الاثنين، 29 أبريل 2013

حاجة لله


( حاجة لله )

"سدّد متبرع المبلغ الذي تحتاج إليه أسرة الطفل مسلّم عبدالله (خمس سنوات ـ عماني ) المصاب بسرطان الدم، لرحلة علاجه في مستشفى سنغافوري، وقيمتها مليون و395 ألفاً و411 درهماً، كما تكفل آخرون بمساعدته على تذاكر السفر. وأعرب والد الطفل عن سعادته البالغة وشكره العميق للمتبرعين، ووقفتهم معه في معاناته في ظل الوضع الصحي الذي يمر به طفله، مشيراً إلى أن هذا الأمر ليس غريباً على شيوخ وشعب وحكومة الدولة في مد يد المساعدة لكل محتاج على أرضها".

خبر صحفي قرأته قبل أيام في أحد المنتديات المعروفة، وتأكدت منه من خلال الصحيفة الخليجية التي عرضت للخبر بشكل موسع ، والذي يتناول قصة معاناة طفل عماني مع مرض سرطان الدم (لوكيميا متعددة)منذ سنتين، ويحتاج إلى زراعة نخاع عظمي في أسرع وقت ممكن،  نتيجة عدم قدرة أسرته على التكفل بمبلغ علاجه، نظراً للظروف المعيشية الصعبة التي يمرون  بها.

خبر كهذا يفتح الباب لكثير من التساؤلات المؤلمة من أمثلة : أين نحن كحكومة ومواطنين ووسائل إعلام وجمعيات خيرية ورجال أعمال من قضية هذا الطفل وقضايا أخرى مشابهة؟ وهل عدمت عمان من ثري موسر يتكفل بعلاجه بدلاً من استجداء الآخرين؟ ولماذا يلجأ البعض منا إلى التسول العلني  وعرض مشكلته من خلال منابر المساجد وبعد كل صلاة، أو استجداء الناس من خلال الملصقات المعلقة على أبواب المساجد والمحلات التجارية وقرب مكائن السحب الآلي، وما واقع مساهمة رجال الأعمال لدينا في العمل الاجتماعي التطوعي والمبادرات الإنسانية؟

 وإذا ما تركنا الكلام الإنشائي المكرر عن تكافل الشعب العماني وتراحمه فإننا نتحدث عن كثير من الأغنياء والموسرين ورجال الأعمال الذين فتحت لهم الأبواب المشرعة نحو تكوين ثرواتهم، سواء بالجهد الشخصي لدى البعض، أو بممارسة الاحتكار لدى البعض الآخر، أو باستغلال الفرص الوظيفية أو المكانة الاجتماعية أو القرب من مراكز صنع القرار لدى فئة أخرى من هؤلاء. إذا ما استثنينا البعض فأين البقية من  المبادرات الإنسانية الخيرية، وما مدى مساهماتهم (الحقيقية) في هذا المجال، وهل هناك تحقيق فعلي لمبدأ الشراكة المجتمعية  الفعالة.

ولنطرح السؤال بشكل آخر : كم عدد الجمعيات الخيرية التي يتبناها الأغنياء لدينا، وكم مركز طبي متخصص تم التكفل بتجهيزه من قبلهم،  وكم مركز أيتام تمت رعايته، وكم أسرة معوزة تمت كفالتها ، وكم مقعد دراسي جامعي تم توفيره، وكم بعثة تعليمية تم إرسالها، وكم صاحب ابتكار أو موهبة تم تبنيه، وكم مكتبة عامة تم انشائها، وكم شارع تم سفلتته، وكم من هؤلاء من يفتح بابه للناس فيستقبلهم ويستمع إلى مطالبهم ويسعى إلى تذليل الصعاب التي يعانونها في سبيل توفير الحياة الكريمة لأسرهم، أو فك أزمة يعانون منها.

وقد يأتيك من يقول لك : إنهم يفعلون ولكنهم لا يريدون أن يفصحون عن ذلك كي لا تضيع حسناتهم هباء. يا عزيزي لم نرهم يكتمون ذلك عندما يتبرعون لدعم لعبة رياضية معينة، أو لاستئجار حافلة لنقل مشجعي المنتخب، أو لرعاية حفل فني ساهر، أو في التبرع بعشر جواني أرز في حفل زواج جماعي، أو غيرها من المساهمات التي لا تشكل أثراً اجتماعياً واضحاً وملموساً. ثم ما العيب أن يتم الافصاح عن وجود مثل هذه الجمعيات والمؤسسات الخيرية على الأقل من باب تشجيع الآخرين على فعل نفس الشيء، ومن أجل التعريف بالخدمات التي تقدمها هذه الجمعية أو المؤسسة. نريد مؤسسات خيرية تشمل الجميع ولا تقصرها على فئة أو جماعة أو طائفة بعينها، نريد مؤسسات دائمة العطاء، واضحة الاستراتيجية، أهدافها متنوعة، تسعى لإحداث أثر اجتماعي واضح في المجتمع، وتعمل مع مؤسسات الدولة المعنية في التقليل من الفوارق المجتمعية، وتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية.

