الأربعاء، 31 ديسمبر 2014

عن قلعة البحراني..



عزيزي القارئ: إذا كنت تبحث عن موضوع تاريخي أو كتاب أعياك البحث عنه ولم تجده، أو أردت أن تستعيد ملامح جميلة لمدينتك قبل أن تغزوها غابات الاسمنت القبيحة، أو حاولت تصوّر نمط الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في السّلطنة قبل السبعينات، فغالباً لن يكون أمامك سوى البحث في (قلعة التاريخ) لصاحبها ومؤسّسها الباحث عماد بن جاسم البحراني كملاذ يمكن أن تجد في أركانها ومخابئها كثيراً ممّا تبحث.

لم يكتف عماد مدرّس التاريخ سابقاً قبل أن ينتقل للعمل في مشروع المتحف الوطني بوزارة التراث والثقافة، ثمّ كباحث دراسات تاريخيّة، بالأمنيات فقط، بل حوّل حلمه الذي رافقه طوال سنوات عمره والخاص بالتعريف بالتاريخ العُماني محلياً وخارجياً إلى واقع متاح، وذلك من خلال إنشاء مدوّنته الشّخصيّة التي بدأها بنشر مقالاته الشّخصيّة، ثمّ ما لبثت أن توسّعت لتشمل أقسام عديدة كمكتبة قلعة التاريخ، وتاريخ عُمان المصور، وصور جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، والوثائق والخرائط التاريخية، والعملات والطّوابع والأفلام والمقاطع التاريخيّة العمانيّة النّادرة، بالإضافة إلى عدّة روابط هامة لمؤسسات ومراكز وجهات ومجلات تاريخية، كما أصبح لها صفحات مختلفة على مواقع التّواصل الاجتماعي العديدة من فيس بوك، وتويتر، وانستجرام، وواتساب وغيرها.

عند ولوجك لقلعة البحراني ستصاب بالذّهول وأنت تتجوّل بين كنوزها المختلفة، وسيراودك السؤال الآتي: كيف لشخص واحد أن يجمع كلّ هذه الكنوز، وبإمكانات شخصيّة بحتة، فكمّيّات الصّور النّادرة، والوثائق، والخرائط، والكتب، والعملات، والمقاطع البصريّة التي يحتويها الموقع، أو التي تعرض في صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة التابعة للقلعة هي من الأمور التي بحاجة لفريق متكامل، تدعمه امكانات لوجستيّة كبيرة، فنيّة كانت أم مادّيّة، فما بالك بجهد شخص واحد!  

شخصياً أدين للصديق الباحث عماد البحراني بكثير من الأشياء الجميلة، ذلك أن انضمامي إلى مجموعته (الواتسابيّة) المتفرعّة من قلعته قد أضاف لي الشيء الكثير، وجعلني أستعيد وأراجع كثيراً من المعلومات التاريخيّة، كما عرفّني بعدد من الشباب العمانيّ المهتم بقضايا التّاريخ المحلّيّ في شتّى فروعه، وأتاح لي فرصة النّقاش والحوار في جوّ علميّ بتنا نفتقده في ظلّ قلّة الاهتمام بالقضايا العلميّة والتاريخيّة المختلفة، بعد أن حلّ الأدب وقضاياه في المرتبة الاولى من الاهتمام المؤسسي الفكري أو التعليميّ.

في قلعة البحراني تجادلنا كثيراً حول العديد من القضايا التي مازلنا نبحث لها عن تأكيد في مصادرنا التاريخيّة الشحيحة من قبيل إن كان مازن بن ابن غضوبه شخصيّة حقيقيّة أم لا! وهل تتّجه قبلة مسجد العقبة الكائن في ابراء نحو بيت المقدس أم أنّ الأمر لا يعدو خطأً في تصميم المحراب واتجاهه! وهل أطلق الفرس بالفعل تسمية (مزون) على عمان وتعني الأرض الخصبة! وماهي القبائل التي كانت تسكن عمان عند وصول مالك بن فهم بمن معه من الأزد! وماذا عن كرامات بعض الأئمة والعلماء! وقضايا جدليّة أخرى كثيرة أسهم شحّ المصادر في إثارتها، وهو أمر يجعلنا نفكّر كثيراً في إعادة كتابة التاريخ العماني، والعودة إلى كثير من المصادر كالوثائق التي تم الكشف عنها مؤخراً، وكتب الفقه والأدب العماني التي أشارت إلى أحداث ودلالات وقضايا تاريخيّة كثيرة بحاجة إلى من يمحّصها ويضعها في سياقها التاريخيّ الصحيح.

