في حضرة نجيب
مارس 2007.. اليوم هو الخميس، والخميس عند المصريين يعني
أشياء كثيرة جميلة، ليس أقلها الانسجام الأسري، فقطاع عريض من الشعب مهموم طوال
الأسبوع بالبحث عن لقمة العيش، وينتظر مساء الخميس بفارغ الصبر، والخميس كذلك هو
موعد تجوالي في أحياء القاهرة الفاطمية وشوارعها العريقة مالم أرتبط بمواعيد أخرى
مفاجأة.
أخرج من شقتي في شارع (نهرو )أحد أرقى شوارع مصر
الجديدة، مشياً باتجاه محطّة مترو (سرايا القبّة)، بالرغم من توافر وسائل نقل أخرى
مباشرة كالتكاسي وحافلات النقل العام، إلا أني أفضل المشي مخترقاً شارع جسر
السويس، فميدان سليم الأول، حتى أصل إلى المحطة، ربما لأقف كعادتي في كل مرة أمام
قصر (الطاهرة) متأملاً روعة تصميمه، متخيلاً
أحداثاً تاريخية كثيرة صنعت في هذا المكان.
أنزل في محطّة (العتبة)، حيث (سرّة) القاهرة ومنتصفها.
هنا يمكن أن تشاهد مصر بكل تناقضاتها الفكرية والاجتماعية، يمكنك هنا أن تصلّي في
مسجد (الكخيا) أحد أهم المساجد الأثرية بالقاهرة، وأن تتأمل ملامح العمارة
الإسلامية في معرض الفن الإسلامي، أو مسجدي (الرفاعي) و(السلطان حسن)، وأن تتجول
في نفس الوقت في شارع محمد علي أشهر شوارع القاهرة في احتضان الفن لقرون طويلة، حيث
محلات الأدوات الموسيقية، وخدمات الأفراح، وحيث ذكريات (زوبة الكلوباتيّة) أشهر
عالمة (راقصة) في بر مصر في وقت من الأوقات.
في العتبة تلمح دار الأوبرا القديمة، ومبنى المسرح القومي المصري، ومسرح الطفل،
وتقف أمام مدخل فندق
(الكونتينتال) لتقسم بعدها أنك رأيته في فيلم لا تتذكره الآن من أفلام الأبيض
والأسود، وفيها تستعيد ذكريات قهوة (متاتيا) بكل ما لها من تاريخ طويل في الحياة الاجتماعية والثقافية.
في العتبة يمكنك أن ترى أكبر كميّة من البشر يمكن أن تراها
في حياتك، فهؤلاء باعة جائلون يسدّون عين الشمس، وأولئك زبائن أتوا من أقصى الوجهين
البحري والقبلي لمصر إما لاستلام طرد بريدي حيث المركز الرئيسي لهيئة البريد، أو لشراء
جهاز كهربائي من شارع عبد العزيز، أو للتعاقد على توريد كمية من الأخشاب والاثاث،
أو لشراء تجهيزات عشّ الزوجية القادم من (حمّام الثلاثاء)، أو لإصلاح ساعة ثمينة
في (ممر الساعات) وصلتهم كهدية من قريب يعمل بالكويت، أو لزيارة (درب البرابرة) حيث مركز بيع النجف و أدوات الإضاءة، أو لشراء
(كسوة الشتاء والصيف) من (الموسكي) حيث أحد أشهر الأسواق الشعبية في قاهرة المعز، باختصار.
هنا تجد أي شيء.. وكل شيء.
أعرّج على (سور الأزبكية) القريب من الميدان، حيث أكشاك
بيع الكتب والمجلات المستعملة. أدين لهذا المكان بالفضل في إنشاء مكتبتي
المتواضعة، فكثيراً من كتبها كانت من هنا، وكم من مرة أسعدني الحظ في اقتناء كتب
تعود ملكيتها لشخصيات فكرية مرموقة وضعوا عليها توقيعاتهم وإهداءاتهم، ثم باعها
ورثتهم بعد رحيلهم لأقرب بائع (روبابيكيا) تاركين علامة تعجب كبيرة لما آل إليه
حال الثقافة والمثقفين.
هذه المرّة أقتني كتاب (القاهرة. شوارع وحكايات)، وهو
عبارة جولة ثقافية عبر شوارع القاهرة القديمة التي أعشقها وأجد راحتي في التجوال بها. بعد فصال أخذته ب3 جنيهات، يعني بالعماني 200بيسة.
لو عرف زميلي ناصر أنني اشتريته بهذا السعر لاتهمني بالسذاجة كعادته في كل مرة
أحدثه عن زيارتي للسور، فأي كتاب مهما ارتفعت قيمته الفكرية لا يجب أن يزيد من وجهة نظره عن جنيه واحد فقط هنا.
كم أنت طيب يا صديقي، تعال معنا لترى قيمة الكتب. أؤكد لك بعدها أنك ستقبل رؤوس كل باعة سور الأزبكية.
