الأحد، 23 أغسطس 2015

ظفار.. حيث للإبهار حكاية

عندما قرّرت قضاء بضعة أيّام للنقاهة بعد انهاك سنة متواصلة ما بين العمل والتدريس ومشاغل أخرى متفرّقة كان السفر إلى الخارج هو الأولويّة التي اخترتها لولا أنّ جدول التدريس الصيفيّ لم يسمح لي بفسحة طويلة من الوقت فكان الخيار الجاهز هو الذهاب إلى أرض الجنوب، حيث كلّ شيء أخضر..حتى القلوب.
وعلي الرّغم من أنني قد زرت ظفار من قبل أكثر من مرّة، وعلى الرغم من انبهاري بأشياء كثيرة جميلة بها في كلّ مرّة إلا أنّني كحال كثيرين غيري ننسى أو نتناسى كل ذلك البذخ والجمال التي تحبى به هذه (الجنّة) الأرضيّة، وتسيطر علينا عقدة (الخواجة)، ويكون التفكير في السّفر إلى الخارج هو همّنا مبرّرين ذلك بأسباب قد يكون بعضها حقيقيّاً، والبعض الآخر من صنع أوهامنا كالخدمات، وأماكن السّكن المناسبة، ووسائل النّقل، والترفيه، وغيرها.
عندما هبطت الطائرة في مطار صلالة الجديد كان انبهاري الأوّل في هذه الزيارة، حيث وبالاضافة إلى اعجابي بالتّحفة المعماريّة الرائعة المتمثّلة في مرافق المطار فإنّ انتظاري لم يدم سوى لدقائق أخذت بعدها حقائبي مغادراً المطار الجميل لتبدأ أولى عناوين موسوعة الكرم الظّفاري في استقبالي متمثّلة في زخّات المطر الخفيفة التي يبدو أنّها كانت تنتظرني لتزيل شيئاً من بقايا العرق الذي خلّفه حرّ العامرات والذي تضرب به الأمثلة، وتسير بذكره الرّكبان، وهي موسوعة ظللت أتنقّل بين فصولها طوال فترة إقامتي القصيرة في المحافظة، وليتها لم تنته!

وبينما أغادر بوّابة (التّحفة) كان (أبو سالم) وهو شابّ جعلانيّ سمح المحيّا، بشوش الطّلّة في انتظاري بابتسامته الودودة التي افتقدتها منذ أسبوعين كاملين، وهي مدّة طويلة لم أعتدها كونه زميل عمل، وصديق حياة، ورفيق جلسة، كي يأخذني لا إلى مقرّ السّكن، ولكن إلى بيتهم العامر كي ألتقي بوالده وإخوته الكرام، فكان اللقاء الحميميّ الذي بدّد شيئاً من وحشة مفارقة الأهل بالرغم من أنّنا في وطن واحد متوحّد. على الرغم من أنّ حمد الصوّاعيّ وأسرته يسكنون صلالة منذ فترة طويلة إلا أنّ بيتهم يكاد يكون قبلة لكثير من الأهل والأصدقاء والأقارب والمعارف الزائرين لصلالة، ولا يكاد مجلسهم يخلو من ضيف داخل أو خارج، ولا يكادون يسمعون بأحد يحتاج لخدمة ما أو يتعرّض لمأزق معيّن إلا ويكونون أول الناس تقديماً للعون والمساعدة دون منّة أو مباهاة.

في ظفار وجدت أشياء كثيرة جميلة ورائعة: وجدت همّة العمانيّ حكومة وأفراداً في أن يجعلوا من المحافظة جميلة نظيفة متطوّرة مواكبة لمدن العالم السياحيّة، فالعمران في كلّ مكان، والمنشئات السياحيّة والاقتصاديّة والترفيهيّة تتضاعف كلّ عام، وعمّال النظافة في كلّ بقعة حتّى فوق مستوى الغيم، ورجال الشرطة البواسل يتحدّون كلّ الظروف من أجل توفير الأمن والأمان للزائر والمقيم.

