الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

في بلاد الأتراك (3)

كانت السّاعة قد اقتربت من السّابعة صباحاً وأنا ما زلت أتجوّل في شارع الاستقلال متأمّلاً معالمه، متفرّساً في وجوه من حولي من المارّة، مركّزاً على المحلات التي سأحتاج إليها عاجلاً كمحلات الصّرافة، وشركات الاتّصالات، وفي نفس الوقت باحثاً عن سكن مناسب أقضي فيه أيّام الرحلة، وكانت المقاهي الشرقيّة ضمن ما استهواني بينما خطواتي السّريعة تذرع الشارع لدرجة أنّني كنت أقف أمامها بعضاً من الوقت معتقداً أنّني لن أجد غيرها لو أكملت مسيري، متردّداً بين الدّخول أو مواصلة الطريق بحثاً عن السّكن أوّلاً، وضماناً لوجود عنوان يمكن أن تصل إليه حقيبتي التي نسيت في الدّوحة، ذلك أنّني عاشق قديم للمقاهي بعبقها الجميل، أتلذّذ بمشروباتها السّاخنة من شاي، ونعناع، وقهوة، وسحلب، وكركديه، وأطرب لصوت أحجار النّرد وهي تتناقل من يد ليد، وأكاد استنشق عبق رائحة الأرجيلة العجمي وهي تفوح في المكان وكأنّها شذى عطر باريسيّ معتّق، لدرجة أنّني عادة ما أحدّد من ضمن خياراتي في الأسفار أن تتوافر مقاه من هذا النّوع في البلد الذي أرغب في السفر إليه، بعكس مقاهي الإسبرسّو واللاتيه والكابتشينو ذات الطّابع الغربيّ التي أجد فيها نوعاً من الثّقل غير المستساغ!

 عند وصولي إلى النفق القريب من برج جلاطا أو (غلطا) حيث مقرّ نادي (جلاطا سراي) الشهير، وبالقرب من أحد مداخل محطّة مترو (شيشانه) أدركت أن الشارع قد انتهى لأبدأ جولة أخرى في الشّوارع الجانبيّة المتفرّعة منه متفاجئاً أنّها لا تقلّ عنه حركة وحيويّة، فعلى الرغم من صغر هذه الممرّات التي تربط شارع الاستقلال بحيّ (بيرا) التابع لمنطقة (بيوغلو) إلا أنّها كانت مليئة بالحركة والنشاط، ويتوزّع على جانبيها عشرات المطاعم والمقاهي والنّزل والمحلات المختلفة، واكتشفت في جولتي هذه أنّ أكثر النّزل والفنادق تقع في تلك الشّوارع والممرّات الجانبيّة لا في شارع الاستقلال ذاته كما كنت أعتقد، وحمدت الله أنّني لم أقم بالحجز المسبق عن طريق (البوكينج) أو غيره من المواقع، ذلك أنّني وجدت خيارات كثيرة متنوّعة وبأسعار مناسبة جداً تختلف عن تلك التي لاحظتها عند بحثي في الشوارع القريبة من ميدان تقسيم، الأمر الذي أتاح لي فرصة الانتقاء الجيّد إلى أن عثرت أخيراً على ضالّتي في فندق (او بيرا)، وهو نزل صغير أنيق يقع وسط سلسلة من الفنادق التي تحمل اسم الحيّ (بيرا)، ويحتل عدّة طوابق من مبنى تاريخيّ قديم يعود إلى القرن التاسع عشر، ولعل من بين الأسباب التي دعتني إلى اختياره دون بقيّة الفنادق التي تزخر بها المنطقة بساطة المكان وأناقته، حيث أنّه أشبه بالفيللا الأنيقة المنظّمة بشكل ينمّ عن ذوق رفيع، وقلّة عدد غرفه ونزلاءه، ومناسبة سعره، وبشاشة استقبال موظّف الاستقبال وعمّال الخدمة به وأنا الذي كنت قد استمعت إلى كلام قد يملأ مجلّدات كاملة حول تجهّم موظّفي الفنادق الأتراك وسوء معاملتهم للزبائن، كما أن الفندق يطلّ على شارع هادئ وحيويّ في ذات الوقت يحتوي على عدد من الفنادق بتصنيفاتها المختلفة، وبعض المؤسّسات الحكوميّة، بالإضافة إلى قربه من كافّة الخدمات التي قد أحتاج إليها، فالشارع يحتوي على نقطة شرطة، ومحلات بقالة وحلاقة، وأنماط مختلفة من المطاعم والمقاهي التركيّة والعالميّة، وهو على بعد خطوات من محطّة التكاسي المركزيّة، ويبعد حوالي 200 متر من محطة المترو، ولا يفصله عن شارع الاستقلال سوى ممر جانبي زاخر بالحركة والنشاط، كما اكتشفت بعد ذلك قربه من كثير من الأماكن السياحيّة والتاريخيّة في المدينة، فبرج جلاطا الشّهير لا يبعد أكثر من نصف كيلو من المكان، كما أنّ المكان يكاد يشكّل شرفة واسعة يمكنك من خلاله أن تتأمّل معالم اسطنبول القديمة بجسورها الشّهيرة كجسر جلاطا الذي يربط منطقة بيوغلو  بمنطقة (أمينونو) والسلطان أحمد بمساجدها وبازاراتها الشّهيرة، ومنطقة السلطان أيّوب، وقصور السلاطين المختلفة، وغيرها من الأماكن التي ستشكّل مادّة دسمة لتفاصيل أيّام الرحلة المتبقّية.