هل أغنياءنا أقل من (بيل جيتس) ومؤسسته التي تهدف إلى تعزيز الرعاية الصحية والحد من الفقر المدقع؛ وتوسيع فرص التعليم والوصول إلى تكنولوجيا المعلومات، والتي تجاوزت ميزانيتها الملياري دولار ، أو من (رفيق الحريري) الذي تقوم مؤسسته الخيرية بمساعدة أكثر من 35 ألف شاب لبناني على التعلُّم في أفضل جامعات لبنان والعالم، والتي تُقدِّم أيضاً خدمات صحية واجتماعية وثقافية للبنانيين المحتاجين، ناهيك عن تشجيع الأنشطة الثقافية والأعمال الخيرية للأطفال. وهل هم أقل كذلك من عشرات (الشيوخ) و(الأمراء) ورجال الأعمال في الدول المجاورة الذين يفتحون أبوابهم للجميع دون تحفظ ، حتى ولو كان من باب الوجاهة.

عزيزي رجل الأعمال.. احتكر كما تشاء. اشتر الأراضي التي تشير توقعاتك (ومعلوماتك) إلى أهميتها الاقتصادية المستقبلية وبعها بأضعاف سعرها الحقيقي، احصل على دعم الدولة لمشاريعك بصفتك مواطناً مخلصاً تسعى إلى تطوير اقتصاد الدولة وازدهاره حتى لو لم يخدم مشروعك المجتمع، وحتى لو كانت أسعار (جامعتك) أو (منتجعك) هي الأعلى برغم كل الدعم الذي حصلت عليه. ولكن مقابل كل ذلك اجعل في عينك (حصوة ملح) وتبرع بالفتات ولو من باب إرضاء الضمير. هل لابد أن أجبرك على ذلك من خلال دفع الضرائب، أو أن أغريك بتخفيضها مقابل القيام بخدمات اجتماعية معينة. وهل يحتاج العمل الخيري إلى إجبار أو اغراء.

تخيلوا كيف سيصبح حال بلدنا لو تبرع أحدنا بكفالة يتيم، وقام الآخر ببناء مسكن لمعوز، وتكفل الثالث بمقعد دراسي لمعاق، وقام الرابع بشراء جهاز طبي يحتاجه مستشفى مدينته، وتبنى الخامس تنفيذ مشروع حيوي عجزت ميزانية البلدية عن تنفيذه، وغيرها من المشاريع المماثلة. باعتقادي أن تكلفة بعض هذه الأعمال لا تتجاوز فاتورة غداء لوفد زائر في أحد الفنادق الراقية.
د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الاثنين، 22 أبريل 2013

"عذراً عزيزي المسئول"


"عذراً عزيزي المسئول"

" قبلَ فترة تلقيتُ اتصالاً من "سكرتِيرة" مسؤولٍ برتبَة سعادة .. أبلغني بأن أتوقّف عن الكتابَة في أمُور "لا تخصّني" ثمّ أعقبت قائلة: سعَادته يقولُ لك اكتبي مثلاً في التدخِين! ثمّ أعقبت: ويقولُ ركّزي على عملكِ ..في حقيقة الأمر لا يعرفُ الرجلُ أني حصلتُ لعامين متتاليين على تقييم Out Standing في شركتيْ".

كلمات مؤلمة قرأتها بالأمس للكاتبة المعروفة (عائشة السيفية) على صفحتها الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) تتحدث فيها عن تجربة شخصية مع أحد المسئولين الذين ضاق ذرعاً بما تكتبه، فأرسل (وسيطاً) كي يقول لها إن ما تكتبه لا يعجب سعادة المسئول، وأن عليها أن تغير من نمط كتابتها فتأخذ موضوعات أخرى قد لا يراها (سعادته) مهمة كالتدخين، ولا بأس أن تتناول موضوعات أخرى كأهمية الماء في حياة الانسان، أو أثر الأمطار في تنمية الزراعة، وغيرها . يعني من الآخر بلاش تكتبي في السياسة.

ومع إنني قارئ نهم لكل ما تكتبه عائشة، إلا أن ذلك لم يمنعني من الرجوع لمدونتها "حرية بثمن الخبز"، وإعادة قراءة مقالاتها السابقة علني أجد تطاولاً أو نقداً غير مقبول، أو حقائق مغلوطة تضمنتها هذه المقالات، فلم أجد سوى مقالات متوازنة تعبر عن واقع نعايشه، وتحمل وجهة نظر شخصية يتوجب علينا احترامها مهما اتفقنا أو اختلفنا مع صاحبها.

 بداية علي أن أعترف بأن هناك كثيراً من المسئولين الرائعين الذين يضربون مثلاً جميلاً في الإدارة وتحمل المسئولية، جاعلين لأنفسهم شعاراً مهماً ألا وهو(قليل من الكلام.. كثير من العمل)، ولكن هذا الأمر لا يعني أن نتجاهل ما حدث، أو أن نعتبره حادثاً فردياً يمكن تجاوزه، فمكمن الألم لدي فيما حدث هو أن أمراً كهذا يحمل أبعاداً خطيرة، فالمسئول (أياً كان) هو شخص (يفترض) أن يكون قد تم انتقاءه بناء على معايير وظيفية مهمة كالخبرة والكفاءة والقدرات والامكانات الشخصية التي تميزه عن الآخرين، وبالتالي لم يكن ليتولى منصباً يحمل لقباً اجتماعياً رفيعاً لولا تلك المواصفات. شخص كهذا يفترض أن يكون على قدر كبير من تحمل المسئولية، وأن يدرك أنه أصبح شخصية عامة معرض للنقد حاله كحال بقية الشخصيات المشهورة مادام قد ارتضى لنفسه أن يكون في هذا المكان.