في ظفار وجدت بقاع العالم الجميلة كلّها على موعد لقاء وسط ربوعها، فعلى سفوح دربات وطوي عتير ومدينة الحقّ تخيّلت مشهد الريف الأوروبّيّ الذي يتحفنا البعض بتصويره عبر صفحاتهم على مواقع التّواصل الاجتماعي، ولن أنسى ما حييت وأنا جالس على تلك الشرفة التي تطلّ على دربات منظر السّهل الأخضر الممتد بينما (نهير) صغير يجري وسطه، ولم يتبقّ سوى بضعة أكواخ هنا وهناك كي يكتمل المشهد. وفي ايتين تذكّرت سهول وجبال شيانغماي التايلانديّة، وعند مزارع النارجيل وأكشاك بيع المشلي تخيّلت جنوب الهند وسريلانكا حيث البحر، وحيث أشجار النارجيل الباسقة، وحيث الهنود بلباسهم التقليديّ، وتأسّفت كثيراً على (الألوف) التي ضيّعتها برفقة العائلة في آخر رحلة لتايلند، وحمدت الله أنّني غيّرت قرار السّفر إلى جنوب آسيا في آخر لحظة، فما رأيته هنا كان أجمل بكثير، وما لم أره سيكون بالتأكيد أكثر جمالاً وروعة.

في ظفار وجدت البساطة والكرم وطيبة النّفس والقناعة متجسّدة في تصرّفات الكثير من أبناء المحافظة والمقيمين بها، وكأنّهم اقتبسوا هذه الصّفات من أهلها، ففي الفندق اللطيف الذي نزلت به كانت الابتسامات تلاحقني عند دخولي وخروجي، والناس في الشارع على استعداد لتقديم أيّ عون ترغبه، والشيخ سالم بن محمد الصوّاعي وأبناءه الكرام، ومحمّد غوّاص وهو نموذج للشابّ الظفاريّ الأصيل كانوا حاضرين معي في كلّ لحظة، وكانت طلباتي تجاب قبل أن أتحدّث بها، وكان يكفي الحديث عن أيّ شيء أرغب به أو أسأل عنه لأجد السيارة جاهزة لأخذي إلى المكان المطلوب، أو لأجده بعد ذلك في غرفتي إن كنت أسأل عن غرض ما حتّى لكدت أن أدّعي البكم كي لا أبدو ضيفاً ثقيلاً، وفي الوقت ذاته فقد بهرني رخص الأسعار ومناسبتها في كل مكان أذهب إليه، فلكم أن تتخيّلوا أنّ أماكن خرافيّة ساحرة كالمقاهي التي في أحضان الضباب والتي يمكن أن يدفع المرء ما يشاء من النقود كي يدخلها ليستمتع بالجلوس في إحدى شرفاتها، أنّ حساب طاولة بأكملها لا يتجاوز ثمن كوب عصير في أحد مقاهي المدن الأخرى، ولكم أن تتخيّلوا كذلك أنّ ثمن وجبة غداء كاملة في أحد المطاعم المتوسّطة لا تتجاوز الريال، وقيسوا على ذلك محلات الملابس والهدايا والكماليّات وغيرها، حتّى لكدت أصرخ في وجه أحد مرافقي: ألا يعلم هؤلاء القوم أننا في موسم سياحيّ، وأن الأسعار في كثير من المدن السياحيّة تتضاعف كثيراً، فما بال أسعار هؤلاء القوم هكذا!! إنّها البساطة والقناعة التي مازال سكّان هذه البقعة الاستثنائيّة يحتفظون بمفرداتها حتى الآن! 

