الاثنين، 17 أبريل 2017

(في بلاد القدّيس جورج)

بعد فترة تردّد استمرّت لأكثر من عامين؛ قررت أخيراً الذهاب إلى جورجيا عروسة بلاد القوقاز بعد عمليّة مفاضلة مع دول أخرى شبيهة حسمت لصالح بلاد العم جورج لأسباب عدّة من بينها رغبتي في تغيير وجهتي الشخصيّة والعائليّة من شرق آسيا والبلاد العربيّة إلى أوروبّا، وقرب المسافة الزمنيّة، ورخص تذكرة السفر، وعدم الحاجة إلى تأشيرة دخول، بالإضافة إلى شهادة عدد من المعارف والمهتمين بالسفر ممن زاروا هذا البلد وكتبوا عن تجربة ايجابيّة شجعتني على أن (أعقلها وأتوكّل) كما يقول المثل العربيّ.

وعلى الرغم من تطمينات العديد ممن زار هذه الجمهورية الجبلية التي تقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود ومّمن يعيش فيها كذلك؛ إلا أنني كنت أشعر بقلق خفيّ من التجربة، فأنا أعلم الأوضاع والظروف في بلدان جنوب شرق آسيا علم اليقين، وأحفظ بعض بلدان السياحة العربيّة ككفّ يدي، وسبق لي أن زرت تركيا القريبة وتوغّلت في مجاهل إسطنبول وبورصه ويلوا، أما جورجيا وما جاورها فمازالت معلوماتي عن أوضاعها الداخليّة شحيحة، وما زالت فكرة تأثير الفترة الاشتراكية التي امتدت لأكثر من 80 عاماً جاثمة على أفكار صدري، وما زلت أعتقد أنني سأجد مباني سكنيّة كئيبة، وحافلات نقل عموميّة عفا عليها الزمن، وأشجارٍ عارية، ورجال بشوارب كثيفة يرتدون الجاكيتات الرماديّة الطويلة، ويتلحّفون البيرية وغطاء الرأس المصنوع من الفرو ويحتسون الفودكا على الدوام!

وبرغم كل هذا التخوّف وذاك القلق؛ إلا أنّني قررت المضيّ قدماً إلى النهاية، وأن أخوض التجربة كاملة، فماذا يعني السفر دون مغامرة؟! وماذا سأترك لذكرياتي إن لم أعاني؟! ثم أليست الحياة ذاتها سوى رحلة قد تطول أو تقصر؟! و"أقدارنا بيد السماء يا نهر البنفسج" على رأي الأديب زكريّا الحجاوي!
وكعادتي في كل سفرة شخصيّة إلى بلدٍ أزوره لأول مرّة؛ حملت حقيبتي على كتفي تاركاً كل شيء للظروف برغم اطّلاعي على كثير مما يتعلق بالبلد فكرياً واقتصادياً واجتماعيّاً، وبرغم محاولتي تكوين فكرة شاملة عن الأوضاع المعيشيّة هناك، فما أروع أن تكتشف كل شيء بنفسك، وما أجمل أن تقوم بعمل المقارنات بين ما كنت تعتقده وتراه وبين ما وجدته على الحقيقة!

عند وصولي ليلاً إلى مطار تبليسي لم تستغرق مدة الانتهاء من إجراءات الدخول أكثر من خمسة دقائق بالتمام والكمال قسّمت ما بين عبوري الممرّ الواصل بين باب الطائرة إلى (كاونتر) ختم الجوازات، ثم الهبوط في السلّم الكهربائي إلى منطقة أخذ الحقائب، ثم التوجّه ناحية بوّابة الخروج! دائماً كنت أقول لنفسي إن المطارات هي عناوين الدول، و"المكتوب يُقرأ من عنوانه"، وهناك من المطارات ما يجعلك تعود أدراجك حاجزاً أقرب تذكرة إلى بلدك بعد أن تعاني الأمرّين من "رذالة" موظّفيها، وعمّالها، وسائقي تكاسيها، وهناك من المطارات من يفتح لك أحضانه مستقبلاً، وترى ثغره الواسع هاشّاً باشّاً، مما يجعلك متشوّقاً لرؤية ما خلف ستار هذا المطار من بشر وكائنات وجماد، فمادام استقبال المطار هكذا، فكيف هو استقبال أصحابه لي؟!! 

