الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014

(ابحث عن العمانيّة)


د.محمد بن حمد العريمي

أعرف أنّ مقالاً كهذا قد يدخلني عشّ الدّبابير، ويثير عليّ عاصفة من السّخط، وسيل من الإتّهامات بالرّجعيّة والانغلاق، وتهميش دور المرأة العمانيّة، والتقليل من الإنجازات (العظيمة) التي قامت بها.

أمّا الحكاية يا إخوان فهي حالة (الإسهال) التي أصيبت بها بعض وسائل الإعلام المحلّيّة وهي تحتفل بيوم المرأة العمانيّة ودورها في المجتمع، فهذه مجلّة قد وضعت على غلافها مربّعاً يضمّ عشرين شخصيّة نسائيّة عمانيّة وتحتها كتب بالخطّ العريض (شكراً لك)، وكأنّه لا نساء أخريات في الوطن يستحقّنّ الشكر كذلك! وتلك شركة قامت بنشر إعلان يتضمّن فكرة مشابهة للسّابقة مع التركيز على عدد من موظّفات الشركة، بينما ركّزت تلك الصحيفة على كيفيّة تمكين المرأة من الوصول إلى المناصب العليا في الدّولة، وكأنّه هو المطلب الأساسي الذي معه سوف تحلّ كلّ قضايا المرأة وتحدّياتها!! وتحدّثت وسيلة إعلاميّة أخرى عن تطلّعات بعض النساء المستقبليّة (وأغلبهن من صاحبات الأعمال)، ولم ينسن أن يتوجّهن بالشكر لصناديق الدعم المختلفة على مساندتها لهنّ في مشوارهنّ العملي في مجال الأعمال والتجارة، وغيرها من التغطيات والتحقيقات المشابهة.

ومع كلّ تقديري واحترامي الكبيرين للأدوار التي قامت بها تلك الشخصيّات، ومع أن عدد منهنّ قد شققن طريقهنّ بمثابرة عالية متحدّيات لظروف قادرة على إحباط أعتى الرجال، ومع أنّ بعضهنّ يشغل وظائف غاية في الأهميّة لم يصلن إليها إلا من خلال مشوار طويل من الكفاح والصبر، إلا أن السؤال المطروح بناء على كثير ممّا أراه في وسائل اعلامنا حول تناولها لقضيّة المرأة العمانيّة : لماذا الإصرار على تصدير مشهد واحد للمرأة العمانيّة، ألا وهو مشهد المرأة المنفتحة الراقية الشيك التي يمكن أن تمارس كافّة الأنشطة، وكأنّنا نقول للعالم: أنظروا إلى أين وصلت المرأة العمانيّة! ولماذا تركّز أغلب أغلفة المجلات النسائيّة المحليّة على وضع صور للفتاة العمانيّة التي تلبس أغلى العبايات والشيل، وتضع على وجهها مساحيق تكفي لتلويث محيط بكامله، بينما تنساب خصلات شعرها على وجهها في تماوج عجيب! ولماذا تركّز أغلب المشاريع المدعومة على مصمّمات الأزياء، وصاحبات البوتيكات، ومراكز التصوير، وبيوت التجميل، ومعامل تنسيق الزهور، وكأنّ البلد خلت من مشاريع أكثر جدوى وأهميّة يمكن أن تقوم بها المرأة العمانيّة، وكأنّه كذلك لا يوجد خلف كل صحراء، أو وراء كلّ تلّة أو جبل فتاة أو امرأة عمانيّة تمارس أنشطة فتحت بيوتاً، وعاش من ريعها أجيال متعاقبة، مازلن ينتظرن من يقدّم لهن يد العون والدّعم حتّى ولو لم يكنّ من صاحبات الابتسامات الجذّابة، وحتى لو لم يكن يفقهن شيئاً في علم "ثقافة الروج".

بحثت كثيراً في تلك التغطيات عن وجه غابر لعجوز ذهب ماء عينها وهي تسهر على حياكة كمّة قد يعيل ريع بيعها أسرة ذهب عائلها إلى رحمة ربّه، بحثت كذلك عن وجه لا تبقّعه الألوان لمعلّمة أو ممرّضة أو طبيبة أو حتّى لامرأة لم تتلقّ الكثير من الشهادات، ولكنّها ما تزال محتفظة بقيم وعادات تشرّبتها من مبادئ دينها، وما غرسه فيها أب أو أمّ صالحة، وهاهي تغرسه في نفوس صغارها ليشبّوا أبناء صالحين لوطنهم، بارّين بأهلهم ومجتمعهم. بحثت عن خبر أو لقاء مع فتاة أدركت أنّ في القرآن نوراً وحياة فحفظت أجزاءه الثلاثين غير مبالية بعينها التي أحاطت بها هالات سواد من جرّاء القراءة والحفظ. بحثت عن خبر يخصّ معاقة لم تستسلم لعجزها فتحدّته بمزيد من التفاؤل والإصرار، بحثت عن مخترعة أو مبتكرة أو كاتبة لم تعرف وهج الفلاشات بعد. بحثت عن زينب ومريم وفاطمة وغيرهنّ من بنات البلد الحقيقيّات في مختلف المجالات فلم أجدهن... وقد لا أجدهنّ مستقبلاً كذلك.

