الاثنين، 26 أغسطس 2013

بيضة الإسلام..بصفار ملوّث

وكأنّي أزور عزيزاً أخشى ألّا ألقاه بعد أن أقعدته العلل، وتكالبت عليه الأمراض، كانت زيارتي الأخيرة قبل بضعة أيّام لحارة (العقر) التاريخية في قلب بيضة الإسلام و(تخت العرب) نزوى.
لم تنقض على زيارتي الأولى للحارة ثلاثة أشهر حتّى قرّرت زيارتها مرّة أخرى. لا أدر ما السّبب الذي جعلني أفعل ذلك وأنا الذي لا أجد الوقت الكافي للنوم في زحمة المشاغل الدنيويّة المتعدّدة، فما بالكم بترف السّياحة والتنقل بين مدينة وأخرى.

هل هو الحنين الذي راودني لتلك الحارة بعد زيارتي السّابقة لها وتجوّلي في أركانها، هل هو كتاب (النّمير) الذي عرض لكثير من القصص والمواقف والشواهد المتعلّقة بتلك الحارة، والذي أشكّ أنّ شبابنا قد سمعوا عنه بمقدار شكّي في مدى قيام الجهات المعنيّة بالاحتفاء بالكتاب والباحث برغم الجهد (الخرافي) المبذول في إعداده، وبرغم أجزاءه العشرة، في النهاية هو ليس بفنّان قدير، ولا لاعب شهير، ولا شاعر متزلّف، هو مجرّد.. باحث.

هل هو العرض المرئي الذّي قدّمته إحدى طالباتي في الكلّيّة والمتعلّق بآثار حارة العقر، والذي أثار في داخلي كثيراً من الشّجن المغلّف بالأسى خاصّة وأنّها ختمت عرضها المرئي بصورة آسيوي يقف بابتسامته العريضة وشعره المسبسب وسط إحدى الحارات الضيّقة بينما كومة من المخلّفات تسدّ مدخل الحارة . يبدو أنّهم لم يكتفوا بمقاسمتنا في الرزق ومزاحمتنا في الشوارع وإفساد غذائنا، فقرروا هذه المرّة مشاركتنا في ما تبقّى لنا من تراث. لم يبق لهذا الآسيوي سوى أن يخرج لسانه ليقول لنا موتوا بغيضكم. 

هذه المرّة حملت أطفالي معي، ربّما لأمنحهم فرصة مشاهدة معالم قد لا يروها بعد بضعة سنوات من الآن لأنّها ستكون أثراً بعد عين، وكي لا تتضارب المعلومات في أذهانهم ويشعروا بالحيرة عندما يخبرهم معلّم التّاريخ في مدرستهم عن مسمّيات ومصطلحات غريبة وغامضة كالقلاع والحصون والحارات القديمة، وربّما لكي أعفي نفسي من لومهم وعتابهم جرّاء أيّة حالة هذيان أو جنون قد تنتابني مستقبلاً بسبب الهلاوس التي باتت تراودني بين الفينة والأخرى وأنا أشاهد ما يؤول إليه جزء كبير من تاريخنا المادّي بيد أبناءه المتعلّمين الحاصلين على أعلى الشّهادات، والذين هم بحاجة إلى نسخة من كتاب (النّمير) كي يعرفوا جهود أجدادهم الذين لم يتعلموا في مدارس خاصّة، ولم يمنحوا بعثات غربيّة مفتوحة، ولم يحتسوا قهوة الصباح في جادّة باريسيّة أو شارع لندني. هؤلاء الأجداد بثيابهم الملتصقة بالعرق، وبعيونهم التي جفّ ماؤها من كثرة القراءة ونسخ الكتب، تركوا وصايا عديدة تتعلق بعمارة المساجد والأفلاج والأسوار، لم ينتظروا قانون نزع ملكيّة، ولا لجان تثمين، ولا أن يظهر برلماني ألمعيّ يحمل على عاتقه تراث بلده، يجعله قضيته الشاغلة، ويقترح من أجل الحفاظ عليه القوانين المناسبة، ويأتي بنماذج لأفكار مشابهة طبّقت في دول لها نفس التراث والحضارة.