 كما أنّ غرف الفندق كانت برغم صغرها ( وهي سمة عامّة في أغلب فنادق اسطنبول) أنيقة دافئة، بل تكاد لا تختلف كثيراً عن فنادق الخمسة نجوم، مع توافر كافّة الخدمات بها من قنوات فضائيّة متنوّعة بما فيها قناة عمان، وخدمة (الواي فاي) فائقة السرعة، ودورة المياه الرخاميّة التي تشعرك وكأنّك في أحد الحمامات التركيّة القديمة مع لمسة تطوّر أنيقة، وغيرها من الخدمات الأخرى، الأمر الذي شعرت معها بأن الأمور ستكون طيّبة في بقيّة الأيّام، فأنا من الأشخاص الذين يعدّون موضوع السكن جزءاً مهمّاً من أيّة رحلة يقومون بها، وأمراً لا يقلّ شأناً عن بقيّة الأمور كزيارة المعالم السياحيّة، والتعرّف على تفاصيل الحياة اليوميّة للبشر، بل أكاد أعتبر مهمّة اختيار المكان متعة من ضمن المتع التي أبحث عنها في أسفاري، ولا غرابة أن أتنقّل بين أكثر من مكان في كلّ مرّة اذا ما استهواني شيء ما في أحد الفنادق أو النّزل!

وكأنّني أسابق الزّمن كي أستمتع بكلّ ثانية متبقّية من أيّام الرحلة السبعة، أهبط من غرفتي في طريقي إلى ركن الطّعام مكتفياً بتقليب بعض القنوات، وأخذ دشّ سريع لاستعادة نشاطي البدني، وحفظ بعض النّقود والأوراق المهمّة في الخزينة الملحقة بالغرفة، وهي عادة قديمة أقوم من خلالها بحفظ أشيائي المهمّة من أوراق، ووثائق سفر، وأموال في أكثر من مكان تحسّباً لأيّ ظرف، ومن ثمّ قمت باختيار مكاني في ركن قصيّ يطلّ على الشّارع الهادئ برغم حركة البشر التي لا تنقطع من سيّاح قادمين، وآخرين مغادرين، وموظّفين في طريقهم إلى أعمالهم، وآخرين متسكّعين، لتأتيني العاملة وهي سيّدة خمسينيّة تشعّ الطيبة والابتسامة من محيّاها، تشبه الممثّلة كريمة مختار وتكاد تقسم أنّك رأيتها في مسلسل تلفزيونيّ ما تؤدّي دور الأم الطيّبة الحنونة كما كانت تفعل تلك الممثّلة، لدرجة أنّني اعتقدت أنّ أصدقائي كانوا يقصدون أشخاصاً آخرين عند حديثهم عن التجهّم والعبوس والتكبّر في المعاملة!!

