الثلاثاء، 25 فبراير 2014

من ألف ليله

نعود ظهراً إلى (ظهر) مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة لتلبية دعوة ماجد بالزيارة، وهو شاب من أبناء الدقم، كافح من أجل الحصول على شهادة عليا في ظلّ عزوف (بعض) أقرانه عن ذلك لأسباب لا تتعلق بهم وحدهم.  يعمل ماجد بإحدى المؤسسات الحكوميّة في مسقط وأثبت جدارة في عمله تؤكد أن ابن المحافظة يستطيع أن يصل إلى أعلى المراتب الوظيفية متى ما توافرت له الظروف لذلك.

في خيمة الضيوف التي تتوسّط بيته نقضي سويعات رائعة مع عدد من أقرابه وجيرانه. هكذا هو البدويّ، لا يمكن أن يذوق طعامه دون أن يكون لجاره نصيباً منه، ولا يمكن أن يحتفي بضيف دون أن يشاركوه هذا الشرف، فالاحتفاء بالضيف هي عادة تكاد تصل لدرجة العبادة لديهم. أستغلّ الفرصة لأطرح أسئلة ظلّت مؤجلة لسنوات عن تاريخ المنطقة وأنساب سكّانها وأصولهم. لا أحد أفضل من البدوي يمكن أن يجيبك عن النّسب.

 في خيمته كذلك نلتقي بفتيان يختلفون عن بعض ممّن تراهم في المجمّعات التجاريّة ومسيرات فوز المنتخب. فتيان صقلتهم البيئة فجعلتهم رجالاً قبل حينهم. يحاورك أحدهم فتعتقد أنّه تجاوز العقد الثالث بقرون. فتيان لم يعرفوا (الجينز) بعد، ولا قصّات الشعر الغريبة، ولم يستدلوا بعد على عناوين مطاعم الوجبات السريعة.

برغم أننا اتفقنا مع ماجد على أن يكون غدائنا سمكاً فقط كون القرية تشتهر بأجود أنواعه حالها كحال بقية المدن والتجمعات المجاورة، إلا أن مائدة ماجد كانت - كعادة قومه – ينطبق عليها بيت الشعر الشعبيّ : 
للضيف معنا حقّه لزوم مدفوع .. نذبح عيال (البوش) ولا بكاري.

وأنا على مائدة الغداء أتذكّر قصّة رواها الرّحّالة (ثيسجر) عن كرم البدو وسخائهم، حيث أنه في إحدى المرّات" وجد في الصحراء رجلاً طاعناً في السّن بلغ فقره المدقع مبلغاً حتّى إنّه ضمر بطنه ورهل لحمه، فظنّه عجوزاً متسولاً معدماً، إلا أنّه علم فيما بعد أنّ الرجل كان أغناهم في قبيلته، لكنّ كرمه قضى عليه، إذ كان يذبح جملاً لكلّ من أتى خيمته". في كتاب الدكتور هلال الحجري "عمان في عيون الرّحّالة البريطانيّين" كثير من القصص المشابهة. فقط يبقى السؤال: كم غنيّ يفتح بيته الآن للمعسرين؟

تاركين ماجد ورفاقه، ودعواتهم الملحّة بأن نلبّي دعوتهم للمكوث حتّى الليل لتناول القهوة والعشاء، كي نعود إلى الدقم لأداء صلاتي الظهر والعصر وأخذ قليل من الراحة، ففي المساء تنتظرنا سهرة استثنائية قطعنا لأجلها الفيافي، وفارقنا الأهل والخلّان. سهرة سيغبطنا عليها (هرون الرشيد) نفسه لو كان يعيش بيننا، وسيتحسّر عليها بقيّة العمر من كان ينوي مرافقتنا ولم يفعل. كان الدكتور علي يحدّثنا عن سعيد الحرسوسي  صديقه صاحب الإبل والشعر وأشياء أخرى جميلة سنكتشفها فيما بعد. يسكن سعيد في (العجايز) وهي تجمّع سكني يقع ضمن جدّة الحراسيس، موطن المها العربية الأصيلة ومرتعها. صحراء ومها وبدر وشعر في وقت واحد؟ أيّ (سلطنة) وانسجام تلك التي ستحلّ بنا الليلة.