ماذا تبقّى منك أيّتها الحارة العتيقة، والتي كنت في يوم ما (مطبخ) عمان السّياسي والتّاريخي إن جاز لنا التعبير، في يوم من الأيّام كان هنا سور عظيم بني قبل أكثر من ألف عام، يضمّ أربعة أبواب وأربعة عشر برجاَ متوزّعة على طول امتداده. هل تبقّى شيء من هذا السّور.

ترى من يسكن الآن بيت ابن مداد النّاعبيّ؟ هل هو راجو أم كومار أم عبد الشكور، وهل تبقى شيء من آثار المدرسة الشرعية التي بناها العلّامة أبي عبد الله عثمان الأصم، وأين هي مساجد غليفقا والشجبي والحجارة والفرض، وأيّ أفلام ماجنة تعرض الآن في ظل الأضواء الخافتة ليلاّ، وهي ذات الأضواء التي نسخت عليها أمّهات الكتب في نفس المكان وفي غير الزمان. 

كانت هنا حارات تدعى كرادسين، وخراسين، أنجبت عشرات العلماء والزّهّاد والأدباء والنسّاخ، هل ما زالت هذه الحارات باقية، وهل تبقّى أحد من ذرّيّة الشيخ الولي سليمان بن محمد الخراسيني.

هنا يوجد مسجد يدعى (الشواذنة) بني في العام 7 هـ، ورمم عدة مرات، شهد محرابه عرصات علم وتقوى، وسهر على سراجه الخافت عشرات العبّاد، وبكى في جنباته علماء كان همّهم تقوى الله ونيل رضاه. هل سيبقى هذا المسجد شامخاً يقاوم التخلّف الفكري وهو يرى أحبّاؤه يتساقطون أثراً تلو الآخر؟

نعم.. إن عين (العقر) أصبحت بلا هدب، تراث يهدّ ويتساقط، وتتساقط معه عشرات الشواهد ، وعلى مرأى العين هناك جمهور يشاهد ما يحدث أمامه بصمت، للأسف لا يوجد هدب يمنع هذا الغبار من أذى العين.

إنّنا نسمع ونقرأ كل يوم عن عشرات الحملات والجمعيّات التطوّعيّة التي تدعو للبر والإحسان ومساعدة الفقراء والمحتاجين. ألا يمكن أن نرى حملة تدعو إلى المحافظة على ما تبقّى من تراث؟ ألا يمكن أن نعتبر أن هذه الشواهد الأثرية هي بحاجة كذلك إلى من يحسن إليها ويبرّ بها لدورها الحضاري والفكري الكبير؟

عندما سألت طلابي بعد انتهاء عرض زميلتهم المرئي حول كيفية الحفاظ على ما تبقّى من ملامح (العقر) وغيرها من الحارات العمانيّة كان جواب أحد الطلّاب الظرفاء: الحل الأمثل هو أن تطالب إحدى الدّول المجاورة بهذه الحارة، وتدّعي ملكيّتها، ومن ثمّ تؤول إليهم، فيقوموا بترميمها، ويجعلونها قبلة للسيّاح وروّاد العلم والباحثين عن التاريخ، فتستعيد شيئاّ من عبقها ومكانتها، وبعدها يمكن لنا أن نطالب بها ونستعيدها، ويا دار ما دخلتك شر.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الاثنين، 19 أغسطس 2013

وترجّل.. السميط

( وترجّل.. السّميط)


بعد نيف وستين عاماً طاهرة، رحل (ماسح دموع أطفال أفريقيا وجابر عثرات شيوخهم). وكما أتى في صمت، ففي صمت رحل كذلك، وكأنّه آثر ألا يشغلنا عن متابعة الدراما السوداء التي نعيشها في أرجاء متفرقة من وطننا العربيّ الكبير.

تحكي الرّواية أنّه وفي ظل انشغال معشر العرب والمسلمين بخلافاتهم الدّاخليّة، وصراعاتهم السّلطويّة، ولهث شبابهم وبناتهم المحموم نحو التقليد الأعمى للغرب في كلّ ما هو غير مجد ومفيد، كان هناك فارس يدعى عبد الرحمن بن حمود السّميط أخذ على عاتقه همّاً من هموم أمّته، فخصّص له وقته وماله وجلّ حياته، ترك قصره الوثير وحياة الدّعة والترف الذي يعيشها بنو قومه، وارتضى بخيمة في مجاهل أفريقيا، مشاركاً أطفالها وشيوخها كسرة خبز يراها أطيب من ولائم أعراسهم ومناسباتهم، وجرعة ماء من بئر حفر لتوّه يتلذّذ بشربها وكأنّها الماء الزلال.

