الثلاثاء، 25 فبراير 2014

من ألف ليله

نعود ظهراً إلى (ظهر) مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة لتلبية دعوة ماجد بالزيارة، وهو شاب من أبناء الدقم، كافح من أجل الحصول على شهادة عليا في ظلّ عزوف (بعض) أقرانه عن ذلك لأسباب لا تتعلق بهم وحدهم.  يعمل ماجد بإحدى المؤسسات الحكوميّة في مسقط وأثبت جدارة في عمله تؤكد أن ابن المحافظة يستطيع أن يصل إلى أعلى المراتب الوظيفية متى ما توافرت له الظروف لذلك.

في خيمة الضيوف التي تتوسّط بيته نقضي سويعات رائعة مع عدد من أقرابه وجيرانه. هكذا هو البدويّ، لا يمكن أن يذوق طعامه دون أن يكون لجاره نصيباً منه، ولا يمكن أن يحتفي بضيف دون أن يشاركوه هذا الشرف، فالاحتفاء بالضيف هي عادة تكاد تصل لدرجة العبادة لديهم. أستغلّ الفرصة لأطرح أسئلة ظلّت مؤجلة لسنوات عن تاريخ المنطقة وأنساب سكّانها وأصولهم. لا أحد أفضل من البدوي يمكن أن يجيبك عن النّسب.

 في خيمته كذلك نلتقي بفتيان يختلفون عن بعض ممّن تراهم في المجمّعات التجاريّة ومسيرات فوز المنتخب. فتيان صقلتهم البيئة فجعلتهم رجالاً قبل حينهم. يحاورك أحدهم فتعتقد أنّه تجاوز العقد الثالث بقرون. فتيان لم يعرفوا (الجينز) بعد، ولا قصّات الشعر الغريبة، ولم يستدلوا بعد على عناوين مطاعم الوجبات السريعة.

برغم أننا اتفقنا مع ماجد على أن يكون غدائنا سمكاً فقط كون القرية تشتهر بأجود أنواعه حالها كحال بقية المدن والتجمعات المجاورة، إلا أن مائدة ماجد كانت - كعادة قومه – ينطبق عليها بيت الشعر الشعبيّ : 
للضيف معنا حقّه لزوم مدفوع .. نذبح عيال (البوش) ولا بكاري.

وأنا على مائدة الغداء أتذكّر قصّة رواها الرّحّالة (ثيسجر) عن كرم البدو وسخائهم، حيث أنه في إحدى المرّات" وجد في الصحراء رجلاً طاعناً في السّن بلغ فقره المدقع مبلغاً حتّى إنّه ضمر بطنه ورهل لحمه، فظنّه عجوزاً متسولاً معدماً، إلا أنّه علم فيما بعد أنّ الرجل كان أغناهم في قبيلته، لكنّ كرمه قضى عليه، إذ كان يذبح جملاً لكلّ من أتى خيمته". في كتاب الدكتور هلال الحجري "عمان في عيون الرّحّالة البريطانيّين" كثير من القصص المشابهة. فقط يبقى السؤال: كم غنيّ يفتح بيته الآن للمعسرين؟

تاركين ماجد ورفاقه، ودعواتهم الملحّة بأن نلبّي دعوتهم للمكوث حتّى الليل لتناول القهوة والعشاء، كي نعود إلى الدقم لأداء صلاتي الظهر والعصر وأخذ قليل من الراحة، ففي المساء تنتظرنا سهرة استثنائية قطعنا لأجلها الفيافي، وفارقنا الأهل والخلّان. سهرة سيغبطنا عليها (هرون الرشيد) نفسه لو كان يعيش بيننا، وسيتحسّر عليها بقيّة العمر من كان ينوي مرافقتنا ولم يفعل. كان الدكتور علي يحدّثنا عن سعيد الحرسوسي  صديقه صاحب الإبل والشعر وأشياء أخرى جميلة سنكتشفها فيما بعد. يسكن سعيد في (العجايز) وهي تجمّع سكني يقع ضمن جدّة الحراسيس، موطن المها العربية الأصيلة ومرتعها. صحراء ومها وبدر وشعر في وقت واحد؟ أيّ (سلطنة) وانسجام تلك التي ستحلّ بنا الليلة.

قبل أن نصل إلى العزبة ألمح سعيد وهو يلوّح لنا كي نقترب. من ملامحه يمكن أن أستعير وصف ثيسجر للبدوي " من الرجال المفطورين منذ الولادة على تحمّل صعاب الصحراء، وشرب مياه الرّمال القليلة المرّة، وأكل الخبز المكتسي بحبيبات الرمل الخشنة، وتحمّل ذرّات الرمال ، وعلى تجشّم البرد القارس والحرّ الشديد وضوء الشمس الساطع الذي يعمي الأبصار في أرض لا يظلّها ظل ولا تعلوها سحب" هكذا رأيت سعيد قبل أن أصافحه بعد، نحيف، أسمر، سمح المحيّا، تغطي ابتسامته على بضعة ندوب نحتتها قسوة الصحراء على وجهه. باختصار هو يجسّد صورة البدوي كما تناقلتها كتب الأدب على مدى قرون من التدوين.