بكلّ ودّ ترحّب بي كريمة مختار – أقصد العاملة – ثم تسألني إن كنت أرغب في تناول القهوة أم الشاي أولاً، وهل سأذهب لإحضار الإفطار الذي يتكوّن من أطباق تركيّة صميمة كالزيتون بنوعيه الأسود والأخضر، وتشكيلة منوّعة من الأجبان، والسلطات المختلفة، والمكسّرات، والمجفّفات أم تعدّه لي بنفسها! بادلتها الابتسامة كعربون شكر لمعاملتها الراقية وطلبت منها كوب شاي أحمر بعد أن وصلت نكهته الزكيّة إلى خياشيم أنفي وكان أول كوب شاي لي في تركيا.. وما ألذّه!

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

هموم.. سياحيّة!


 (1)

في ظلّ كل ما يعانيه قطاع السّياحة من تحدّيات وجدل يدور بشأنه إلا أنّه من الظّلم الكبير أن نلقي باللوم على وزارة السّياحة لوحدها، ونحمّلها تبعات القصور الحاصل في هذا القطاع وكأنّها لوحدها المسئولة عن تطويره والارتقاء به، فوزارة السّياحة وبرغم الجهد الكبير الذي تبذله نحو الارتقاء بهذا القطاع الحيويّ المهمّ من أعمال توعية، ومشروعات تحوّل رقمي، وتسهيلات مختلفة للمستثمرين، وبرغم الإحصائيّات المتنوّعة التي تشير إلى حدوث تقدّم ملموس في هذا القطاع كمّاً وكيفاً، برأيي ينبغي أن تكون جهة مشرفة على تنفيذ رؤية الحكومة في هذا القطاع، وتمارس دور التنسيق بين الجهات المختلفة المرتبطة به، إضافة إلى القيام بأعباء التسويق والترويج والمساهمة في جذب الاستثمارات دون أن تتحمّل أعباء الإنشاءات وتوفير البنية التحتيّة التي هي من مسئوليّة جهات أخرى.

في آخر لقاء لي مع عدد من قيادات الوزارة وعلى رأسهم معالي الوزير لمست حرصاً حقيقيّاً صادقاً، وجهداً كبيراً مبذولاً من قبلهم نحو الارتقاء بهذا القطاع، واطّلعت على خطط مستقبليّة مهمّة، لكن التحدّيات كبيرة، وهم بحاجة إلى أياد أخرى تعينهم على أداء المهمّة دون إلقاء كافّة التبعات عليهم وحدهم.

(2)

يعني بالعربي الفصيح كي يتطوّر هذا القطاع ويسهم بدوره الحقيقي في تنمية مصادر الدّخل القومي، وتوفير فرص العمل، وخلق مناخ اقتصادي موازي فنحن بحاجة أوّلاً إلى رؤية حكوميّة واضحة في هذا المجال، بمعنى: كيف تنظر الحكومة إلى قطاع السّياحة؟ وهل هناك رؤية واضحة لها تجاهه؟!

