الثلاثاء، 14 مايو 2013

"ينبئونك عن سحرها"


"ينبئونك عن سحرها"

عندما قررت إعادة اكتشاف التاريخ من خلال زيارتي لنزوى، كانت ردة فعل بعض المعارف والأصدقاء صادمة ومحبطة: نزوى؟ شو تسوي هناك؟ الناس تروح دبي وانت تروح نزوى؟ ما سادتنك مسقط ومجمعاتها؟ زين احذر لا يسحروك.

تاركاً خلفي كل تلك الترّهات، أغادر مسقط صبيحة يوم خميس خريفي سالكاً طريق الداخلية. يوماً ما كنا نمر من هنا في طريقنا إلى مسقط. كثيراً ما توقفنا للصلاة في بدبد، وكم من مرة اشترينا رطباً من فنجا، ها هي سمائل التي عرفناها صغاراً لأول مرة مع قصيدة أبي سرور الجامعي. أمر على ازكي، حيث نزار واليمن وجرنان وتاريخ يطول. هنا نشأ شاعر عظيم اسمه أبو الأحول سالم الدرمكي. بالرغم من أنه كان ضريراً إلا أنه قال قصيدة تعد من عيون الشعر العربي، والتي يقول مطلعها:  
ما بين بابي عين سعنة واليمن... سوق تباع بها القلوب بلا ثمن
تجروا بما احتكروا به وتحكموا... فجواب من يستام منهم لا ولن

أخيراً أصل إلى نزوى بيضة الإسلام وتخت العرب. محطتي الأولى سوقها القديم المجاور للقلعة والجامع الشهير. قبل سنوات طويلة من الآن كان هنا سوق عربي شهير، سوق لا يقل أهمية عن أسواق بغداد ودمشق والقاهرة، ولا ينقص أثراً عن أسواق عكاظ ودبا ومجنّة والمربد وذي المجاز.

كان السوق وقت زيارتي له خال إلا من شاب (متملل) يبيع ملابس وأحذية تم استيرادها من الصين، وشيخ ( ثمانيني ) أعطت جفونه ظلاً لعينيه، ودلت تجاعيد وجهه على قوة تاريخ عاصره، بينما تنطلق من عينيه نظرة عميقة يستحضر من خلالها صدى لأناس مرت على هذا المكان، وقوافل كانت محملة بشتى أنواع البضائع، وعبق الزعفران الأصلي الذي حل الزعفران الإيراني بديلاً له في المحل الذي يقف على بابه، وصوت مناداة الفضة والأسلحة التقليدية، ونغمة خرير الفلج وهو يتوضأ منه كل يوم، وحكاوي كثيرة عن أحداث عاصرها في ماضيه القريب، لا شيء آخر في السوق سواهما، ويبدو أن السوق سيعتزل التاريخ بعد أول وظيفة حكومية تعرض على الشاب، ووفاة العجوز بعد رحلة عمر طويلة.

في القلعة كانت محطتي التالية. لا يمكن أن تزور نزوى دون أن تعرج على قلعتها الأسطورية بشكلها الدائري الفريد. هنا تسمع حديث الجدران للأذن، من هنا مر الإمام في طريقه إلى غرفة المناجاة، وهنا كان يسقط العسل والزيت على كل من تسول له نفسه مهاجمة القلعة، وهناك كانت تخزن المؤونة. ثم يختفي الهاجس عندما ترى سائحاً أجنبياً يمر بجوارك يود أن يعرف هذه الحكاوي، وهو يتساءل: ألا يمكنني أن أعرف ما تعرفونه؟ ولا إجابة. عند خروجه منها لن يأخذ تاريخ البلد معه، ولم يعرف معنى كلمة "شهباء"، ولا كيف شق هذا البئر وسط القلعة، أو كيف نقل ذاك المدفع إلى سطحها. فقط سيأخذ معه أفكاراً مشوشة عن هلوسة جدران قديمة. لا أثر لمرشد، وكذلك لا ظل لسائح عماني. هم الأجانب وحدهم من يعرف قيمة تاريخنا.