نصل إلى العزبة التي ستشهد ليلتنا الاستثنائية. خيمة بدويّة تحيط بها بضعة شجيرات خضراء، وترعى حولها بعض الإبل الأصيلة، بينما البدر المكتمل يرقبنا في فضول. لا أشكّ في أنّ ثمّة (ابن سولع) ينتظر نصيبه من الوصف والغزل وهو يختلس نظرات لو نفذت إلى قلب (نيرون) نفسه لأصابته في مقتل. ويلك من عيون البقر الوحشي عندما ترمقك.

يأتي الحليب كأول ما يقدّمه البدويّ مرحّباً بضيفه ربما لكي يشاركه في قوته الأساسي، ولكي يمنحه الشعور بالأمان، فيبدو عليّ التردّد كونها المرّة الأولى التي أشرب فيها حليب الإبل، ولكثرة ما سمعته عن تأثيره على البطن، وبالتالي قد يتعكّر المزاج وتضيع السهرة. يشجعني البقية بشرب ما امتلأت بها آنيتهم، فأزيل الرغوة متوكّلاً على الله ولا أترك نقطة حليب واحدة في إنائي.

على وهج نار (السّمر) التي تتوسط جلستنا مانحة إيانا مزيداً من الدفء كان بعضه قد تسلّل إلينا بعد أول يد نصافحها في العزبة، يطلب الدكتور من سعيد إلقاء بعض  القصائد فيقدّم لنا في تواضع عدداً منها تنوعت ما بين الغزليّة، والوصفية، والمدحيّة. لا أفوّت فرصة كهذه فأستغل ما تبقى من طاقة في هاتفي لتسجيل الأشعار صوتاً وصورة. لا أثر لبيت مكسور، أو تكلّف ملحوظ، أو تقليد لهذا أو ذاك في طريقة الألقاء. هي سليقة البدوي  وفطرته. أقول لنفسي لو حمّلت هذه القصائد بصوت الشاعر وصورته على أيّ موقع ونسبتها لشاعر وهمي خليجي لتناقلها مراسلي الواتساب  والفيس والتويتر، وانتشرت انتشار النار في الهشيم معنا. سيدركنا الموت ونحن نقدّس كل ما هو دخيل علينا.

في أمسيتنا تلك تحدثنا في كل شيء، التاريخ، الجغرافيا، الأنساب، الشعر، الحب، وهل هناك أفضل من لحظات كهذه للحديث عن الحب؟ وهل هناك من جرّب العشق كما جرّبه البدوي؟ أولم يكن قيسي ليلى ولبنى، وجميل بثينة  وغيرهم ممن امتلأت بهم كتب العشق بدواً؟

أسأل سعيد إن كانت قد أتيحت له الفرصة قبل ذلك للظهور في إحدى الوسائل الإعلاميّة، أو المشاركة في ملتقى شعري أو أدبيّ معيّن فيجيبني بالنّفي.  مشكلة سعيد أنّه لا يكثر التردّد على مسقط، ولا تربطه صداقة بأحد ممن يعملون في الصحافة والإعلام، ولا يجيد كتابة أبيات من مثل (موسيقاك التي تبعثرني ..تشبه جمجمة مهترئة.. يلوح لها القادمون...فتتثاءب كسمكة غافية)، أسباب كهذه قد تجعل من فرص ظهورك ضئيلة للغاية ما لم تكن معدومة.

بعد وجبة العشاء الدسمة التي تلت فناجين وأكواب شاي وقهوة كثيرة، وصواني تمر وفواكه تغدو وأخرى تروح، وقبل أن ألقي عليه تحيّة الوداع أطلب من سعيد أبياتاً في وصف بيئته، فتأتي كلماته كأجمل وداع:
نحنا بداوة صح من أحسن النوع.. معدن أصيل وصار له كم طاري
نسكن بديرة خصّها الله في نوع.. نوع البداوة حبّنا واختياري
بيئة أصيلة ما بها شيء مصنوع.. فلّاًً جميله ما عليها غباري
بنشوف بن سولع مع الابل ورتوع... وغدير وافر حرّكته الذواري

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 18 فبراير 2014

في أرض الفيروز


عندما اقترح علينا الصديق الدكتور علي القلهاتي زيارة محافظة الوسطى في عطلة نهاية الاسبوع لم أتردد لحظة في الموافقة وأنا الذي أتعلل دائماً بظروفي العمليّة وزحمة جدولي اليومي، ذلك أن زيارة هذه المحافظة كانت حلماً مؤجلاً ينتظر اللحظة الفارقة لتحقيقه.

تاركين مسقط لمطرها وزحمة شوارعها، وسوء تصريف مجاريها، نسلك الطريق المتّجه إلى وادي العقّ فسناو، فمحوت، ثم الدقم، مروراً بمناطق وقرى عديدة أزورها لأول مرّة بعد أن كادت تتحول لشواهد أسطورية من كثرة ما كان يردّد أسماؤها رفقاء لي اعتادوا قضاء إجازاتهم في تلك المناطق، وكثيراً ما تشبّبوا بغرامها وسحر طبيعتها.

