الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

مشاهد من معرض استهلاكي


عندما قررت الذهاب إلى معرض السلع والأدوات الاستهلاكيّة مساء السبت الماضي كان يتجاذبني أمران: الأول وهو أمنية بأن أجد المعرض خالياً من الزحام، وأن أجد موقفاً قريباً لسيارتي دون عناء الوقوف في مكان بعيد، خاصّة وأن الجوّ كان بارداً، والأسر مرتبطة بموعد الاختبارات الفصليّة لأبنائها، كما أنّ سكّان المحافظات البعيدة مرتبطين بدواماتهم الصباحيّة في اليوم التالي وبالتالي لن يمكثوا في مسقط إلى هذا الوقت المتأخر.

أما الثاني فهو توقّع بأن أجد المعرض مزدحماً كعادتنا مع كلّ معرض يقام، وأن كل ما ذكرته من أسباب لن يثني الأسر والأفراد عن زيارته حتى لو كانت درجة الحرارة تدنّت إلى ما دون الصفر، وحتّى لو كانوا هم أنفسهم مرتبطين باختبارات دراسيّة قد تحدّد مصيرهم المستقبليّ فيما بعد، فالمعارض بالنسبة للبعض مكان لتغيير الجو، والحصول على بعض الترفيه، ومادة دسمة لجلسات العصر اليوميّة.

توكلت على الله وذهبت وأنا أضع يدي على قلبي كلّما اقتربت من مكان المعرض، وما إن اقتربت من دوّار العرفان إلا وأدركت أن توقّعي قد غلب أمنيتي، فالطابور طويل، والزّحام على أشدّه، ومع أنّ المعرض يفتح أبوابه مساءً في تمام الرابعة، ومع أنني قد وصلت قبل هذا الموعد تحسّباً لما كنت أتوقّعه، إلا إن مواقف السيارة (الكثيرة) كانت ممتلئة عن آخرها، وكأن كل هؤلاء البشر قد جلبوا طعامهم وفرشوا بساطهم وجلسوا ينتظرون موعد الافتتاح المسائي، وكأن ما يوجد بالمعرض هو شيء نادر وثمين يستحق الندم على التفريط فيه. في كل مرّة أرى هذه الأعداد الغفيرة يساورني شكّ في نتائج تعداد السكّان الأخيرة.

أدخل المعرض فأرى أمامي مشاهد مختلفة للزائرين تتكرّر في كلّ معرض يقام، هذه أسرة عمانيّة أصيلة تحلف وأنت تراها أنها قدمت من قرية بعيدة من قرى عمان النائية، وأولئك صغار أحضرهم والدهم وذهب عنهم لارتباطه بموعد آخر، ولا يخلو المشهد من شباب اعتادوا أن يجدوا في مثل هذه المعارض فرصة لممارسة هواية (دنيئة) في تتبع الفتيات والإيماء بالإشارات، وكأنهم في حالة انفصال  عن  وسائل الاتصال الحديثة التي أتت بأساليب معاكسة أكثر حداثة وسهولة. ولا بد أن يكتمل المشهد ببعض الفتيات اللواتي اعتقدن - أو صوّر لهن - أن الحريّة تعني أن تخرج لوحدها في أيّ وقت تشاء، وأن تضع ما تشاء من مساحيق مختلفة الألوان على وجهها، وكأنّها دمية (باربي).  برأيي أن لحرّيّة المرأة ألف وجه ليس من بينها احتساء الشاي لوحدها في (بابا روتي)، أو تناول الغداء مع الرفيقات في (تشيليز) وسط صخب ضحكاتهن التي  تملأ أرجاء المكان، أو عمل (بارتي) عيد الميلاد في كارجين، أو  أن تبدو كـ (خيال المآته) في أي مكان تذهب إليه.

مشهد آخر لم يثر استغرابي ألا وهو الطابور الطويل الذي سدّ باب المعرض أمام آلتي سحب النقود. يعلم كل الواقفين في الطابور أن المعرض سيكون مزدحماً، وأن مكائن السحب إما أن تكون معطّلة، أو سيكون عليها زحام شديد، وهم أنفسهم قد مرّوا في طريقهم إلى المعرض على عشرات الآلات الموجودة في كل محطة نفط أو مركز تجاري ، ومع ذلك هي العادة نفسها. أن نكرّر نفس الخطأ في كلّ مرّة، والا نتعلم من الأخطاء السابقة.

المشهد الثالث هو تكرار نفس الوجوه التي تراها في كلّ مرّة. نفس العارضين تراهم في كل المعارض، وجلّهم غير عمانيين، وكأنّ ما يعرض هي أشياء يستحيل على العماني أن يصنعها أو يقوم بعرضها، وكأنّه لا يوجد لدينا في عمان من يبيع العسل العماني الأصلي، أو من يقوم بخياطة وتفصيل وتطريز الملابس العمانية الأصيلة، والمفروشات المختلفة، أو من يقوم بتصنيع خلطات العطور والبخور.

