الاثنين، 26 أغسطس 2013

بيضة الإسلام..بصفار ملوّث

وكأنّي أزور عزيزاً أخشى ألّا ألقاه بعد أن أقعدته العلل، وتكالبت عليه الأمراض، كانت زيارتي الأخيرة قبل بضعة أيّام لحارة (العقر) التاريخية في قلب بيضة الإسلام و(تخت العرب) نزوى.
لم تنقض على زيارتي الأولى للحارة ثلاثة أشهر حتّى قرّرت زيارتها مرّة أخرى. لا أدر ما السّبب الذي جعلني أفعل ذلك وأنا الذي لا أجد الوقت الكافي للنوم في زحمة المشاغل الدنيويّة المتعدّدة، فما بالكم بترف السّياحة والتنقل بين مدينة وأخرى.

هل هو الحنين الذي راودني لتلك الحارة بعد زيارتي السّابقة لها وتجوّلي في أركانها، هل هو كتاب (النّمير) الذي عرض لكثير من القصص والمواقف والشواهد المتعلّقة بتلك الحارة، والذي أشكّ أنّ شبابنا قد سمعوا عنه بمقدار شكّي في مدى قيام الجهات المعنيّة بالاحتفاء بالكتاب والباحث برغم الجهد (الخرافي) المبذول في إعداده، وبرغم أجزاءه العشرة، في النهاية هو ليس بفنّان قدير، ولا لاعب شهير، ولا شاعر متزلّف، هو مجرّد.. باحث.

هل هو العرض المرئي الذّي قدّمته إحدى طالباتي في الكلّيّة والمتعلّق بآثار حارة العقر، والذي أثار في داخلي كثيراً من الشّجن المغلّف بالأسى خاصّة وأنّها ختمت عرضها المرئي بصورة آسيوي يقف بابتسامته العريضة وشعره المسبسب وسط إحدى الحارات الضيّقة بينما كومة من المخلّفات تسدّ مدخل الحارة . يبدو أنّهم لم يكتفوا بمقاسمتنا في الرزق ومزاحمتنا في الشوارع وإفساد غذائنا، فقرروا هذه المرّة مشاركتنا في ما تبقّى لنا من تراث. لم يبق لهذا الآسيوي سوى أن يخرج لسانه ليقول لنا موتوا بغيضكم. 

هذه المرّة حملت أطفالي معي، ربّما لأمنحهم فرصة مشاهدة معالم قد لا يروها بعد بضعة سنوات من الآن لأنّها ستكون أثراً بعد عين، وكي لا تتضارب المعلومات في أذهانهم ويشعروا بالحيرة عندما يخبرهم معلّم التّاريخ في مدرستهم عن مسمّيات ومصطلحات غريبة وغامضة كالقلاع والحصون والحارات القديمة، وربّما لكي أعفي نفسي من لومهم وعتابهم جرّاء أيّة حالة هذيان أو جنون قد تنتابني مستقبلاً بسبب الهلاوس التي باتت تراودني بين الفينة والأخرى وأنا أشاهد ما يؤول إليه جزء كبير من تاريخنا المادّي بيد أبناءه المتعلّمين الحاصلين على أعلى الشّهادات، والذين هم بحاجة إلى نسخة من كتاب (النّمير) كي يعرفوا جهود أجدادهم الذين لم يتعلموا في مدارس خاصّة، ولم يمنحوا بعثات غربيّة مفتوحة، ولم يحتسوا قهوة الصباح في جادّة باريسيّة أو شارع لندني. هؤلاء الأجداد بثيابهم الملتصقة بالعرق، وبعيونهم التي جفّ ماؤها من كثرة القراءة ونسخ الكتب، تركوا وصايا عديدة تتعلق بعمارة المساجد والأفلاج والأسوار، لم ينتظروا قانون نزع ملكيّة، ولا لجان تثمين، ولا أن يظهر برلماني ألمعيّ يحمل على عاتقه تراث بلده، يجعله قضيته الشاغلة، ويقترح من أجل الحفاظ عليه القوانين المناسبة، ويأتي بنماذج لأفكار مشابهة طبّقت في دول لها نفس التراث والحضارة.

ماذا تبقّى منك أيّتها الحارة العتيقة، والتي كنت في يوم ما (مطبخ) عمان السّياسي والتّاريخي إن جاز لنا التعبير، في يوم من الأيّام كان هنا سور عظيم بني قبل أكثر من ألف عام، يضمّ أربعة أبواب وأربعة عشر برجاَ متوزّعة على طول امتداده. هل تبقّى شيء من هذا السّور.

ترى من يسكن الآن بيت ابن مداد النّاعبيّ؟ هل هو راجو أم كومار أم عبد الشكور، وهل تبقى شيء من آثار المدرسة الشرعية التي بناها العلّامة أبي عبد الله عثمان الأصم، وأين هي مساجد غليفقا والشجبي والحجارة والفرض، وأيّ أفلام ماجنة تعرض الآن في ظل الأضواء الخافتة ليلاّ، وهي ذات الأضواء التي نسخت عليها أمّهات الكتب في نفس المكان وفي غير الزمان. 

كانت هنا حارات تدعى كرادسين، وخراسين، أنجبت عشرات العلماء والزّهّاد والأدباء والنسّاخ، هل ما زالت هذه الحارات باقية، وهل تبقّى أحد من ذرّيّة الشيخ الولي سليمان بن محمد الخراسيني.

هنا يوجد مسجد يدعى (الشواذنة) بني في العام 7 هـ، ورمم عدة مرات، شهد محرابه عرصات علم وتقوى، وسهر على سراجه الخافت عشرات العبّاد، وبكى في جنباته علماء كان همّهم تقوى الله ونيل رضاه. هل سيبقى هذا المسجد شامخاً يقاوم التخلّف الفكري وهو يرى أحبّاؤه يتساقطون أثراً تلو الآخر؟

نعم.. إن عين (العقر) أصبحت بلا هدب، تراث يهدّ ويتساقط، وتتساقط معه عشرات الشواهد ، وعلى مرأى العين هناك جمهور يشاهد ما يحدث أمامه بصمت، للأسف لا يوجد هدب يمنع هذا الغبار من أذى العين.

إنّنا نسمع ونقرأ كل يوم عن عشرات الحملات والجمعيّات التطوّعيّة التي تدعو للبر والإحسان ومساعدة الفقراء والمحتاجين. ألا يمكن أن نرى حملة تدعو إلى المحافظة على ما تبقّى من تراث؟ ألا يمكن أن نعتبر أن هذه الشواهد الأثرية هي بحاجة كذلك إلى من يحسن إليها ويبرّ بها لدورها الحضاري والفكري الكبير؟

عندما سألت طلابي بعد انتهاء عرض زميلتهم المرئي حول كيفية الحفاظ على ما تبقّى من ملامح (العقر) وغيرها من الحارات العمانيّة كان جواب أحد الطلّاب الظرفاء: الحل الأمثل هو أن تطالب إحدى الدّول المجاورة بهذه الحارة، وتدّعي ملكيّتها، ومن ثمّ تؤول إليهم، فيقوموا بترميمها، ويجعلونها قبلة للسيّاح وروّاد العلم والباحثين عن التاريخ، فتستعيد شيئاّ من عبقها ومكانتها، وبعدها يمكن لنا أن نطالب بها ونستعيدها، ويا دار ما دخلتك شر.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.