في ظفار أعدت الاستمتاع بالفن الجميل الذي افتقدته منذ زمن وسط (هوجة) ما يعرف بالأغاني الشبابيّة، ولأنّ أبا سالم كان يعرف ذوقي جيّداً، ويعرف مطلوبي كذلك، فقد استعدّ ببضعة اسطوانات لمسلّم علي عبد الكريم، وأحمد مبارك غديّر، وسالم علي سعيد، وآخرين، ولكم أن تتخيّلوا حالتي أنا المنهك نفسيّاً، المتوتّر عصبيّاً من جرّاء الحرّ، والرطوبة، وزحمة الشوارع، وطول ساعات العمل اليوميّة هنا وهناك، وأنا أستمع إلى مسلّم علي وهو يشدو: (ساعة مرّت بي زمان..والعين لك تشتكي..يا ساكن الدار متى الحبيب يجي)، بينما أنا فوق الغيم، والضباب يحيط بي، ونسمات الهواء الباردة تتسلّل إلى السيّارة من هنا وهناك. وقتها لم أتمالك نفسي، وصرخت بلا شعور: أين أنا بالضبط!! ووقتها فقط عرفت لماذا كل هذا الكمّ من الابداع الذي ينبعث من أعمال هؤلاء! ولماذا تتكرّر كلمات كالغيوم والخضرة والخريف والجمال والندى في أغنياتهم، ولماذا أشعر بابتسامتهم وثغرهم المفتوح وهم يغنّون! بالتأكيد فمن يعيش في أجواء كهذه لا يمكنه إلا أن يبتسم طوال الوقت.

في ظفار عرفت معنى التّكافل الاجتماعيّ الذي نادى به الاسلام على حقيقته، وعلى أن تكون جزءاً مهمّاً من المجتمع، متفاعلاً مع قضاياه، سنداً للآخرين، ولعل أمراً كهذا يظهر في كثير من المناسبات لعل من بينها ما يحدث في الأفراح عندما يبادر كثير من الأشخاص بتقديم بعض المبالغ أو التكفّل بتوفير بعض المستلزمات كلّ على قدر استطاعته مساعدة منهم للعريس على تحمّل تكاليف زواجه كعادة ظفاريّة أصيلة، حتّى ليكاد بعض الشّباب لا يدفعون ريالاً من جيوبهم تجاه تلك المصاريف وهو الأمر الذي يتكرّر في حالات العزاء، أو حاجة البعض للعلاج، أو لمعاونة بعض الحالات الاجتماعية كالأرامل والأيتام والعجزة فاقدي العمل وغيرها من الحالات، وأمر جميل كهذا لا يقتصر على الموسرين فقط، بل يتعدّاه للآخرين، بل إنّ بعضهم يتسلّف أحياناً مقابل أن يساهم في أمور مجتمعيّة جليلة كهذه! وموضوعات كهذه بحاجة إلى سلسلة مقالات كاملة لا بضعة سطور هنا
في ظفار وجدت أشياء كثيرة جميلة، ترسّخت قناعات، وتبدّلت أخرى، واقتنعت كما في كلّ مرّة أن هذه البقعة الجميلة تغني عن السّفر إلى بقاع أخرى نتكبّد من أجلها الحال والمال، وأنّ كثيراً مما يطلبه الفرد من مباهج الدنيا الحلال موجوده بها، فالأمن، والأمان، والسكن المناسب، والجو المريح للأعصاب، ورخص الحياة، وقناعة الناس، وأشياء كثيرة لا تعد كلها موجودة في هذا المكان. فقط هو الاقتناع وتبديل الصور النمطيّة الذهنيّة المرسومة مسبقاً.

وإن كان هناك من شيء آلمني ونغّص عليّ رحلتي فهو نفس الشيء الذي يؤلمني في كل زيارة لي لولايات السلطنة ألا وهو إهمال البيوت الأثريّة، وكم كان أسفي بادياً وأنا أرى حارات كاملة وسط صلالة ببيوتها الأثريّة التي تحكي تاريخ طويل مجيد من النشاط البشريّ الذي ميّز المنطقة وهي تتحوّل إلى مأوى للعمالة الوافدة، وبعضها تهدّم أو يكاد!!

