" حكاية
كل يوم"
في ندوتنا التي نقيمها صباح كل يوم بمكتبه قبل بدء العمل
بادرني الصديق خالد الراشدي بابتسامته التي تخفي ورائها في كل مرة حواراً ساخناً
حول قضية ما من قضايا مجتمعنا المختلفة.
ولأنه إعلامي متمرس، ومذيع لامع في إذاعة (الوصال) قلت
له: هات من الآخر، أي عش دبابير تريد أن تدخلني فيه هذه المرة يا أبا يمنى؟
فضلة خيرك. فقط كنت أريد أن أتحاور معك بخصوص أزمة مياه
السيب الأخيرة. يقولون إن السبب هو الطفرة السكانية الكبيرة، هل تعتقد أن هذا
السبب واقعي من وجهة نظرك؟
إذا كان هذا التصريح صحيحا فهو ليس الأول، فلقد اعتاد
مسئولينا على إلقاء المسئولية علينا في كل مرة، قيل ذلك مرة عندما ارتفع سعر السمك
بحيث أصبح منافساً دائماً لأسعار الذهب والبلاتين (ولا يزال)، وقيل في مناسبات
أخرى لا يتسع المجال لذكرها. بالمناسبة، هل قرأت رواية "الذين هبطوا من
السماء" لأنيس منصور؟ أعتقد أن من صنع الطفرة هم هؤلاء، أنت تعرف أننا داخلين
على فصل صيف حار، ويبدو أن (القيض) بدأ عندهم هناك، وانت طبعاً سيد العارفين بالسيب
ومزارع السيب. وما أدراك ما السيب. سكر وحليب.
ثم إنني مستغرب ومندهش حتى (الثمالة)، يتحدثون عن الطفرة
ونحن الذين ظلت مناهجنا تحفظنا لمدة عقد كامل أن عدد سكان السلطنة ثابت لا يتزحزح
عند المليون ونصف نسمة، وعندما قلت لأستاذي المصري ذات مرة أن هذا الرقم خطأ لأن
جارتنا أنجبت طفلاً صباح ذلك اليوم وبخني قائلاً ( أسكت يا ابني. يعني انت حتعرف أكتر
من الحكومة). يا سيدي نحن بقضنا وقضيضنا لم نصل بعد إلى حاجز الثلاثة مليون نسمة.
يعني سكان شارع فرعي من شوارع (شبرا) أو (امبابه) أو (دار السلام) في مصر إن كنت
قد سمعت بهذه الأحياء، لاحظ أنني لم أدخل على الثقيل وأذكر الهند أو الصين، وأنت
تأتي لتحدثني عن الطفرة السكانية وغيرها من العبارات التي تصيب الفرد بالمغص
والاسهال وأمراض أخرى نفسية وبدنية.
يبادرني خالد قائلاً: هل تعتقد أن لدينا مشكلة في إدارة
الأزمة؟
يا
سيدي علينا أولاً أن نفهم ماذا تعني كلمة (أزمة) ثم نتحدث عن كيفية إدارتها. قبل
أشهر قليلة من الآن انقطعت المياه عن عدد من أحياء العاصمة مسقط لمدة 3 أيام،
فارتبكت حركة الحياة فيها، وعاش سكانها في (حيص بيص) لا يدرون شيئاً عما سيحدث في
قادم الأيام، ولا يعلمون تحديداً متى ستعود (المياه إلى مجاريها)، وقبل سنتين من
الآن انقطعت الكهرباء عن ولايات جعلان الثلاث لمدة يومين مما اضطر بعض سكانها إلى
استئجار نزل فندقية في بعض الولايات المجاورة، وقبلها وبعدها حدث وسيحدث نفس الشيء.