مشهد رابع يمكن ملاحظته ويتعلّق بنوعيّة البضاعة المعروضة، فلا يمكن أن تدخل معرضاً في عمان حتى ولو كان في فصل دراسي بإحدى المدارس النائية دون أن تجد ركن العسل اليمني الأصلي الذي يشفي من كل أمراض الدنيا التي استعصت على أمهر الأطبّاء، وكأنه شرط أساسي يتم الالحاح عليه عند التصريح بتنظيم هذه المعارض، ولا يمكن أن  تخطيء عيناك رؤية ذلك الشاب الذي أصبح نجماً من نجوم المعارض بزيّه الخليجي وذقنه المحلوق على الطريقة الحجازيّة، وهو يتنقل من مكان لآخر عارضاً على الفتيات روائح لعطور (مضروبة) يقوم ببيعها، ولا تنس ركن الخلطات العشبيّة التي تعيد الشيخ شابّاً، والمريض سليماً، وتعيد لك الرشاقة، وتمنع الصلع، وتقضي على البهاق والجرب وحبّ الشباب والصدفيّة  وقائمة أخرى تطول من قوائم الوهم التي مازالت تجد الكثير من المعتوهين السذّج الذين يندفعون ورائها، وهم يعلمون أنهم قد اشتروها قبل أشهر قليلة في معرض آخر ولم تجد نفعاً معهم. ألا قاتل الله السذاجة.

بالطبع فكثير من هذه  البضائع والسلع هي  تجاريّة وغير أصليّة، وكثير من السلع الغذائية والمواد التجميلية التي تعرض مغشوشة، وغالبية الخلطات العشبية  المعروضة غير مصرح بتداولها لعدم وجود بطاقة البيان وعدم معرفة مكونات الخلطات، وبالتأكيد لا توجد أسعار مثبّتة على كل سلعة، ولا وجود لأية بيانات متعلقة  بالمنشأ والصلاحية والمكونات، ولكن كل هذا لا يهم. المهم هو أن نذهب لكي نرفّه عن أنفسنا قليلاً،  حتى ولو كان ذلك على حساب جيوبنا وصحّتنا، وحتى لو كنا مدركين أننا لا نستطيع أن نشتكي على أحد في حالة تعرضنا للنصب أو الغش من قبل أحد العارضين، وقتها سيكون قد سافر إلى بلده مستمتعاً بما جناه من أموال تعبت الحكومة كثيراً كي تعطينا إياها، وقمنا بتسليمها إليهم عن طيب خاطر. وربنا لا يقطع لنا عادة.

تساؤلات دارت في بالي وأنا أتجوّل (بصعوبة) في أرجاء المعرض من قبيل : متى سنرى معارضنا تعجّ بالباعة المحلّيين وبالبضائع العمانية، وبالتالي نضمن أن جزءاً من (الملايين) التي تعطيها الحكومة لنا تبقى داخل البلد لا خارجها، وما الذي يمنع أن نرى ركناً للحلوى أو العسل أو الملابس العمانية المصنوعة بيد محلّية؟ هل هي الثقة الضعيفة؟ هل هي الثقافة السلبيّة تجاه كل ما هو محلّي؟ هل هي الرسالة التي لا تصل إلى هؤلاء بكل شفافية ووضوح؟ وهل تخضع السلع المعروضة لإجراءات الفحص وبالتالي يتم ضمان جودتها وصلاحية استخدامها للمستهلك؟ ولماذا نخصص أوقاتاً للنساء وللعائلات مادام أن أغلب الحضور في كل الأوقات هم من هذه الفئات بالأساس؟ ولماذا لا نركز على المعارض الاستهلاكية الخيرية التي تنظمها مؤسسات المجتمع المدني للمساعدة في حل مشاكل اقتصادية معينة؟ ولماذا لا تشرك هيئة حماية المستهلك في لجان الاشراف على مثل هذه المعارض.

وقد يسأل سائل : ما دمت متشائماً إلى هذا الحد فلماذا تحرص أنت على الذهاب إلى هذه المعارض؟

ياسيدي.. وما أنا إلا من غزيّة إن غوت غويت.. وإن ترشد غزيّة أرشد

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013

مع أبو مازن



(في مقاهي المحروسة 12)

"مع أبو مازن"

فبراير 2008.. مدينة نصر تبدو كبرّاد ضخم، البرد قارس، أو هو برد (يقصّ المسمار) كما يقول كبار السنّ لدينا، ولا عجب في ذلك فهي تقع في أطراف القاهرة الشرقية، حيث الصحراء المفتوحة، وحيث الرياح الباردة التي تهب حاملة معها النسمات الباردة الزائدة عن الحد والتي تجعل ليل المدينة جحيماً بارداً لا يطاق أحياناً.

