على ساعة رديئة يلحّ علينا في شرائها، وتصفّح أخبار صحفيّة لا تختلف في مضمونها عن سواد قطعة القماش التي يستخدمها ذاك العجوز الصعيدي في مسح أحذيتنا، نقضي ما تبقّى من وقت لنواصل بعدها رحلتنا في بقيّة أحياء مصر الجديدة أملاً في التوقّف على ناصية مقهى آخر يحمل تاريخاً يضاف إلى رصيد المحروسة في سجلّها الحافل على مرّ العصور.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

في مقاهي المحروسة (10)


في حضرة نجيب

مارس 2007.. اليوم هو الخميس، والخميس عند المصريين يعني أشياء كثيرة جميلة، ليس أقلها الانسجام الأسري، فقطاع عريض من الشعب مهموم طوال الأسبوع بالبحث عن لقمة العيش، وينتظر مساء الخميس بفارغ الصبر، والخميس كذلك هو موعد تجوالي في أحياء القاهرة الفاطمية وشوارعها العريقة مالم أرتبط بمواعيد أخرى مفاجأة.

أخرج من شقتي في شارع (نهرو )أحد أرقى شوارع مصر الجديدة، مشياً باتجاه محطّة مترو (سرايا القبّة)، بالرغم من توافر وسائل نقل أخرى مباشرة كالتكاسي وحافلات النقل العام، إلا أني أفضل المشي مخترقاً شارع جسر السويس، فميدان سليم الأول، حتى أصل إلى المحطة، ربما لأقف كعادتي في كل مرة أمام قصر (الطاهرة) متأملاً  روعة تصميمه، متخيلاً أحداثاً تاريخية كثيرة صنعت في هذا المكان.

أنزل في محطّة (العتبة)، حيث (سرّة) القاهرة ومنتصفها. هنا يمكن أن تشاهد مصر بكل تناقضاتها الفكرية والاجتماعية، يمكنك هنا أن تصلّي في مسجد (الكخيا) أحد أهم المساجد الأثرية بالقاهرة، وأن تتأمل ملامح العمارة الإسلامية في معرض الفن الإسلامي، أو مسجدي (الرفاعي) و(السلطان حسن)، وأن تتجول في نفس الوقت في شارع محمد علي أشهر شوارع القاهرة في احتضان الفن لقرون طويلة، حيث محلات الأدوات الموسيقية، وخدمات الأفراح، وحيث ذكريات (زوبة الكلوباتيّة) أشهر عالمة (راقصة) في بر مصر في وقت من الأوقات.

في العتبة تلمح دار الأوبرا القديمة، ومبنى المسرح القومي المصري، ومسرح الطفل، وتقف أمام  مدخل فندق (الكونتينتال) لتقسم بعدها أنك رأيته في فيلم لا تتذكره الآن من أفلام الأبيض والأسود، وفيها تستعيد ذكريات قهوة (متاتيا) بكل ما لها من تاريخ طويل في الحياة الاجتماعية والثقافية. 

 في العتبة  يمكنك أن ترى أكبر كميّة من البشر يمكن أن تراها في حياتك، فهؤلاء باعة جائلون يسدّون عين الشمس، وأولئك زبائن أتوا من أقصى الوجهين البحري والقبلي لمصر إما لاستلام طرد بريدي حيث المركز الرئيسي لهيئة البريد، أو لشراء جهاز كهربائي من شارع عبد العزيز، أو للتعاقد على توريد كمية من الأخشاب والاثاث، أو لشراء تجهيزات عشّ الزوجية القادم من (حمّام الثلاثاء)، أو لإصلاح ساعة ثمينة في (ممر الساعات) وصلتهم كهدية من قريب يعمل بالكويت، أو لزيارة (درب البرابرة) حيث مركز بيع النجف و أدوات الإضاءة، أو لشراء (كسوة الشتاء والصيف) من (الموسكي) حيث أحد أشهر الأسواق الشعبية في قاهرة المعز، باختصار. هنا تجد أي شيء.. وكل شيء.