إلى حارة العقر أتجه. هنا صنعت كثيراً من أساطير الحكايات العمانية القديمة. هنا تشم رائحة نبات النخيل المختلط بتربة الأرض، و"الأمبا" قبل استواءه، ويسيل لعابك وأنت تتأمل ثمرة "سفرجل" أو "نارنج" متدلية . هنا حكاوي وكيل فلج "ضوت" وهو يحكي عن براعة العمانيين في توزيع المياه بطرق مدروسة وبهندسة دقيقة وضعت لها ترتيبات رياضية واجتماعية محددة. من هنا مر طفل بملابسه التقليدية الزاهية وهو في طريقه إلى مدرسة القرآن التي ما زالت بقاياها حاضرة، وفي ذلك الركن كانت هناك فتيات يلعبن لعبة شعبية انقرضت الآن بعد أن حلت محلها ألعاب الكترونية جافة، بينما يسمع لصوت خلاخيلهن نغمة مميزة تنبئك عن صائغ عماني ماهر. ماذا تبقى من حارة العقر، ومتى ستلحق برفيقاتها من الحارات الأخرى بالسلطنة والتي تحولت إلى أطلال مشوهة، تسكنها الحيوانات الضالة، ويتخذ منها بعض عديمي النفوس من العمالة الوافدة أوكاراً للأعمال المنافية.

في نزوى رأيت التاريخ يتجلى في أحسن صوره، هناك في حصن سليط، وبرج القرن، ومساجد الشواذنة، وسعال، والشيخ، والأئمة، وفلج دارس وما أدراك ما فلج دارس، بسواقيه التي تمتد حاملة معها سلام قرية لقرية، وفلج (الغنتق) بعمقه الذي يروي أساطير قوة وعزيمة من حفروه، ووادي (كلبوه) حيث قبر الوارث بن كعب الذي غامر بحياته من أجل مساجينه خوفاً عليهم من اجتياح الوادي لهم وهو يقول: "أمانتي وأنا مسئول عنهم غداً" وارتمى إليهم لينجيهم مهما استطاع، فطغى عليه السيل فحمله مع مسجانيه، فذهبت حكايته أسطورة تتناقلها الأجيال.

يقولون إن نزوى ستكون عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2015، فهل ستكون مناسبة للملمة بعض ما تبقى من تاريخنا، وهل سيعصر مسئولينا بعضاً من الليمون على أنفسهم ويقررون إعادة شيئاً من الروح لهذا التاريخ. هم يسافرون كثيراً لغرض أو بدونه، لذا فلن تعيهم أفكار التطوير. تجربة قرية صغيرة من قرى أية دولة اسكندنافية بعيدة كافية لتحويل العقر أو سعال أو سمد إلى لوحة فنية مغايرة عن وضعها الحالي، فما بالكم لو أخذنا تجارب ناجحة لمدن شرقية تتشابه ملامحها مع ملامح مدننا وحاراتنا، كحارات دمشق القديمة، والقاهرة الفاطمية وغيرها. هو الفكر أولاً ثم الرغبة والإرادة.

 لو توقفت زيارات مسئولينا الخارجية مع محاسيبهم لمدة عام واحد فقط لتمكنا من ترميم نصف حارات عمان القديمة، بل ولجلبنا منها دخلاً سنوياً يمكن من خلاله أن ننفقه في مشاريع حضارية أخرى.

ترى كيف سيكون الاحتفال بهذه المناسبة، وكيف سنتعامل مع ضيوف المناسبة، هل سيسكنون في (خان) يطل على القلعة، وهل سيحتسون القهوة العمانية بنكهة ماء الورد الأصلي في مقهى تقليدي بالعقر، وهل سيتذوقون أصالة المطبخ العماني في (مسمط) بسعال، وهل سيزورون دارة محمد بن روح الكندي، وهل سيبحثون في مكتبة أحمد بن مداد الناعبي، وهل ستصيبهم الدهشة وهم يعدون أجزاء (بيان الشرع) لمحمد بن ابراهيم الكندي بأجزائه التسعين، وهل سيحضرون جلسة علم تقليدية في أحد أروقة مساجد نزوى القديمة حيث تخرجت أسماء كثيرة  أضافت الكثير للمدرسة الفكرية العمانية. أم أن الاحتفال لن يتجاوز نصب خيمة كبيرة وبعض الكراسي أمام باب القلعة وإقامة أمسيات شعرية ونقدية هنا وهناك، وبضعة زيارات لبعض المعالم، ثم ينتهي كل شيء والسلام.

نعم لقد وجدت سحراً في نزوى. ولكنه سحر من نوع آخر، هو سحر الإنسان العماني الذي شق الصخر ليستخرج الماء منه، والذي شكـّل من الطين لوحات جميلة على شكل قلاع وحصون ومدن مسوّرة، والذي حيّر العلماء بمؤلفاته التي شملت كافة المجالات والمناحي. 

د.محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.