نصل إلى الدقم في حوالي السابعة مساء، لندخل أول مسجد نجده في طريقنا لأداء صلاتي المغرب والعشاء، والذي يتوسط منطقة سكنية قامت الحكومة ببنائها ضمن حزمة من المساكن الاجتماعيّة التي تتوزّع في أنحاء المحافظة. يشدّني في تصميم المسجد ارتفاع سقفه المبالغ فيه، وصحنه الذي تسرح ذاكرتي معه إلى مشاهد الإفطار في رمضان. هذا طفل يحمل طبقاً به بعض التمر، وذاك آخر حاملاً صينية عامرة باللقيمات، والفتّة، والفيمتو. في مناطق كهذه لا يأنف الناس من أن يفطروا جميعاً في صحون المساجد كعادة اجتماعيّة مازالوا يحافظون عليها كحفاظهم على أشياء كثيرة تناساها إخوة لهم في مناطق أخرى من أرض الوطن.

ألمح شابّاً مصريّاً أتى لتعبئة بعض بالماء من ثلاجة المسجد، فيذهب خيالي بعيداً إلى بقعة نائيّة في أقصى صعيد مصر أو وجهها البحري، وإلى أهل وأصدقاء، وربّما حبيبة وهميّة تركها ذلك الشابّ هناك. ترى كيف يقضي وقته هنا بعيداً عن كل هؤلاء، وهل يمرّ عليه الليل طويلاً كئيباً وهو يعدّ الأيام المتبقيّة على العودة، أم أن حميمية من يحيط به تكاد تنسيه كل تلك الآلام. في قريتي الصغيرة قبل ثلاثين عاماً من الآن كنّا نعتبر أمثال هذا المصري جزءاً من مجتمعنا، فنشاركهم كلّ شيء، ونقدّمهم على أنفسنا في الأعياد والمناسبات. هل ما يزال (أولاد جابر) يفعلون الشيء ذاته مع هذا المصري وغيره؟

نترك الدقم في طريقنا إلى منطقة (ظهر) وهي تجمع سكّاني يقع جنوب الدقم، حيث كنّا مرتبطين بموعد عشاء مع أحد معارف الدكتور. في طريقنا نصادف دورية تفتيش في الطريق الذي يربط الدقم بهيماء والجازر. برغم البرد القارس، والرياح الباردة، إلا أن ابتسامة هؤلاء الشباب وحرصهم على أمن وطنهم كانت أقوى من كل تلك المنغّصات . أشعر بقشعريرة تنتاب كل جسمي وأنا أنظر بفخر لهؤلاء الشباب.بفضلهم بعد الله ننام ملء جفوننا عن شواردها.
نصل إلى المكان المخصص لاستقبالنا لنتفاجأ بطابور طويل من الرجال شيبة وشباباً ينتظروننا أمام مدخل البيت مرحبين بنا لنتجه بعدها إلى خيمة كبيرة نصبت وسط حوش البيت، وضع في وسطها موقد نار كبير. ألا يكفي دفء لقائكم وحرارة ملتقاكم أيها الرائعون. هنا تصنع الرجال، وهكذا كانت المدرسة العمانيّة لتربية الجيل.

تأتي (الفواله) وكانت مزيجاً من التمر العماني الذي لم يتم استيراده من بلدان مجاورة، ولم يعلّب في صناديق بلاستيكيّة فاخرة، ومعه السّمن العمانيّ الطبيعيّ بلا مواد حافظة، أو نكهات طبيعية وغير طبيعيّة، لتدور بعدها القهوة العمانيّة التي تكاد تشمّ رائحتها من على بعد كيلو بنكهة الهيل والزنجبيل ، والتي صنعتها على نار هادئة من خشب السمر يد خبيرة مجرّبة. الله.. منذ متى لم أحظ بجلسة صادقة كهذه، بل منذ متى لم أستلذّ طعم التمر والقهوة كما هو اليوم؟ ماذا حدث للعالم لتفارقنا كثير من الأشياء الجميلة؟

يأخذنا القوم لتناول العشاء في قاعة قريبة، ويتركونا لوحدنا وهي عادتهم بل عادة العرب عند رغبتهم في إكرام الضيف، ليأتي بعدها الشاي الذي لن تشربه سوى في تلك المناطق. شاي تحلف عندما تذوق طعمه أنك شربته يوماً ما في بيت طين أو سعف عندما كنت صغيراً، وعندما كانت هناك حميميّة في الوصال. ثم يليه العود والبخور وهي إشارة إلى انتهاء الجلسة وقت المغادرة، أو كما قال العمانيّون في مثلهم الشعبيّ " ما بعد العود قعود".

نعود بعدها إلى مقرّ إقامتنا في الدقم. برغم تأخّر الوقت، وبعد المسافة إلا أن مستقبلينا يرفضون تركنا بدون أن يرافقنا أحدهم وهو شاب في العشرين من عمره. يحلف عبدالله وهذا اسم الشاب بأنه سيحضر لنا الإفطار صباحاً من منزلهم، وأنه لولا خشيته من إزعاجنا لأتى لأخذنا بعد الفجر كي نتناوله في مجلسهم، ليأتي الافطار الصباحي مكوّناً من التمر الممزوج بالسمن، والقهوة العمانيّة، وحليب الجمال، وخبز الرقاق، وهو افطار تعجز الفنادق ذات الخمس نجوم بكل (شيفاتها) أن تأتي بمثل لذّته ولو قامت مجلة (الأسبوع) بعمل مسابقة مخصصة لذلك.