بينما أغادر أرض الأصالة عائداً إلى العامرة مسقط كان صوت الجميل أحمد مبارك غديّر ينساب هادئا من طرف قريب :هزّني الشوق لظفار الغالية.. للحبايب والزوامل والفنون.


عن "بيوت شباب" الأشخرة

حالة من المرارة والألم والكآبة أصابتني بعد آخر زيارة لي إلى "بيوت الشباب" في الأشخرة، ذلك الصّرح المعماري الذي توقعت كما توقّع الكثيرون أن يشكّل نقلة نوعيّة كبيرة في خارطة السياحة المحلّيّة بالأشخرة وما جاورها في ظل عدم وجود بنية تحتيّة سياحية بالمنطقة، و"يسهم في تعزيز البنية التحتية السياحية في السلطنة، وسيصبح وجهة سياحية داخلية تستقطب مختلف فئات المجتمع ومشروعا ناجحا يفضي في نهاية المطاف لبلوغ اهدافه وغاياته" كما أتى ذلك في كلمة وزارة السياحة عند افتتاحه في يونيو 2004، ذلك أن هذا (المعلم) السياحيّ المهم كان في حالة يرثى لها من الإهمال واللامبالاة التي وصلت إلى درجة إغلاق حوالي نصف الشقق التي يتكوّن منها المبنى، وإلى درجة عدم تغيير أثاث بعض الغرف والمرافق منذ افتتاحه قبل إحدى عشر سنة من الآن!!

هذا المشروع الذي هو في الأساس مكرمة سامية من مكارم جلالته المتعدّدة لأبنائه الشباب ليكون مكاناً يوفّر لهم الاقامة المناسبة بأسعار زهيدة، كما هي فكرة بيوت الشباب في كثير من دول العالم، وليحتضن مناشطهم الثقافيّة والاجتماعيّة المتنوّعة، أخذ منحى آخر، فبدلاً من أن يتبع الجهة المعنيّة بالشباب وكان في وقتها الهيئة العامّة للأنشطة الثقافيّة والرياضيّة أصبح الإشراف عليه من طرف وزارة السياحة، وأصبح الهدف منه هو "تحفيز العائلات العمانية على التنقل في ربوع البلاد، وتشجيع السياحة الداخلية، والافادة من الاسعار المدعومة من الحكومة بهدف تقليل الأسعار العالية للفنادق خصوصاً في المواسم السياحية"، وأصبح مسمى "بيوت الشباب" مجرّد تسمية لا علاقة لها بالفكرة!

في البداية سلّمت البيوت تسليم اليد بأثاثها ومرافقها المتكاملة لأحد المستثمرين العرب المقيمين في السلطنة وقد قام بتوظيف بعض العمالة غير المدرّبة من أبناء المنطقة في أعمال التنظيف والحراسة وإعداد الوجبات وغيرها على أمل أن يتم تدريبهم مستقبلاً، وكان الإقبال على المبنى الأنيق الذي تحيط به رمال الصحراء والقريب من بحر العرب كبيراً لدرجة أنّ هذا المستثمر كان يحدّثني باستمرار عن الاتصالات التي تأتي للبيت من قبل شخصيات كبيرة من أجل حجز إحدى شقق المشروع التي كانت تتكوّن من غرفة واسعة وأمامها صالة أوسع، ومطبخ على النّظام الغربي، وارتفعت تكلفة الليلة لتصل إلى ما يقارب 30 ريالاً بدلاً من السّعر السّابق الذي قرّرته الوزارة والمقدّر بحوالي 12 ريالاً! وبعد فترة من الزّمن فوجئت بسحب المشروع من هذا المستثمر وإغلاق البيوت لفترة من الزّمن، وبالطّبع لم يتم تدريب أحد من أولئك الشّباب الذين كانوا يعملون به.
تعاقدت وزارة السياحة بعدها مع إحدى الشركات العاملة في مجال السّياحة على إدارة المشروع مقابل مبلغ سنويّ تدفعه الوزارة نظير هذه الإدارة، ولم تفلح هذه الخطوة كذلك في إنقاذ المشروع من فشل الإدارة، وبحسب ما سمعته من بعض المسئولين القريبين من هذا الشأن ووما قرأته في إحدى الصحف فإن الحكومة تقوم حالياً بدراسة إحالة "بيوت الشباب سابقا" للاستثمار من قبل القطاع الخاص، حيث تم تكليف الشركة العمانية للتنمية السياحية "عمران" بإعداد هذه الدراسة".

