"قـاطعوهم"
حين قام
تجار اللحم زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب برفع سعره من غير سبب لتكثر أرباحهم،
ذهب وفدٌ إلى الفاروق يطلب منه التدخل لتخفيض الأسعار، فقالوا له: غلا اللحم
فسعّره لنا، فقال لهم: أرخصوه أنتم،
فقالوا: وكيف نرخصه وليس في أيدينا يا أمير المؤمنين؟ قال: اتركوه لهم. فترك الناس
شراء اللحم أياماً، وبعد أن تعفن لدى الجزارين أرخصوه مجبورين.
وحين غلا
الزبيب بمكة كتب أهلها إلى على بن أبى طالب بالكوفة أن الزبيب قد غلا علينا، فكتب أن
أرخصوه بالتمر. أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوفرا في الحجاز وأسعاره رخيصة فيقل
الطلب على الزبيب فيرخص . وإن لم يرخص فالتمر خير بديل .
وعندما
أراد (غاندي) مقاومة المستعمر الانجليزي ونيل استقلال بلده الهند كانت جملته
الشهيرة "احمل مغزلك واتبعني" سلاح مقاطعة فعال كانت له نتائجه
الإيجابية الفعالة فيما بعد.
وعندما
توحد العرب يوماً ما واستخدموا سلاح المقاطعة في ظاهرة استثنائية غريبة قد لا
تتكرر قريباً كانت النتيجة هي انتصار عسكري وسياسي رائع في حرب 1973، ونتائج
اقتصادية مبهرة من خلال ارتفاع سعر برميل البترول من دولار واحد إلى ما يقارب
الأربعين، مما حقق طفرة عمرانية وتنموية واسعة في بلدان النفط العربي.
وعندما استيقظ المواطن الأرجنتيني يوماً على ارتفاع طفيف في سعر
البيض بسبب جشع تجار الدواجن، لم يستسلم للأمر وكأن
شيئاً لم يكن، إنما أخذ الطبق وأعاده إلى مكانه وقال " هناك أمور تعوضني عن
البيض فلا داعي له"، وأجبروا التجار بعدها على تقديم اعتذار رسمي للشعب
الأرجنتيني عن طريق جميع وسائل الإعلام، وتخفيض سعر البيض عن سعره السابق بربع
القيمة السابقة.
وعندما دخلت سيدة بريطانية عجوز إلى محل البقالة
الكائن في قريتها الصغيرة وتفاجأت بارتفاع سعر الطماطم، قامت بإرسال رسالة نصية
قصيرة إلى كافة معارفها وصديقاتها قائلة لهم " بلاها طماطم اليوم".
وعندما طفح الكيل في دول عربية عدة من الممارسات
الجشعة لبعض التجار كان الحل هو تنظيم حملات مقاطعة اعلامية منظمة كحملة "اتركها
على الرف"، و"لا ترفع الأسعار فالبديل في الانتظار"، و"خلوها تصدى"،
و"خلوها تغبر"، و" خلوها تفسد "، وهي حملات كان لها أثر
ايجابي فيما بعد، واضطر التجار لإعادة الأسعار كما كانت.
إذن هي ثقافة أمم وشعوب لم ترض أن يبتزها أحد في حاجاتها الأساسية،
أو يحرمها من قوتها اليومي، فكانت المقاطعة أمضى سلاح يتم استخدامه كتعبير معنوي
عن الاحتجاج ورفض الإهانة.
والمقاطعة في أبسط تعريفاتها هي قطع العلاقات بين
المستهلك والمُنتِج أو مُقدم الخدمة والتي تنطوي على الامتناع عن شراء أو استخدام
هذه السلعة أو الخدمة، كتعبير عن الاحتجاج، وعادة ما تكون بسبب رفع السعر بلا مبرر
واضح أو سوء في الخدمة من توفير قطع الغيار أو سوء في التعامل.