 ما حدث يعني أن (بعض) مسئولينا يضيقون ذرعاً بأية انتقادات تطال سياسات مؤسساتهم، ولا تعجبهم الكتابات التي تنشر مالم توافق هواهم، والأمر الأخر هو الجهل أو محاولة التجاهل بالمواد التي يتضمنها النظام الأساسي للدولة، والتي من بينها المادة ( 29 ) التي تنص على أن "حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكـفوله في حدود القانون"، ومكمن الخطورة هنا هو أنه إذا كان المسئول لا يعي مواد دستور بلده، فكيف لي أن أطلب من المواطن العادي أن يفعل ذلك، ونحن الذين درسنا منذ الصغر أنه" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".

هل كانت الدنيا لتقوم لو بادر (سعادته ) بالاتصال الشخصي بالكاتبة دون وسيط، أو عرض عليها تناول فنجان شاي في مكتبه (العامر) كي يوضح لها - أو لغيرها من الكتاب أو الصحفيين - الصورة الصحيحة التي قد تكون التبست عليها عند تناولها لموضوع ما يتعلق بعمل مؤسسته.

وهل يحق للمسئول أن يجعل من نفسه وصياً على غيره، فينصحهم بعمل كذا، أو التفرغ لكذا، أو الكتابة في أمور أخرى يراها هو مناسبة بغض النظر عن رؤية الطرف الآخر. هل يدخل هذا الأمر في حدود مسئولياته ونحن الذين نتحدث دائما عن دولة المؤسسات، ومبدأ انفصال السلطات عن بعضها.  

عزيزي المسئول.. نحن مثلكم نحب وطننا، نحن مثلكم نراه وطناً جميلاً رائعاً ينبغي الحفاظ عليه، ولكن ذلك لا يأتي بمقالات النفاق والمديح وحدها، ونحن لا نغامر كل مرة بدخول أعشاش الدبابير عن حب منا أو رغبة، فما أسهل الكلام الجميل، ولكننا نعي أن هذا الوطن هو ملكنا جميعا، وأننا معاً بحارة في هذا المركب. نحن شركاء لا خصوم، وبدون أفكارنا لن ينهض البلد، وبدون رأينا لن يتقدم كثيراً. فنحن المرآة التي ترون فيها أنفسكم وانجازاتكم.

 لكم علينا أن نشيد بإنجازاتكم متى ما وجدناها، وأن نعرض لتجاربكم الرائعة والتي تنقل البلد إلى آفاق أخرى جميلة. حقكم علينا أن نتأكد من مصدر المعلومة قبل نشرها، لكم علينا ألا نتكلم عن خصوصيات تتعلق بكم، ، وألا ننشر معلومات تسيء إلى شخوصكم الكريمة، فأنتم في النهاية بشر قبل أن تكونوا مسئولين، ولكن حقنا عليكم أن تقدموا لنا المعلومة الصحيحة التي تعيننا على الكتابة، وأن تفتحوا لنا صدوركم وقلوبكم، وأن لا تتبرموا من نقدنا مهما كانت قسوته، وأن تتخذوا من هذا النقد فرصة لمراجعة سياسات مؤسساتكم والوقوف على مكامن الضعف والقوة فيها.

عذراً عزيزي المسئول.. المسؤولية ليست (بشتاً) غالي الثمن، أو شالاً كشميرياً زاهي الألوان، أو مكتباً فخماً يتغير أثاثه كل عام، ولا هي كذلك ابتسامات تزين بها صورتك عبر الشاشات ووسائل الإعلام. المسئولية كذلك ليست بالشعارات أو التصريحات، وهي بالطبع ليست في قص الأشرطة وحضور الفعاليات، ولا في التواجد الدائم في صالات المطارات. المسئولية أعمق من ذلك وأبعد. هي استشعار حقيقي لمعنى الكلمة، وتطبيق حرفي لأبعادها.

عزيزي المسئول.. لا أعلم كيف يمنحك الله القدرة على النوم كل ليلة رغم الأثقال التي تحملها على كتفيك، وكيف يغمض لك جفن وفي قلبك بعض من شك أنك قصرت في خدمة الناس والبلد، أو أن مواطناً يعاني من مشكلة يمكنك حلها.