أذكر أنّه في نهاية حفل افتتاح هذا المبنى الذي حضرته كمراسل لاذاعة وتلفزيون سلطنة عمان في ذلك الوقت صرّح وزير الاقتصاد الوطني وقتها "أن هذه البيوت سوف تساعد بشكل كبير الشباب العماني على السياحة الداخلية وذلك للمستوى الراقي والذي شيد به هذا المشروع والذي يباهي مستويات فنادق الاربع نجوم، كما أنّ تسعيرة هذه البيوت ستكون رخيصة للغاية بحيث يصل سعر الجناح الواحد الى 13 ريالا!! كما سوف يساهم بشكل كبير في انفاق المبالغ داخل البلاد من خلال تفعيل دور السياحة في السلطنة، وسيقوم بتطبيق نسبة التعمين للشباب العماني الراغب في العمل حيث تصل هذه النسبة الى 65% من كافة مناطق هذه النيابة الساحلية والمناطق المجاورة لها".
والآن، وبعد مرور أحد عشر سنة على إنشاء هذا المشروع، وعلى الرغم من كل التصريحات الورديّة التي سمعناها من قبل المسئولين عنه في حفل افتتاحه، إلا أنّ كل ما قيل بقي حبراً على ورق، ومجرّد تصريحات للاستهلاك الإعلامي، فما زال المبنى مجرد مبنى معزول في منطقة بعيدة في أطراف نيابة الاشخرة ومعظم شققه غير صالحة للسكن، وما زالت الخدمات تنقصها الكثير، فلا شباب عماني مؤهّل ومدرّب للعمل به، وإن وجدوا فالمعوّقات كثيرة، ولا حوض سباحة مناسب، ولا مطعم أو مقهى خارجيّ، ولا حديقة يمكن أن تعطي للمكان روعة وجمال، ولا أيّة بنية تحتيّة يمكن أن تخدم مرتادي المكان كمحلات التسوّق أو محلات الحلاقة وتنظيف الملابس وغيرها، ولا خدمات نقل، ولا عروض سياحيّة أو فنّية، ولا ملاعب أطفال، على الرغم من أن توفير كلّ هذا ليس بالأمر الصّعب، وعلى الرغم من أن المنطقة تحتوي كثيراً من المقوّمات التي يمكن أن تجعل المكان أكثر أهميّة ونشاطاً.