ذات مغربيّة باردة كئيبة يتصل بي أبا مازن بلهجته المصريّة التي تجعلنا ننفجر معاً ضحكاً في كل مرّة: فينك يا برنس، وراك حاجه النهار ده؟ ايه رايك نتقابل في (كنوز) الساعة ثمانية، اوعى تتأخر عشان أنا بنام بدري زيّ كل يوم(1).

 كنت قد عرفت المقدّم محمد حارب المخيني لأوّل مرّة في حفل مناقشة رسالة الماجستير الخاصّة    بـأبي راشد (2) في معهد البحوث والدراسات العربيّة، ثم التقيت به بعدها بأيّام في وليمة غداء أقامها بمناسبة حصول ابن أخيه على الماجستير، وقتها عرفت أنّه يكون عمّاً لأبي راشد، وأنّه يعمل كضابط في إحدى الأجهزة العسكريّة، و يحضّر لدورة عسكرية تمتد لعام كامل، وعرفت كذلك أنه يرتبط بعلاقة زمالة وصداقة وثيقة بأخي الذي كان قد انتهى لتوّه من دراساته العليا في مجال طب المجتمع في مصر.

 من يومها وأبو مازن كان قد حجز مكاناً مهمّاً في داخلي، برغم ملامح الجدّيّة والتحفّظ التي بدت عليه في أول الأمر، وارتباطه بالمحدود ببعض زملاء دورته، والنوم المبكّر، كما حدّثني عن نفسه في جلسة سابقة. يومها قلت لنفسي: شخص كهذا كيف سأقنعه بأن يشاركني اهتماماتي في الخروج ، وارتياد المقاهي، وممارسة هواية اكتشاف أطباع البشر، لا مكان في القاهرة لمن ينام مبكراً.