في مجتمع الزّمن الجميل والإحساس بالآخر نشأ السّميط، وتشرّب من قيم مجتمعه التي كانت تحث على فعل الخير دون انتظار المقابل. كثير من الروايات التي تتحدّث عن ممارسته لعمل الخير منذ نعومة أظفاره، ففي المرحلة الثانوية أراد مع بعض أصدقائه أن يقوموا بعمل تطوعي، فقاموا بجمع مبلغ من المال من مصروفهم اليومي واشتروا سيارة، وذلك لنقل العمال البسطاء إلى أماكن عملهم أو إلى بيوتهم دون مقابل. وفي الجامعة كان يخصص جزءاً من مصروفه لشراء الكتيبات الإسلامية ليقوم بتوزيعها على المساجد، وعندما حصل على منحة دراسية من حكومة بلده كان لا يأكل إلا وجبة واحدة وكان يستكثر على نفسه أن ينام على سرير رغم أن ثمنه لا يتجاوز دينارين معتبراً ذلك نوعاً من الرفاهية. وأثناء دراساته العليا في الغرب كان يجمع من كل طالب مسلم دولارًا شهريا ثم يقوم بطباعة الكتيبات ويقوم بتوصيلها إلى جنوب شرق آسيا وأفريقيا.  

بعد تخرجه من جامعة بغداد، وقبل أن يتّجه إلى المجال الخيري التّطوّعيّ، زاول مهنة الطبّ كطبيب متخصص في الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي، والتي استكمل فيها دراساته العليا، وحصل فيها على أعلى الدرجات العلميّة، وكان طوال عمله كطبيب مثالاً للطبيب الإنسان الذي لا يكتفي بتقديم العلاج لمرضاه، بل يتعدّى ذلك إلى متابعة ظروفهم وأحوالهم، وكان لهذا العمل تأثير كبير على مسيرته المستقبليّة في مجال العمل الاجتماعيّ فيما بعد.

لجان وهيئات ومنظّمات خيريّة شارك السّميط في تأسيسها وعضويّتها طوال تاريخه الحافل في مجال الدّعوة والإغاثة كجمعية الأطباء المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وجمعية الطلبة المسلمين في مونتريال، ولجنة مسلمي ملاوي في الكويت، واللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة، والهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، والمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وجمعية النجاة الخيرية الكويتية، وجمعية الهلال الأحمر الكويتي، ومنظمة الدعوة الإسلامية في السودان، كما تولّى رئاسة مجلس إدارة كلية التربية في زنجبار، وكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في كينيا، وكان رئيساً لتحرير مجلة الكوثر المتخصصة في الشأن الأفريقي، وكل ذلك يشير إلى مدى الدور الكبير الذي لعبه، والذي لم يقتصر على مجال تطوّعيّ بعينه بل كان شاملاً لكثير من المجالات الدينيّة والتربوية والفكرية والاقتصاديّة والاجتماعيّة.

بدأت علاقته بأفريقيا والتي استمرت لأكثر من ربع قرن عندما ذهب للإشراف على بناء مسجد لإحدى المحسنات الكويتيات في ملاوي، فتأثّر لرؤية الملايين الذين يقتلهم الجوع والفقر والجهل والتخلف والمرض، وتضايق عندما لمس عن قرب مدى النشاط التبشيري الذي تقوم به جهات غربية مستغلّة عوامل الجوع والفقر والجهل لدى أبناء هذا البلد وما حوله من البلدان المجاورة، بعدها عاهد نفسه على المضيّ قدماّ في الطريق الذي اختاره مهما كلّفه ذلك من وقت ومال، ومهما لاقى تجاهه من مصاعب وعوائق، فكانت رحلة عطاء امتدّت لأكثر من ربع قرن استحق من خلالها أن يطلق عليه "فاتح افريقيا"، و"خادم أفريقيا"، و"رجل من الزمن النبيل".

