الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013

مع أبو مازن



(في مقاهي المحروسة 12)

"مع أبو مازن"

فبراير 2008.. مدينة نصر تبدو كبرّاد ضخم، البرد قارس، أو هو برد (يقصّ المسمار) كما يقول كبار السنّ لدينا، ولا عجب في ذلك فهي تقع في أطراف القاهرة الشرقية، حيث الصحراء المفتوحة، وحيث الرياح الباردة التي تهب حاملة معها النسمات الباردة الزائدة عن الحد والتي تجعل ليل المدينة جحيماً بارداً لا يطاق أحياناً.

ذات مغربيّة باردة كئيبة يتصل بي أبا مازن بلهجته المصريّة التي تجعلنا ننفجر معاً ضحكاً في كل مرّة: فينك يا برنس، وراك حاجه النهار ده؟ ايه رايك نتقابل في (كنوز) الساعة ثمانية، اوعى تتأخر عشان أنا بنام بدري زيّ كل يوم(1).

 كنت قد عرفت المقدّم محمد حارب المخيني لأوّل مرّة في حفل مناقشة رسالة الماجستير الخاصّة    بـأبي راشد (2) في معهد البحوث والدراسات العربيّة، ثم التقيت به بعدها بأيّام في وليمة غداء أقامها بمناسبة حصول ابن أخيه على الماجستير، وقتها عرفت أنّه يكون عمّاً لأبي راشد، وأنّه يعمل كضابط في إحدى الأجهزة العسكريّة، و يحضّر لدورة عسكرية تمتد لعام كامل، وعرفت كذلك أنه يرتبط بعلاقة زمالة وصداقة وثيقة بأخي الذي كان قد انتهى لتوّه من دراساته العليا في مجال طب المجتمع في مصر.

 من يومها وأبو مازن كان قد حجز مكاناً مهمّاً في داخلي، برغم ملامح الجدّيّة والتحفّظ التي بدت عليه في أول الأمر، وارتباطه بالمحدود ببعض زملاء دورته، والنوم المبكّر، كما حدّثني عن نفسه في جلسة سابقة. يومها قلت لنفسي: شخص كهذا كيف سأقنعه بأن يشاركني اهتماماتي في الخروج ، وارتياد المقاهي، وممارسة هواية اكتشاف أطباع البشر، لا مكان في القاهرة لمن ينام مبكراً.