وجهتنا الأولى في جولتنا السياحيّة بالولاية كانت ميناء الدّقم. برغم أن الزيارة ممنوعة، إلا أنهم سمحوا لنا بالدخول ربما تقديراً لظروفنا، وقدومنا من مكان بعيد، والأهمّ رغبتنا الملحّة في التعرّف على معلم عمانيّ بارز من معالم النهضة الصناعيّة التي تساهم في صنع عمان الجديدة بل والمتجدّدة منذ أربعة وأربعون عاماً.

في الميناء وحوض السفن الجاف رأيت وسمعت عن أشياء تثلج الصدر، فهذا الميناء بحوضه العميق الواسع، وجدران رصيفه الطويلة؛ لديه المقومات التي تجعل منه باباً تجارياً متعدد الأغراض بمستوى عالمي، وبكونه مرتكزاً أساسياً لمنطقة اقتصاديّة ضخمة، وقد يصبح في القريب أكبر الموانئ في الشرق الأوسط على المدى الطويل.

من الأشياء التي شدّتني كذلك معلومة سمعتها عن أن المبالغ التي أنفقت على هذا المشروع من المؤمل استرجاعها في عام 2017، وعن أنّ فترة صيانة السفينة في الحوض الجاف لا تتجاوز الاسبوع. في بعض المؤسّسات يتردد المواطن لأشهر من أجل الحصول على رسالة رسمية، أو متابعة موضوع عالق لا يحتاج سوى لإمضاء مسئول، أو همّة موظّف.
ننطلق بعدها إلى فندق كراون بلازا، وهو معلم سياحي تملك الحكومة نسبة كبيرة من حصّته، ويعدّ من مفاخر السياحة العمانيّة بتصميمه الرائع، ومرافقه المتكاملة، وغرفه الواسعة النظيفة، وشاطئه الخلّاب.

وأنا أتجوّل بانبهار في مرافق الفندق المختلفة أقول لنفسي معاتباً إيّاها: هو لا يختلف عن "سوفوتيل" الرباط، أو "حياة" كازا، أو "ماريوت" القاهرة، فلماذا أكتب شعراً في وصف جمال تلك الفنادق والبقاع، ولا اتحدث عن هذا. هل هي (عقدة الخواجة)، التي تلازمنا؟ هل هو الانبهار بكل ما هو خارجي أو مستورد، والتفرغ لإبراز عيوب كل جميل نملكه؟ ربما.

تاركاً الفندق باتجاه الشواطئ القريبة حيث الطبيعة البكر، وشواطئ الفيروز، وغناء النوارس. أحلم بأسبوع أقضيه هنا مع كومة كتب، وهاتف بدائيّ ذو كشّاف تأنف فتيات اليوم أن تراه، وبرّاد شاي منعنع. ربما سأتخلّص بعدها من كثير من القلق والأرق. بل ستتغير معها نظرتي إلى أشياء حياتيّة كثيرة. كم أحتاج إلى وقت كهذا.

وأنا أتأمل الطبيعة وزرقة المياه الصافية تراودني الأسئلة: كم نحتاج إلى أن نعرّف شبابنا بمناطق جميلة كهذه المناطق، ماذا لو كانت هناك أراض مخصّصة لكل مؤسّسة حكومية كبرى كي تقيم أندية ومصايف لموظفيها، وماذا لو خصصت قطعة أرض كبيرة ليقام عليها معسكر عمل دائم للشباب، بل ماذا لو قامت وزارة السياحة بتسهيل إقامة بيوت للشباب، وحافلات تقلّهم بمواعيد محدّدة للتعريف بالمنطقة وجمالها وطبيعتها البكر، وعادات أهلها الأصيلة.

أتذكر شبه جزيرة سيناء، يوماً ما كانت هكذا أرضاً بكراً تكاد أن تكون خالية من السّكّان فأصبحت الآن قبلة السياحة العالميّة، وملتقى مؤتمرات العالم. لماذا لا نفكر جدّيّاً في تحويل المنطقة الى مكان جاذب لسياحة المؤتمرات؟
في المساء نعود إلى (ظهر) مرّة أخرى، ولتلك قصّة أخرى قد تروى بعد أسبوع في نفس هذا المكان، ولكن في غير الزمان.

د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 11 فبراير 2014

والعشــق.. مسقطي (2-3)