إنّ مشروعاً كهذا كان يمكن أن ينجح بكل سهولة ويسر، بل ويتوسّع في منشآته ومرافقه لو وجد الإدارة الجيّدة بعيداً عن المحاباة في ارساء مناقصة إدارته على هذا أو ذاك، وبعيداً عن البيروقراطيّة في إدارته، فنيابة كالأشخرة بها من المقوّمات السياحيّة ما يجعل أيّ مشروع سياحيّ ينجح بها دون بذل كثير من الجهد، فجوّها معتدل طوال العام فما بالك بصيفها الجميل! وكثير من مرافق البنية التحتيّة من كهرباء، وطرق، وهاتف، ومحلات تجاريّة متوافرة، والسياح يفترشون الأرض على امتداد شاطئها بحثاً عن شبه غرفة مناسبة يمكن أن تأويهم، فما بالكم بمشروع كهذا!! وأنا كشخص قد لا أفقه كثيراً في السّياحة يمكن لي وبشيء من العمل البسيط أن أجعل هذا المكان قبلة للسيّاح بحيث لا يكادون يجدون موطأ قدم من التزاحم الذي سيحدث على حجز ولو ليلة فيه، فتغيير الأثاث واستبداله بأثاث عصريّ، وزراعة بعض الشتلات هنا وهناك، وتصميم حوض سباحة تحيط به جلسات خارجيّة ومقهى يديره شباب متخصّص، وغيرها من هذه الأفكار ليس بالأمر المستحيل، خاصّة وأنّ هناك ملايين النماذج العالميّة لمشاريع مشابهة يمكن بضغطة زرّ الاطّلاع عليها والتعرف على تجربتها، ومن ثمّ يبقى التسويق المناسب وكيفيّة جذب الأفواج السياحيّة مع الاستفادة من أبناء المنطقة في تقديم العروض الفنّيّة والثقافيّة من خلال الفرق المنتشرة، وتوفير رحلات سياحيّة للمناطق السياحيّة المحيطة. أي أن المشروع باختصار يمكن أن يسهم في فتح بيوت كثيرة، ويشجع الآخرين على إنشاء مشاريع مماثلة مستقبلاً وهو الأمر الذي نراه في مناطق أخرى مشابهة في العالم، أما أن آتي بشركة لتدير المشروع وكأنّهم موظفين بيروقراطيين في مؤسّسة فهذا يمكن أن يصلح في أيّ نشاط عدا السياحة، ذلك أنّ السياحة في المقام الأوّل صناعة تعتمد على الأفكار الخلاقة، وعلى الاحترافيّة في إداراة أنشطتها، وعلى الابتكار في تقديم الخدمات التي يرغب فيها السائح، لا مجرّد توفير مبنى ووضع موظفين بيروقراطيّين كل مهمّتهم تنفيذ أعمال روتينيّة.


بعيداً عن كلّ هذا يبقى تساؤلي المهم: أين الجهات المسئولة من حكومة، وجهاز رقابة، ومجلس شورى وغيرها من مشروع حكوميّ كهذا طوال أحد عشر عاماً؟! ومن يتحمّل مسئوليّة فشل إدارته؟! وما مصيره في قادم الأيّام؟!

