الثلاثاء، 4 فبراير 2014

والعشق.. مسقطي (1-2)

اليوم هو الثلاثاء. عطلة رسمية بمناسبة المولد النبوي الشريف. أسرتي الصغيرة في البلد لقضاء الإجازة المدرسيّة. إذاً هي فرصة لأعيد اكتشاف بقعة جديدة من هذا الوطن كما أفعل من حين لآخر. كنت قد اعتزمت الذهاب إلى نخل والعوابي والرستاق، ولكن استيقاظي المتأخر من النوم حالت دون ذلك. ما العمل إذاً، لا يمكن أن يمرّ اليوم هكذا بدون أن أفعل شيئاً يبقى في ذاكرتي. وجدتها أخيراً. لا حل سوى جولة بالأقدام في حواري مطرح ومسقط، خاصّة وأن كتاب(الفتح المبين)بقصصه الكثيرة عن أحداث تاريخية شهدتها هاتين المدينتين ومطرح مازال مفتوحاً بجوار المخدّة.

الجو شتوي رائع بنسماته الباردة القارصة أحياناً. يذكرني بجوّ وسط البلد في القاهرة في هذا الوقت من السنة. أبحث عن موقف لسيارتي فأجده بلا عناء قريباً من مدخل سور اللواتيا. ما هذا الهناء، جوّ رائع، وموقف قريب بلا رسوم بلديّة؟ أين مواقف المستشفى السلطاني وجراند مول لتسمع همهمتي.

أترجّل من سيارتي سائراً بمحاذاة السوق باتجاه سوق مطرح الشهير. أقف قليلاً أمام مدخل السور كعادة أفعلها في كل مرّة أزور فيها مطرح. أتخيل حارات السور وبيوتها وسككها ومآتمها بغموضها وروحانيتها كما قرأتها في سيرة الحاج مال الله حبيب، وكما كان يصفها لي ابن عمّي علي، وكما عرضها علينا تلميذي مصطفى في مادّة الدراسات العمانية. كثيراً ما طلبت من الصديق كمال حسن علي أن يأخذني في جولة روحيّة بداخله، وفي كل مرة يعدني بزيارة قريبة. متى سيأتي هذا الموعد القريب يا أبا يوسف؟

أصل إلى بوّابة السوق الشعبيّ الشهير، تأخذني رجلي إلى كافتيريا صغيرة تقع على يمين المدخل اعتدت كل مرّة أن أشرب فيها كوب شاي عصريّ، بينما عيني ترنو نحو الاتجاه المقابل باحثة عن (يوسف) بدشداشته الصفراء، وشماغه الأزرق والذي تخصص في بيع بطاقات الهاتف التذكاريّة النادرة . لا أثر ليوسف، ترى هل غيّر مكانه الذي قضى به مدّة تقترب من سنوات عمره الخمسين؟ هل كسدت تجارته فبحث عن غيرها في مكان آخر، هل رحّلته الجهات المختصّة بسبب عدم وجود وثيقة إقامة معه؟ لا أظن أن يعرف يوسف مكاناً آخر في العالم غير مطرح. هو من بقايا مهاجرين فعلوا كل شيء سوى أن يوثّقوا إقامتهم بأوراق رسميّة كما فعل آخرون من بني جلدتهم أصبح بعضهم من المتنفّذين في البلد.

متأمّلاً البضاعة والناس، اتجوّل في أركان السوق المختلفة، باعة بخور كلّما رأيتهم أتساءل : أين ينام هؤلاء؟ وكم من السنوات سيبقون هنا قبل أن يذهبوا إلى بلدانهم الأصليّة. محلات التحف التي تحتل مدخل السوق، ومحلات الإكسسوارات بأشكالها والتي تجد فيها بعض الشرائح الاجتماعية بديلاً عن الذهب برغم تواجد محلات هذا الأخير في أماكن مختلفة من السوق.

التجوال في سوق مطرح له بهجة خاصة ويشعر الكائن المتجول في أرجائه أن هناك أجنحة ترفرف من عبق الماضي والتاريخ، فهذا أجنبيّ حمل معه عصىً مطعّمة بالفضّة كتذكار عمانيّ أصيل، وتلك شقراء وارت كتفها العاري بـ(ليسو)، وذاك طفل بدشداشته الداكنة، وكمّته التي تغطّي كل رأسه فرحاً بقميص مقلّد لميسّي، أو بلعبة صينيّة لن يتجاوز عمرها الافتراضي المسافة بين المحل ومدخل السوق، ومتلهّفاً لوجبة سريعة في المقهى الذي يتوسّط السوق، والذي يذكّرني بحانات الأفلام الأجنبيّة الكلاسيكيّة.
لا شيء يمكن أن ينغّص عليك متعة التسوق في هذا السوق سوى العمالة الوافدة التي استحوذت على معظم مفاصل الحركة فيه، وسوى بدلات الرقص الشرقي التي تتقدّم واجهات بعض المحلات بلا (إحم أو دستور). بالتأكيد لن تأت راقصات العالم لتشتري زيّاً كهذا لأنّه مقلّد ومن نوعيّة رديئة، ولا توجد لدينا أماكن للرقص الشرقي، فلمن تعرض بضاعة كهذه إذاً. هل لمجرّد أنه سوق شرقي كذلك؟

أبحث عن أسواق الحلوى، والحدّادين، والبزّ، أو ما يسمّى في التراث العربيّ بسوق القماش، قرأت عنهنّ شيئاً في (فتح) ابن رزيق، ترى هل اندثرت تلك الأسواق أم أصبحت جزءاً من السوق الحالي، أم ماذا؟ أصل إلى نهاية السوق لأجد لوحة كتب عليها (سوق النّور)، أضحك في سرّي وأنا أقول لنفسي: هل ستنفع تسمية رسميّة كهذه في محو مسمّى (سوق الظلام) من أذهان الناس؟ ربما.

