مشاهداتي من المحكمة
كنت عائداً من رحلة عمل خارجية قصيرة عندما اقترح علي العزيز
خالد الراشدي مرافقته إلى المحكمة لحضور جلسة النطق في قضية الحلويات الشهيرة. يعرف
خالد اهتماماتي لذا فلم أستغرب الحاحه علي بالذهاب، وبأنني سأطلع على تجربة
انسانية قد تكون مهمة لي في قادم حياتي.
كانت تلك هي المرة الأولى التي تطأ قدمي فيها قاعة
محكمة، لذا فلم يكن غريباً أن أشعر بشيء من القلق والرهبة عند ولوجي باب القاعة،
وهو قلق لم يخففه ترحيب عدد من طلابي من رجال الشرطة الذين كانوا حاضرين لتأمين
المحكمة والإشراف على سير العمل فيها، ولا
نقاشات زملائي الحاضرين وتعليقاتهم المختلفة.
في المحكمة رأيت اليأس والرجاء في أصدق صورهما. رأيت
وجوهاً كالحة شاحبة مذهولة قلقة، و أخرى لا مبالية، وكأنها اعتادت أن تقوم بما
تفعله وكأنه جزء من افطار يومي ، أو مهمة عمل روتينية، أو كأنه أسلوب حياة متبع.
في المحكمة. رأيت فئات مهمشة. فئات لا علاقة لها بمن
نراهم كل يوم من وجوه مغتسلة نظيفة حريصة على هندامها وشكلها و(بريستيجها). فئات
طحنها الفقر والعوز والحاجة، وقست عليها الأيام بما جادت من مصائب وهموم. فئات
كانت ضحية نظرة اجتماعية دونية من قبل البعض في ظل نظام أساسي يرى أن المواطنين
متساوين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أصلهم، فئات (ذبحتها)مشاكل اجتماعية
مختلفة من طلاق وتفكك أسري وتباعد مجتمعي وبرامج توعية حكومية اهتمت بالقشور دون
المضمون.
في المحكمة. رأيت مآسي و(بلاوي) مؤلمة. أكثر من عشر
جلسات خلال ساعتين تناولت فقط قضايا تتعلق بتعاطي المخدرات بمختلف أنواعها. هذا شاب
في عمر الزهور دهس أحدهم لأنه كان تحت تأثير المخدر. وذاك شاب آخر اعترف بتناول
المخدرات يومياً في المقبرة وكأنه يناجي الأموات ويقول لهم أنا مثلكم ولكن الفرق
بيني وبينكم في نوعية القبر وهيئته فقط. وأولئك ثلاثة إخوة أحدهم (حدث) يتعاطون
المخدرات معاً في إشارة إلى أن هناك أسرة بأكملها قد أصابها الدمار والتفكك. يسأل
القاضي أحدهم عن مستواه التعليمي فيجيبه بأنه توقف عند الاعدادية، ويسأل آخر تجاوز
الأربعين بسنوات إن كان متزوجاً أم لا فيرد بالنفي. بالله عليكم كيف سيكمل الأول
دراسته وهو قد أنهى حياته بعقد مغلق هو عبارة عن (فقاعة) تحيط بعقله، وتوهمه بأن
الحياة هي شيء آخر مختلف عما يمارسه الآخرون، وأن الدراسة والعمل والإنتاج والزواج
وتكوين الأسرة وممارسة الهوايات هي مصطلحات من خارج الكون. وكيف سيتزوج الآخر وهو
يعيش في عالم منفصل عما حوله بعد أن قضى سنوات طويلة في هذا العالم الوهمي، وأي
أسرة ستكون تلك التي تخرج من رحم رجل لا يعرف من الدنيا سوى شراء (الوهم) وتعاطيه.
أدركت بعد هذه
المشاهد أن المسألة أخطر مما نعتقد، وأن الأمر لا يتوقف مع تحقيقات صحفية هزيلة
هنا وهناك، أو فقرات إعلامية يتيمة تقدم حين غفلة، أو محاضرات صحية حفظناها عن ظهر
قلب و كان لابد لها أن تقدم استكمالاً لجدول أعد سلفاً يتناول كالعادة المتلازمة
الثلاثية( المخدرات والتدخين والايدز)، أو
خطب جمعة حل الدور عليها فقيلت بلا روح عن (بضعة) شباب يتعاضون (المضغة) أو (الأفضل) أو غيرها من السموم التي
جلبها لنا تجار (الشر) رغبة منهم في مكافأة وطن فتح لهم أبوابه بأريحية زائدة عن
الحد فكان الجزاء هو الرغبة في تدمير جيل (يفترض) أن يأخذ على عاتقه مسئولية بناء
الوطن والمحافظة على مكتسباته.