وأنا في طريقي من المطار الذي يقع خارج المدينة إلى الشقّة التي حجزها لي أحد الأصدقاء في شارع جانبيّ متفرّع من شارع (روستافيللي) الذي يعدّ أحد الشوارع الرئيسة في المدينة لفت انتباهي هدوء الشوارع المبالغ فيه، وتلاشي الصّخب الذي يميّز العواصم ليل نهار، فلا تكاد تسمع صوتاً لنفير مركبة، ولا رائحة لعادم حافلة قديمة ملّت من الأنين واعتادت حمولتها الثقيلة من أكوام البشر، ولا ضجيج لموكب دراجات بخاريّة يقودها شباب يعتقدون أنهم في طريقهم إلى المرّيخ لا إلى أقرب حانة أو زقاق، وأن مهمّتهم الأساسيّة في هذا العالم هي ضخّ المزيد من المصابين بالصمم. هنا بدأ مؤشّر القلق الداخلي ينحدر أكثر فأكثر، وحذري يقلّ، وأن أيامي القادمة ستكون على الأقل هادئة إن لم تكن جميلة!


وخلال رحلة وصولي إلى الشقّة التي سأسكنها طوال مدّة إقامتي في تبليسي العاصمة، وتحديداً في أحد شوارع حيّ (فيرا) الراقي لفت انتباهي عدّة أمور ستسهم في أن تجعلني أكثر تفاؤلاً بقضاء أوقات جميلة في هذا البلد، وأكثر تحفّزاً وانطلاقاً لاستغلال كل دقيقة هنا، فالشارع الذي تقع فيه والمتفرّع من (روستافيللي) هو شارع هادئ كعجوزٍ سبعينيّ، مبلّط بحجر الإسكافي حتى اعتقدت أنني في أحد شوارع إسطنبول لا تبليسي، تتناثر على جوانبه عدداً من الأشجار بأوراقها المتساقطة التي تذكّرك بمشاهد الخريف في الأفلام الأجنبية، ويحتوي على كافّة الخدمات التي يحتاجها السائح والمقيم كالصيدليات، والبقّالات التي تعمل طوال اليوم، أما البناية التي تقع فيها الشقّة فهي بناية حديثة وسط عدد من البنايات ذات الطابع الكلاسيكيّ القديم، تدخلها برقم سرّي لا يعرفه سوى سكّانها ممّا يعطيك شعوراً بالأمان والاطمئنان في بلدٍ تزوره لأوّل مرّة، وصاحبتها سيّدة جورجيّة مبتسمة دائماً تحمل الجنسيّة الأمريكيّة عادت إلى بلدها بعد أن قضت أكثر من عشرين عاماً في نيويورك لتقضي بقيّة أيّامها في بلدها الأم التي هربت منه يوماً ما لتعمل ممرضة في أمريكا الرأسماليّة بعد أن كانت معلّمة في جورجيا الإشتراكيّة!! استقبلتني السيّدة بابتسامة ودودة وعرّفتني على مرافق الشقّة ثم غادرتها بعد ثلاث دقائق فقط من لقاءنا بعد أن تركت عنوان الشقّة، وأكواد (الواي فاي) والبوّابة، وهاتفها الشخصيّ مكتوبة على ورقة معلّقة في ركنٍ بارزٍ من الصالة، ولم تلقِ عليّ سيلاً من النصائح والاشتراطات والتهديدات والغرامات إذا ما كسرت هذه الفازة، أو عبثت بتلك المزهريّة، أو مسست ذلك البيانو كما يفعل سماسرة الشقق في دول عربيّة أعرفها جيّداً مما يجعلك متوتّراً كقطً، قلقاً كالنابغة الذبيانيّ، تودّ لو كنت مدرّب تنمية ذاتيّة لتنام معلّقاً على الهواء خوفاً من أن تكسر السرير، بل تمنّت لي طيب الإقامة في بلدها، وأن أعتبر الشقّة كبيتي. أما الشقّة ذاتها فهي واسعة كخارطة روسيا، نظيفة كقلب مؤمن، دافئة كحضن أم على الرغم من برودة الأجواء في بلد أصرّ شتاؤه على انتظاري وهو الذي كان يعدّ العدّة للمغادرة! 