لأبي مازن ذكريات كثيرة في داخلي، لا يمكن أن أتجاهل تأثيره عليّ في كثير من القرارات التي اتخذتها طوال فترة وجوده في القاهرة، وفي شقّته(3) عرفت معنى أن تكون في بلدك وأنت بعيد عنه، ففي كل مرّة أشعر فيها بالوحدة كانت شقته ملاذاً  لروحي، أشاكس أم مصطفى تارة (4)، وأتسلى بالحديث مع عم صلاح  تارة أخرى، وأطالع (الرايح  والجاي) من البلكونة تارة ثالثة، كما أننا لم نترك شارعاً في مدينة نصر لم تخطوه رجلينا معاً في أحاديث كثيرة عن الحياة  ومصر وعمان وأشياء أخرى مازالت تحتفظ بها نواصي تلك الشوارع التي لم يسلم المارّة بها من تعليقاتنا الضاحكة التي تحولت فيما بعد إلى (لزمة) يذكر كل منّا الآخر بها مع أول لقاء، فهذا متثائب لا يغلق فمه، وتلك أربعينية تزاحم الآخرين في وسيلة نقل عتيقة يوم إجازة رسمية أو في وقت متأخر من اليوم في وقت نعتقد فيه أن أولادها أولى  بطبخها بدلاً من مزاحمة الآخرين. هل هي لقمة العيش؟ هل هو كفاح المصري البسيط؟
يتحوّل بيت أبو مازن إلى ضيافة عامرة كل خميس، يبدو من هيئته البدويّة وسماره العربيّ الأصيل وكأنّه خلق كشيخ قبيلة أو كملاح لسفينة شراعيّة تجوب الموانئ ، فملامحه توحي بأنك قد رأيته يوماً ما في مكان يضج بالسفن والخيام والبشر. كنت أنتظر دعوته لي نهاية كل أسبوع بفارغ الصبر كي  (أرمّ عظمي) بما تجود به مائدته العامرة من وجبات عمانيّة أصيلة كدت أن أنساها بسبب طول مدة الغياب عن البلد(5)، وفي مجلسه عرفت العشرات من العمانيين والخليجيين والمصريين من مختلف الفئات والأعمار والمستويات الفكرية والاجتماعيّة الذي كانوا يجدون في شقته ملاذاً لهم، والذين ارتبطت ببعضهم بعد ذلك في علاقات صداقة وود مازالت مستمرة حتى الآن.
يقع (كنوز) في ركن خان الخليلي بالدور الرابع من المول، حيث محلات التحف والبازارات التي تعرض وتبيع التحف والإكسسوارات واللوحات التي تجسّد  لحضارة مصر العريقة عبر مراحل تاريخها المختلفة، ويتميز باتساع مساحته، وينقسم إلى مطعم وكافيه، وهو مصمم على الطراز الإسلامي، حيث  المداخل الواسعة، والأقواس المزخرفة، وحيث الديكور المغربي الذي يغطي المكان، وعلى الجدران بضعة رسوم زيتيّة لخيول عربيّة أصيلة، ومعارك حربية قديمة، وجداريّات من الجبس لبعض المساجد الشهيرة، وبضعة تماثيل على النمط الاغريقي هنا وهناك .
برغم أنني أجلس فيه بمعدل مرة كل أسبوع إلا أنني لا أشعر بمتعة حقيقية عند زيارتي له في كلّ مرة، فبرغم كل الجهد المبذول في تصميمه بحيث يبدو أقرب إلى أجواء الحسين والغوريّة والخان، إلا أنني أشعر بأنه جهد متكلف، فالزبائن من نوعية أخرى تختلف عمّن تقابلهم في حواري خان الخليلي، والطعام لا يمتّ بصلة لمثيله في فرحات والمالكي وشعبان، والعمّال يبدو عليهم التكلّف والعصرنة بعكس نظرائهم العفويين في مقاهي القاهرة الاسلامية، هذا عدا (المينيم تشارج) والأسعار المبالغ فيها، ولولا رغبتي الحميمية كلّ مرة في لقاء أبو مازن الذي يسكن قريباً من المول لما حرصت على ارتياده بهذا الشكل المتكرّر.
يطلّ أبو مازن بهيبته التي اكتسب جزءاً كبيراً منها بسبب طبيعة عمله التي تفرض الالتزام في أشياء كثيرة، ورشاقته التي لا تتأثر برغم عشرات الولائم والموائد وكميّات (الهبر) التي تسفك على مائدته، ونظّارته الشمسيّة التي تحتل جزءاً من جيب قميصه العلوي، موزعاً ابتساماته وتعليقاته الضاحكة على العاملين الذين اعتادوا منه هذه (القفشات) كاعتيادهم على البقشيش الذي يضعه مع الحساب  في كلّ مرة يأتي فيها إلى المقهى.
بعد دقائق طويلة من الحديث الممتع له عن مواقف هنا وهناك، وعن نميمة تطال صلاح البوّاب، واللواء سعيد المحاضر الطيب في الكلية، وعن الكلب الشخصي الذي تملكه ابنة شيخ الدين الأزهري الشهير الذي يملك العمارة التي يسكن فيها محمد،  يخيّم الصمت على الجلسة  فيعرف بحدسه أن شيئاً ما قد غيّر مزاجي، فيلتفت إليّ بلهجته الصوريّة القحّة ذاكراً عبارة استفتح بها حديثي معه في كل مرة أقابله أو أحادثه فيها: "أجول لك وراهم العرب في المترو يوم  يتثاوبوا ما يسكروا ثمهم، ووراهن الحريم الكبار نهار اليمعه  تارسات الباصات والمترو. أللاه  معندهن عيال يطبخن لهم غدا؟" .
أنفجر ضاحكاً وينفجر معي محمد وسط استغراب المحيطين، ونغادر المقهى لا نلوي على شيء.

(1)   أوهمني في بدايات معرفتي به أنه ينام في التاسعة، ثم فاجأني  بسهراته الطويلة معي في كل مرة نجلس فيها معاً.

(2)   الدكتور محمد بن راشد المخيني. من رفاق الغربة  الذين كافحوا طويلاً  حتى نال درجة الدكتوراه في مجال تكنولوجيا التعليم بامتياز وهو لم يتعد الثلاثين. يحفظ حواري بين السرايات كما يحفظ العبد لله   أصابع يده الخمسة.

(3)   عرفت بعدها أن خبير التنمية البشرية الشهير الدكتور  ابراهيم الفقّي كان يسكن في العمارة المجاورة له.

(4)   شبراوية من ضحايا العهد المباركي. لا تعبّر ضخامة جسدها عن همومها المتراكمة من جراء السعي خلف الفتات الذي يسد رمق أطفال فقدوا متعة الحياة في بلد يموت فيها البعض غارقاً في التخمة.

(5)    قلت له ذات مرّة ضاحكاً: يحق لأم مصطفى  أن تصبح بهذه الهيئة مادام صالون شقّتك لا يكف عن استقبال الزوّار والمقيمين ليل نهار، ومادام فرن مطبخك لا يكف عن الاشتعال. فقط أخشى عليها أن تنفجر يوماً ما فتتحمل وزرها.