أعرّج على (سور الأزبكية) القريب من الميدان، حيث أكشاك بيع الكتب والمجلات المستعملة. أدين لهذا المكان بالفضل في إنشاء مكتبتي المتواضعة، فكثيراً من كتبها كانت من هنا، وكم من مرة أسعدني الحظ في اقتناء كتب تعود ملكيتها لشخصيات فكرية مرموقة وضعوا عليها توقيعاتهم وإهداءاتهم، ثم باعها ورثتهم بعد رحيلهم لأقرب بائع (روبابيكيا) تاركين علامة تعجب كبيرة لما آل إليه حال الثقافة والمثقفين.

هذه المرّة أقتني كتاب (القاهرة. شوارع وحكايات)، وهو عبارة جولة ثقافية عبر شوارع القاهرة القديمة التي أعشقها وأجد راحتي في التجوال  بها. بعد فصال أخذته ب3 جنيهات، يعني بالعماني 200بيسة. لو عرف زميلي ناصر أنني اشتريته بهذا السعر لاتهمني بالسذاجة كعادته في كل مرة أحدثه عن زيارتي للسور، فأي كتاب مهما ارتفعت قيمته الفكرية لا  يجب أن يزيد من وجهة نظره عن جنيه واحد فقط هنا. كم أنت طيب يا صديقي، تعال معنا لترى قيمة الكتب. أؤكد لك بعدها أنك ستقبل رؤوس كل باعة سور الأزبكية.

 لا جو يناسب قراءة هذا الكتاب سوى أجواء الحسين وخان الخليلي ، فجزء كبير من محتواه يتحدث عن شوارع تلك المنطقة وأحداثها على مر العصور،  ولا وسيلة للانتقال إلى المكان أفضل من المشي، فأصوات المطارق النحاسية، ورائحة البهارات والتوابل، وسباب سائقي التكاسي لبعضهم البعض، كلها تغري بذلك، خاصة وأن المكان قريب، وكلها (فرتة) كعب وأصل. في مصر لا يمكنك أن تشعر بقيمة الوقت أبداً.

أدخل درب (البادستان) أحد شوارع حي الحسين، حيث مقهى (نجيب محفوظ) الذي أفضّله على بقية مقاهي المنطقة، ربّما لخصوصيته ونوعيّة مرتاديه، وربما لهدوئه وخدماته المميزة، متجاوزاً بصعوبة بالغة مقهى (الفيشاوي) العريق في مدخل الدرب، حيث عراقة التاريخ، وحيث العبق الشرقي الأصيل، ورائحة البخور الذي لن تشمّه إلا في قاهرة المعزّ، وكأنه ماركة مسجّلة باسمها، و المحلّات الشرقية التي مازال أصحابها يتوارثون المهن اليدويّة من نحاسيات وجلود وعطور وغيرها في إصرار عجيب على استمراريتها وكأنّها جزء من حياة، وحيث الأجانب لا يتركون مكاناً لقدم، لتواجهني لوحة تجارية كتب عليها (خالد الأسيوطي)، أعرف هنا أنني على بعد خطوات من مقصدي حيث المقهى الذي افتتح عام 1989 تكريماً لأديب نوبل، واعترافاً بفضل قصصه التي خلّدت للمكان وشخوصه وأحداثه، "كالسكّرية"، و"بين القصرين"، و"قصر الشوق"، وغيرها من الأعمال الخالدة، خاصّة وأن عامل الاستقبال بزيّه الفاطمي الأحمر المميز كان يستقبلني بابتسامة عريضة.

عند دخولك المكان تشعر أنك عدت إلى الوراء مئات السنين، فباب المطعم  أثري ذو نقوشات إسلامية عتيقة، والمكان مفروش بالأرضيات الرخامية ذات النقوش المميزة، والسقف مضاء بالنجف النحاسي المزين بالآيات القرآنية، والمقهى يتكون من بهو  أمامي، وعدة أركان  ثنائية هنا وهناك، ومطعم واسع يتسع لأكثر من 150 فرداً.