مشكلتنا
الدائمة والأزلية أننا نكرر نفس الخطأ الأبدي وهو أن ننتظر وقوع المشكلة ثم نبدأ
في البحث عن حلول وقتية لها، وغالباً ما ندير أزماتنا بنظام (الفزعة)، حلول لحظية
مؤقتة، وتصريحات عنترية من بعض أعضاء مجلس الشورى بأن المجلس سيناقش المشكلة (لاحظ
أن المجلس غالباً ما يقوم بالمناقشة فقط ولا أعلم متى ستنتهي هذه المناقشات)،
ومقالات نارية هنا وهناك، وتغريدات (تويترية) ساخرة، ورسائل (واتساب) تنتشر
كانتشار النار في الهشيم لعدة أيام قليلة، وتطمينات وردية من قبل بعض المسئولين بأن
الأمور تحت السيطرة ولا داعي للقلق وأن القادم أفضل، ثم يتلاشى كل ذلك مع انشغالنا
بأشياء أخرى مختلفة، تذكرني إدارة الأزمة لدينا بالبالونات التي نشاهدها في حفلات
أعياد الميلاد،
تبدو ضخمة منتفخة ثم سرعان ما تتضاءل وتتلاشى مع أول وخزة دبوس يصيبها.
ولكن لا تنكر أن هناك أطراف ستستفيد من هذه الأزمة، أقصد
هنا أصحاب ناقلات المياه، وهم بالنهاية مواطنون ولهم الحق في الكسب والانتفاع.
بالطبع لن أنكره، والدليل أن سعر الخزان الواحد بات أغلى
من قيمة استئجار سيارة فاخرة مثل (الرولز رويس) في الليلة الواحدة، علماً بأن هذه
السيارة تأخذها مع التأمين الشامل، بينما لا يضمن لك أحد إن كانت المياه التي
ستحصل عليها نظيفة أم ملوثة، صالحة أم غير صالحة، معلومة مصدرها أم لا، ولن أقول
لك كذلك أن طريقة الحصول على الماء أصبحت مشابهة لطريقة الحصول على الممنوعات إن
جاز التشبيه، ولا تستغرب إن رأيت مواطناً (صالحاً) يأخذ أحد أصحاب هذه الناقلات
على جنب، ويساومه في تضرع وتودد كي يحصل على حمولة ناقلته من الماء مقابل أي مبلغ.
يبدو أن هذه الأزمات ستعلمنا سوء الأخلاق. أقولها ضاحكاً.
سخريتك هذه تدل على أنك لا تبالي بما يحدث عملاً بالمبدأ
القائل (اذا سلمت ناقتي ما علي من رفاقتي)، تسكن في حي جديد، والمياه تصلك دون
انقطاع.
طبعاً يا صديقي أنا أسكن في مخطط سكني جديد، ولكن
الحقيقة المرة أن هذا المخطط وغيره الكثير من المخططات السكنية الحديثة التي قام
المواطنون بدفع مبالغ لا أحد يعلم سوى الله كيف قاموا بتدبيرها مقابل الحصول على
قطع سكنية فيها هي بلا أدنى تخطيط. لا مياه نظيفة، ولا شوارع مرصوفة، ولا صرف صحي،
يا صديقي أنا أعاني الأمرين كي أحصل على الماء، وفاتورتي الشهرية لا تقل عن خمسين
ريالاً مقابله، أي ناقة تلك التي تتحدث عنها وأي رفاق. مش لما نعرف نخطط صح الأول؟
سؤال أخير: أنت تعرف أن هؤلاء السكان مشتركون في خدمة
يقومون بدفع مبالغ مقابلها، وتعرف كذلك أن (حق التعويض) هو حق أصيل من حقوق
المستهلك، نصت عليه القوانين المختلفة. هل تعتقد أن الحكومة ستقوم بتعويض هؤلاء
المتضررين؟
وهل تم تعويضك عندما كان هاتفك النقال ينقطع بالأيام
بسبب ضعف أداء الشبكة بينما تلزمك الشركة المزودة بدفع فاتورة الحرارة الشهرية،
وهل تم تعويضك عندما اضطررت إلى شراء (650) جالون من الماء بمبلغ ستين ريال في
أزمة مياه الخوير، وهل تم تعويضك عندما احترق مطبخك ذات يوم بسبب ماس كهربائي من
جراء الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي في منزلك. تعويض مين يا بو تعويض ( انت
حتشتغللي ع الصبح) روح العب بعيد.
د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.