تاركاً ذلك العجوز السوداني مشغولاً بمداعبة حفيده في حديقة ريام، وابتسامته تكاد تصل حدود الخرطوم ، لأسير بمحاذاة الشارع البحري باتجاه مسقط القديمة التي تبدو بوّابتها الكبيرة واضحة للعيان. أعشق السودانيين وأحب بساطتهم وعدم تكلّفهم، وأشعر أنّهم قريبون منّا روحيّاً وسلوكيّاً، وهذا حديث آخر قد يضمّه مقال قادم يوماً ما.
على الجانب المقابل من الشارع ألمح حارة كلبوه. كثير من الحارات والقرى العمانيّة غيّرت أسماؤها إلا كلبوه مازال اسمها صامداً برغم غرابته، وبرغم أنها لا تبعد سوى بضعة مئات من الأمتار عن ريام وحديقتها الأشهر إلا أن الجهات البلديّة أنشأت منتزهاً سياحيّاً كبيراً بها. أقدّر هذا الجهد وأثمّنه، ولكنّ هناك ولايات يسكنها عشرات الآلاف من البشر لم يسمعوا بعد عن معنى منتزه أو حديقة. 
في طريقي إلى البوّابة الكبيرة يلفت نظري الطريقة الغريبة التي رصف بها ممرّ المشاة المحاذي للشارع، والذي يشكّل الرصيف الوحيد له، فهو مكوّن من حجارة مدبّبة بحيث إذا أراد الواحد أن يواصل مشيه باتجاه مسقط فعليه أن ينتظر خلوّ الطريق من السيّارات فيقطع المسافة المتبقّية بسرعة  قبل أن تداهمه إحداهنّ . لا أعرف أي مهندس غريب الأطوار فعل ذلك، ولا أعلم كذلك لماذا لم يعاد تنظيم هذا الرصيف وفق المواصفات المستخدمة حالياً.
  أصل أخيراً  إلى بوّابة مسقط ، إلى الفتحة التي سأدخل منها إلى عالم الخيال والأحلام والأساطير ، إلى المدينة التي قال عنها القس جون أوفينغتن  قبل أكثر من 300 سنة إنها "أروع ما يمكن للطبيعة والفن أن ينتجاه أبدا"، إلى المدينة  التي وصف الطبيب الإيطالي فينسينزو ماوريزي أو (الشيخ منصور) كما سمّى نفسه، موائدها  "على الأرض امتد مفرش طويل من قماش القطن، وعليه عدد لا حصر له من الأطباق المصنوعة من الصيني الفاخر، بها مالا يقل عن 50 دجاجة مشوية وكميات ضخمة من المحشي، واللحوم الملفوفة بأوراق البنجر ، وأطباق مملوءة بضلوع الضأن، وفي وسط السماط كان هناك صحنان كبيران من الخشب عليهما عدة خراف مشوية على قمة جبلين من الأرز.."

إلى المدينة التي تحدّث الشيخ منصور كذلك عن "سحرتها القادرين على (سخط) أي إنسان إلى شاة"،  وكيف أنّ خادمه الخاص التقى ذات يوم بشاة في الطريق وفوجئ بها تتحدث إليه بلسان عربي مبين.إلى المدينة البيضاء، المثيرة للسحر والقلق والاضطراب في آن واحد كما وصفها الفرنسيّ (بيّار لوتيه). إلى بغداد الرشيد "التي يملك أميرها أجمل لؤلؤة موجودة في العالم, ليس لحجمها لأنها لا تزن سوى اثنى عشر قيراطا وليس لكرويتها الكاملة، بل لأنها صافية وشفافة إلى درجة انه يمكن مشاهدة الضوء عبرها"، كما رآها الصائغ الفرنسي جان باتيست تافرنيي عام 1636.

انشئت بوّابة مسقط عام 1995، وألحق بها متحفاً افتتحه المرحوم السيّد فيصل بن علي، كي يبثّ الروح فيها، ويجعلها مركز جذب سياحيّ. أدين لهذا الرجل بالكثير من الإنجازات المهمّة التي شهدتها الساحة الثقافيّة  والتراثيّة في عمان. تكفي مئات الكتب التي أعيد طبعها، والآثار والشواهد التاريخيّة التي أعيد ترميمها. تكفي رحلة السندباد. تكفي أشياء كثيرة قام بها هذا السيّد الجليل في فترة إشرافه على الوزارة.

واضعاً خطواتي الأولى في مدينة السحر والتراث ألمح لوحة ارشادية تشير إلى حارة (الجفينة) كأول حارة تستقبل الزائر إلى مسقط يمين البوّابة. قرأت عن الجفينة في فتح ابن رزيق، وأعرف جفينة أخرى في العامرات، أو (المتهدّمات) قبل أن يغيّر اسمها، محلّة الجفينة هي أول ما يصادف القادم إلى مسقط قديماً عن طريق عقبة ريام، و يقال إن هناك مقبرة أو معبداً قديماً للبانيان تقع بالقرب منها. أي تسامح عرفتموه أيها العمانيّون. كنائس للنصارى، ومعابد لليهود وعبّاد البقر. صدق عالم الطبيعة الألماني انجلبرت هامفر عندما وصفكم عام 1688 "هؤلاء العرب محترمون جداً في سلوكهم، ومتحضرين للغاية مع جميع الغرباء، ولا يبدر منهم أي عنف أو اهانة بأية طريقة. وعلى الرغم من  أنهم متمسكون بمبادئهم، وملتزمون بدينهم، إلا أنهم لا يفرضونه على أحد، ولا تحطّ قيمهم حماسة هوجاء تحود بهم عن جادّة الانسانية والاحترام العطوف، فهم قوم طبعوا على العدل، ومنحوا من الصفات الانسانية التي سهى الفلاسفة اليونان والرومان عنها".