كعادتي في كل زيارة للمقهى أختار الركن الأيمن من البهو، حيث الشجرة الوحيدة، وحيث يمكنك أن تستمتع بتأمّل المكان، ومراقبة زبائنه الذين هم خليط من مصريين وعرب وأجانب يجمعهم حب التراث، وتطربهم أجواءه على أنغام العود وايقاع القانون، ويستلذون أطباقه الشرقية من فول وفلافل وفتّة وكوارع ومحاشي وكشري ، وأطباق أخرى يغامر بعضهم بالسفر من أجلها كي يتذوقها في مسمط شعبي بحيّ مصريّ عريق.

مستمتعاً بأغاني الفرقة الموسيقية الشرقيّة التي تتصدر البهو، والتي هي مزيج من أغاني الحامولي وعبد الوهاب و"ثومة"، وحليم، ووردة، وغيرهم من أساطين الطرب. مستلذّاً بطعم (السحلب) التقليدي  الذي أحضر في كوب أزرق لا يختلف تصميمه عمّا نراه من آنية في قصور الأفلام التاريخية ، طافت عليّ ذكريات كثيرة تركتها في هذا الركن، فهنا جلست لأول مرّة زرت فيها المقهى قبل سنوات حينما كنت فتى غريراً لا خبرة لي بشوارع المحروسة وحواريها، وهنا ارتكبت يوماً ما حماقة التغنّي بشعر الميدان مع صديق من وادي بني خالد وسط دهشة المحيطين بنا، وهنا تذوقت (الممبار) - وهي وجبة مصرية شعبية تشبه (المعاصيب) - لأول مرّة، وهنا ضحكت كثيراً مع شلّة رفاق (صورييّن) على عجوز خليجي يدعى الشيخ منصور برأسه الضخم، وكرشه البارز، وهو نموذج للعجوز الخليجي المتصابي الذي يجعله المحيطين به من لاعقي النقود والأحذية يصدّق أنّه شيخ، وأنّه وسيم، وأنه في شرخ الشباب، وأنّه الأهم في أي مكان تحط فيه رجليه، بينما هو في الحقيقة عكس ذلك تماماً. يومها اختلف اثنان من الشلّة حول سبب ضخامة رأسه، وهل السبب يعود إلى كميّة (الخمر) التي شربها ذلك اليوم، أم بسبب تعاطيه لنوع رديء من حشيش أوهمه أحد (شلّة الأنس) أنّه كفيل بأن يعيده إلى صباه. هنا في نفس المكان سيتعلق أحد أصدقائي بعد عام من الآن بحسناء يمنية اتفقنا على تسميتها فيما بعد باسم "نجيب محفوظ".
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com




الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

مدارس سبيشل

مدارس سبيشل

ذهلت عندما أخبرني محاسب تلك المدرسة الخاصّة الصغيرة الواقعة في أطراف العاصمة مسقط بأن رسوم ابنتي الدراسية لعام دراسي واحد في مرحلة رياض الأطفال يبلغ 600 ريال عماني، وهذا ما جعلني أقوم بحسبة رياضيّة بسيطة: فلو افترضنا أن رسوم الدراسة لعام دراسي كامل في مرحلة رياض الأطفال (600) ريال كمتوسط، وأن عدد طلاب المدرسة يبلغ (200) طالب، وأن طاقم الهيئة الإدارية والتدريسية في حدود (10) معلمات وإداريات، يتقاضين راتباً شهرياً في حدود (200) ريال عماني، فهذا يعني أن إجمالي الرسوم المحصّلة لعام دراسي واحد يبلغ 120 ألف ريال عماني، إذا ما خصمنا منه مبلغ 12 ألف ريال كمتوسط قيمة استئجار المبنى المدرسي لعام كامل، و24 ألف ريال كقيمة رواتب شهرية لمدّة عام كامل، وحوالي 25 ألف ريال كمصروفات نثرية سنوية وقيمة فواتير مياه وكهرباء وغيرها ، فهذا يعني أن صافي الربح السنوي لإدارة المدرسة، والتي في كثير منها تعود إلى أشخاص غير عمانيين، لن يقل عن 60 ألف ريال في السنة، فما بالكم لو كانت رسوم الطلبة في نفس المدرسة للمراحل الدراسية التي تلي مرحلة التمهيدي أعلى من المبلغ الذي حدّدته، وقيمة استئجار المبنى المدرسي أقل من المبلغ المذكور في المقال.
أنا هنا أتحدّث عن مدارس تقع في أطراف العاصمة، فما بالكم بأسعار المدارس الأخرى في قلب مسقط والتي تصل أحياناً إلى الضعف، وهي لا تقل في غالبها عن هذه المدارس من حيث نوعية المباني، أو مستوى الطاقم الإداري والتدريسي، أو نوعية الخدمات التعليمية المقدّمة. 