في المحكمة أصابنا الوجوم أنا ومن حولي وتلونت وجوهنا
بألوان الطيف السبعة ونحن نسمع إجابة أحدهم عندما سأله القاضي عن كيفية الحصول
على المخدرات، فكان الجواب : سيدي القاضي. إنها تعرض علينا علناً في الشوارع. جرب
أن تسأل أي آسيوي تقابله وهو سيدلك بكل بساطة على من يبيعها لك. يا إلهي ألهذا
الحد أصبح الخوف من الوقوع في الجرم غير موجود لدى هؤلاء؟ إذا لن أستغرب انتشار
الممارسات (البشعة) الأخرى من قبلهم كالتزوير والغش التجاري والتلاعب في البضائع
والأسعار والدعارة ، وممارسات أخرى لا يتسع المقال لسردها.
في المحكمة. رأيت الانضباط والهدوء والالتزام التام بكل
ما شأنه توفير جو مناسب كي يأخذ القانون مجراه ، وهو أمر يصعب أن تراه في بعض
الدول التي تدعي الأسبقية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تطالعنا بعض
وسائل الإعلام بها يومياً بصور ومناظر لكثير من عمليات البلطجة وتكدير صفو الأمن
في محيط المحكمة وداخلها، ويتحول كل متهم إلى زعيم قومي جلب مناصريه وأتباعه لمحاولة
استعراض قوة ما، أو للتأثير على عمل القضاة، وأحياناً لتصفية حسابات سياسية تتعلق
بديمقراطية وهمية يدعيها هؤلاء.
في المحكمة. رأيت قاضياً عمانياً عادلاً رحيماً رؤوفاً
عطوفاً بمن يحاكمهم. قاضياً انساناً يطبق روح القانون ولا يركز على حرفية مواده.
قاضياً يتعامل مع المتهم كتعامل الأب مع ابنه، أو المعلم مع تلميذه. قاضياً يضع
نصب عينيه أن دوره ليس العقاب كهدف رئيس وإنما الإصلاح والنصح والرشد. تجلى كل ذلك
من خلال قراءته الوافية واطلاعه الدقيق على ملفات القضايا المختلفة، ومن خلال أسئلته
الدقيقة للشهود وكأنه يستوثق من كل كلمة
يقولونها، ومن خلال اتاحته الفرصة الكاملة للمتهمين بأن يقولوا كل ما لديهم، ثم
يحاورهم حوار الناصح المرشد ودعوته لهم إلى البحث عن حياة أفضل. أدركت يومها أن ما
شرحته بالأمس لطلابي حول نزاهة السلطة القضائية واستقلالها لم يكن كلاماً مرسلاً
هدفه النفاق والتزلف بقدر ما كان حقيقة جسدها فضيلة القاضي من خلال مناطيق حكمه
وأسلوب تعامله الراقي مع المتهمين.
في المحكمة.. دارت بخلدي تساؤلات وتساؤلات. أين نحن من
كل ما يحدث في المحاكم والسجون. وهل يمكن أن نبني خططنا واستراتيجياتنا وحياتنا
كذلك دون زيارة هذه الأماكن. أولسنا بحاجة ماسة وملحة إلى زيارة المحاكم والسجون
وملاجئ الأحداث وغيرها من الأماكن المنسية. يحتاجها المسئول كي يفكر ألف مرة قبل
أن يضع استراتيجياته وخططه، ويحتاجها ولي الأمر كي يعي أن دوره في التربية يتعدى توفير
الملابس الغالية ، والغرف الملونة، والهواتف الذكية، وأخذهم إلى الملاهي والمجمعات،
وتوفير المدرسين الخصوصيين، بينما هو مشغول بأشياء أقل أهمية تستنزف الكثير من
جهده وفكره. ويحتاجها طالب المدرسة فيدرك أن هناك ممارسات خاطئة قد تواجهه يوماً
ما وأنها كفيلة بتغيير مسار حياته تماماً بحيث يكون مصيره مشابهاً لهؤلاء متى ما
حاكى طريق رحلتهم الحياتية.
في المحكمة. رأيت أشياء وأشياء كفيلة بغربلة ما تبقى
بداخلي من مشاعر. آما آن الأوان لتخوضوا تجربة مماثلة؟
د.محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com
د.محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.