لا جو يناسب
قراءة هذا الكتاب سوى أجواء الحسين وخان الخليلي ، فجزء كبير من محتواه يتحدث عن
شوارع تلك المنطقة وأحداثها على مر العصور، ولا وسيلة للانتقال إلى المكان أفضل من المشي،
فأصوات المطارق النحاسية، ورائحة البهارات والتوابل، وسباب سائقي التكاسي لبعضهم
البعض، كلها تغري بذلك، خاصة وأن المكان قريب، وكلها (فرتة) كعب وأصل. في مصر لا
يمكنك أن تشعر بقيمة الوقت أبداً.
أدخل درب (البادستان) أحد شوارع حي الحسين، حيث مقهى
(نجيب محفوظ) الذي أفضّله على بقية مقاهي المنطقة، ربّما لخصوصيته ونوعيّة مرتاديه،
وربما لهدوئه وخدماته المميزة، متجاوزاً بصعوبة بالغة مقهى (الفيشاوي) العريق في
مدخل الدرب، حيث عراقة التاريخ، وحيث العبق الشرقي الأصيل، ورائحة البخور الذي لن
تشمّه إلا في قاهرة المعزّ، وكأنه ماركة مسجّلة باسمها، و المحلّات الشرقية التي
مازال أصحابها يتوارثون المهن اليدويّة من نحاسيات وجلود وعطور وغيرها في إصرار
عجيب على استمراريتها وكأنّها جزء من حياة، وحيث الأجانب لا يتركون مكاناً لقدم، لتواجهني
لوحة تجارية كتب عليها (خالد الأسيوطي)، أعرف هنا أنني على بعد خطوات من مقصدي حيث المقهى الذي افتتح عام 1989 تكريماً لأديب نوبل، واعترافاً بفضل قصصه
التي خلّدت للمكان وشخوصه وأحداثه، "كالسكّرية"، و"بين القصرين"،
و"قصر الشوق"، وغيرها من الأعمال الخالدة، خاصّة وأن عامل الاستقبال
بزيّه الفاطمي الأحمر المميز كان يستقبلني بابتسامة عريضة.
عند دخولك المكان تشعر أنك عدت إلى الوراء مئات السنين، فباب
المطعم أثري ذو نقوشات إسلامية عتيقة، والمكان مفروش بالأرضيات الرخامية ذات النقوش
المميزة، والسقف مضاء بالنجف النحاسي المزين بالآيات القرآنية، والمقهى يتكون من
بهو أمامي، وعدة أركان ثنائية هنا وهناك، ومطعم واسع يتسع لأكثر من 150
فرداً.
كعادتي في كل زيارة للمقهى أختار الركن الأيمن من البهو،
حيث الشجرة الوحيدة، وحيث يمكنك أن تستمتع بتأمّل المكان، ومراقبة زبائنه الذين هم
خليط من مصريين وعرب وأجانب يجمعهم حب التراث، وتطربهم أجواءه على أنغام
العود وايقاع القانون، ويستلذون أطباقه الشرقية من فول وفلافل وفتّة وكوارع ومحاشي
وكشري ، وأطباق أخرى يغامر بعضهم بالسفر من أجلها كي يتذوقها في مسمط شعبي بحيّ مصريّ
عريق.
مستمتعاً بأغاني الفرقة الموسيقية الشرقيّة التي تتصدر
البهو، والتي هي مزيج من أغاني الحامولي وعبد الوهاب و"ثومة"، وحليم،
ووردة، وغيرهم من أساطين الطرب. مستلذّاً بطعم (السحلب) التقليدي الذي أحضر في كوب أزرق لا يختلف تصميمه عمّا
نراه من آنية في قصور الأفلام التاريخية ، طافت عليّ ذكريات كثيرة تركتها في هذا
الركن، فهنا جلست لأول مرّة زرت فيها المقهى قبل سنوات حينما كنت فتى غريراً لا
خبرة لي بشوارع المحروسة وحواريها، وهنا ارتكبت يوماً ما حماقة التغنّي بشعر الميدان
مع صديق من وادي بني خالد وسط دهشة المحيطين بنا، وهنا تذوقت (الممبار) - وهي وجبة
مصرية شعبية تشبه (المعاصيب) - لأول مرّة، وهنا ضحكت كثيراً مع شلّة رفاق (صورييّن)
على عجوز خليجي يدعى الشيخ منصور برأسه الضخم، وكرشه البارز، وهو نموذج للعجوز
الخليجي المتصابي الذي يجعله المحيطين به من لاعقي النقود والأحذية يصدّق أنّه شيخ،
وأنّه وسيم، وأنه في شرخ الشباب، وأنّه الأهم في أي مكان تحط فيه رجليه، بينما هو
في الحقيقة عكس ذلك تماماً. يومها اختلف اثنان من الشلّة حول سبب ضخامة رأسه، وهل
السبب يعود إلى كميّة (الخمر) التي شربها ذلك اليوم، أم بسبب تعاطيه لنوع رديء من
حشيش أوهمه أحد (شلّة الأنس) أنّه كفيل بأن يعيده إلى صباه. هنا في نفس المكان سيتعلق
أحد أصدقائي بعد عام من الآن بحسناء يمنية اتفقنا على تسميتها فيما بعد باسم
"نجيب محفوظ".
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.