 

 
 
 

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

الضحك على الذقون

لضحك على الذقون

ما سأحكيه اليوم هي قصّة أخرى متجدّدة من قضايا التضليل الاعلاني الذي يعتمد على بيع الوهم، واستغلال حاجة الناس، وهي قصّة تتشابه فصولها مع كثير من مثيلاتها. نفس المسرح مع تغيير في الأسماء والشخوص والأدوار، قصّة سأكتفي بسرد أحداثها دون الولوج إلى عالم التحليل وتقديم الحلول والتوصيات لأن السأم من كل هذا قد بلغ محلّه في نفسي.

قبل حوالي أسبوعين من الآن قامت إحدى شركات الاتصالات المعروفة بالترويج لعرض مدته ثلاثة أيام فقط، ويتضمن مضاعفة رصيدك عند التعبئة بقيمة خمسة ريالات، أو عشرة ريالات.

وعلى الرغم من أنني أعرف جيداّ ماهيّة هذه العروض، وأنّها لا تعدو عن كونها ضحكاً على الذقون من أجل مضاعفة أرباح معيّنة قبل انتهاء السنة الماليّة، ولأجل تعزيز نسبة (البونس) الذي سيوزع على الموظفين، حتى ولو كان ذلك على حساب البسطاء من المواطنين والوافدين الذين (يعتقدون) في كل عرض مشابه أنّه فرصة لكسب دقائق من التواصل مع الأهل والأصدقاء الذين باعدت بينهم ظروف الحياة الصعبة، إلا أنني عملت بمبدأ (اتبع..... حتى رزّ الباب) فقرّرت الاشتراك في هذا العرض من خلال شحن هاتفي بمبلغ خمسة ريالات عن طريق آلة سداد الفواتير في أحد المراكز التجاريّة القريبة من مقرّ سكني.

بمجرد انتهائي من عمليّة الشحن الآلي قمت بالاستعلام عن فاتورتي فوجدت أن الحساب قد خصم منه مبلغ الخمسة ريالات فقط التي دفعتها لا عشرة كما يقول العرض، فقمت بالاتصال بمركز الخدمة التابع للشركة كي أستفسر عن الموضوع ولماذا لم يدخل المبلغ المضاعف في حسابي، فكان الرد العنتري أن هاتفك خط، أي نظام الفاتورة ، وليس مسبق الدفع، وبالتالي لا يحق لك الاستفادة من العرض المقدّم.

عبثاً حاولت إفهام الموظّف أن أصحاب الخطوط آجلة الدفع هم الأولى بخدمات الشركة وعروضها من الآخرين كونهم يلتزمون بدفع الفاتورة، وكونهم يدفعون اشتراكاً شهريّاً، وهذا نظام معمول به في كثير من دول العالم، ولكن بلا فائدة. في حالات كهذه يتحول موظفو الاستعلام في معظم الشركات والمؤسّسات إلى رجال آليّين يقومون بترديد جمل من قبيل : هذه سياسة الشركة وإذا رغبت فيمكنك أن تسجل مقترحك أو شكواك وسنقوم بدورنا برفعها للجهة المختصّة.

الشيطان الذي بداخلي أبى الاستسلام، وضغط عليّ مرّة أخرى من أجل أن أواصل متابعتي لهم حتى رزّ الباب مرّة أخرى مهما كانت العواقب، ومهما تراكمت الخسائر ، فذكّرني أن لديّ خط مسبق الدّفع لا أستخدمه، وهي فرصة لإعادته إلى الحياة عن طريق هذا العرض خاصّة وأنّه لم تتبقّ سوى سويعات عن انتهائه، فأخذت بعضي وذهبت إلى آلة دفع الفواتير الوحيدة في الولاية (المسقطيّة )التي أسكنها، وقمت بإيداع مبلغ خمسة ريالات أخرى في رصيد الهاتف، ومرّة أخرى (أشيّك) على الرصيد فأجده لم يتعدّ المبلغ الذي قمت بإدخاله قبل قليل.

قلت لنفسي مطمئناً: ربما تكون المسألة مسألة وقت فقط، وكلها ساعة أو اثنتين وسيتم تحويل الرصيد المضاعف إلي، وقتها قد أحوّله إلى (نيشان) العامل الآسيوي البسيط الذي يعدّ لي الشاي كل صباح، أو (أحمد) نادل المقهى البشوش الذي يصرّ على أن يشركني في الشأن المصري كل مساء، ليس تعالياً مني، أو لكرم مفاجئ حلّ عليّ، ولكن لأنني ببساطة لن استخدم هذا الرصيد في ظل وجود هاتف آخر معي. هكذا نمت ونامت أمنياتي وأحلامي معي.

