الأربعاء، 1 أكتوبر 2014

رؤيتي لمستقبل العمل البلدي

"برشيد" مدينة مغربيّة متوسّطة الحجم تبعد عن الدار البيضاء بـحوالي 30كم، تتميّز بتربتها الزراعيّة الخصبة التي جعلت منها إحدى أكبر مدن الإنتاج الزراعي في المغرب نتيجة لامتدادها فوق سهل الشاويّة المنبسط، وبكونها جسر عبور بين العديد من المدن كالدار البيضاء وسطات والجديدة ومرّاكش.

أمّا لماذا الحديث عن "برشيد"، وما علاقتها بعنوان المقال، فالأمر يعود إلى دعوة تلقيّتها لزيارة مجلس بلديّة المدينة، للتعرّف على الأنشطة والبرامج التي ينفّذها، والإطّلاع على تجربته في مجال العمل البلدي.

قبل وصولي إلى مبنى البلديّة ذو الثلاثة أدوار والذي كان يغصّ بالمراجعين من مختلف الشرائح المجتمعيّة في المدينة كنت أعتقد أن الزيارة تخصّ جهة حكوميّة كما هو الحال لدينا عند الحديث عن البلديّات الإقليميّة المختلفة التي تغطّي كافّة ولايات السلطنة، ولكن ومن خلال الحوار مع الأعضاء بعد ذلك عرفت أنّ المجلس البلدي في المدينة هو مجلس منتخب يمثّل كافّة أطياف المجتمع، وأنّه يمارس كافّة الصلاحيّات البلديّة دون أيّة تدخّل مباشر من قبل الحكومة وأن اختصاصاته تتضمّن الخدمات الإنشائية والعمرانية كتخطيط المدينة وتنظيم شوارعها وحاراتها، والإهتمام بالطرق الداخليّة، وإقامة المشاريع ذات المنفعة العامّة، كذلك يقوم المجلس بمهمّات صحية من قبيل أعمال التنظيف، وجمع النفايات والتخلص منها، وتأمين ذبح المواشي في ظروف صحية، ومراقبة المأكولات ومحلات بيع المواد الغذائية، إضافة إلى المهمّات الاجتماعية والثقافية والرياضية كدعم الأنشطة التي تقوم بها الجمعيات والنوادي لضمان استمرارها، وإيجاد البنيات والتجهيزات الضرورية لها، بمعنى أنّه يقوم محلّ الحكومة في تنفيذ برامج العمل البلديّة المختلفة، يعني بالعربي الفصيح لا وجود لوزارة بلديّات أو شئون بلديّة أو قرويّة أو غيرها من التسميات.

أثناء الحوار تذكرت حال ولايتي التي مازالت تعاني من تجمّعات البرك والمستنقعات المائية التي تملأ الشوارع والأحياء السكنية بعد كلّ رشّة مطر بسيطة، وافتقارها إلى المتنزّهات الطبيعيّة أو الصناعيّة، على الرغم من الإمكانات البيئية المتنوعة التي تشتمل عليها، تذكّرت "المكتبات العامّة" التي لا تزال مصطلحاً مستعصي الفهم على البعض في ظلّ الحديث عن الثورة المعرفيّة والتطوّرات الهائلة المتعلّقة بها، تذكّرت كذلك الكثير من المزارات التاريخيّة التي ما زال البعض منهمكاً حتّى الثّمالة في تشويهها أو تدميرها لحجج مختلفة أقلّها اللامبالاة، تذكّرت أيضاً ألوان بيوتنا المتنافرة القبيحة في ظل الحديث عن مخططات سكنية حديثة يفترض أن تنظم آلية البناء والتشييد فيها قوانين محددة تحافظ على الطابع المعماري الجمالي المحدد سلفاً، تذكّرت أبنائنا الذين ما زالوا يلجأون إلى مواقف السيارات وأرصفة الشوارع لممارسة نشاطهم الكرويّ في ظلّ عدم الإقتراب من زاوية التفكير في إنشاء ملاعب رياضيّة مهيّأة تحتضن مهاراتهم في ظلّ الحديث عن دور الأندية المفقود، تذكّرت ودياننا التي كانت يوماً ما غابات خضراء يانعة ينسيك النوم تحت ظلال أيّ شجرة من أشجارها كثيراً من الهموم الآنيّة والمستقبليّة، تذكرت حوال شواطئنا البكر التي تحوّلت إلى مزيج قبيح من كلّ ما لفظته البيئة. تذكّرت أشياء كثيرة كان يمكن ألا تكون كذلك لو وجدت عقول تعرف ماهيّة العمل البلديّ الحقيقي.

من محصّلة زيارتي خرجت بنتيجة واحدة ألا وهي : أنه لا يمكن للعمل البلدي أن يتطوّر معنا في ظل الفكر الذي نديره بها حاليّاً، وأنه ليس هناك من هو أقدر على تجديد دمائه من أبناء الولاية أو القرية أنفسهم، لذا فإن وجود مجلس بلدي منتخب في كل ولاية وقرية، يتوزعون على لجان مختلفة تشمل كثيراً من المناحي المجتمعية كاللجان الاجتماعية، والثقافية، والتربوية، والمالية، والبيئية، والتخطيط وغيرها، من شأنه أن يلقي حجراً كبيراً في بحيرة العمل البلدي الراكدة، ويساهم في تغيير كثير من المفاهيم المجتمعية المغلوطة أو المغيبة تجاه نوعية وآلية العمل البلدي، وبالتالي يحمل معه عملاً مجتمعياً يختلف عن سابقه، ويسهم في شمولية التنمية لكافة أرجاء تلك الولاية أو القرية.