قراءة في واقع انتخابات مجلس الشورى القادمة

(1)
أظهرت القوائم النهائية للمرشحين لعضوية مجلس الشورى للفترة الثامنة تقدّم (674) مرشحاً لنيل (85) مقعداً لعضوية المجلس، وهو عدد يقل بحوالي (459) مترشّحاً عن الدورة السابعة التي شهدت ترشّح (1133) شخصاً، وقد تكون هناك عدّة أسباب وراء هذا الانخفاض لعلّ من بينها عدم انطباق بعض الشّروط على كثير من المترشّحين التقليديّين في المراحل السّابقة وبالأخص شرط المؤهّل العلمي، واستبعاد بعض المترشّحين لأسباب مختلفة، وربّما يأس البعض وخاصّة من أصحاب الشهادات العليا بعد أن أدركوا أن الشّهادة والثّقافة لوحدها قد لا تكون عاملاً مهماً لحصد الأصوات، إضافة إلى اختلاف الظروف الحاليّة عن تلك التي صاحبت الترشّح للدورة السّابقة، والتي شجّعت البعض وقتها على الترشّح أملاً في تحقيق مكاسب معيّنة.
من الملاحظ كذلك انخفاض عدد النساء المترشحات للتنافس على مقاعد عضوية المجلس للدورة القادمة حيث بلغ عدد النساء المترشّحات (21) امرأة، مقارنة بـ (77) امرأة نافسن على الترشح لعضوية مجلس الشورى للفترة السابعة، وفازت منهن امرأة واحدة فقط، وهو أمر غريب خاصّة ونحن نتحدّث عن فارق يبلغ (56) امرأة، علماً بأن كثير من المترشّحات في العادة هن من اللواتي تنطبق عليهنّ شروط الانتخاب خاصّة فيما يتعلّق بالمستوى العلمي، وكثير من المترشّحات كذلك هنّ من اللواتي لهنّ إسهام ملموس في الحياة المجتمعيّة من خلال عضويّة عدد من الجمعيّات التطوّعيّة، أو من خلال دورهنّ الوظيفي في المؤسّسات التربويّة والخدميّة، فهل هو اليأس من النّجاح في ظلّ ضعف قدرة بعضهنّ على حشد أصوات الناخبات على الأقل؟! وهل هي النتيجة المخيّبة للآمال التي ححصلت عليها المرأة العمانيّة في الدورة السابقة من خلال الفوز بمقعد واحد فقط؟! هل السبب يكمن في المجتمع الذي مازال ينظر قطاع منه للمرأة على أنّها غير قادرة على تحمّل المسئوليّات الجسام، أم هي ضعف قدرة المرأة على التسويق الجيّد لنشاطها وبرامجها وقدرتها على اثبات نفسها كلاعب مجتمعيّ مهم لا يقل قدرة عن الرجل، أم هي أسباب مشتركة؟!!
 (2)
هل ما زال طموح (البعض) من خلال ترشّحه لعضويّة المجلس في دورته القادمة هو الوصول إلى أحد المناصب العليا، خاصّة بعد اختيار عدد من أعضاء مجلس الشورى في المرحلة السّابقة لتولي مسئولية بعض الوظائف العليا، وأمله في أن يصبح مسئولاً كبيراً يشار إليه بالبنان؟!
هل لدينا بالفعل نماذج من "عبده مشتاق" في مجتمعنا؟!!
(3)
مع ملاحظة تكرار ترشح بعض الأسماء التي لم يحالفها النجاح في الدورات السابقة، ومع كل التقدير لعدم يأس هؤلاء، ومحاولاتهم الدءوبة للنجاح كل مرة، إلا أن السؤال المطروح هو : هل حاول هؤلاء تقييم الأسباب التي أدّت إلى فشلهم في المرات السابقة، وتقديم أنفسهم بشكل يشعر فيه المجتمع أنهم يستحقون الوصول إلى المقعد البرلماني، أم أنهم تركوا الأمر لظروف الانتخابات القادمة؟!
(4)
يبالغ (البعض) من المترشّحين الجدد في التفاؤل بالنّجاح في الدورة الانتخابيّة القادمة، وسبب تفاؤلهم وثقتهم الكبيرة هي حصولهم على الدعم المعنوي والوعد بالترشيح من قبل عدد من الفاعلين في مجالات السياسة والثقافة والعمل التطوّعيّ، وقيامهم بالتواصل الفكريّ وعرض برامجهم على عدد من الاشخاص والمؤسسات الفاعلة في هذه المجالات.