في صور، كانت رسوم دراسة ابني طوال عام دراسي كامل في مدرسته التي تتكون من طابقين، وتحوي على ملعب ثلاثي لممارسة الألعاب الرياضية المختلفة، وآخر لكرة القدم، وقاعات علمية متعددة الأغراض، ووسائل نقل حديثة، وأنشطة تربوية متنوعة، (300) ريال فقط طوال عام دراسي كامل شامل لقيمة النقل من وإلى البيت، فما هو وجه الاختلاف بين صور أو غيرها من المدن والولايات وبين مسقط؟ سيقول البعض إن قيمة استئجار المباني في مسقط تفوق مثيلاتها في باقي المدن، وهذا كلام مردود عليه، فهذا ليس سبباً رئيساً يجعل أسعار الرسوم تتضاعف بهذا الشّكل، فكثير من مباني المدارس الخاصة في المدن والولايات الأخرى أكثر سعة وتنظيماً وحداثة وأغلى سعراً أحياناً من مدارس خاصّة عديدة بالعاصمة.

وقد يقول آخر إن الإمكانات العالية للكوادر الإداريّة والتدريسيّة بالمدارس الخاصّة التي تقع في نطاق العاصمة هي من تجعل رسوم الدراسة بهذه المدارس مرتفع، وهو رأي أختلف معه كلّية، فكثير من الطواقم التدريسيّة بهذه المدارس هن إما من حملة الدّبلوم العام واللّاتي ينتظرن فرصة التوظيف مستقبلاً في أماكن أخرى بها امتيازات وظيفية أفضل، وإمّا من معلّمين ومعلّمات أتوا كمرافقين لأسرهم، وبالتالي يقبلون بأي راتب يقدّم لهم كوسيلة لتحسين الوضع المعيشي، وإمّا من معلّمين وافدين تم إنهاء عقودهم لدى وزارة التعليم، فالتحقوا بالعمل في هذه المدارس من أجل القيام بتقديم الدّروس الخصوصيّة التي تجلب لهم دخلاّ يوازي أضعاف ما يحصلون عليه من رواتبهم الأساسيّة، لذا فهم يقبلون العمل بهذه المدارس ليس من أجل رواتبها الهزيلة، وإنما كوسيلة للحصول على اقامة قانونية تسهّل لهم مزاولة الدروس الخصوصية التي استشرت كاستشراء النار في الهشيم. 

وقد يرى ثالث إن غلاء المعيشة في العاصمة يضطر أصحاب المدارس الخاصّة بها إلى دفع رواتب عالية لكوادرها التعليميّة، وهذا أمر أشكّ فيه، فعندما سألت المدرّسة العمانيّة المشرفة على مجموعة ابنتي عن الراتب التي تتقاضاه، أخبرتني أنّها تقطع مسافة لا تقل عن 100 كيلو متر يومياً من قريتها الواقعة في ولاية أخرى مقابل مائتي ريال شهرياً فقط، وهو مبلغ مشابه للمبالغ التي تدفع لنفس الكوادر في المدارس الخاصّة في بقيّة المدن، علماً بأنني أعرف كثيراً من المعلمين الوافدين السابقين الذين التحقوا بسلك التدريس في بعض المدارس الخاصّة في صور وغيرها يتقاضون رواتب مضاعفة عدا السكن العائلي المجهّز، وعدا تذاكر السّفر ورسوم العلاج. 