ويعد
توجه المستهلكين نحو ثقافة مقاطعة السلع إحدى الوسائل المهمة لإعادة الأسعار
لوضعها الطبيعي، وتعد رسالة إلى التجار بعدم مناسبة السلع لقدرات المستهلك
الشرائية، وعلى المستوى الاجتماعي تعد ثقافة مقاطعة السلع أمر إيجابي معبر عن موقف
اجتماعي تجاه مؤثرات اقتصادية تشهدها السلع من غلاء وتدني مستوى جودة السلع وما قد
يلحق بها من عيوب لا يرضاها المستهلك، كما أن ظهور حملات المقاطعة على السطح
الاجتماعي يدفع لتنشيط سوق العرض والطلب ومن شأنه المنافسة بين الشركات في طرح
منتجات ذات جودة عالية وأسعار تنافسية وفق القدرات الشرائية للمستهلكين.
ومتى
كانت المقاطعة مدروسة ومنظمة وتم تطبيقها بأكبر عدد ممكن من مؤيدي المقاطعة قولا وفعلا
فسوف تؤتي ثمارها المرجوة، وبالتالي تحقق أهدافها.
وبرغم
الحديث عن دعوات لمقاطعة بعض السلع والمنتجات هنا وهناك إلا أن ثقافة المقاطعة
تكاد تكون غائبة بشكل كبير عن مجتمعنا المحلي، ولعل ذلك يعود إلى أسباب عدة لعل من
بينها عدم وجود تنظيم يجمع قطاعات المستهلكين حول إرادة واحدة تحمى مصالحهم، بينما
في المقابل هناك تنظيمات تحمى مصالح التجار وتتيح لهم فرصة الاتفاق على رفع الأسعار
وممارسة الاحتكار، وكذلك عدم وجود أدوار مهمة للمجتمع المدني في هذا الشأن، وأقصد
به تنظيمات مجتمعية خاصة بحماية المستهلك
يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في ذلك، لذا فإن كثيراً من الدعوات للمقاطعة يكون
محكوماً عليها بالفشل في غالبها من أول وهلة.
وكي
يكون سلاح المقاطعة ناجحاً وفعالاً فلابد له من عوامل مهمه كقوة الحجة واقتناع الناس
بما يكفي لمقاطعة هذا المنتج أو ذاك، والتهيئة والتنظيم للمقاطعة إعلانيا، وجدية المستهلكين
وصبرهم بمقاطعة المنتج حتى لو لم تتوفر لديه البدائل المناسبة في بعض السلع الغير ضرورية
جداً، ووجود جمعيات تعاونية تتوفر فيها السلع لكافة الشرائح لمواجهة غلاء الأسعار،
والتوجه إلى شراء البدائل من المنتجات أو الاستغناء عن السلعة إذا كانت الحاجة لها
غير ملحة، وانشاء المجموعات التوعوية من خلال (قروبات الكترونية) في وسائل التواصل
الاجتماعي وكذلك تطبيقات الهواتف الذكية يتضمن أسعار السلع التي طالتها الزيادة ويفيد
أيضا بالمنتجات ذات الجودة الأقل، ويساهم في نشر الثقافة الاستهلاكية ليميز المستهلك
بين الجيد والرديء.
عزيزي
المواطن. التاجر لا يحترم المستهلك السلبي والذي يتبعه دون تفكير، التاجر يحترم فقط
من يقول له: بضاعتك لك لا نريدها. لن يضيرنا شيئاً لو توقفنا عن شراء منتج معين
اعتدنا عليه، ولن تقوم القيامة لو استبدلنا هذا المنتج بمنتج آخر يؤدي نفس الغرض،
ولن ينتهي الكون لو راجعنا سياستنا الشرائية الخاصة بمستلزماتنا المختلفة، ولا تقل
أين البديل، فلو التفت حولك فستجد عشرات البدائل، فالعجوز البريطانية ليست أكثر
وعياً منا أحفاد الفاروق، والشعب الأرجنتيني ليس أكثر ثقافة من أبناء علي، وغاندي
ليس شخصاً خارقاً. المسألة تتعلق بالمبدأ يتبعه العزم والتصميم، وهناك من التجار
من يعتقد بسلبيتنا وسذاجتنا وعدم قدرتنا على اتخاذ مواقف مضادة. أفلم يحن الوقت كي
نقول لهم كفى؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.