عذراً.. لن تجدوا العمانيّة على أغلفة المجلات والصحف، ابحثوا عنها في القرى والبوادي والسيوح قبل أن تفتّشوا عنها في كبار المدن، ابحثوا عنها في غرف العمليّات ليلاً وهي تشارك في انقاذ روح ما كان لها أن تعيش لولا رحمة الله، وسهر أمثالها. ابحثوا عنها في أقاصي البلاد وهي تترك طفلاً رضيعا،ً وأمّاً مسنّة، وزوجاً شابّاً ربّما لم تكمل معه عيد زواجهما الأوّل بعد، بل تركت كلّ هؤلاء وذهبت هناك بعيداً كي تقوم بدورها كمعلّمة ومربّية أجيال، وغارسة مبادئ. ابحثوا عنها في المعامل ووسط أكوام الكتب. ابحثوا عنها في فرق العمل الخيريّة وهي تتطوّع لخدمة أسرة فقيرة، أو للاعتناء بيتيم، أو وهي تبيع مصاغها من أجل ستر فتاة في مثل سنّها. ابحثوا عنها في مراكز التوحّد ودور المعاقين، وهي تحاول جهدها كي تزرع بسمة مفقودة، وتنحت طريقاً من التفاؤل في قلوب من أغلق اليأس كثيراً من منافذ قلوبهم وعقولهم من جرّاء ابتعاد البعض الآخر عنهم واعتبارهم عالة على المجتمع.

ابحثوا عنها خلف أستار الخيام في صحراء قد لا يعرف الكثيرين اسمها وهي تشارك زوجاً عاجزاً أو مسنّاً في الاعتناء ببضعة قطعان من الغنم أو الإبل قد يكن ثمن بيعها كلّ موسم سبباً في جلب فرحة صادقة لأطفال لم تتوسّخ أيديهم بعد بكثير من أدران التطوّر التكنولوجيّ والحياتي. ابحثوا عنها في أماكن كثيرة في هذا الوطن قد يصعب عليكم إدراكها الآن، ولكنّه سيكون سهلاً يسيراً مالو توافرت الإرادة والرغبة لذلك.

المرأة العمانيّة ليست فقط الوزيرة أو الوكيلة، وليست فقط الشاعرة أو الأديبة أو الممثّلة، وليست كذلك صاحبة دار الأزياء أو محلّ التصوير أو مركز التجميل أو معمل تنسيق الورود، وليست أيضاً فقط لاعبة التنس أو الإبحار الشراعي أو غيرها من الألعاب المستحدثة. وليست فقط من ترتاد الفيس والتويتر والسينما وتشيليز ومقاهي الموج وجراند. المرأة العمانية ليست هؤلاء فقط، بل هي كذلك الأم الأميّة، والأرملة، والمعلّمة، والطّبيبة، وملاك الرّحمة، وراعية الغنم، والخيّاطة، والمحامية، وكلّ عمانيّة تعيش على أيّ شبر من هذا الوطن.

كما أنّ حقوق هذه المرأة لا تأتي فقط بتمكينها من المناصب العليا، أو فرضها في كلّ وظيفة أو مهمّة يقوم بها الرجل حتّى لو لم تتوافق مع طبيعتها وفطرتها، ولا تأت بالاحتفالات والأمسيات والبهرجة التي تتحوّل لعرض أزياء أكثر من كونها مناسبات فكريّة واجتماعيّة، ولا بالحديث فقط عن المساواة في كلّ شئ وتذكيرنا في كلّ لحظة بأن المرأة نصف المجتمع، وأنّها لابد أن تتساوى معه في كلّ شئ.

حقوق المرأة تأتي من خلال احترامها وتقدير ذاتها ودورها ومكانتها التي حفظتها لها الأديان والشرائع السماويّة. تأتي كذلك من خلال الحرص على تمكينها من نيل حقوقها الشرعيّة والفكريّة دون تهميش أو تعسّف أو فرض رأي، تأتي من خلال مناقشة القوانين المتعلّقة بها في كافّة المجالات، تأتي من خلال دعم دورها الاقتصادي الحقيقي كمنتجة، تأتي من خلال تذكيرها بأنّها أساس المجتمع، وأهمّ عنصر من عناصره، وأنّ الدور الأكبر في تربية الجيل وتنشئته يقع عليها في وقت أصبح حلم الزواج وتكوين أسرة صالحة متماسكة من أواخر الأولويّات التي تفكّر فيها كثير من بنات هذا الجيل.

باختصار.. المرأة شيئ ثمين ودرّة غالية فلنحافظ عليها دون تقييد أو انفتاح مبالغ فيه. فلتأخذ حقوقها كاملة، ولكن في ظلّ الحفاظ على مبادئ وقيم لن تتغيّر مهما تعاقبت السنين، وتغيّرت الأحوال. لتأخذ كافّة حقوقها ولكن دون المساس بتلك القيم مهما كانت الذرائع والحجج.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.