مواصلاً مشواري وسط مجموعات من الآسيويين تخرج من هذا الطريق أو ذاك  أصل إلى حارة الدلاليل. مسقط مدينة تجارية لذا لابد من وجود من يعمل بالدلالة، ولابد لحرفة كهذه أن يتم توارثها جيلاً بعد جيل. ليس غريباً أن تكون لهم حارة باسمهم كما هو الحال في كثير من المدن الشرقيّة العتيقة التي تتسمى حاراتها بأسماء مهن عرفت بها. ألمح بيت الزبير  فأهرول باتجاهه خوفاً من أن أجده مغلقاً فالساعة قد قاربت على الخامسة عصراً. أذكر أنني زرت هذا المتحف قبل سنوات من الآن. كنت وقتها في سنتي الجامعيّة الأولى، ولكني لا أتذكّر كثيراً من ملامح تلك الزيارة، أمّا الآن وقد تشكّلت ذاكرتي التاريخيّة من جديد فلا أشكّ في أن يكون للزيارة طعماَ آخر. أدخل من البوّابة فلا يستوقفني أحد لأن موظّف الاستقبال كان مشغولاً خارج مكتبه بالحديث في هاتفه النّقّال. في بهو المتحف تطالعني عدّة مباني، هذا ( بـيــت الـبــاغ ) والباغ  هو الحديقة المتنوعة الثمار، وقد خصّص لعرض  الخناجر وملابس الرجال، والسيوف والأسلحة النارية، والأزيــاء الـنـســائـيــــــــة، والحـلـي والأدوات المنزليـة، وذاك (بيت الدلاليل)الذي يتكون من مجلس وغرف نوم ومخزن للتمر، أما هذا الذي في المنتصف فهو (البيت العود)بطوابقه الثلاثة التي تحتوي على قاعة عرض واسعة مجهزة للمعارض الزائرة، وقاعات عرض دائمة يعرض فيها خرائط قديمة لعمان وشبه الجزيرة، ونماذج من الأثاث الذي كان مستعملاً، وقاعات تحوي رسوماً قديمة لشبه الجزيرة ومسقط، ومجموعة من آلات التصوير القديمة.

من شدّة انبهاري بما رأيته في هذا البيت نسيت نفسي فظننت أنني في بيتي أقلّب موجات ذلك الراديو القديم باحثاً عن أغنية كلاسيكيّة شرقيّة، وأجلس على ذلك الكرسي الوثير مطالعاً كتاب (الدلائل واللوازم)، وأضرب بيدي على طاولة الطعام الخشبيّة  لأتأكد من متانتها، ولأتخيل أنه في الوقت الذي كان فيه البعض ممّن يتشدّقون الآن بالتاريخ يركض وراء بعير له فقده في الصحراء المحيطة بخيمته، أو يقف على باب أحد السلاطين طالباً بهطته السنويّة، أو يستعد للإغارة على جار قريب، كان تجّار مسقط ينامون في أسّرة وثيرة صنعت من الخشب والأبنوس الخالص، ويأكلون في أطباق جلبت لهم خصيصاً من بلاد الهند وأوروبا، ويقضون بقية الليل في مطالعة كتاب أو الاستماع إلى نشرة أخبار قادمة من أثير بعيد.

على (البعض) أن يقرأ التاريخ جيّداً  قبل أن (يهرتل) بما لا يعلم. أفوق من تخيّلاتي على صوت موظف الاستقبال المهذّب الذي تذكّر فيما بعد أنّ أحدهم قد دخل المتحف دون أن يدفع رسوم الدخول. يرفض هذا الشاب أخذ الرسوم مرحّباً بي في حرارة ومعتذراً عن قطعه لخلوتي برغم أن اللوحة الإرشاديّة القريبة تحذر من الاقتراب من المعروضات خشية تلفها. لله درّك أيها العماني، طيّب، خدوم، تقدّر للآخرين ظروفهم مهما كانت.

لم يعكّر صفو زيارتي سوى عدم رؤيتي لأي زائر عمانيّ باستثناء من أتى لشراء بعض العطور أو البخور أو الهدايا من القاعة المخصّصة لذلك، لو قدّرنا أن قيمة العطر الذي ستشتريه تلك السيّدة بمائة ريال، فنصف ريال فقط كاف كي يمنحها عطراً روحيًاً سيلازمها إلى الأبد. يبدو أن الأناقة والمكياج الصارخ والشيلة المذهّبة لا تتناسب والقيام بعمل رجعيّ يتمثّل في زيارة متحف أو قلعة. كل تلك الأشياء قد خصصت لما هو أهم: بابا روتي، كوستا، سكند، تشيليز، أما المتاحف فهي لأصحاب النظارات أمثالي.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
 

الثلاثاء، 4 فبراير 2014

والعشق.. مسقطي (1-2)

اليوم هو الثلاثاء. عطلة رسمية بمناسبة المولد النبوي الشريف. أسرتي الصغيرة في البلد لقضاء الإجازة المدرسيّة. إذاً هي فرصة لأعيد اكتشاف بقعة جديدة من هذا الوطن كما أفعل من حين لآخر. كنت قد اعتزمت الذهاب إلى نخل والعوابي والرستاق، ولكن استيقاظي المتأخر من النوم حالت دون ذلك. ما العمل إذاً، لا يمكن أن يمرّ اليوم هكذا بدون أن أفعل شيئاً يبقى في ذاكرتي. وجدتها أخيراً. لا حل سوى جولة بالأقدام في حواري مطرح ومسقط، خاصّة وأن كتاب(الفتح المبين)بقصصه الكثيرة عن أحداث تاريخية شهدتها هاتين المدينتين ومطرح مازال مفتوحاً بجوار المخدّة.