يلي ذلك وضع استراتيجيّة متكاملة تتبنّاها الحكومة لا الوزارة التي يقتصر دورها كما أسلفت على التنسيق، ومتابعة تنفيذ الخطّة، وهذه الاستراتيجيّة تشمل خطوات عديدة لعل من بينها: دور المجالس البلديّة، المناهج، البرامج الإعلاميّة، مراجعة كافّة القوانين والتشريعات المرتبطة بمجالات الاستثمار في هذا القطاع، ومحاولة تبسيطها وتسهيلها على ألا تشمل القوانين الاقتصاديّة فقط، بل تتعدّاها للقوانين المرتبطة بالتراث المادّي وغيرها، وليس من العيب هنا دراسة تجارب الدول المختلفة، ومعرفة أسباب نجاحها أو فشلها، والاستفادة من عوامل النجاح والتقدّم.

 (3)

لن تتطوّر السّياحة الداخلية كذلك إلا بتفعيل دور المجالس البلدية، فمعظم الخدمات التي يحتاجها السائح والمقيم ينبغي أن يكون من صميم عملها، وكل ما يتعلق بالولايات من مرافق؛ ومعالم أثرية وبيئية فهو ينبغي أن يدخل ضمن اختصاصها، وفي كثير من مدن العالم الجميلة والمتكاملة الخدمات نجد أنّ من يقوم بتنظيم كافّة الأنشطة بها هي البلديّات المنتخبة دون تدخّل مركزي من قبل المؤسّسات الحكوميّة المركزيّة.

يعني باختصار لابد من وجود مجالس بلديّة منتخبة على مستوى المحافظات، والولايات، والقرى، لديها صلاحيّات واسعة، يتم اختيار أعضائها من بين أبنائها المبدعين المتخصّصين المحبّين للعمل البلدي التطوّعي، القادرين على التعامل مع امكانات وتحدّيات مناطقهم كما يتعامل الفنّان مع لوحته، ويمكن بمرور الوقت أن يحلّوا محلّ الجهات الحكومية البيروقراطيّة المشرفة على العمل البلدي، ويمكن أن يتغلّبوا على مشكلة الموارد الماليّة من خلال رسوم الخدمات البلديّة المختلفة، وضرائب الدخل للمؤسسات الاقتصاديّة العاملة في نطاق المنطقة، وعوائد استثمار بعض الأراضي والمباني، عدا مساهمة الشركات العاملة، وتبرّعات المجتمع المحلّي.

وقتها يمكن أن نوفّر بنية تحتيّة مناسبة لإقامة مشاريع اقتصاديّة سياحيّة مختلفة يديرها المجتمع المحلّي ذاته دون تدخّل مركزي بيروقراطي.

(4)

في كلّ زيارة لي لبعض القرى الجميلة التي تطلّ على البحر، أو تلك التي تقع بين أحضان الطبيعة البكر أتساءل بألم: لماذا تبدو قرانا بهذا الشكل! لماذا نجد القرى في كثير من الدول مخطّطة بشكل جيّد، مسفلتة بالحجارة الجميلة، شواطئها نظيفة وواسعة، تتناثر فيها الأشجار الكبيرة التي تضفي مزيداً من الجمال والبهجة، وتحيط بها المطاعم والمقاهي والنّزل الجميلة بمختلف مستوياتها، يتم استغلال بيوتها القديمة وحرفها التقليديّة، ويعمل كثير من سكّانها في أنشطة ذات علاقة بالسّياحة بحسب ما تشتهر به كلّ قرية على حدة.

ترى ما الذي يمنع قرانا أن تكون بصورة مشابهة لتلك؟! ولماذا تبدو شواطئنا كئيبة مبعثرة؟! ولماذا تخلو كثير من القرى من شجرة واحدة أو من نزل صغير، أو من مطعم أو مقهى مناسب، أو من حديقة عامّة صغيرة، أو حتّى من بضعة دورات مياه؟!

وماذا لو رغب أحدهم مثلاً في إقامة نزل سياحي، أو مطعم، أو مقهى أو ، فهل وزارة السّياحة هي التي ينبغي أن تمهّد الأرض، أو تشقّ الطريق، أو تسوّي رمال الشاطئ، أو تنشئ الكورنيش، أو تبني الحدائق ودورات المياه من أجل أن تتكامل الخدمات، فيأتي السائح، وينجح المشروع، أم أنّ هذه مسئوليّة جهات أخرى؟!  