لأبي مازن ذكريات كثيرة في داخلي، لا يمكن أن أتجاهل تأثيره عليّ في كثير من القرارات التي اتخذتها طوال فترة وجوده في القاهرة، وفي شقّته(3) عرفت معنى أن تكون في بلدك وأنت بعيد عنه، ففي كل مرّة أشعر فيها بالوحدة كانت شقته ملاذاً  لروحي، أشاكس أم مصطفى تارة (4)، وأتسلى بالحديث مع عم صلاح  تارة أخرى، وأطالع (الرايح  والجاي) من البلكونة تارة ثالثة، كما أننا لم نترك شارعاً في مدينة نصر لم تخطوه رجلينا معاً في أحاديث كثيرة عن الحياة  ومصر وعمان وأشياء أخرى مازالت تحتفظ بها نواصي تلك الشوارع التي لم يسلم المارّة بها من تعليقاتنا الضاحكة التي تحولت فيما بعد إلى (لزمة) يذكر كل منّا الآخر بها مع أول لقاء، فهذا متثائب لا يغلق فمه، وتلك أربعينية تزاحم الآخرين في وسيلة نقل عتيقة يوم إجازة رسمية أو في وقت متأخر من اليوم في وقت نعتقد فيه أن أولادها أولى  بطبخها بدلاً من مزاحمة الآخرين. هل هي لقمة العيش؟ هل هو كفاح المصري البسيط؟
يتحوّل بيت أبو مازن إلى ضيافة عامرة كل خميس، يبدو من هيئته البدويّة وسماره العربيّ الأصيل وكأنّه خلق كشيخ قبيلة أو كملاح لسفينة شراعيّة تجوب الموانئ ، فملامحه توحي بأنك قد رأيته يوماً ما في مكان يضج بالسفن والخيام والبشر. كنت أنتظر دعوته لي نهاية كل أسبوع بفارغ الصبر كي  (أرمّ عظمي) بما تجود به مائدته العامرة من وجبات عمانيّة أصيلة كدت أن أنساها بسبب طول مدة الغياب عن البلد(5)، وفي مجلسه عرفت العشرات من العمانيين والخليجيين والمصريين من مختلف الفئات والأعمار والمستويات الفكرية والاجتماعيّة الذي كانوا يجدون في شقته ملاذاً لهم، والذين ارتبطت ببعضهم بعد ذلك في علاقات صداقة وود مازالت مستمرة حتى الآن.
يقع (كنوز) في ركن خان الخليلي بالدور الرابع من المول، حيث محلات التحف والبازارات التي تعرض وتبيع التحف والإكسسوارات واللوحات التي تجسّد  لحضارة مصر العريقة عبر مراحل تاريخها المختلفة، ويتميز باتساع مساحته، وينقسم إلى مطعم وكافيه، وهو مصمم على الطراز الإسلامي، حيث  المداخل الواسعة، والأقواس المزخرفة، وحيث الديكور المغربي الذي يغطي المكان، وعلى الجدران بضعة رسوم زيتيّة لخيول عربيّة أصيلة، ومعارك حربية قديمة، وجداريّات من الجبس لبعض المساجد الشهيرة، وبضعة تماثيل على النمط الاغريقي هنا وهناك .
برغم أنني أجلس فيه بمعدل مرة كل أسبوع إلا أنني لا أشعر بمتعة حقيقية عند زيارتي له في كلّ مرة، فبرغم كل الجهد المبذول في تصميمه بحيث يبدو أقرب إلى أجواء الحسين والغوريّة والخان، إلا أنني أشعر بأنه جهد متكلف، فالزبائن من نوعية أخرى تختلف عمّن تقابلهم في حواري خان الخليلي، والطعام لا يمتّ بصلة لمثيله في فرحات والمالكي وشعبان، والعمّال يبدو عليهم التكلّف والعصرنة بعكس نظرائهم العفويين في مقاهي القاهرة الاسلامية، هذا عدا (المينيم تشارج) والأسعار المبالغ فيها، ولولا رغبتي الحميمية كلّ مرة في لقاء أبو مازن الذي يسكن قريباً من المول لما حرصت على ارتياده بهذا الشكل المتكرّر.
يطلّ أبو مازن بهيبته التي اكتسب جزءاً كبيراً منها بسبب طبيعة عمله التي تفرض الالتزام في أشياء كثيرة، ورشاقته التي لا تتأثر برغم عشرات الولائم والموائد وكميّات (الهبر) التي تسفك على مائدته، ونظّارته الشمسيّة التي تحتل جزءاً من جيب قميصه العلوي، موزعاً ابتساماته وتعليقاته الضاحكة على العاملين الذين اعتادوا منه هذه (القفشات) كاعتيادهم على البقشيش الذي يضعه مع الحساب  في كلّ مرة يأتي فيها إلى المقهى.
بعد دقائق طويلة من الحديث الممتع له عن مواقف هنا وهناك، وعن نميمة تطال صلاح البوّاب، واللواء سعيد المحاضر الطيب في الكلية، وعن الكلب الشخصي الذي تملكه ابنة شيخ الدين الأزهري الشهير الذي يملك العمارة التي يسكن فيها محمد،  يخيّم الصمت على الجلسة  فيعرف بحدسه أن شيئاً ما قد غيّر مزاجي، فيلتفت إليّ بلهجته الصوريّة القحّة ذاكراً عبارة استفتح بها حديثي معه في كل مرة أقابله أو أحادثه فيها: "أجول لك وراهم العرب في المترو يوم  يتثاوبوا ما يسكروا ثمهم، ووراهن الحريم الكبار نهار اليمعه  تارسات الباصات والمترو. أللاه  معندهن عيال يطبخن لهم غدا؟" .
أنفجر ضاحكاً وينفجر معي محمد وسط استغراب المحيطين، ونغادر المقهى لا نلوي على شيء.

(1)   أوهمني في بدايات معرفتي به أنه ينام في التاسعة، ثم فاجأني  بسهراته الطويلة معي في كل مرة نجلس فيها معاً.

(2)   الدكتور محمد بن راشد المخيني. من رفاق الغربة  الذين كافحوا طويلاً  حتى نال درجة الدكتوراه في مجال تكنولوجيا التعليم بامتياز وهو لم يتعد الثلاثين. يحفظ حواري بين السرايات كما يحفظ العبد لله   أصابع يده الخمسة.

(3)   عرفت بعدها أن خبير التنمية البشرية الشهير الدكتور  ابراهيم الفقّي كان يسكن في العمارة المجاورة له.

(4)   شبراوية من ضحايا العهد المباركي. لا تعبّر ضخامة جسدها عن همومها المتراكمة من جراء السعي خلف الفتات الذي يسد رمق أطفال فقدوا متعة الحياة في بلد يموت فيها البعض غارقاً في التخمة.

(5)    قلت له ذات مرّة ضاحكاً: يحق لأم مصطفى  أن تصبح بهذه الهيئة مادام صالون شقّتك لا يكف عن استقبال الزوّار والمقيمين ليل نهار، ومادام فرن مطبخك لا يكف عن الاشتعال. فقط أخشى عليها أن تنفجر يوماً ما فتتحمل وزرها.

 

 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.