وقد يقول البعض إنّ خطوة كهذه قد يكون لها مردود سلبيّ وذلك من خلال الإختيار الخاطئ للمرشّحين لعضويّة هذه المجالس نتيجة لا مبالاة البعض، أو لتأثير سطوة القبيلة أو المال، كما يحدث في كثير من الاستحقاقات الانتخابيّة لدينا، والرد على هذا الرأي هو أنّ هاجساً كهذا هو هاجس حقيقي وموجود على السّاحة المحلّيّة، ولكنّه لن يستمر طويلاً خاصّة إذا شعر المواطن بأن كثيراً من الخدمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة التي تهمّه قد يحدّدها اختياره للأعضاء المناسبين، وسيضطر حتماً لتغليب مصلحته العامّة على المصالح الفرديّة الضيّقة.

وحريّ عن القول إن تأثير اختيار أعضاء متطوّعين من ذوي الإمكانات والرغبة، الممتلكين لأدوات التواصل الإجتماعي، العارفين بهموم مدنهم وقراهم سيكون أجدى بكثير من دور موظّفين غالباً ما يرون في العمل البلدي مجرّد وظيفة يمارسونها خلال ساعات عمل محدّدة، ويتقاضون عنها أجراً معلوماً نهاية كلّ شهر، ويتحرّكون وفق خطط تتكرّر ذاتها كلّ عام بلا جدوى حقيقيّة بحيث يمكن أن تزور ولاية ما فتجدها نفسها كما كانت عليه خلال الأعوام السابقة عدا بعض المشاريع التي قد لا يكون للبلديّة دور مباشر في إقامتها.

كما أنّ خطوة كهذه قد تسهم في الارتقاء بالحياة السياسيّة بشكل عام وذلك من خلال حرص أبناء المجتمع على الإختيار المستقبلي المناسب للأعضاء الذين يمثّلونهم في كافّة الاستحقاقات المجتمعيّة المختلفة، لأنهم سيلمسون الفرق من خلال الخدمات التي ستقدّم، وسيشعرون بجدوى اختيارهم المناسب، وبالتالي سينعكس ذلك على اختيار أعضاء المجالس البرلمانيّة، وغيرها من المجالس المؤسّساتيّة الأخرى.

ومن شأن هذه الخطوة كذلك أن تقلّل كثيراً من الضغوطات والأعباء الملقاة على كاهل الحكومة، وتخفّف من حدوث أيّ احتقان مستقبلي بين الطرفين، ففي حالة حدوث أيّ تقصير مستقبلي في تقديم الخدمات المختلفة فإنّ اللوم سيقع على كاهل اعضاء المجالس التي قام المواطنون أنفسهم باختيارهم لا على عاتق الحكومة، وسيكون دور الحكومة في هذه الحالة هو الدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة يكون فيها المواطن على قدر أعلى من المسئوليّة لاختيار أعضاء أكثر قدرة على إدارة العمل البلدي.
من الظلم والإجحاف بحق المجتمع أن نحصر العمل البلدي في القيام ببعض الأعمال الروتينية كمراقبة وتفتيش المحلات والمطاعم، ورصف بعض الطرق الداخلية، وإصدار تصاريح افتتاح المحلات التجارية المختلفة، والإشراف على المرادم وأماكن التخلص من النفايات، وملاحقة الحيوانات السائبة، فهذه نظرة قديمة تجاوزتها المجتمعات الحديثة منذ عقود.

إنّ العالم قد تجاوز الأعمال البلديّة السّابقة إلى أعمال وأنشطة أكثر شمولاً وتنوّعاً، كإنشاء المكتبات العامة، وإقامة المهرجانات والكرنفالات الشعبية المختلفة، ومعارض الكتاب، والاهتمام بجوانب الترفيه المختلفة، كإنشاء الحدائق العامة، وتحويل بعض الأماكن البيئية إلى متنزهات طبيعية أو أماكن تخييم، وتعزيز الجوانب السياحية، من خلال الاهتمام بالموروثات والشواهد التاريخية والثقافية للمدينة كالفنون المغناة، والحرف المختلفة، والمعالم الأثرية، والاستفادة من البيوت الأثرية القديمة بتحويلها إلى مزارات أو مؤسسات ثقافية وسياحية مختلفة، إضافة إلى الاهتمام بقضايا البيئة المختلفة، واقتراح وتنفيذ الحلول التي يمكن من خلالها أن تكون المدينة أكثر نظافة وأقل تلوثاً، وغير ذلك من الخدمات التي يصعب حصرها، والتي تدل على اهتمام بلدي حقيقي من جانب المعنيين بهذا الجانب.


د.محمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.