الاثنين، 3 أبريل 2017

في مقهى الفتوّة (3-2)

أقف أخيراً في قلب المشهد الحسيني وخان الخليلي، حيث قلب القاهرة الفاطميّة وحيث يكاد يُختَزل هنا تاريخ مصر بكامله، وحيث يختلط البشر فقيرهم وغنيّهم في تناقضٍ مؤلم؛ هؤلاء من أجل رغيف عيشٍ حاف، أو أملاً في بضعة جنيهات قد يحنّ أحدهم بتركها لهم، أو طلباً لبركة سيّدنا الحسين في تزويج يتيمة أو شفاء مريض بعد أن أوصدت أبواب الأرض في وجوههم، وأولئك لتصريف بعض ما تكدّس من مالٍ قد ينفقونه في شراء تحفة، أو ثمناً لكوب شاي تكفي قيمته لتعديل مزاج روّاد مقهى شعبيّ في حيّ الشرابيّة بأكمله!

 المشهد الحسيني وخان الخليلي حيث العبق الشرقي الأصيل، ورائحة البخور الذي لن تشمّه إلا في قاهرة المعزّ، وكأنه ماركة مسجّلة باسمها، وحيث الأزهر الشريف قبلة العلماء والمتعلّمين على مدى قرون طويلة، وحيث مرقد الإمام الحسين، والمحلّات الشرقية التي مازال أصحابها يتوارثون المهن اليدويّة من نحاسيات وجلود وعطور وغيرها في إصرار عجيب على استمراريتها وكأنّها جزء من حياة، وحيث قهوة شعبان التي يصرّ صاحبها على أنها تأسست عام 1919، والدهان القديم حيث أحلى كباب ونيفه، والعهد الجديد بكوارعه وفتّته وورق عنبه. المشهد الحسيني حيث فرحات الأزهر وحمامه المحشي الذي تبكي قبل أن تطعمه وتبكي مرة أخرى بعدها من لذّته وطعامته، وحيث طعميّة الحلّوجي، وبسيمة عمّ محمد، ومهلّبيّة المالكي وقشدته التي لا مثيل لها. وحيث المكتبة التوفيقيّة، ودار التراث العربي، ودار التأليف، ومكتبة الثقافة العربية، والمكتبة الإسلاميّة وسلسلة من المكتبات التي ساهمت في حفظ التراث العربيّ والإسلاميّ.

متجاهلاً الدعوات التي توالت عليّ من صبيان المقاهي المواجهة لساحة الحرم للجلوس في مقاهيهم خاصّة وأنهم لا يتقاضون رواتب معلومة بل يترزّقون (التبس)، والبقشيش، ومدى قدرتهم على (تهليب) الزبائن ببيع المشروبات بسعر أعلى من المتفق عليه مع صاحب المقهى، أكمل طريقي إلى مقهى الفيشاوي الذي اخترته لقضاء الساعة القادمة فيه وسط أزقة ضيقة زيّنت جنباتها بقطع ديكور شاهدة على حضارة مصر الفرعونية الضاربة في عمق التاريخ، لأسباب من بينها عراقته، وسمعته، وهدوءه وأسعاره الثابتة مقارنة بمقاهي الواجهة، كما أن قهوة (نجيب محفوظ) الذي يعد مقهاي المفضّل هنا والذي يبعد أمتاراً بسيطة لا يصلح للجلوس نهاراً بعكس ليله حيث أجواء ألف ليلة وليلة، وحيث العود والقانون والسلطنة، وحيث الكوارع والفتّة بالثوم والممبار، وحيث السحلب الأصلي بمكسراته التي تكاد تقسم أنها قطفت وحمّصت للتوّ، والشاي الأحمر الذي تكفي نكهته لإنعاش شارعٍ بأكمله يقدمه لك ولدانٌ يلبسون الطربوش، في أباريق من نحاس مذهّبة الجوانب والأطراف!

ها هو المكان أخيراً، زقاقٌ ضيّقٌ اصطفت على جانبيه طاولات وكراسي خشبية امتلأت بعشرات السيّاح الأجانب، وبعضٌ من أبناء البلد. ولوحات خشبيّة عدّة كتب عليها بالأزرق والأبيض والذهبي اسم المقهى الذي أسّسه فهمي الفيشاوي عام 1797 من خلال ركن صغير ما لبث أن توسّع ليضم ثلاث غرفٍ يوماً ما قلّصتها المحافظة بعد ذلك إلى حجمه الحالي، تعرّف بالمكان وكأنه بحاجة إلى من يعرفه أو يسأل عنه بعد أن طغت شهرته أرجاء المعمورة، وسار بذكره الركبان، وقلّد اسمه المقلّدون في كل بقعة يوجد بها مصري، لكن شتّان بين الأصل والنجاتيف!

