الثلاثاء، 11 فبراير 2014

والعشــق.. مسقطي (2-3)


تاركاً ذلك العجوز السوداني مشغولاً بمداعبة حفيده في حديقة ريام، وابتسامته تكاد تصل حدود الخرطوم ، لأسير بمحاذاة الشارع البحري باتجاه مسقط القديمة التي تبدو بوّابتها الكبيرة واضحة للعيان. أعشق السودانيين وأحب بساطتهم وعدم تكلّفهم، وأشعر أنّهم قريبون منّا روحيّاً وسلوكيّاً، وهذا حديث آخر قد يضمّه مقال قادم يوماً ما.
على الجانب المقابل من الشارع ألمح حارة كلبوه. كثير من الحارات والقرى العمانيّة غيّرت أسماؤها إلا كلبوه مازال اسمها صامداً برغم غرابته، وبرغم أنها لا تبعد سوى بضعة مئات من الأمتار عن ريام وحديقتها الأشهر إلا أن الجهات البلديّة أنشأت منتزهاً سياحيّاً كبيراً بها. أقدّر هذا الجهد وأثمّنه، ولكنّ هناك ولايات يسكنها عشرات الآلاف من البشر لم يسمعوا بعد عن معنى منتزه أو حديقة. 
في طريقي إلى البوّابة الكبيرة يلفت نظري الطريقة الغريبة التي رصف بها ممرّ المشاة المحاذي للشارع، والذي يشكّل الرصيف الوحيد له، فهو مكوّن من حجارة مدبّبة بحيث إذا أراد الواحد أن يواصل مشيه باتجاه مسقط فعليه أن ينتظر خلوّ الطريق من السيّارات فيقطع المسافة المتبقّية بسرعة  قبل أن تداهمه إحداهنّ . لا أعرف أي مهندس غريب الأطوار فعل ذلك، ولا أعلم كذلك لماذا لم يعاد تنظيم هذا الرصيف وفق المواصفات المستخدمة حالياً.
  أصل أخيراً  إلى بوّابة مسقط ، إلى الفتحة التي سأدخل منها إلى عالم الخيال والأحلام والأساطير ، إلى المدينة التي قال عنها القس جون أوفينغتن  قبل أكثر من 300 سنة إنها "أروع ما يمكن للطبيعة والفن أن ينتجاه أبدا"، إلى المدينة  التي وصف الطبيب الإيطالي فينسينزو ماوريزي أو (الشيخ منصور) كما سمّى نفسه، موائدها  "على الأرض امتد مفرش طويل من قماش القطن، وعليه عدد لا حصر له من الأطباق المصنوعة من الصيني الفاخر، بها مالا يقل عن 50 دجاجة مشوية وكميات ضخمة من المحشي، واللحوم الملفوفة بأوراق البنجر ، وأطباق مملوءة بضلوع الضأن، وفي وسط السماط كان هناك صحنان كبيران من الخشب عليهما عدة خراف مشوية على قمة جبلين من الأرز.."

إلى المدينة التي تحدّث الشيخ منصور كذلك عن "سحرتها القادرين على (سخط) أي إنسان إلى شاة"،  وكيف أنّ خادمه الخاص التقى ذات يوم بشاة في الطريق وفوجئ بها تتحدث إليه بلسان عربي مبين.إلى المدينة البيضاء، المثيرة للسحر والقلق والاضطراب في آن واحد كما وصفها الفرنسيّ (بيّار لوتيه). إلى بغداد الرشيد "التي يملك أميرها أجمل لؤلؤة موجودة في العالم, ليس لحجمها لأنها لا تزن سوى اثنى عشر قيراطا وليس لكرويتها الكاملة، بل لأنها صافية وشفافة إلى درجة انه يمكن مشاهدة الضوء عبرها"، كما رآها الصائغ الفرنسي جان باتيست تافرنيي عام 1636.

انشئت بوّابة مسقط عام 1995، وألحق بها متحفاً افتتحه المرحوم السيّد فيصل بن علي، كي يبثّ الروح فيها، ويجعلها مركز جذب سياحيّ. أدين لهذا الرجل بالكثير من الإنجازات المهمّة التي شهدتها الساحة الثقافيّة  والتراثيّة في عمان. تكفي مئات الكتب التي أعيد طبعها، والآثار والشواهد التاريخيّة التي أعيد ترميمها. تكفي رحلة السندباد. تكفي أشياء كثيرة قام بها هذا السيّد الجليل في فترة إشرافه على الوزارة.

واضعاً خطواتي الأولى في مدينة السحر والتراث ألمح لوحة ارشادية تشير إلى حارة (الجفينة) كأول حارة تستقبل الزائر إلى مسقط يمين البوّابة. قرأت عن الجفينة في فتح ابن رزيق، وأعرف جفينة أخرى في العامرات، أو (المتهدّمات) قبل أن يغيّر اسمها، محلّة الجفينة هي أول ما يصادف القادم إلى مسقط قديماً عن طريق عقبة ريام، و يقال إن هناك مقبرة أو معبداً قديماً للبانيان تقع بالقرب منها. أي تسامح عرفتموه أيها العمانيّون. كنائس للنصارى، ومعابد لليهود وعبّاد البقر. صدق عالم الطبيعة الألماني انجلبرت هامفر عندما وصفكم عام 1688 "هؤلاء العرب محترمون جداً في سلوكهم، ومتحضرين للغاية مع جميع الغرباء، ولا يبدر منهم أي عنف أو اهانة بأية طريقة. وعلى الرغم من  أنهم متمسكون بمبادئهم، وملتزمون بدينهم، إلا أنهم لا يفرضونه على أحد، ولا تحطّ قيمهم حماسة هوجاء تحود بهم عن جادّة الانسانية والاحترام العطوف، فهم قوم طبعوا على العدل، ومنحوا من الصفات الانسانية التي سهى الفلاسفة اليونان والرومان عنها".