(من أجل أن تمسح دمعة يتيم مسلم)، (من أجل رعاية قرية مسلمة تعليمياً أو صحياً أو اجتماعياً)، (من أجل حفر أو صيانة بئر مياه للشرب)، (من أجل بناء أو صيانة مدرسة)، (من أجل رعاية الآلاف من المتشردين)، (من أجل مواجهة الخطر التنصيري الزاحف)، كلّها نماذج من الشعارات ومحدّدات الطريق التي سلكه السميط والتي من أجلها ركّز جلّ نشاطه الخيريّ، والتي تمخّض عنه آلاف المشاريع في مجال بناء المساجد والمستشفيات والمستوصفات والمدارس، ورعاية الأيتام، وحفر الآبار، ورعاية الدّعاة والمعلّمين، وتوزيع المصاحف والأغذية، وتنفيذ المشاريع الزّراعيّة والحيوانيّة، وتقديم المنح التعليمية للدراسات العليا.

حضوره الطاغي في أوساط الفقراء والمحتاجين عرّضه للكثير من محاولات القتل والتصفية، هذا عدا المعوّقات الأخرى والتي تمتلئ بها القارّة السمراء كلدغات الأفاعي السّامّة، والبعوض، وشحّ الماء، وانقطاع الكهرباء، وغيرها، ولكن كل ذلك لم يثنيه عن مواصلة، وكانت سلسلة رحلاته في أدغال أفريقيا وأهوال التنقل في غاباتها قصصاً تصلح كسيناريوهات لقصص وروايات ومسلسلات وأفلام تعرض نماذج رائعة من قصص التحدّي والكفاح والاصرار، وتحدّي المصاعب في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود.

كان طوال مسيرته في العمل الخيريّ ينادي الأثرياء العرب بالالتفات إلى مشاكل المسلمين في العالم، وعدم اقتصار تبرّعاتهم على مشاريع اقليمية محدّدة، وكان يرى أن زكاة أموال أثرياء العرب تكفي لسد حاجة 250 مليون مسلم في كلّ عام.

حقاً.. يرحل الكبار ولا يغادرون. يرحل الكبار ويبقون معنا.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com



الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

هنيئاً لكم الجنّة


عندما دعاني الصديق عبد الله الساعدي لتناول وجبة الإفطار في بيت المحسن الكبير الشيخ سهيل بهوان كان يتجاذبني أمران اثنان: الأول أنّني لن أر جديداّ في الأمر، فالشيخ معروف بكرمه وحبّه للبذل والمساعدة، وأعماله الخيريّة لا تخفى على أحد، وموائد الإفطار الرمضانية التي يقيمها كثيرة ومتنوّعة، وتكاد تغطي عدداً كبيراً من المساجد، والسّكنات، والمؤسسات الاجتماعية الحكوميّة والخاصّة وغيرها. أمّا الأمر الآخر فهو اعتقادي أن ذهابي يعدّ فرصة مثاليّة قد لا تتكرّر كي أرى شيئاً جديداً من طريقة حياة الأغنياء وسلوكيّاتهم، لذا فقد انتصر حبّ الفضول، والرغبة في التجربة، ورافقت صديقي ذات مغربيّة رمضانيّة.

   ولكن ما رأيته من مشاهد بعد ولوج سيارتنا من بوّابة البيت وحتّى مغادرتها كان مذهلاً بالنسبة لي في ظل الصورة الذهنية المرسومة لديّ حول الأغنياء وطريقة معيشتهم، فما إن ترجّلت من سيّارة مرافقي، وانضممت إلى إحدى المجموعات (الكثيرة) التي ملأت باحة البيت بعد وصولنا متأخرين عن موعد الإفطار، إلّا وأفاجأ بأحدهم يقدّم لي الماء والرطب، وآخر يصبّ لي فنجاناّ من القهوة في حميمية زائدة. أسأل مرافقي عن هؤلاء فيجيبني بابتسامة: هؤلاء أحمد ( أو حمد كما يعرف بين العامّة) وسعد أبناء الشيخ.