 ومع وجود أسماء تستحق بالفعل دخول المجلس، إلا أنه لا يمكن المراهنة أو الاعتماد على أصوات هذه الشّرائح لوحدها، وأحياناً قد لا يكفي الصوت المفوّه، والفكر المتّقد، والحماس العالي، فالانتخابات لعبة سياسية معقّدة لها أساليبها وخباياها، وقطاع كبير من المنتخبين (بكسر الخاء) هم من الأغلبية الصامتة، الذين قد يكون اطلاعهم السياسي ضعيف، ورؤيتهم للأحداث مختلفة، وقد لا تشغلهم العملية الانتخابية بالشكل الذي يجعلهم يبدون اهتماماً جدياً بها وبعملية اختيار المرشح المناسب، وأحياناً يطبّقون مبدأ (القريب من العين قريب من القلب)، لذا فإن الاشتغال الحقيقي على هذه الشريحة أمر مهم للنجاح في العمليّة الانتخابيّة.
(5)
هل مجرد الاعتقاد بكون الفرد مواطناً له حقوق سياسية تكفل له الترشّح يعني قطعاً أحقيته في ذلك! أم إن الحصول على العضوية البرلمانية يتطلب إمكانات وقدرات فكرية وسياسية واجتماعيّة تتناسب والدور الذي ينبغي أن يمارسه البرلمان، وبالتالي على المرشّح التفكير ألف مرّة قبل اتّخاذه قرار خوض الترشّح ؟!
في بلدان العالم المتقدمة والتي تلعب فيها البرلمانات دوراً واضحاً في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصاديّة بها، يتقدم المرشّح متسلّحاً بالعديد من الانجازات الخدمية المجتمعية، ومجهزاً لبرنامج انتخابي واضح الملامح ودقيق الخطوات، وقابلاً للتطبيق، ويكون ملتزماً بتطبيقه متى ما تحقق له النجاح، وأساس الانتخاب هناك هو البرنامج وليس الشخص، فمتى كان البرنامج الانتخابي ملامساً لواقع المجتمع، معبراً عن تطلعاته واحتياجاته بعيداً عن التركيز على الأعمال الخدميّة التي هي من صميم جهات أخرى حكوميّة وبلديّة كتب له النجاح، وهذا الوعي لم يأت بين يوم وليلة، بل أتى بعد مخاضات عسيرة، وتجارب طويلة خاضتها برلمانات تلك الدّول.
(6)
خلال الدّورة الحاليّة التي ستكمل الأربع سنوات يلحّ عليّ سؤال مهم: ترى هل اشتغلنا خلال المرحلة السّابقة على توعية المجتمع بكافّة شرائحه بثقافة الانتخاب؟! وهل قامت الجهات المختلفة ابتداء من المدرسة وانتهاء باللجنة الوطنيّة للشباب مروراً بمؤسسات مختلفة كالاعلام والأندية والمؤسسة الدينيّة ومؤسسات المجتمع المدني كلّ بدوره في هذا المجال من خلال البرامج المختلفة التي ليس أقلّها انشاء البرلمانات الطلابيّة المصغّرة في المدارس والكلّيات، وتنظيم الورش العمليّة للشباب في مجال التنشئة السياسيّة، وتقديم برامج اعلاميّة تركّز على الحوار والنقاش حول قضايا مهمّة كالمواطنة وتعزيز الهويّة يشارك فيها الشباب جنباً إلى جنب مع المختصين؟! وهل قمنا بعمل استطلاعات رأي تقيس مدى وعي المجتمع بدور المجالس البرلمانيّة كسلطة مهمّة ضمن السلطات الثلاث التي تشكّل النظام السياسي، والمقارنة بين الآراء المجتمعيّة المختلفة لواقع أداء المجلس خلال الفترة السّابقة والحاليّة؟! وهل، وهل، وهل؟!! 

(7)
توقعاتي الخاصة لشكل المجلس في دورته القادمة هي أنه لن يحصل ذلك التغيير الكبير في تشكيلته، وسيكون النجاح حليف عدد لا بأس به من الأعضاء الحاليين، ذلك أن خبرتهم الانتخابية السابقة، وتوافر الإمكانات المادّيّة والاجتماعية لدى كثير منهم، وحداثة عهد كثير من المرشحين الجدد بأساليب العملية الانتخابية قد تكون عوامل رئيسة لنجاحهم، بالإضافة إلى عدم ترشّح بعض أصحاب الكتل الأنتخابيّة وبالأخص من المشايخ والرشداء والأعيان في المناطق التي ما زالت (القبليّة) تشكّل تأثيراً كبيراً في سير العمليّة الانتخابيّة، واستبعاد بعض المترشّحين من الحاليّين أو الجدد الذين كان (يعتقد) أنّهم سيكونون مرشّحين أقوياء، لأسباب مختلفة.