أشفق عليك. نعم، وأدرك أن وهج السلطة، وحب القيادة ومتعتها لن يسد النوافذ المفتوحة بينك وبين الناس.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الأحد، 14 أبريل 2013

حكاية كل يوم


" حكاية كل يوم"

في ندوتنا التي نقيمها صباح كل يوم بمكتبه قبل بدء العمل بادرني الصديق خالد الراشدي بابتسامته التي تخفي ورائها في كل مرة حواراً ساخناً حول قضية ما من قضايا مجتمعنا المختلفة.
ولأنه إعلامي متمرس، ومذيع لامع في إذاعة (الوصال) قلت له: هات من الآخر، أي عش دبابير تريد أن تدخلني فيه هذه المرة يا أبا يمنى؟

فضلة خيرك. فقط كنت أريد أن أتحاور معك بخصوص أزمة مياه السيب الأخيرة. يقولون إن السبب هو الطفرة السكانية الكبيرة، هل تعتقد أن هذا السبب واقعي من وجهة نظرك؟

إذا كان هذا التصريح صحيحا فهو ليس الأول، فلقد اعتاد مسئولينا على إلقاء المسئولية علينا في كل مرة، قيل ذلك مرة عندما ارتفع سعر السمك بحيث أصبح منافساً دائماً لأسعار الذهب والبلاتين (ولا يزال)، وقيل في مناسبات أخرى لا يتسع المجال لذكرها. بالمناسبة، هل قرأت رواية "الذين هبطوا من السماء" لأنيس منصور؟ أعتقد أن من صنع الطفرة هم هؤلاء، أنت تعرف أننا داخلين على فصل صيف حار، ويبدو أن (القيض) بدأ عندهم هناك، وانت طبعاً سيد العارفين بالسيب ومزارع السيب. وما أدراك ما السيب. سكر وحليب.

ثم إنني مستغرب ومندهش حتى (الثمالة)، يتحدثون عن الطفرة ونحن الذين ظلت مناهجنا تحفظنا لمدة عقد كامل أن عدد سكان السلطنة ثابت لا يتزحزح عند المليون ونصف نسمة، وعندما قلت لأستاذي المصري ذات مرة أن هذا الرقم خطأ لأن جارتنا أنجبت طفلاً صباح ذلك اليوم وبخني قائلاً ( أسكت يا ابني. يعني انت حتعرف أكتر من الحكومة). يا سيدي نحن بقضنا وقضيضنا لم نصل بعد إلى حاجز الثلاثة مليون نسمة. يعني سكان شارع فرعي من شوارع (شبرا) أو (امبابه) أو (دار السلام) في مصر إن كنت قد سمعت بهذه الأحياء، لاحظ أنني لم أدخل على الثقيل وأذكر الهند أو الصين، وأنت تأتي لتحدثني عن الطفرة السكانية وغيرها من العبارات التي تصيب الفرد بالمغص والاسهال وأمراض أخرى نفسية وبدنية.

يبادرني خالد قائلاً: هل تعتقد أن لدينا مشكلة في إدارة الأزمة؟
يا سيدي علينا أولاً أن نفهم ماذا تعني كلمة (أزمة) ثم نتحدث عن كيفية إدارتها. قبل أشهر قليلة من الآن انقطعت المياه عن عدد من أحياء العاصمة مسقط لمدة 3 أيام، فارتبكت حركة الحياة فيها، وعاش سكانها في (حيص بيص) لا يدرون شيئاً عما سيحدث في قادم الأيام، ولا يعلمون تحديداً متى ستعود (المياه إلى مجاريها)، وقبل سنتين من الآن انقطعت الكهرباء عن ولايات جعلان الثلاث لمدة يومين مما اضطر بعض سكانها إلى استئجار نزل فندقية في بعض الولايات المجاورة، وقبلها وبعدها حدث وسيحدث نفس الشيء.

مشكلتنا الدائمة والأزلية أننا نكرر نفس الخطأ الأبدي وهو أن ننتظر وقوع المشكلة ثم نبدأ في البحث عن حلول وقتية لها، وغالباً ما ندير أزماتنا بنظام (الفزعة)، حلول لحظية مؤقتة، وتصريحات عنترية من بعض أعضاء مجلس الشورى بأن المجلس سيناقش المشكلة (لاحظ أن المجلس غالباً ما يقوم بالمناقشة فقط ولا أعلم متى ستنتهي هذه المناقشات)، ومقالات نارية هنا وهناك، وتغريدات (تويترية) ساخرة، ورسائل (واتساب) تنتشر كانتشار النار في الهشيم لعدة أيام قليلة، وتطمينات وردية من قبل بعض المسئولين بأن الأمور تحت السيطرة ولا داعي للقلق وأن القادم أفضل، ثم يتلاشى كل ذلك مع انشغالنا بأشياء أخرى مختلفة، تذكرني إدارة الأزمة لدينا بالبالونات التي نشاهدها في حفلات أعياد الميلاد، تبدو ضخمة منتفخة ثم سرعان ما تتضاءل وتتلاشى مع أول وخزة دبوس يصيبها.

ولكن لا تنكر أن هناك أطراف ستستفيد من هذه الأزمة، أقصد هنا أصحاب ناقلات المياه، وهم بالنهاية مواطنون ولهم الحق في الكسب والانتفاع.

بالطبع لن أنكره، والدليل أن سعر الخزان الواحد بات أغلى من قيمة استئجار سيارة فاخرة مثل (الرولز رويس) في الليلة الواحدة، علماً بأن هذه السيارة تأخذها مع التأمين الشامل، بينما لا يضمن لك أحد إن كانت المياه التي ستحصل عليها نظيفة أم ملوثة، صالحة أم غير صالحة، معلومة مصدرها أم لا، ولن أقول لك كذلك أن طريقة الحصول على الماء أصبحت مشابهة لطريقة الحصول على الممنوعات إن جاز التشبيه، ولا تستغرب إن رأيت مواطناً (صالحاً) يأخذ أحد أصحاب هذه الناقلات على جنب، ويساومه في تضرع وتودد كي يحصل على حمولة ناقلته من الماء مقابل أي مبلغ. يبدو أن هذه الأزمات ستعلمنا سوء الأخلاق. أقولها ضاحكاً.