أبناء الشيخ يتركون الفرش الوثيرة، والموائد الفخمة، والأطباق المذهّبة، ويفطرون هنا مع البقية ويأكلون نفس ما يأكله الآخرون، ويجلسون القرفصاء مثلهم، وقد (تتوسخ) ملابسهم الغالية من أثر الجدار الذي يسندون عليه ظهورهم، أو بسبب نقطة قهوة طائشة؟ هكذا كنت أحدّث نفسي ومرافقي.
يبتسم عبد الله مرة أخرى وهو يقول: لم تر شيئاّ بعد. بالمناسبة هم يفطرون هنا في نفس المكان كلّ يوم، ويجلسون على نفس الرصيف الذي تراه، ويأكلون من نفس الطّعام الذي يقدّم للآخرين دون تمييز أو تفرقة أو محاباة. هكذا تعلّموا من والدهم.

نفرغ من أداء صلاة المغرب جماعة مع بقية الموجودين، فننتقل إلى الخيمة الكبيرة التي أعدّت لتناول العشاء واستكمال بقية المائدة. الخيمة ضخمة جدّاً بحيث أعدّت لتستقبل الآلاف من المدعوين، صفوف طويلة متراصّة تنتظر الطعام، وشباب عماني في عمر الورود يقوم بخدمة الموجودين، وتقديم الوجبات لهم، واستكمال النواقص. أسأل مرافقي للمرة الثالثة: هل هؤلاء الشباب متطوعون أم يعملون بأجر؟ وهل هم موظفون لدى الشيخ أم تابعين لشركة خاصّة.

يبتسم مرافقي للمرّة الثالثة أيضاّ وهو يقول: قلت لك إنّك لم تر شيئاّ بعد، هؤلاء الشباب الذين رأيتهم هم أحفاد الشيخ، وهم تعوّدوا على هذا العمل منذ نعومة أظفارهم، وهم من يقومون بخدمة الصائمين كلّ يوم هنا، ولا يجدون عيباً أو غضاضة في ذلك.

ولكنهم متواضعون، طيّبون، بسطاء، وملابسهم عاديّة كملابسي وملابسك، ويسلّمون عليك بأياديهم الاثنتين، ولا يخجلون من حمل أواني الأكل الفارغة أو المملوءة.

ردّ عليّ باستغراب: وهل لابدّ أن يكونوا عكس ذلك لمجرّد أنهم أغنياء؟ هل لابدّ أن يكونوا متعالين متكبّرين متباهين بالنّعمة غير مبالين لمجرّد أنّهم أبناء أو أحفاد فلان الغني؟ هي التربية يا صديقي.
أجلس وحيداَ بطرف الخيمة مراقباّ المشهد، تاركاّ لخيالي العنان لوصف ما يحدث أمامي. يلمحني أحدهم فيقترب مني ويجلس بجواري. هو أحمد الابن الأكبر للشيخ والذي رأيته لأول مرة قبل دقائق عندما كان يقدّم لي الماء والرطب كي (أسنّ) الفطرة.

يتباسط معي أحمد في الكلام وكأنّه يعرفني منذ سنوات عديدة، بل وكأنّني أنا – وليس هو - الرجل الناجح المعروف الذي يودّ الكثيرون لو أنهم لمحوه فقط في مكان عام فما بالكم بالحديث معه والجلوس بجواره. أي تربية هذه التي غرستها يا سهيل بهوان في نفوس أبنائك وأحفادك؟ هل هي جيناتك انتقلت إليهم؟ نفس السموّ الروحاني، ونفس التواضع العجيب، ونفس القناعة.

أقول له: ما شاء الله، عدد الموجودين كبير، بارك الله لكم وجعله في ميزان حسناتكم.
ينظر أحمد للصفوف التي تملأ المكان وهو يقول: "للأسف فالعدد قليل اليوم بسبب اقتراب العيد، في الأيام الماضية كان العدد أكثر من هذا بكثير"، ثم يكمل: "كلّ أموال الدنيا لا تساوي مشهداً كهذا لديّ، الدنيا زائلة، ولن يبق لنا منها سوى العمل الصالح، هذا مال الله ونحن محاسبون عنه يوم القيامة، وعسى أن يقدّرنا الله على فعل الخير".