يحين الصّباح فأعاود (التشييك) على الرصيد، فأجده كما هو. يا لصبر أيوب، أما لهذه القصّة من نهاية؟ مرة أخرى أكرر الاتصال بمركز الخدمة، ومرّة أخرى يردّ علي نفس الصوت الطيّب السمح: معاك فلان الفلاني. قل لي كيف ممكن أخدمك. عندك استفسار معين؟

بعد عبارات المجاملة المعتادة وتبادل الأسماء قلت له: الاستفسار باختصار يا سيدي هو أنّكم قمتم بالترويج لعرض يحتوي على مضاعفة الرصيد عند القيام بالتعبئة بمبالغ معيّنة، وأنا قد ضحكت عليّ نفسي وطاوعتها ولم أحصل منكم لا على بلح الشام ولا عنب اليمن. لا أريد منكم أي بيسة إضافية. فقط هو سؤال: لماذا كل هذا؟

ردّ علي بالعامّيّة: هدّي نفسك أخوي . أنت متى عبّيت الرصيد؟ وماذا استخدمت في التعبئة؟
قلت له: لا تخف، قمت بتعبئة الرصيد قبل انتهاء الموعد بثلاث ساعات كاملة، ولا أعتقد أنك ستقول لي أنني قمت بذلك بعد الموعد إلا إذا كنتم تستخدمون توقيت اليابان، أمّا عن الطّريقة التي استخدمتها في التعبئة فقد قمت بعملية الشحن من خلال آلات دفع الفواتير التي قمتم بتوزيعها في بعض المجمّعات والمراكز التجارية تسهيلاً للخدمة، وما زلت محتفظاً بالوصل.

قال لي متهللّاً كمن أحرز هدف الوصول إلى كأس العالم، أو (كمن وجد التائهة) كما يقول أحبابي المصريين: إذاً في هذه الحالة لا يمكنك الاستفادة من العرض لأنك قمت بالشّحن عن طريق الآلة، وكان من المفترض أن تفعل ذلك عن طريق كروت الشحن وحدها.

مستحضراً عبارة شهيرة كان يردّدها أحد أساتذتي المصريّين عندما يعييه نقاشاً عقيماً لأحدهم (يا مصبّر الجحش ع الوحش) أقولها في سرّي وأنا أكاد أكسر جهاز الحاسوب الذي أمامي من شدّة الغيظ: مادام دفع الفواتير وتعبئة الرصيد من خلال الآلات التي قمتم بتخصيصها لهذا الغرض يعتبر رجساً من عمل الشيطان في نظركم فلماذا قمتم بوضعها، ومادامت الوصولات الورقيّة التي تبيعونها على بعض المحلّات بديلاً للبطاقات مدفوعة الثمن تعدّ نجسة إلى هذا الحد فلماذا تعطونها للباعة محل البطاقات؟ 

ثمّ تعال يا عزيزي: أنتم لا تقدّمون بطاقات تعبئة مدفوعة الثمن بقيمة خمسة ريالات أو عشرة ريالات أساساً، ومعظم المحلات الصغيرة تقدّم بطاقات من فئة الريال، وهذا يعني أنّني سأمكث مالا يقل عن ربع ساعة وأنا أشحن البطاقة تلو الأخرى، وهذا وقت مهدر في عالم متسارع تعلمون جيداً أهميّته كشركة تقدم خدمات التكنولوجيا الحديثة، هذا عدا المادّة السامة التي ستلتصق بيدي، وستدخل في أظافري، وقد تصل إلى الدّم عن طريق جرح صغير في ظاهر اليد، فهل تقصدون من كل هذا التلذّذ بتعذيبنا مقابل حفنة ريالات تعلمون يقيناً أنّنا لن نستفيد منها في غالب الأمر لأنها لن تصلح لتفعيل اشتراك النت أو التحويل إلى خط آخر ، أم إنّه الاحتكار الذي يجعل البعض يمارس ما يحلو له لمجرد أنّه يستطيع فعل ذلك؟

لا تقل لي أنكم قد أعلنتم عن شروط هذا العرض مسبقاً وحدّدتم وسائل الدفع المطلوبة، وحتّى لو فعلتم ذلك فأنتم تعلمون أن هناك كثيراً من البسطاء قد لا تصله شروطكم، وقد لا يتمكن من قراءتها، وقد لا ينتبه للكلمات المتناهية الصغر في أسفل الإعلان، وكل هذا لا يعفيكم من تبعاتها الأخلاقيّة على الأقل، وأتحدّاكم أن تجدوا مبرّراً واحداً يجعلكم تقنعونني باقتصار الدّفع عن طريق البطاقة فقط إلا إذا كان الهدف هو خداع المستهلك، وتضييع وقته، والاضرار بصحّته، وتشويه البيئة، وإضافة أعباء أخرى على عامل النظافة البسيط، أو أن المسألة هي مسألة ..احتكار لا غير.