أختار مكاني على ركن جانبيّ داخل المقهى طلباً لبعض الهدوء، وهرباً من زحام الممر وعبارة "وسّع يا باشا" التي تتكرر 67584 كل دقيقة، و(رزالة)المتسوّلين وعارضي الكتب والحقائب والجلود والمسابح والعطور الرديئة وكل ما تنتجه مصانع (بير السلّم) الذي يتميّزون بثقل دم ولا خرتيت هنديّ، وإلحاحهم الشديد ولا إلحاح بخيل يطلب ماله!

 أتأمّل المكان بكل ما يحتويه من تحف وآثار وكأنه مُتحف شرقيّ. كان المقهى يجسّد بشكل حقيقيّ حضارة المكان الذي أقيم عليه، وكأنّه مصبّ لكل ما تنتجه مصانع وورش ومحلات خان الخليلي والموسكي والغوريّة،  هناك أربعة أبواب مفتوحة، وأقواس ملوّنة بالأبيض والبنّي تفصل أركان المقهى عن بعضها، ومشربيّات من خشب أسود كأنّه المسك، وأرابيسك ومشغولات خشبيّة تنمّ عن مدى الرقيّ الذي وصل إليه فنّ عمارة الخشب في مصر، وفوانيس ونجف وثريّات ضخمة يبدو أنها كانت يوماً ما تزيّن قصر أمير تركيّ، في الرفّ علّقت أواني قديمة يبدو أنها كانت تستعمل في المقهى يوماً ما، في حين تزيّن المقهى من جوانبه مرايا بلجيكيّة كبيرة يقال إن الحاج فهمي حصل عليها من القصور الملكية التي كانت تجدد مفروشاتها وأثاثها، ويقال كذلك أن الحاج كان يراقب من خلالها عماله! بينما توزّعت على جدرانه عدداً من الصور لصاحب المقهى ولشخصيات عديدة من سياسيين وفنّانين وأدباء فهذه صورة الملك فاروق، وتلك أخرى لنجيب محفوظ أحد أشهر روّاد المقهى والذي خلّده في رواياته الشهيرة، وثالثة لفريد الأطرش، ورابعة وخامسة وعاشرة لفريد شوقي، ومحمد فوزي، وكمال الشناوي، وعادل إمام، وغيرهم، وهناك صورة كبيرة للحاج فهمي الفيشاوي وهو يمتطي حصانه. أتخيّل الحاج بجلبابه الصعيديّ أزرق اللون وعباءته الحريريّة، وعمامته الكشميريّة، وعصاه الأبنوسيّة التي تكفي ضربة منها لتخدير بغلٍ استراليّ ضخم، قادماً يوزّع سلاماته على كل من يصادفه في الأزقّة المجاورة بعد أن أنهى (خناقة) بين بعض الفتوّات، أو استرجع حق عرب لأحدهم، كيف لا وهو الذي كان يعد من فتوّات القاهرة المعدودين عندما كان مصطلح الفتوّة مرادفاً للرجولة والشجاعة وإغاثة الملهوف، وعندما كان الفتوّة يقع على عاتقه حماية الحارة، وإرجاع المظالم، وإشاعة الأمن قبل أن تتبدّل الأحوال وتتغيّر الأزمان، ويحدث انقلاب في منظومة القيم في المجتمع تفضي إلى ظهور مصطلحات غريبة على المجتمع كالبلطجة التي تحل محل الفتْوَنة!!


يأتيني الشاي في إبريقٍ زجاجيّ أزرقٍ داكن موضوع على صينيّة مذهّبة كعلامة جودة تميّز المقهى عن غيره، بينما وضع السكّر وأوراق النعناع في أكواب بيضاء. أصبّ لنفسي بعضاً منه وقد تداعت أمامي رزمة من الذكريات، ذكريات رحلة غزّة وزيارتي الأولى إلى المكان، ذكريات زيارات أخرى متوالية كتوالي الهموم على قلب مهاجرٍ سوريّ. ذكريات رفاق وأصحاب بقي بعضهم وغاب أكثرهم وسط طوفان الحياة الجارف. ولكن تلك حكاية أخرى.