سخريتك هذه تدل على أنك لا تبالي بما يحدث عملاً بالمبدأ القائل (اذا سلمت ناقتي ما علي من رفاقتي)، تسكن في حي جديد، والمياه تصلك دون انقطاع.

طبعاً يا صديقي أنا أسكن في مخطط سكني جديد، ولكن الحقيقة المرة أن هذا المخطط وغيره الكثير من المخططات السكنية الحديثة التي قام المواطنون بدفع مبالغ لا أحد يعلم سوى الله كيف قاموا بتدبيرها مقابل الحصول على قطع سكنية فيها هي بلا أدنى تخطيط. لا مياه نظيفة، ولا شوارع مرصوفة، ولا صرف صحي، يا صديقي أنا أعاني الأمرين كي أحصل على الماء، وفاتورتي الشهرية لا تقل عن خمسين ريالاً مقابله، أي ناقة تلك التي تتحدث عنها وأي رفاق. مش لما نعرف نخطط صح الأول؟

سؤال أخير: أنت تعرف أن هؤلاء السكان مشتركون في خدمة يقومون بدفع مبالغ مقابلها، وتعرف كذلك أن (حق التعويض) هو حق أصيل من حقوق المستهلك، نصت عليه القوانين المختلفة. هل تعتقد أن الحكومة ستقوم بتعويض هؤلاء المتضررين؟

وهل تم تعويضك عندما كان هاتفك النقال ينقطع بالأيام بسبب ضعف أداء الشبكة بينما تلزمك الشركة المزودة بدفع فاتورة الحرارة الشهرية، وهل تم تعويضك عندما اضطررت إلى شراء (650) جالون من الماء بمبلغ ستين ريال في أزمة مياه الخوير، وهل تم تعويضك عندما احترق مطبخك ذات يوم بسبب ماس كهربائي من جراء الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي في منزلك. تعويض مين يا بو تعويض ( انت حتشتغللي ع الصبح) روح العب بعيد.

د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com




الاثنين، 8 أبريل 2013

مشاهداتي من المحكمة


مشاهداتي من المحكمة

كنت عائداً من رحلة عمل خارجية قصيرة عندما اقترح علي العزيز خالد الراشدي مرافقته إلى المحكمة لحضور جلسة النطق في قضية الحلويات الشهيرة. يعرف خالد اهتماماتي لذا فلم أستغرب الحاحه علي بالذهاب، وبأنني سأطلع على تجربة انسانية قد تكون مهمة لي في قادم حياتي.

كانت تلك هي المرة الأولى التي تطأ قدمي فيها قاعة محكمة، لذا فلم يكن غريباً أن أشعر بشيء من القلق والرهبة عند ولوجي باب القاعة، وهو قلق لم يخففه ترحيب عدد من طلابي من رجال الشرطة الذين كانوا حاضرين لتأمين المحكمة والإشراف على  سير العمل فيها، ولا نقاشات زملائي الحاضرين وتعليقاتهم المختلفة.

في المحكمة رأيت اليأس والرجاء في أصدق صورهما. رأيت وجوهاً كالحة شاحبة مذهولة قلقة، و أخرى لا مبالية، وكأنها اعتادت أن تقوم بما تفعله وكأنه جزء من افطار يومي ، أو مهمة عمل روتينية، أو كأنه أسلوب حياة متبع.

في المحكمة. رأيت فئات مهمشة. فئات لا علاقة لها بمن نراهم كل يوم من وجوه مغتسلة نظيفة حريصة على هندامها وشكلها و(بريستيجها). فئات طحنها الفقر والعوز والحاجة، وقست عليها الأيام بما جادت من مصائب وهموم. فئات كانت ضحية نظرة اجتماعية دونية من قبل البعض في ظل نظام أساسي يرى أن المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أصلهم، فئات (ذبحتها)مشاكل اجتماعية مختلفة من طلاق وتفكك أسري وتباعد مجتمعي وبرامج توعية حكومية اهتمت بالقشور دون المضمون.

في المحكمة. رأيت مآسي و(بلاوي) مؤلمة. أكثر من عشر جلسات خلال ساعتين تناولت فقط قضايا تتعلق بتعاطي المخدرات بمختلف أنواعها. هذا شاب في عمر الزهور دهس أحدهم لأنه كان تحت تأثير المخدر. وذاك شاب آخر اعترف بتناول المخدرات يومياً في المقبرة وكأنه يناجي الأموات ويقول لهم أنا مثلكم ولكن الفرق بيني وبينكم في نوعية القبر وهيئته فقط. وأولئك ثلاثة إخوة أحدهم (حدث) يتعاطون المخدرات معاً في إشارة إلى أن هناك أسرة بأكملها قد أصابها الدمار والتفكك. يسأل القاضي أحدهم عن مستواه التعليمي فيجيبه بأنه توقف عند الاعدادية، ويسأل آخر تجاوز الأربعين بسنوات إن كان متزوجاً أم لا فيرد بالنفي. بالله عليكم كيف سيكمل الأول دراسته وهو قد أنهى حياته بعقد مغلق هو عبارة عن (فقاعة) تحيط بعقله، وتوهمه بأن الحياة هي شيء آخر مختلف عما يمارسه الآخرون، وأن الدراسة والعمل والإنتاج والزواج وتكوين الأسرة وممارسة الهوايات هي مصطلحات من خارج الكون. وكيف سيتزوج الآخر وهو يعيش في عالم منفصل عما حوله بعد أن قضى سنوات طويلة في هذا العالم الوهمي، وأي أسرة ستكون تلك التي تخرج من رحم رجل لا يعرف من الدنيا سوى شراء (الوهم) وتعاطيه.