عودة للمجالس البلديّة.

 (5)

ماذا قدّم مجلس الشّورى من أجل تطوير القطاع السّياحي في البلد؟! هل تمّ من خلاله تقديم مقترحات لقوانين وتشريعات يمكن أن تسهم في تسهيل المعاملات المتعلّقة بتنظيم القطاع السياحي كآليّة الحصول على الرّخص السياحيّة، وتسهيل إجراءات إنشاء المشاريع في هذا المجال وغيرها؟! هل تبنّى أحداً من الأعضاء مثلاً مشروعاً للحفاظ على الإرث الحضاري والشواهد المادّيّة من قلاع وحصون وحارات وبيوت وغيرها من خلال مراجعة أو اقتراح قانون ينظّم التعامل مع تلك الشّواهد، ويقيّم مدى أهمّيّتها، ويقترح إمكانيّة الاستفادة منها؟!

سؤالي ليس استنكاريّاً ولا اتهاماً موجّه بقدر ما هو رغبة في ايجاد تكامل بين المؤسّسات المختلفة للنهوض بهذا القطاع.

(6)

في مدن مصريّة كالإسكندرية، ومرسى مطروح، وشرم الشّيخ، والغردقة، وأسوان وغيرها يمكن أن تجد عشرات النّزل والفنادق والاستراحات والأندية الاجتماعيّة التّابعة للقوّات المسلّحة، والشرطة، والمؤسّسات الحكوميّة والخاصّة، وبأسعار مناسبة للطّبقات الوسطى والدّنيا، وبعض هذه النزل غير مقصورة على الفئات التّابعة لتلك الجهات بل يمكن لأيّ نزيل أن يقطنها ويستفيد من الخدمات المتنوّعة التي تقدّمها، عدا المعسكرات الشّبابيّة الدّائمة التي تستقطب ألوف الشّباب وطلاب المدارس والكلّيّات في معسكرات صيفيّة وشتويّة يتعرّفون من خلالها على معالم بلدهم، ويسهمون في دفع عجلة النشاط السّياحي والاقتصادي بشكل عام، وتقوم الدولة بتخصيص أراضي مناسبة لتلك المؤسّسات مقابل المشاريع السياحيّة والشبابيّة والاجتماعيّة التي تنفّذها من خلال الصناديق الاقتصاديّة الخاصّة بها.

 وتساؤلي الملحّ: أين هي رؤوس الأموال العمانيّة من الاستثمار في السّياحة الداخليّة؟! بل أين هي مساهمة صناديق التقاعد المختلفة في مشاريع كهذه؟! ولماذا لا تقوم الحكومة بتخصيص أراضي متكاملة الخدمات إلى بعض هذه المؤسّسات المشابهة لدينا من أجل استثمارها سياحيّاً وبالتالي توفير بدائل سياحيّة مناسبة لمنتسبيها وغيرهم، بشرط ألّا يتم استثمار تلك الأراضي في إقامة مشاريع الخمسة نجوم التي تقتصر على فئات بعينها من السيّاح، وأفراد الطبقة المخملية! 

(7)

الاقتراح الذي طرحته 32789867 مرّة سابقاً، وسأعيد طرحه مرات أخرى قادمة هو : لماذا لا نجرّب أن نأخذ (الأشخرة) كنموذج سياحي من خلال ايجاد جهاز اداري مستقل ماليّاً وإداريّاً يتبع مجلس الوزراء مباشرة، وتخصّص له ميزانيّة سنويّة تغطّي مشاريع البنية التحتيّة المطلوبة، ويمكن إدخال المستثمر الداخلي أو الخارجي كشريك في عمليّة التنمية من خلال تخصيص أراضي للاستثمار وفق شروط معيّنة، ويمكن بعد ذلك تقييم التجربة، ودراسة مدى امكانيّة تطبيقها في أماكن أخرى بشرط توافر كافّة الظروف المناسبة لنجاح التجربة!!