الجو شتوي رائع بنسماته الباردة القارصة أحياناً. يذكرني بجوّ وسط البلد في القاهرة في هذا الوقت من السنة. أبحث عن موقف لسيارتي فأجده بلا عناء قريباً من مدخل سور اللواتيا. ما هذا الهناء، جوّ رائع، وموقف قريب بلا رسوم بلديّة؟ أين مواقف المستشفى السلطاني وجراند مول لتسمع همهمتي.

أترجّل من سيارتي سائراً بمحاذاة السوق باتجاه سوق مطرح الشهير. أقف قليلاً أمام مدخل السور كعادة أفعلها في كل مرّة أزور فيها مطرح. أتخيل حارات السور وبيوتها وسككها ومآتمها بغموضها وروحانيتها كما قرأتها في سيرة الحاج مال الله حبيب، وكما كان يصفها لي ابن عمّي علي، وكما عرضها علينا تلميذي مصطفى في مادّة الدراسات العمانية. كثيراً ما طلبت من الصديق كمال حسن علي أن يأخذني في جولة روحيّة بداخله، وفي كل مرة يعدني بزيارة قريبة. متى سيأتي هذا الموعد القريب يا أبا يوسف؟

أصل إلى بوّابة السوق الشعبيّ الشهير، تأخذني رجلي إلى كافتيريا صغيرة تقع على يمين المدخل اعتدت كل مرّة أن أشرب فيها كوب شاي عصريّ، بينما عيني ترنو نحو الاتجاه المقابل باحثة عن (يوسف) بدشداشته الصفراء، وشماغه الأزرق والذي تخصص في بيع بطاقات الهاتف التذكاريّة النادرة . لا أثر ليوسف، ترى هل غيّر مكانه الذي قضى به مدّة تقترب من سنوات عمره الخمسين؟ هل كسدت تجارته فبحث عن غيرها في مكان آخر، هل رحّلته الجهات المختصّة بسبب عدم وجود وثيقة إقامة معه؟ لا أظن أن يعرف يوسف مكاناً آخر في العالم غير مطرح. هو من بقايا مهاجرين فعلوا كل شيء سوى أن يوثّقوا إقامتهم بأوراق رسميّة كما فعل آخرون من بني جلدتهم أصبح بعضهم من المتنفّذين في البلد.

متأمّلاً البضاعة والناس، اتجوّل في أركان السوق المختلفة، باعة بخور كلّما رأيتهم أتساءل : أين ينام هؤلاء؟ وكم من السنوات سيبقون هنا قبل أن يذهبوا إلى بلدانهم الأصليّة. محلات التحف التي تحتل مدخل السوق، ومحلات الإكسسوارات بأشكالها والتي تجد فيها بعض الشرائح الاجتماعية بديلاً عن الذهب برغم تواجد محلات هذا الأخير في أماكن مختلفة من السوق.

التجوال في سوق مطرح له بهجة خاصة ويشعر الكائن المتجول في أرجائه أن هناك أجنحة ترفرف من عبق الماضي والتاريخ، فهذا أجنبيّ حمل معه عصىً مطعّمة بالفضّة كتذكار عمانيّ أصيل، وتلك شقراء وارت كتفها العاري بـ(ليسو)، وذاك طفل بدشداشته الداكنة، وكمّته التي تغطّي كل رأسه فرحاً بقميص مقلّد لميسّي، أو بلعبة صينيّة لن يتجاوز عمرها الافتراضي المسافة بين المحل ومدخل السوق، ومتلهّفاً لوجبة سريعة في المقهى الذي يتوسّط السوق، والذي يذكّرني بحانات الأفلام الأجنبيّة الكلاسيكيّة.
لا شيء يمكن أن ينغّص عليك متعة التسوق في هذا السوق سوى العمالة الوافدة التي استحوذت على معظم مفاصل الحركة فيه، وسوى بدلات الرقص الشرقي التي تتقدّم واجهات بعض المحلات بلا (إحم أو دستور). بالتأكيد لن تأت راقصات العالم لتشتري زيّاً كهذا لأنّه مقلّد ومن نوعيّة رديئة، ولا توجد لدينا أماكن للرقص الشرقي، فلمن تعرض بضاعة كهذه إذاً. هل لمجرّد أنه سوق شرقي كذلك؟

أبحث عن أسواق الحلوى، والحدّادين، والبزّ، أو ما يسمّى في التراث العربيّ بسوق القماش، قرأت عنهنّ شيئاً في (فتح) ابن رزيق، ترى هل اندثرت تلك الأسواق أم أصبحت جزءاً من السوق الحالي، أم ماذا؟ أصل إلى نهاية السوق لأجد لوحة كتب عليها (سوق النّور)، أضحك في سرّي وأنا أقول لنفسي: هل ستنفع تسمية رسميّة كهذه في محو مسمّى (سوق الظلام) من أذهان الناس؟ ربما.