قبل أن نصل إلى العزبة ألمح سعيد وهو يلوّح لنا كي نقترب. من ملامحه يمكن أن أستعير وصف ثيسجر للبدوي " من الرجال المفطورين منذ الولادة على تحمّل صعاب الصحراء، وشرب مياه الرّمال القليلة المرّة، وأكل الخبز المكتسي بحبيبات الرمل الخشنة، وتحمّل ذرّات الرمال ، وعلى تجشّم البرد القارس والحرّ الشديد وضوء الشمس الساطع الذي يعمي الأبصار في أرض لا يظلّها ظل ولا تعلوها سحب" هكذا رأيت سعيد قبل أن أصافحه بعد، نحيف، أسمر، سمح المحيّا، تغطي ابتسامته على بضعة ندوب نحتتها قسوة الصحراء على وجهه. باختصار هو يجسّد صورة البدوي كما تناقلتها كتب الأدب على مدى قرون من التدوين.

نصل إلى العزبة التي ستشهد ليلتنا الاستثنائية. خيمة بدويّة تحيط بها بضعة شجيرات خضراء، وترعى حولها بعض الإبل الأصيلة، بينما البدر المكتمل يرقبنا في فضول. لا أشكّ في أنّ ثمّة (ابن سولع) ينتظر نصيبه من الوصف والغزل وهو يختلس نظرات لو نفذت إلى قلب (نيرون) نفسه لأصابته في مقتل. ويلك من عيون البقر الوحشي عندما ترمقك.

يأتي الحليب كأول ما يقدّمه البدويّ مرحّباً بضيفه ربما لكي يشاركه في قوته الأساسي، ولكي يمنحه الشعور بالأمان، فيبدو عليّ التردّد كونها المرّة الأولى التي أشرب فيها حليب الإبل، ولكثرة ما سمعته عن تأثيره على البطن، وبالتالي قد يتعكّر المزاج وتضيع السهرة. يشجعني البقية بشرب ما امتلأت بها آنيتهم، فأزيل الرغوة متوكّلاً على الله ولا أترك نقطة حليب واحدة في إنائي.

على وهج نار (السّمر) التي تتوسط جلستنا مانحة إيانا مزيداً من الدفء كان بعضه قد تسلّل إلينا بعد أول يد نصافحها في العزبة، يطلب الدكتور من سعيد إلقاء بعض  القصائد فيقدّم لنا في تواضع عدداً منها تنوعت ما بين الغزليّة، والوصفية، والمدحيّة. لا أفوّت فرصة كهذه فأستغل ما تبقى من طاقة في هاتفي لتسجيل الأشعار صوتاً وصورة. لا أثر لبيت مكسور، أو تكلّف ملحوظ، أو تقليد لهذا أو ذاك في طريقة الألقاء. هي سليقة البدوي  وفطرته. أقول لنفسي لو حمّلت هذه القصائد بصوت الشاعر وصورته على أيّ موقع ونسبتها لشاعر وهمي خليجي لتناقلها مراسلي الواتساب  والفيس والتويتر، وانتشرت انتشار النار في الهشيم معنا. سيدركنا الموت ونحن نقدّس كل ما هو دخيل علينا.

في أمسيتنا تلك تحدثنا في كل شيء، التاريخ، الجغرافيا، الأنساب، الشعر، الحب، وهل هناك أفضل من لحظات كهذه للحديث عن الحب؟ وهل هناك من جرّب العشق كما جرّبه البدوي؟ أولم يكن قيسي ليلى ولبنى، وجميل بثينة  وغيرهم ممن امتلأت بهم كتب العشق بدواً؟

أسأل سعيد إن كانت قد أتيحت له الفرصة قبل ذلك للظهور في إحدى الوسائل الإعلاميّة، أو المشاركة في ملتقى شعري أو أدبيّ معيّن فيجيبني بالنّفي.  مشكلة سعيد أنّه لا يكثر التردّد على مسقط، ولا تربطه صداقة بأحد ممن يعملون في الصحافة والإعلام، ولا يجيد كتابة أبيات من مثل (موسيقاك التي تبعثرني ..تشبه جمجمة مهترئة.. يلوح لها القادمون...فتتثاءب كسمكة غافية)، أسباب كهذه قد تجعل من فرص ظهورك ضئيلة للغاية ما لم تكن معدومة.

بعد وجبة العشاء الدسمة التي تلت فناجين وأكواب شاي وقهوة كثيرة، وصواني تمر وفواكه تغدو وأخرى تروح، وقبل أن ألقي عليه تحيّة الوداع أطلب من سعيد أبياتاً في وصف بيئته، فتأتي كلماته كأجمل وداع:
نحنا بداوة صح من أحسن النوع.. معدن أصيل وصار له كم طاري
نسكن بديرة خصّها الله في نوع.. نوع البداوة حبّنا واختياري
بيئة أصيلة ما بها شيء مصنوع.. فلّاًً جميله ما عليها غباري
بنشوف بن سولع مع الابل ورتوع... وغدير وافر حرّكته الذواري

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.