 أدركت بعد هذه المشاهد أن المسألة أخطر مما نعتقد، وأن الأمر لا يتوقف مع تحقيقات صحفية هزيلة هنا وهناك، أو فقرات إعلامية يتيمة تقدم حين غفلة، أو محاضرات صحية حفظناها عن ظهر قلب و كان لابد لها أن تقدم استكمالاً لجدول أعد سلفاً يتناول كالعادة المتلازمة الثلاثية( المخدرات والتدخين والايدز)،  أو خطب جمعة حل الدور عليها فقيلت بلا روح عن (بضعة) شباب يتعاضون  (المضغة) أو (الأفضل) أو غيرها من السموم التي جلبها لنا تجار (الشر) رغبة منهم في مكافأة وطن فتح لهم أبوابه بأريحية زائدة عن الحد فكان الجزاء هو الرغبة في تدمير جيل (يفترض) أن يأخذ على عاتقه مسئولية بناء الوطن والمحافظة على مكتسباته.

في المحكمة أصابنا الوجوم أنا ومن حولي وتلونت وجوهنا بألوان الطيف السبعة ونحن نسمع إجابة أحدهم عندما سأله القاضي عن كيفية الحصول على المخدرات، فكان الجواب : سيدي القاضي. إنها تعرض علينا علناً في الشوارع. جرب أن تسأل أي آسيوي تقابله وهو سيدلك بكل بساطة على من يبيعها لك. يا إلهي ألهذا الحد أصبح الخوف من الوقوع في الجرم غير موجود لدى هؤلاء؟ إذا لن أستغرب انتشار الممارسات (البشعة) الأخرى من قبلهم كالتزوير والغش التجاري والتلاعب في البضائع والأسعار والدعارة ، وممارسات أخرى لا يتسع المقال لسردها.

في المحكمة. رأيت الانضباط والهدوء والالتزام التام بكل ما شأنه توفير جو مناسب كي يأخذ القانون مجراه ، وهو أمر يصعب أن تراه في بعض الدول التي تدعي الأسبقية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تطالعنا بعض وسائل الإعلام بها يومياً بصور ومناظر لكثير من عمليات البلطجة وتكدير صفو الأمن في محيط المحكمة وداخلها، ويتحول كل متهم إلى زعيم قومي جلب مناصريه وأتباعه لمحاولة استعراض قوة ما، أو للتأثير على عمل القضاة، وأحياناً لتصفية حسابات سياسية تتعلق بديمقراطية وهمية يدعيها هؤلاء.

في المحكمة. رأيت قاضياً عمانياً عادلاً رحيماً رؤوفاً عطوفاً بمن يحاكمهم. قاضياً انساناً يطبق روح القانون ولا يركز على حرفية مواده. قاضياً يتعامل مع المتهم كتعامل الأب مع ابنه، أو المعلم مع تلميذه. قاضياً يضع نصب عينيه أن دوره ليس العقاب كهدف رئيس وإنما الإصلاح والنصح والرشد. تجلى كل ذلك من خلال قراءته الوافية واطلاعه الدقيق على ملفات القضايا المختلفة، ومن خلال أسئلته الدقيقة للشهود  وكأنه يستوثق من كل كلمة يقولونها، ومن خلال اتاحته الفرصة الكاملة للمتهمين بأن يقولوا كل ما لديهم، ثم يحاورهم حوار الناصح المرشد ودعوته لهم إلى البحث عن حياة أفضل. أدركت يومها أن ما شرحته بالأمس لطلابي حول نزاهة السلطة القضائية واستقلالها لم يكن كلاماً مرسلاً هدفه النفاق والتزلف بقدر ما كان حقيقة جسدها فضيلة القاضي من خلال مناطيق حكمه وأسلوب تعامله الراقي مع المتهمين.

في المحكمة.. دارت بخلدي تساؤلات وتساؤلات. أين نحن من كل ما يحدث في المحاكم والسجون. وهل يمكن أن نبني خططنا واستراتيجياتنا وحياتنا كذلك دون زيارة هذه الأماكن. أولسنا بحاجة ماسة وملحة إلى زيارة المحاكم والسجون وملاجئ الأحداث وغيرها من الأماكن المنسية. يحتاجها المسئول كي يفكر ألف مرة قبل أن يضع استراتيجياته وخططه، ويحتاجها ولي الأمر كي يعي أن دوره في التربية يتعدى توفير الملابس الغالية ، والغرف الملونة، والهواتف الذكية، وأخذهم إلى الملاهي والمجمعات، وتوفير المدرسين الخصوصيين، بينما هو مشغول بأشياء أقل أهمية تستنزف الكثير من جهده وفكره. ويحتاجها طالب المدرسة فيدرك أن هناك ممارسات خاطئة قد تواجهه يوماً ما وأنها كفيلة بتغيير مسار حياته تماماً بحيث يكون مصيره مشابهاً لهؤلاء متى ما حاكى طريق رحلتهم الحياتية.