قس على ذلك التجهيزات التعليميّة المختلفة من كتب ومعامل حاسوب وألعاب أطفال، وحدائق، ففي غالبيتها متشابهة، مع ملاحظة أن كثير من المدارس الخاصة التي قمت بزيارتها في الحيّ الذي أعيش به، تعاني من نقص كبير في الألعاب، بسبب ضيق مساحة فناء المدرسة، بل إن المدرسة التي ألحقت ابنتي بها والتي تعتبر من أفضل المدارس في منطقتنا السكنية، لا يوجد في فنائها سوى لعبتان إحداهما مكسورة، ولا يوجد في الأفق ما ينبئ بتغييرهما أو رفدهما بألعاب أخرى، فمادامت الرّسوم قد دفعت فالأمر قد انتهى، ولا ترهق عقلي بأفكار من قبيل أهميّة الألعاب في صقل شخصية الطّفل، وغيرها من المصطلحات التي لا توكّل عيشاً ولا خبزاً.

مع تقديري واعترافي بوجود مدارس خاصّة على أعلى مستوى، تقدم مناهج عالمية متطوّرة، وترتبط بمؤسسات تعليمية مرموقة، إلا أنّه في نفس الوقت علينا أن نعترف بأن هناك مدارس أخرى كثيرة أصبحت تفتح من أجل التجارة لا من أجل تقديم خدمة تعليمية، وأصبح إنشاء مدرسة خاصّة من المشاريع التّجاريّة ذات المكسب السريع والمضمون، وأصبح الأمر لا يتطلّب منك سوى استئجار مبنى يتكوّن من دورين، والاتفاق مع مدرس وافد له خبرة في مدارس السلطنة، بحيث يدير المدرسة من الألف إلى الياء، وليأت بأبنائه أو أقاربه أو زملائه. وليدر المدرسة كما يشاء، وليضع من الرسوم ما يريد. لا ضير، ليس مهماً أن تكون رسالة المدرسة على قدر ما تقدّمه من خدمات، وعلى قدر ما يدفعه الناس من رسوم، المهم هو العائد الشهري الذي سيدفعه لك دون أن تكلّف نفسك عناء المتابعة.
سيقول البعض: أين دور الجهات المسئولة عن متابعة هذه المؤسّسات؟ وهل هناك تشريعات وضوابط ولوائح تحدّد عملها؟ ولماذا لا تكون هناك مراجعة للرسوم الدراسية بحيث تتوازى والخدمات المقدّمة من قبلها؟ ولماذا يقبل كثير من المواطنين على هذه المدارس بل ويلجؤون للاقتراض أحياناً برغم أنها ليست البديل المثالي للمدارس الحكومية في كل الأحوال، ولماذا ولماذا.

لا أجوبة لديّ عن كل التّساؤلات السابقة. كلّ ما أعلمه أن كثير من هذه المؤسسات تحقق ربحاً خرافياً ورسالة علمية لا تتوازى مع الرسوم المدفوعة في ظل انسياق مجتمعي وراء هذه المدارس ربّما لعدم وجود البديل الحكومي في مراحل ما قبل الدراسة، وربما لغياب دور الأم في مجال التربية بحجة الانشغال بالوظيفة الحكومية، وربما من باب الوجاهة الاجتماعيّة، وربما لضعف ثقة البعض في ما تقدمه المدارس الحكومية، وربّما خوفاً من بعضهم على سلوكيّات أبنائه في ظل التغييرات السلوكية والاجتماعية التي تهدّد القيم، والتي لم تستطع التربية بمناهجها وأنشطتها وميزانيتها الضخمة من مواجهتها أو تعديلها.

د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com