لماذا لا نجرّب؟!

(8)

باختصار.. يمكن لنا أن نجعل من بلدنا بلداً سياحيّاً جاذباً من الدرجة الأولى، فكثير من المقوّمات الطبيعيّة والبيئيّة والتاريخيّة متوافرة، والعنصر البشري العماني أثبت كفاءته منذ الأزل، والدول التي تقدّمت في هذا المجال قد لا تكون جميعها أفضل منّا من حيث الإمكانات أو الكفاءات، فقط الأمر بحاجة إلى رؤية حقيقيّة واضحة، وتشريعات مناسبة، وتكامل في أداء الأدوار بحيث تكون لدينا صناعة حقيقيّة للسياحة لا تقتصر على (الكامباوندات) الخاصّة بالنخب، ولا الفنادق المخصّصة لطبقات بعينها، ولا في التركيز على مدن بعينها كالعاصمة مثلاً، ويمكن لأي مشروع سياحي حقيقي أن يسهم في تنمية المنطقة التي يقع فيها، وكل مشروع يجرّ الآخر، وبالتالي مزيد من الخدمات، ومزيد من فرص العمل، ومزيد من الرسوم والضرائب، ومزيد من الدخل

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2015

في بلاد الأتراك (2)

كان ميدان (تقسيم) أو تكسيم هو بداية انطلاقتي رحلة الأسبوع التي سأقضيها في تركيا، وكان الحمام هو أول مستقبليّ في هذا الميدان، وكانت الصورة التي التقطتها لسرب حمام يلتقط بعض الحبوب بالقرب من محلات بيع الورود الطبيعيّة هي أوّل صورة ألتقطها في هذا البلد. ما أجمل أن يتعانق رمزيّ السلام والحبّ في لوحة واحدة، فكم يحتاج العالم إلى الاثنين معاً!!

كان الميدان الذي يعدّ بمثابة القلب بالنسبة للجانب الأوروبّي للمدينة، وغالباً ما يبدأ السائح رحلته من هناك، والذي كان في يوم ما نقطة تجمّع خطوط المياه الرئيسية وتفرعها إلى بقيّة أحياء اسطنبول زمن العثمانيين، والذي يعتبر المكان المفضّل للأتراك لإقامة مناسباتهم العامّة كالمسيرات، والمظاهرات، والاحتفالات المختلفة، خالياً على غير العادة سوى من بعض المارّة المتّجهين إلى محطّة المترو أو الشوارع المتفرّعة من الميدان، أو بعض السيّاح الذين كانوا يلتقطون صوراً تذكاريّة بالقرب من النصب التذكاريّ الذي يتوسّط المكان، والذي قام الفنان الايطالي (بيترو) بنحته عام 1928 لتخليد ذكرى أتاتورك والانتصار في حرب الاستقلال، ويحتوي على العديد من الشخصيات البارزة زمن أتاتورك، ولا غرابة في ذلك فقد كنّا في حوالي الخامسة صباحاً، وهو وقت مبكّر لمدينة تسهر حتّى الرّمق الأخير من الليل! 

ومن منطلق "ربّ ضارّة نافعة" فقد ساعدني عدم وصول حقيبتي على أخذ جولة استكشافيّة في المكان أتعرّف فيها على ملامحه، وأقارن بين الفنادق المختلفة خاصّة وأنّني لم أقم بحجز مكان الإقامة مسبقاً كما أفعل في رحلاتي العائليّة، بل تركت كلّ شيء للظروف لأنّي أردتها رحلة استثنائيّة أعيش فيها متعة المغامرة في كلّ لحظاتها، وكان محلّ حلويّات (حافظ مصطفى) هو أوّل من يستقبلني في الاتّجاه الذي ذهبت إليه، وهو محلّ حلويّات شهير تأسّس عام 1864، ويعدّ من معالم المدينة المعروفة لجودة حلويّاته وشهرتها، وقد حفظت اسمه مسبقاً لكثرة ما كان يردّده عنه بعض الأصدقاء. يا الله! ما كلّ هذا الهناء! حمام، وورود، وحلويات! يا لهذا الاستقبال الجميل.