بالمناسبة يا عزيزي نسيت أن أخبرك بأنني ما زلت غير قادر على تصفّح النت بمجرّد مغادرتي لمسقط، برغم الاعلانات المبشّرة بالجيل الرابع، وبرغم (الوجنات) المتقطّعة من أثر السرعة المزعومة لصور بعض من استخدمتموهم في اعلاناتكم الشوارعيّة.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

"مشاهد بلديّة"



(1)
في مثل هذا اليوم قبل عام من الآن كنت قد كتبت مقالاً يتناول رؤيتي للمجالس البلديّة ودورها المجتمعي، ومدى التأثير الذي (يفترض) أن تحدثه في المجتمع والذي من شأنه أن يلقي حجراً كبيراً في بحيرة العمل البلدي الراكدة، ويساهم في تغيير كثير من المفاهيم المجتمعية المغلوطة أو المغيبة تجاه نوعية وآلية العمل البلدي، وبالتالي يحمل معه عملاً مجتمعياً يختلف عن سابقه، ويسهم في شمولية التنمية.

كان ذلك الحديث قبيل انتخابات المجالس البلدية. والآن، وبعد عام واحد من أول انتخابات بلديّة شهدتها السلطنة، ماذا حملت هذه التجربة خلال عام من تطبيقها؟ ألم يحن الوقت بعد للقيام بتقييم دقيق متأنّ لها، والاستماع لكافة الملاحظات المتعلقة بها؟

(2)
مازالت النظرة السائدة للعمل البلدي تنحصر في القيام ببعض الأعمال الروتينية كمراقبة وتفتيش المحلات والمطاعم، ورصف بعض الطرق الداخلية، وإصدار تصاريح افتتاح المحلات التجارية المختلفة، والإشراف على المرادم وأماكن التخلص من النفايات، وملاحقة الحيوانات السائبة.

نظرة قديمة تجاوزتها المجتمعات الحديثة منذ عقود.

(3)
إنشاء ملاعب رياضية في كل حارة سكنية بدلاً من لجوء بعض الفتيان إلى مواقف السيارات وأرصفة الشوارع، والاستفادة من البيوت الأثرية القديمة بتحويلها إلى مزارات أو مؤسسات ثقافية وسياحية مختلفة، وتحويل بعض الأماكن البيئية إلى متنزهات طبيعية أو أماكن تخييم، وتوحيد نمط العمران بما يضيف بعداً جمالياً للحي السكني، والاهتمام بالجوانب الثقافية المتمثل في إنشاء المكتبات العامة، وإقامة المهرجانات الثقافية، ومعارض الكتاب، والندوات الفكرية المتنوعة.

هل ستظل مثل هذه الأفكار والمشاريع البلديّة أحلاماً مؤجّلة لأمد طويل، أم أنها يمكن أن تتحقّق في ظلّ وجود فكر منظّم، وتخطيط دقيق، وإرادة قوية لا تعرف الكلل.

(4)
لم تمض سويعات قليلة على توقف جريان أحد الأودية في أحد شوارع مسقط الجانبيّة إلا وكان العمّال يشتغلون بكلّ همّة ونشاط على تنظيف الشارع وإزالة كل مخلّفات الوادي.
أعرف شوارع رئيسة في محافظات أخرى لم تطلها يد التنظيف أو التعديل منذ إعصار (فيت).
يبدو أن مسقط.. غير

(5)
على مسافة أمتار قليلة من منطقة تجمع مياه الأمطار في أحد شوارع المدينة جلس أحد المترشحين لعضوية المجلس البلدي في المقهى القريب من المكان يتحدث بكل زهو عن مشروعه الانتخابي.

المترشح أسهب كثيراً خلال تلك الجلسة في الحديث عن خطط وبرامج سوف يكتسح بها بقية المترشحين، ليس أقلّها المطالبة بإنشاء بمجمع تجاري ضخم أسوة بمجمعات العاصمة، وكالعادة تجميل الشوارع وإنشاء الحدائق والمتنزهات والاهتمام بالصيادين والمزارعين، وبقية طقم العبارات الذي نسمعه كلما اقترب موعد إجراء أية انتخابات .

الغريب أن البرنامج المتخم بكثير من التفاصيل والأحلام لم يأت من قريب أو بعيد على سيرة المياه المتجمعة في الشارع القريب كظاهرة قبيحة تتكون بعد كل رشّة مطر تهطل على المدينة، والتي لا يحتاج لإزالتها سوى دراسة وضع شوارع المدينة، وتحديد مناطق تجمع هذه المياه، والتعامل معها خلال فترة زمنية وجيزة وفق خطة واضحة المعالم .