في المحكمة. رأيت أشياء وأشياء كفيلة بغربلة ما تبقى بداخلي من مشاعر. آما آن الأوان لتخوضوا تجربة مماثلة؟

د.محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com

الاثنين، 1 أبريل 2013

في شقة مصر الجديدة


في مقاهي المحروسة (9)


في شقة مصر الجديدة

فبراير 2007.. كنت قد انتقلت للإقامة في 4 شارع نهرو بمصر الجديدة خلف حديقة (الميريلاند) الشهيرة، بعد أن عانيت الأمرين من التنقل اليومي ما بين (المهندسين) حيث أسكن سابقاً، و(منشية البكري) حيث كليتي العريقة، وهي مسافة كنت أحتاج لقطعها إلى ركوب عدة مواصلات، فمن ناصية شارع محيي الدين أبو العز أركب التاكسي أو الميكروباص  الأزرق المزدحم كعادته  حتى محطة جمال عبد الناصر، أو (الإسعاف) كما يحلو لبسطاء المصريين تسميتها في حي بولاق الشهير، ومنها أستقل مترو الأنفاق  لأنزل في محطة (سرايا القبة) حيث أسوار قصر القبة  تطل على ثلاث محطات متتالية، ومنها كنت أواصل طريقي إلى الكلية مشياً على قدمي مروراً ببعض الشوارع الجانبية، وممارساً لهوايتي الخالدة في تأمل البشر والمكان.

.
أعشق مصر الجديدة، وكثيراً ما كنت أتردد عليها وأتجول في شوارعها العريقة، ذلك أن كليتي كانت على مرمى حجر من ميدان ( روكسي )الشهير ، أحد أعرق ميادين مصر الجديدة والمشهور بطراز عمارته الإسلامي، وبمحلات الأحذية والحقائب النسائية الممتدة على جانبيه، ومحل العبودي الشهير للفساتين المطل على أحد نواصيه، وكنت أستمتع بقضاء فترة (الظهرية) في مطاعم  ومقاهي عريقة ناهزت القرن من العمر، كجروبي  أو (الامفتريون) ، بينما تتكفل كافيهات (بالميرا) أو (هاريس) بقهوة الصباح مع جريدة يومية تحمل من الهموم أكثر مما تحمله من نوافذ ضيقة للفرح.

ما يميز مصر الجديدة عن غيرها من الأحياء القاهرية الأخرى هو العراقة الممزوجة بالرقي، وارتفاع مستوى سكانه ثقافياً واجتماعياً، فهذا الحي الذي أسسه  البارون البلجيكي (امبان) في مطلع القرن العشرين لكي يكون متنفساً لسكان القاهرة من زحام وسطها، يعد واجهة القاهرة من الجهة الشرقية، وكان معروفاً عنه أنه حي (الباشوات) والسياسيين الكبار، وكنت أجد متعة في التجول بين شوارعه بقصورها ذات الأسوار المنخفضة وأشجار الفواكه المختلفة التي تظللها، وكثيراً ما وقفت على مدخل عمارة كان يقطنها (العقاد)، أو مررت بأخرى يملكها (أحمد أمين)، أو لمحت أخريات لمشاهير آخرين برزوا في عالم السياسة والفكر والأدب والاقتصاد.

يعد شارع (نهرو) من أرقى شوارع مصر الجديدة والقاهرة قاطبة قبل ظهور المدن الجديدة التي صممت على أنماط غربية في دلالة (فجة) على ما آلت إليه مصر من طبقية مقيتة، ويبدو من اسمه أنه  أنشأ في خمسينيات القرن الماضي بعد تأسيس منظمة عدم الانحياز، حيث كان من عادة عبد الناصر أن يطلق أسماء من يحبهم من  الثوار وقادة التحرر في العالم على عدد من الشوارع والميادين، لذا فلم يكن مستغرباً أن يكون بعض جيران بنايتي من المشاهير، فالبناية التي تجاورني كان يسكن بها ابن أخ (السادات)، والفيللا الملاصقة لها هي ملك لهدى عبد الناصر وزوجها حاتم صادق، وعلى بعد بضعة بنايات تقع شقة مملوكة لعلاء مبارك ، ثم فيللا لعلي صبري، وأسماء شهيرة أخرى.

كانت شقتي عبارة عن استديو يتكون من غرفة نوم كبيرة وصاله متوسطة الحجم وركن يحتوي على المرافق الأخرى، وقد علمت فيما بعد أنها مملوكة لأحد ضباط المخابرات، لذا لم أستغرب  أثاثها الكلاسيكي المنتقى بدقة، وموقعها المختار بعناية بحيث تطل على حديقة (الميريلاند) حيث مساحات الخضرة الممتدة بلا حدود، وحيث العشاق يتناجون  تحت ظلال كل شجرة.