من الناصية القريبة من حلواني حافظ مصطفى أدخل شارعاً فرعيّاً يحتوي على العديد من الفنادق ذات التصنيفات المختلفة، ومن خلال اللوحات التي تزيّن مداخل تلك الفنادق اكتشفت أنّني أكاد أعرف أسماء كثير من تلك الفنادق مسبقاً من خلال (مذاكرتي) الدقيقة لمواقع حجوزات الفنادق على شبكة المعلومات العالميّة والتي تعرّفت من خلالها على عدد من فنادق اسطنبول، ومواقعها، وأهم مرافقها، ومدى جودة خدماتها من خلال آراء المقيمين بها، وكنت قد اتّخذت قراراً بعدم القيام بالحجز المسبق لعدّة أسباب من بينها: وفرة أماكن الإقامة من فنادق وشقق وبنسيونات وبيوت شباب، وبالتالي فهناك مجال للمفاضلة والاختيار خاصّة أن المعروض كثير، ونحن لسنا في الصّيف، كما أنّني لست ملتزماً بمجموعة أو بأسرة قد يعيقا حركة تنقّلاتي، أمّا السبب الآخر فيعود إلى درس تعلّمته من خلال تجاربي السّابقة في السفر وهي عدم الحكم على أماكن الإقامة من خلال الصور المعروضة لها في مواقع الإنترنت، ذلك أن كثير منها لا يحاكي الواقع، ولا يعبّر عنه بشكل حقيقيّ، وقد يندم البعض على قيامه بحجز عدّة ليالي في فندق معيّن ثمّ يكتشف أنّه دون المستوى، لذا فقد حمدت الله أنّني لم أقم بالحجز المسبق حيث كانت مرافق بعض تلك الفنادق تختلف عمّا هو موجود في مواقع حجزها الالكترونيّة، ولا تتناسب مع أسعارها. وبعد وصولي إلى نهاية الشارع عدت راجعاً إلى الميدان كي أبدأ جولة أخرى جديدة.