بعد عام كامل من نجاح ذلك المترشّح (الثري) مازالت المياه متجمّعة في نفس الشارع، ومازال هو يجلس كل يوم في المقهى القريب.
التغيير الحقيقي يأتي من خلال معالجة السلبيات البسيطة قبل التفكير في الأحلام الكبيرة.

(6)
عندما أتجوّل في كثير من الأحياء السكنيّة في أي بقعة من بقاع السلطنة ترهق عينيّ الألوان المتنافرة للبيوت، فهذا أخضر، وذاك أحمر، والثالث أزرق، والرابع بنفسجي، وهكذا، في ظل الحديث عن مخططات سكنية حديثة، يفترض أن تنظّم آلية البناء والتشييد فيها قوانين محددة تحافظ على الطابع المعماري الجمالي المحدد سلفاً.

(7)
هل يمكن أن نرى الحمامات العمومية في المدن والقرى المختلفة؟ الفكرة بسيطة وغير مكلفة، ويمكن أن تطبق برسوم زهيدة كما هو الحال في كثير من الدول.
لو تفرغ بعض المسئولين عن العمل البلدي للاطلاع على بعض تجارب الدول المختلفة لوجدوا كثيرا من الأفكار الجديدة والمهمة القابلة للتنفيذ بدلاً من العيش في (جلباب) من سبقهم.

(8)
ينصّ النظام الأساسي للدولة في مادّته السابعة عشر على أنّ "المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقـوق والواجبـات العـامـة".

وبناء على ذلك أفكّر جدّيّاً أن أستغل هذه المادّة لحلّ مشكلة حصولي على أرض سكنيّة في مسقط والتي يبدو الحصول عليها أصعب من ولوج الجمل في سمّ الخياط، وذلك بالبحث عن أيّ أرض فضاء واسعة وتحويلها إلى (عزبة) أسوة بالكثيرين من إخواني المواطنين الذين فعلوا نفس الشيء في بقيّة محافظات السلطنة، وقاموا باستقطاع أراضي واسعة في مواقع بيئيّة وسياحيّة مهمّة، ومن ثمّ تحويلها إلى استراحات تبدأ ببناء بسيط من المواد غير الثابتة، ثم يتم عمل سور يحيط بها، وبعدها يضاف إليها غرفة أو اثنتان بمواد ثابتة، ثم المطالبة بتملكها القانوني تحت عدّة دعاوي مختلفة، وكل المراحل السابقة تحدث في غفلة أو تجاهل أو لامبالاة من المسئولين.

صحيح إنها تعتبر تحايلاً على القانون، ومعلوم أنها تسهم في تشويه المنظر العام، واختلال البيئة الفطرية، ومؤكّد أنها تؤثر على منظومة التخطيط السكاني مستقبلاً، ولكن هل هناك من يبالي بكل هذا وذاك؟

ماذا لو نفّذت أمراً كهذا في مسقط؟ ماذا لو نصبت أسلاكي الشائكة في رمال بوشر، ماذا لو اقتطعت جانباً من شاطئ العذيبة، هل سأترك كما ترك الآخرون، أم سأتعرض للمسائلة لأن الموضوع يتعلق بمسقط؟

(9)
يقترح صديقي بأن تقوم الصحف المحلية بعرض بعض الصّور الفوتوغرافيّة التي تجسّد التجاوزات البيئية أو الإسكانية أو الثقافية، التي يقوم بها البعض إهمالاً أو تعمداً أو لا مبالاة، وذلك على صفحاتها الأولى، وذلك بقصد التوعية، وكي يتفاعل معها أفراد المجتمع بمختلف شرائحهم، ويقوموا برفد تلك الصحف ببعض تلك الصور من خلال ملاحظاتهم اليومية، ولكي تنبّه المسئولين بأهمية المتابعة المستمرة ، كي لا تتكرر تلك التجاوزات .
الفكرة جميلة ، ومنفذه في عديد من الصحف العربية والعالمية، وأعتقد أنه في حال قيام إحدى صحفنا بتنفيذها فإنها ستفاجأ بكمّ الصور التي ستردها من قبل القراء والمهتمين.

(10)
يقولون إن الصين هي أكثر الأماكن ازدحاماً بالسيارات.
ماذا عن مواقف المستشفى السلطاني!
بل ماذا عن مواقف جراند مول!!

(11)
لو قام كل منا بالاهتمام بنظافة المنطقة المحيطة بمنزله ولو لمرة واحدة في الأسبوع لأصبح لمجتمعنا شأن آخر، فما بالنا بكثير من الأعمال المجتمعية التطوعية التي هي في انتظارنا للقيام بها. إذا لم تكن لدينا القدرة على فعل ذلك، فلنكفّ فقط عن أي سلوك قد يضير بالبيئة.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com