أواصل رحلتي في الحارات القريبة وأنا أتذكّر مسمّيات كخور بمبه، وحارة الشّمال، وحلّة الدّكّة، وشارع وادي خلفان، ومطيرح، والعرين التي كان لها اسم آخر لا يبعد كثيراً عن اسمها الحالي، وجبروه. في جبروه حدثت حريقة شهيرة في منتصف الستينات من القرن الماضي أتت على بيوت السعف بها، وفي جبروه كذلك دفن الإمام عزّان بن قيس. سمعت عن جبروه لأول مرّة أيام دراستي بالجامعة في الخوض، وتلك قصة أخرى.

أواصل تجوالي في مطرح وأنا أتخيّل سكك نازيمويا أو (نازيموجا) كما كان يصفها لنا (رضا اللواتي) صديق علي. في كل مرّة نلتقي لابد وأن يأخذنا الحديث عنها وعن سككها التي يضرب بها المثل في الضيق، وكيف أن دروب(سكّة البوش) في صور لا تمثل شيئاً إذا ما قارنّاها بنازيمويا. يقال أن نازيمويا تعني النارجيلة الواحدة، لا أعلم مصدر التسمية فارسيً كان أم سواحيلي.

منحدراً من شارع وادي خلفان أحلّق ببصري باتجاه برج شاهق. كيف بني هذا البرج، ومن حمل الطين والحجارة إلى تلك القمّة الشاهقة، وكيف كان الجنود المكلفين بالحراسة يستحملون حرّ صيف مطرح ورطوبتها الذي سارت بذكره الركبان.ارهقتني يا ابن رزيق وجعلتني أركض خلفك في كلّ حارة متتبّعاً أحداثاً وصفتها، ومعارك عاصرتها، أشخاصاً سطّروا جزءاً من تاريخ هذا المكان.

أصل إلى ريام. في ريام كان للشعر ذكريات. يوماً ما تقابل هنا شاعران من (عتاولة) الشعر الشعبي يدعى أحدهما حمّاد الجابري والآخر راشد المصلحي، فبادر الأول بتحدّي زميله قائلاً:
سميت بمن خالق سماوات(ن) عظام.. خالق خلوقه بعظام ومفاصلي
يا غيث يا مطر يا وابل يا رثام.. يا سحّاب المخايل محيي الماحلي

تقف قلعة مطرح شامخةً فاتحةً صدرها للبحر مستنشقةً هواءً محملاً بعبق ذكريات السفن التي جابته جيئة وذهابا. ترى كم من مرة حاصرها قيس بن الامام، وكم من سفينة أعطبت من جرّاء قذيفة مدفع أطلقت من أحد أبراجها، وكم من خطّة وضعت لإحكام السيطرة عليها أو لإدخال الزاد لمن حوصر بداخلها. متى سيأتي اليوم الذي أدخل فيه هذه القلعة وأتعرف على محتوياتها.

باحثاً عن عقبة ريام الشهيرة. قبل أن يتم إنشاء الطريق البحري في منتصف السبعينات كانت العقبة هي الطريق القديمة المؤدية إلى مدينة مسقط مرورا بمطيرح وريام ثم الصعود إلى العقبة في قمة الجبل المطل على مسقط القديمة نزولا إلى حارة البصرة و المدبغة.
تاركاً ريام باتّجاه حديقتها الشهيرة. في عام 1985 زرت الحديقة لأول مرّة، كنت يومها في الابتدائيّة، وكانت مسقط بالنسبة لقرويّ مثلي شيئاً عظيماً. ما زلت حتى الآن وبعد مرور ما يقرب من 28 عاماً أتذكر طاقيّتي الخضراء، ودشداشتي ذات الخيط البنّي، والكرة المطّاطيّة التي لعبنا بها في العشب الأخضر، ومذاق البطاطس المقليّة التي تذوقتها يومها لأول مرّة في حياتي. في كل مرّة أزور الحديقة ينقص من عمري سنوات بعدد المدة التي انقضت على تلك الزيارة. أشعر أنني أتخلص من هموم كثيرة راكمتها السنين التي تلتها حتى عادت كالجبل الذي لا يريد أن ينهدّ.
في حديقة ريام خرجت بأفضل وصف لعمان. وصف يكاد يغطّي على أي شيء يمكن أن يقال. كانت العائلات العمانيّة والوافدة بمختلف جنسياتها تفترش أرجاء الحديقة، هذا يعدّ سفرة الطعام للآخرين، وذاك يلاعب طفله، وآخرون يتجاذبون أطراف الحديث. العامل المشترك بينهم جميعاً هي الابتسامة الواسعة، والضحكات التي تجلجل المكان، آخر شيء يمكن أن يتوقّعه أحدهم هو أن تنفجر عبوة ناسفة هنا أو هناك، أو أن يسقط عليهم برميل نار من السماء، أو تقصفهم طائرة عسكرية لا تحمل لأرواحهم أي قيمة. هو العدل الذي صنع الأمان.
هنا يدركني النهار تاركاً لمسقط وحاراتها ومتاحفها حكاية أخرى قد أقصّها بعد أسبوع من الآن.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.