من الميدان دخلت شارعاً أكثر اتّساعاً وتنظيماً، وتتوزّع المحلات، والمقاهي، والمطاعم على جنباته، ومن الوهلة الأولى خمّنت أنّه شارع (الاستقلال) ذلك أنّ الترام الأحمر الشهير الذي يميّز الشارع كان يمرّ في اللحظة التي دخلته فيها، ومنذ لحظة دخولي للشارع تأكّدت أنّ قضيّة اختيار مكان السّكن قد حسم لصالحه، ذلك أنّني كشخص يزور اسطنبول لأوّل مرّة كنت محتاراً بين ثلاثة أماكن توقّعت مسبقاً من خلال اطّلاعي وسؤالي أنّها الأنسب للسكن لتوافر الخدمات، وقربها من وسائل التنقّل، ولاحتوائها على المعالم السياحيّة المتنوّعة، وهي مناطق تقسيم، وشارع الاستقلال، والسّلطان أحمد، ففي شارع الاستقلال وبينما أنا أقطع الشارع الذي يبلغ طوله حوالي ثلاثة كيلومترات والذي كان يسمى (بالشارع الكبير) زمن العثمانيين وكان مكان تجمّع المثقّفين، وغيّر اسمه عند اعلان الجمهورية عام 1923 إحياءً لذكرى حرب الاستقلال التركيّة، ساعدني على ذلك روعة الجوّ الخريفيّ، وهدوء الشارع النسبي في هذا الوقت من الصّباح، يمكن أن يجد السّائح كلّ ما يبحث عنه خلال أيّام إقامته، فكافّة الخدمات من مطاعم، ومقاهي، ومصارف، ومسارح، ودور سينما، ومكتبات، ومجمّعات تجاريّة متوافرة، وكثير منها يقع في بنايات أثريّة ذات نمط معماريّ أنيق يضيف الكثير من الأناقة والجمال للشارع، كما أنّه مخصّص للمشاة فقط عدا سيّارات الشرطة أو البلديّة، وبالتالي لا إزعاج، ولا أبواق، ولا حذر في المشي كما في شوارع كثير من الدّول الأخرى، ولست أدري لماذا تقفز مصر عند كلّ عمليّة مقارنة أقوم بها، ربما يكون ذلك بسبب التشابه الكبير بين العديد من الأنماط المعماريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بين البلدين، إذ بينما وأنا أتجوّل في الشارع منبهراً بما أرى إذ قفزت صورة شارع طلعت حرب في وسط القاهرة أمام عينيّ، وعلي الرّغم من أنّ "طلعت حرب" يعدّ من أجمل شوارع القاهرة هندسة وتنظيماً، وعلى الرغم كذلك من تشابه نمطه المعماريّ مع شارع الاستقلال إلا أنّه تبقى فروقات كثيرة فيما يتعلّق بالنّظافة، وتنظيم الحركة، وتعامل البشر!

وبينما أتجوّل مبهوراً استوقفتني العديد من المعالم الجميلة التي تميّز هذا الشارع والتي سأتعامل معها خلال الأيّام القادمة حتّى حين مغادرتي المدينة، فأوّل ما صادفني كانت محلات (الشّاورما) التركيّة الشّهيرة التي تتصدّر مدخل الشارع مستقبلة الميدان، وبرغم أن السّاعة لم تتعدّ السّادسة صباحاً إلا أنّ تلك المحلات كانت مفتوحة، ومن أحدها استفتحت المطبخ التركيّ المشهور بوجباته اللّذيذة بشطيرة من شاورما الدّجاج لا يتجاوز سعرها الخمس ليرات أو حوالي 700 بيسة، وهي شطيرة تكفي لسدّ جوعك لساعات طويلة قادمة، وشتّان بينها وبين مثيلاتها في المطاعم المسمّاة ظلماً معنا بالمطاعم التركيّة! 

عدا مطاعم الشاورما فهناك العديد من المعالم التي قد تستوقفك طوال رحلة تجوالك في الشّارع أذكر منها مطعم بركات للشاروما، ومحلّ (مادو) المشهور بالآيس كريم ، ومحلّ حلويّات (حجّي بكير) الذي ينافس حافظ مصطفى في شهرته، ومطعم) بيلفان) للمأكولات التركية، ومحلّ (سوتش) المتخصّص في الحلويّات والفطائر والكباب، بالإضافة إلى محلات بيع التحف والخرز ومنها العين الزرقاء الطاردة للحسد والتي يقبل عليها الأتراك بشكل كبير، وكثير من المحلات التي تعرض لماركات عالميّة شهيرة في مجال الملابس، والساعات، والمجوهرات، والأدوات الكهربائيّة، وفروع لكثير من البنوك، وشركات الصرافة، والاتصالات وغيرها، ولا يمكن أن أنسى عربة النظافة التي تجوب الشارع في مواعيد يوميّة محدّدة تقوم من خلالها بكنس الشارع وغسله! بالمناسبة فقد كانت شوارع القاهرة في الثلاثينات تغسل كل صباح بالماء والصابون، وتم اختيارها في إحدى تلك السنوات كأنظف مدينة عالميّة!

أمّا متى، وأين، وكيف سكنت؟! فهذا ما سأتناوله في المقال القادم وسرد آخر لرحلتي في بلاد الأتراك.