أواصل رحلتي في الحارات القريبة وأنا أتذكّر مسمّيات كخور بمبه، وحارة الشّمال، وحلّة الدّكّة، وشارع وادي خلفان، ومطيرح، والعرين التي كان لها اسم آخر لا يبعد كثيراً عن اسمها الحالي، وجبروه. في جبروه حدثت حريقة شهيرة في منتصف الستينات من القرن الماضي أتت على بيوت السعف بها، وفي جبروه كذلك دفن الإمام عزّان بن قيس. سمعت عن جبروه لأول مرّة أيام دراستي بالجامعة في الخوض، وتلك قصة أخرى.

أواصل تجوالي في مطرح وأنا أتخيّل سكك نازيمويا أو (نازيموجا) كما كان يصفها لنا (رضا اللواتي) صديق علي. في كل مرّة نلتقي لابد وأن يأخذنا الحديث عنها وعن سككها التي يضرب بها المثل في الضيق، وكيف أن دروب(سكّة البوش) في صور لا تمثل شيئاً إذا ما قارنّاها بنازيمويا. يقال أن نازيمويا تعني النارجيلة الواحدة، لا أعلم مصدر التسمية فارسيً كان أم سواحيلي.

منحدراً من شارع وادي خلفان أحلّق ببصري باتجاه برج شاهق. كيف بني هذا البرج، ومن حمل الطين والحجارة إلى تلك القمّة الشاهقة، وكيف كان الجنود المكلفين بالحراسة يستحملون حرّ صيف مطرح ورطوبتها الذي سارت بذكره الركبان.ارهقتني يا ابن رزيق وجعلتني أركض خلفك في كلّ حارة متتبّعاً أحداثاً وصفتها، ومعارك عاصرتها، أشخاصاً سطّروا جزءاً من تاريخ هذا المكان.

أصل إلى ريام. في ريام كان للشعر ذكريات. يوماً ما تقابل هنا شاعران من (عتاولة) الشعر الشعبي يدعى أحدهما حمّاد الجابري والآخر راشد المصلحي، فبادر الأول بتحدّي زميله قائلاً:
سميت بمن خالق سماوات(ن) عظام.. خالق خلوقه بعظام ومفاصلي
يا غيث يا مطر يا وابل يا رثام.. يا سحّاب المخايل محيي الماحلي

تقف قلعة مطرح شامخةً فاتحةً صدرها للبحر مستنشقةً هواءً محملاً بعبق ذكريات السفن التي جابته جيئة وذهابا. ترى كم من مرة حاصرها قيس بن الامام، وكم من سفينة أعطبت من جرّاء قذيفة مدفع أطلقت من أحد أبراجها، وكم من خطّة وضعت لإحكام السيطرة عليها أو لإدخال الزاد لمن حوصر بداخلها. متى سيأتي اليوم الذي أدخل فيه هذه القلعة وأتعرف على محتوياتها.

باحثاً عن عقبة ريام الشهيرة. قبل أن يتم إنشاء الطريق البحري في منتصف السبعينات كانت العقبة هي الطريق القديمة المؤدية إلى مدينة مسقط مرورا بمطيرح وريام ثم الصعود إلى العقبة في قمة الجبل المطل على مسقط القديمة نزولا إلى حارة البصرة و المدبغة.
تاركاً ريام باتّجاه حديقتها الشهيرة. في عام 1985 زرت الحديقة لأول مرّة، كنت يومها في الابتدائيّة، وكانت مسقط بالنسبة لقرويّ مثلي شيئاً عظيماً. ما زلت حتى الآن وبعد مرور ما يقرب من 28 عاماً أتذكر طاقيّتي الخضراء، ودشداشتي ذات الخيط البنّي، والكرة المطّاطيّة التي لعبنا بها في العشب الأخضر، ومذاق البطاطس المقليّة التي تذوقتها يومها لأول مرّة في حياتي. في كل مرّة أزور الحديقة ينقص من عمري سنوات بعدد المدة التي انقضت على تلك الزيارة. أشعر أنني أتخلص من هموم كثيرة راكمتها السنين التي تلتها حتى عادت كالجبل الذي لا يريد أن ينهدّ.
في حديقة ريام خرجت بأفضل وصف لعمان. وصف يكاد يغطّي على أي شيء يمكن أن يقال. كانت العائلات العمانيّة والوافدة بمختلف جنسياتها تفترش أرجاء الحديقة، هذا يعدّ سفرة الطعام للآخرين، وذاك يلاعب طفله، وآخرون يتجاذبون أطراف الحديث. العامل المشترك بينهم جميعاً هي الابتسامة الواسعة، والضحكات التي تجلجل المكان، آخر شيء يمكن أن يتوقّعه أحدهم هو أن تنفجر عبوة ناسفة هنا أو هناك، أو أن يسقط عليهم برميل نار من السماء، أو تقصفهم طائرة عسكرية لا تحمل لأرواحهم أي قيمة. هو العدل الذي صنع الأمان.
هنا يدركني النهار تاركاً لمسقط وحاراتها ومتاحفها حكاية أخرى قد أقصّها بعد أسبوع من الآن.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com