كان محدّثي يرتدي دشداشة قطنية عاديّة، وشماغ لا تتجاوز قيمته النقديّة عدد أصابع اليد من الريالات، ملابس بسيطة لا تختلف عن ملابس أي شخص قد تقابله في العمل أو المسجد أو الشارع، ملابس لم يجلب قماشها من لندن، ولم يصمّمها بيت أزياء ايطالي، ولم يحكها خيّاط باريسي. بل لن أبالغ إن قلت أنها أكثر بساطة من ملابس كثير من شباب اليوم الذين تفوق أرقام مديونياتهم البنكيّة عدد شعر رأسهم.

وأنا أستمع لحديثه وتواضعه وبساطته وأريحيّته وعدم تكلّفه كنت أسائل نفسي: هل أنا أجلس بالفعل أمام شخص يملك الملايين، ويستطيع لو أراد أن يأكل أو يلبس أو يصاحب ما يشاء ومن يشاء وفي أي وقت يشاء؟ هل هذا هو ابن (الأسطورة) سهيل بهوان الذي وصلت شهرته الآفاق كشخصية ناجحة في عالم المال والاقتصاد، ورجل الخير الذي تتحدث بسيرته العطرة الركبان؟ أعرف أشخاصاً يتغيًرون بعد أول منصب أو أوّل ألف يدخل في حسابهم، فما بال من يملك الملايين لم تغيره ملايينه؟ وهل كل الأغنياء مثله أم هي...التربية.

بعد أن فرغ الجميع من تناول بقيّة الإفطار، يدعوني أحمد كي نستكمل افطارنا بداخل البيت، فهم لا يكملونه إلاّ بعد انتهاء آخر الموجودين بالخيمة. أخيراً ستسنح لي الفرصة أن أتناول طعاماً مع أحد كبار الأغنياء، إذاّ لابد أن يكون طعاماّ مغايراّ لما تناوله الآخرين. كيف لا وأنا أتحدث عن الإفطار الخاص لعائلة الشيخ، هكذا كانت تحدّثني نفسي ونحن في الطريق إلى أحد مجالس البيت العامر.

ندخل المجلس وإذا بإفطار عاديّ لا يختلف عمّا أتناوله كل يوم في منزلي، بل لن أبالغ إن قلت بأن الإفطار الجماعي الموجود بالخيمة أكثر تنوّعاّ منه. بعض الشوربة والأرز والسمك والفواكه والخفائف، أراقب أحمد وقد شمّر كمّ دشداشته وهو يأكل طعامه البسيط بيديه، دون ملاعق أو سكاكين أو شوك. أهمس لمرافقي: هل هذا هو الأكل الذي يتناوله أفراد عائلة الشيخ؟ يرد عليّ: وهل هناك طعاماً آخر غير الذي تراه؟ هل لابد من ( السيمون فيميه)، والكافيار، والسلمون المدخّن لمجرّد أنّهم أغنياء؟ هي القناعة يا صديقي.

لله درّكم أيها الأخيار.. أنتم لا تحتاجون إلى مقالي المتواضع هذا، يكفيكم دعاء الأرامل والأيتام، يكفيكم تضرّع  الشيوخ والعجائز، يكفيكم ذكر الناس لكم بالخير في كل محفل، تكفيكم أشياء كثيرة قمتم ولازلتم وستظلّون تقومون بها ما دمتم تؤمنون بمبادئ تناساها الكثيرون ممن وهبهم ربّهم من خيره فمنّوا بفضلهم، مبادئ أساسها العطاء، وقوامها الإحساس بالآخر، وهدفها نيل رضى الله .  
بعد أن غادرت بوّابة البيت طلبت من عبد الله أن يأخذني في جولة بالمنطقة المحيطة الراقية والتي يسكنها عدد من كبار الشخصيات من رجال السياسة والاقتصاد علّني أجد منظراً مشابهاً لما رأيت، أو ألمح آثار حركة دائبة، فلم أجد سوى أشباح بيوت يكاد الصمت يلفّها، ولولا ظلال أنوار جدران خافتة لاعتقدت أن المنطقة مهجورة. من يدري، ربما كان أصحابها معزومين اليوم صدفة في مكان آخر، أو ربّما كانوا في سفر طويل. ربّما.

د. محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com