كانت عادتي في كل ليلة أن أنزل من الشقة في حدود العاشرة متأبطاً كتاباً أو رواية أو صحيفة يومية بينما ينبعث من (الهيدفون) تسجيلاً لسهرة كلثومية  جميلة من سهرات إذاعة الأغاني من القاهرة، وكانت هوايتي المعتادة أن أتسلى بعد الأشجار الضخمة المغروسة على امتداد سور حديقة الميرلاند، حتى أصل إلى مطعم (مؤمن) الشهير الواقع في شارع (السباق) خلف الحديقة. وبعد أن أطلب وجبتي المعتادة أتوجه إلى محل (المالكي) للألبان المجاور لمؤمن حيث (أم علي) تفوح برائحتها الزكية، وحيث (الرز باللبن) الأصلي، ومنه إلى ركني اليومي في كافيه (لافينون) الواقع بينهما، وهو مقهى متوسط الرقي يبدو من اسمه أنه ليواكب التطور الاجتماعي الكبير الذي يشهده الحي، وحالة التغير التي تشهدها مصر في كل دقيقة والتي تستنزف كثيراً من تاريخها وفكرها وتراثها.

ما يميز المقهى هدوءه التام، و(ستايله) الغربي، وموسيقاه الخفيفة، وأنواره الخافتة، وإطلالته على الميرلاند، فباستثناء بعض (العشاق) من أبناء الحي الهادي والذين يأخذون ركناً قصياً، تكاد تكون الباحة الخارجية مكتوبة باسمي كل ليلة  لا ينازعني فيها سوى اقتراب حمادة وحسين مني، وهما كل طاقم المقهى باستثناء صاحبه، والأول شاب من حي (الشرابية) ، بينما ينتمي الآخر لحي (المطرية) القريب، وهما حيان شعبيان تختلف ملامح الحياة فيهما كلياً عما هو في حي الباشوات.

لا أعلم ما الذي حل بي في تلك الليلة . كنت في مساء الجمعة ومساءات الجمعة دائماً ما تكون كئيبة بالنسبة لي، وهي متلازمة لم أستطع التخلص منها، فما بالكم بالغربة، وبالسكن وحيداً في حي لا يعرف عنه بقية الطلبة العمانيون سوى أنه يقع في مكان ما في مصر. كنت أجلس على الكنبة الرئيسية التي تتوسط الصالة، وأطالع اللاشيء على شاشة تلفزيون مقابلة. شيء ما بداخلي قال لي فلتستمع إلى فايزة أحمد علها تحيل هذا الجو الكئيب إلى آخر مفعم بالجمال، وليتني ما سمعت له، فلم تصدق فايزة خبراً حتى انطلق صوتها "حبيبي يا متغرب.. قرب لي قرب.. بتسافر الجوابات.. مليانة بالآهات.. مليانة بالحنين...." أغنية مؤلمة  كألم فقدان أمل. قاسية كقسوة قلبها. هل قلت أمل؟ لا عليكم. هو الهذيان إذاً.

لماذا يا فايزه. ألم تجدي غيري لتمارسي عليه قسوتك وجبروتك. في ألم أضغط على  زر (فيشة) الكهرباء كي لا أترك لها فرصة التمادي في تعذيبي ولو لثوان قصيرة  قادمة ، وفي سرعة عجيبة ارتديت ما وجدته أمامي من ملابسي، واخترت من مكتبتي كتاباً عن النكتة السياسية، وتعمدت عدم حمل هاتفي النقال معي، فقد يفعلها ويبث هماً آخر من الهموم التي قمت بتخزينها فيه.

إلى نفس المقهى أتجه. هذه المرة أمشي صامتاً وجلاً  وكأني أمر بالمكان لأول مرة. لا طرب أصيل ينبعث، ولا أشجار معمرة تعد. لا شيء من هذا كله. على مقعدي المعتاد أجلس. يأتيني حماده بكوب الشوكولاتة الساخنة وكأس الماء المعتاد. في هدوء مستغرب أشكره، ثم أفتح الكتاب  ممنياً النفس بنكتة مصرية أصيلة قد تخرجني مما فيه.

يراقبني حمادة من بعيد، ثم بفضول  مصري أصيل ممتزج بأصالة أبناء الأحياء الشعبية يقترب مني ليقول: شكل المزاج مش رايق يا دكتور النهارده، مش حسألك عن السبب بس أنا عارف إزاي أخليك تنبسط وترجع ضحكتك زي ما كانت.

يدخل حماده المقهى ليعبث بجهاز ما هناك، لينبعث بعده صوت اذاعي جهوري يذكرك بإذاعة (صوت العرب) في ستينيات القرن الماضي ليقول: أعزاءي المستمعين ،أنتم على موعد مع أولى حفلات ليالي الصيف من مدينة المنصورة حيث ستغني المطربة الكبيرة فايزة أحمد عدداً من أغانيها الخالدة، وستكون البداية مع أغنية" حبيبي يا متغرب".

بلا شعور ووسط دهشة حمادة وزميله الآخر واستغرابهم أغادر المقهى مسرعاً  تاركاً  الكتاب ومبلغ نقدي كان في جيبي، دون أن أنتظر بقية الحساب.
د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com