مواصلاً مشواري وسط مجموعات من الآسيويين تخرج من هذا الطريق أو ذاك  أصل إلى حارة الدلاليل. مسقط مدينة تجارية لذا لابد من وجود من يعمل بالدلالة، ولابد لحرفة كهذه أن يتم توارثها جيلاً بعد جيل. ليس غريباً أن تكون لهم حارة باسمهم كما هو الحال في كثير من المدن الشرقيّة العتيقة التي تتسمى حاراتها بأسماء مهن عرفت بها. ألمح بيت الزبير  فأهرول باتجاهه خوفاً من أن أجده مغلقاً فالساعة قد قاربت على الخامسة عصراً. أذكر أنني زرت هذا المتحف قبل سنوات من الآن. كنت وقتها في سنتي الجامعيّة الأولى، ولكني لا أتذكّر كثيراً من ملامح تلك الزيارة، أمّا الآن وقد تشكّلت ذاكرتي التاريخيّة من جديد فلا أشكّ في أن يكون للزيارة طعماَ آخر. أدخل من البوّابة فلا يستوقفني أحد لأن موظّف الاستقبال كان مشغولاً خارج مكتبه بالحديث في هاتفه النّقّال. في بهو المتحف تطالعني عدّة مباني، هذا ( بـيــت الـبــاغ ) والباغ  هو الحديقة المتنوعة الثمار، وقد خصّص لعرض  الخناجر وملابس الرجال، والسيوف والأسلحة النارية، والأزيــاء الـنـســائـيــــــــة، والحـلـي والأدوات المنزليـة، وذاك (بيت الدلاليل)الذي يتكون من مجلس وغرف نوم ومخزن للتمر، أما هذا الذي في المنتصف فهو (البيت العود)بطوابقه الثلاثة التي تحتوي على قاعة عرض واسعة مجهزة للمعارض الزائرة، وقاعات عرض دائمة يعرض فيها خرائط قديمة لعمان وشبه الجزيرة، ونماذج من الأثاث الذي كان مستعملاً، وقاعات تحوي رسوماً قديمة لشبه الجزيرة ومسقط، ومجموعة من آلات التصوير القديمة.

من شدّة انبهاري بما رأيته في هذا البيت نسيت نفسي فظننت أنني في بيتي أقلّب موجات ذلك الراديو القديم باحثاً عن أغنية كلاسيكيّة شرقيّة، وأجلس على ذلك الكرسي الوثير مطالعاً كتاب (الدلائل واللوازم)، وأضرب بيدي على طاولة الطعام الخشبيّة  لأتأكد من متانتها، ولأتخيل أنه في الوقت الذي كان فيه البعض ممّن يتشدّقون الآن بالتاريخ يركض وراء بعير له فقده في الصحراء المحيطة بخيمته، أو يقف على باب أحد السلاطين طالباً بهطته السنويّة، أو يستعد للإغارة على جار قريب، كان تجّار مسقط ينامون في أسّرة وثيرة صنعت من الخشب والأبنوس الخالص، ويأكلون في أطباق جلبت لهم خصيصاً من بلاد الهند وأوروبا، ويقضون بقية الليل في مطالعة كتاب أو الاستماع إلى نشرة أخبار قادمة من أثير بعيد.

على (البعض) أن يقرأ التاريخ جيّداً  قبل أن (يهرتل) بما لا يعلم. أفوق من تخيّلاتي على صوت موظف الاستقبال المهذّب الذي تذكّر فيما بعد أنّ أحدهم قد دخل المتحف دون أن يدفع رسوم الدخول. يرفض هذا الشاب أخذ الرسوم مرحّباً بي في حرارة ومعتذراً عن قطعه لخلوتي برغم أن اللوحة الإرشاديّة القريبة تحذر من الاقتراب من المعروضات خشية تلفها. لله درّك أيها العماني، طيّب، خدوم، تقدّر للآخرين ظروفهم مهما كانت.

لم يعكّر صفو زيارتي سوى عدم رؤيتي لأي زائر عمانيّ باستثناء من أتى لشراء بعض العطور أو البخور أو الهدايا من القاعة المخصّصة لذلك، لو قدّرنا أن قيمة العطر الذي ستشتريه تلك السيّدة بمائة ريال، فنصف ريال فقط كاف كي يمنحها عطراً روحيًاً سيلازمها إلى الأبد. يبدو أن الأناقة والمكياج الصارخ والشيلة المذهّبة لا تتناسب والقيام بعمل رجعيّ يتمثّل في زيارة متحف أو قلعة. كل تلك الأشياء قد خصصت لما هو أهم: بابا روتي، كوستا، سكند، تشيليز، أما المتاحف فهي لأصحاب النظارات أمثالي.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.