وفي قلعته كذلك تساءلت مع نفسي عن مصير العشرات من الباحثين الشّباب الذي تخصّصوا في جوانب مختلفة من التّاريخ العمانيّ، سواء من خلال التأليف أو الدراسات العليا، والذين لا يكادوا يسمعون بندوة أو محاضرة تتعلّق بتاريخ عمان هنا أو في الخارج دون أن يكون لهم نصيبهم من الحضور والمشاركة. ترى هل سيتمّ الاستفادة من إمكاناتهم وجهودهم البحثيّة في الكلّيّات والجامعات والمراكز البحثيّة المختلفة، أم سيعودون إلى وظائف مكتبيّة رتيبة أبعد ما تكون عن التخصّص الذي أفنوا فيه شبابهم وجهدهم!!  

في قلعته أيضاً ناقشنا الأسباب التي أدّت إلى جهل الكثير من شباب الوطن بمفردات تاريخهم، والخلط الحاصل في المعلومات التّاريخيّة المتعلّقة بالسّلطنة، وتحسّفنا على عدم وجود مركز تاريخيّ متخصّص يكون ملاذاً للدارسين والباحثين والمهتمّين، ويقع على عاتقه حفظ التاريخ المحلّي من خلال الاشراف على البحوث والدراسات التاريخيّة المتخصّصة، والقيام بأعمال الترجمة والتحقيق للوثائق المختلفة، وتبنّي مشاريع دعم طباعة الكتب والدراسات المتخصّصة في جوانب التاريخ العماني، وإقامة الندوات والمؤتمرات وورش العمل، أسوة بكثير من الدّول التي سبقتنا في إنشاء هذه المراكز لدرجة وجود أـكثر من مركز بحث تاريخيّ في بعض الدّول بعضها متخصّص في تاريخ مدن بعينها في تلك الدّول.

  في قلعته اقترحنا بعضاً من الحلول التي يمكن أن تسهم في التّعريف بالتّاريخ العماني، ودور ذلك في الحفاظ على الهويّة الثّقافيّة للسلطنة، كإيجاد أدوار أكثر أهمية للمناهج التعليمية في تقديم التاريخ المحلي بشكل يجعل الطلاب يقبلون على دراسته، ويكسبهم القدرة على تذوّقه، وحماية الموروث عبر تأسيس متاحف متخصصة في كافة مجالات الثقافة والتراث، والحفاظ على الشواهد المتبقية وتحويلها إلى مؤسسات ثقافية لا إزالتها تحت دعوى تحوّلها إلى ملجأ للحشرات والقوارض، ودعم الفولكلور المحلي بكافّة أشكاله، وتعزيز الحرف العمانية بشكل عصريّ تتواكب والتغيرات الاقتصادية الحاصلة، وإطلاق أسماء الشخصيات العمانية البارزة على بعض الشوارع والمؤسّسات، وتنظيم المؤتمرات والمسابقات والفعاليّات التي تتناول شخصيات أو قضايا تاريخية بعينها، واستلهام حياة بعض الشخصيات التاريخيّة في تنفيذ أعمال فنية وأدبية مختلفة كالمسلسلات والتمثيليات والروايات والقصص القصيرة، بالإضافة إلى تعريف العالم بملامح هذا التاريخ والثقافة من خلال تقوية التواجد الثقافي في الخارج، ووضع برامج مختلفة للتبادل الثقافي مع شعوب العالم المختلفة.

ترى هل ستصمد قلعة البحراني طويلاً وسط تحدّيات وظيفيّة وتكنولوجيّة ومادّيّة قد يعاني منها صاحبها! وماذا عن حقوق الملكيّة الفكريّة ونحن نرى كلّ من هبّ ودبّ يستفيد ممّا تحتويه هذه القلعة من كنوز مهمّة دون الإشارة أحياناً إلى مصدر ما أخذه! وهل ستجد هذه القلعة من يلتفت إليها أخيراً ويحاول أن يتبنّى جهود صاحبها، ويجعل منها نواة قادمة لمركز تاريخيّ متخصّص يمكن أن يكون أكثر تأثيراً في ظلّ وجود أرضيّة صلبة قامت عليها القلعة، وفي ظلّ وجود كثير من الباحثين والمؤرّخين الشّباب المؤهّلين والذين طال انتظارهم لهذا الحلم, سؤال إجابته مؤجلّة للمستقبل القريب.. أو البعيد!!

د. محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

مشاهد وتساؤلات 18

(1)
 
في كلّ مهرجان أو احتفاليّة تراثية أجدهم أمامي في كلّ ركن أذهب إليه وكأنّهم انتيكات وضعت للعرض، منهم من يمسك بخطام جمل أو بحبل حمار، ومنهم من يعجن دقيقاً ليعمل منه خبزاً على الفحم، ومنهم من ينشغل بشباك صيد أو بسفّة خوص وكأنّه يقوم بعمل حقيقي، وقس على ذلك أمثلة عديدة لبسطاء أجبرتهم ظروفهم على القبول بأعمال كهذه متحّدين رجاء أبنائهم، ومتحمّلين لنظرات الآخرين إليهم وكأنّهم في سيرك مفتوح، قبل أن يختفوا ليحضروا في العام أو المناسبة القادمة، وهكذا دواليك.

وقد يقول البعض: ولكنّنا من خلال هذه المهرجانات نحافظ على تراثنا، ونخلق فرص عمل لهؤلاء، ونعرّف الزوّار والأجيال القادمة بما نملكه من موروث حضاري.
  جميل كلّ هذا، ولكن أليس من طرق أخرى للمحافظة على هذا التراث عدا تعريض هؤلاء الحرفيّين البسطاء وأسرهم للإحراج في كلّ مرّة مقابل بضعة ريالات قليلة! ألم تضعوا في الحسبان شعور أبناء هؤلاء أو أقاربهم وهم يرون آبائهم أو أمّهاتهم، أو إخوانهم، أو أيّ قريب لهم بهذه الصورة! ألم تفكّروا في من تعدّى الستّين وأصبح في حاجة إلى أن يقضي بقيّة أيّامه في أمان نفسيّ وراحة بال مستفيداً من خدمات اجتماعيّة توفّر له الاستقرار النّفسي والاقتصاديّ، وتجنّبه العوز، وهل سيرضى المسئولون عن هذه الفعاليّات أن يحضروا أهلهم أو أقاربهم لعرضهم كأنتيكات في هذه المهرجانات، أم أنّ الشعارات الرّنّانة لا تطبّق سوى على فئات بعينها!
 أولا يمكن أن أحافظ على هذا التراث، وفي نفس الوقت أحافظ على كرامة هؤلاء من خلال توفير مصادر دخل دائمة لهم من خلال سنّ تشريعات اقتصاديّة تحميهم من منافسة الوافد الأجنبي الذي توغّل في كلّ الحرف وكاد أن يقصي المواطن من جلّها، أو عمل أسواق شعبيّة في القرى والولايات، وتمليك محلاتها لهم، أو دعمهم مادّياً وإداريّاً وتدريبيّاً في انشاء مشاريع اقتصاديّة خاصّة بهم، أو التعاقد معهم على شراء منتجاتهم بأسعار تشجيعيّة تضمن لهم الاستمراريّة، بل وتحفيز أبنائهم على العمل بهذه الحرف فيما بعد!
 
  (2)
في مصر (التي تعاني من مشكلات اقتصاديّة كبيرة) بدأ تطبيق مشروع شبابيّ رائد تقوم فكرته على تحويل زيت الطعام الذي تم استخدامه إلى وقود، حيث تقوم الأسر بتسليم بقايا زيت الطعام لأقرب محل بقالة، والذي بدوره يسلّمه إلى مركز لتجميع الزيت المستخدم.
المشروع سوف يؤدي إلى الاسهام في نظافة البيئة، وزيادة في دعم الأسرة لأن كل لتر زيت يقوم المواطن بتسليمه يأخذ مقابله دعماً خاصاً بشراء السلع الأساسيّة، كما سيسهم في إيجاد فرص عمل للشباب من خلال توفير مكائن لتحويل الزيت إلى سولار لإنتاج حوالي مليون لتر سنويا، علاوة على خفض فاتورة استيراد الدولة السنوي للوقود.

بالمناسبة.. ما هي أخبار مخترعينا الشباب من أمثال سلطان الصبحي، وأحمد الحتروشي وغيرهم!! وما مصير عشرات المشاريع الابتكاريّة التي نسمع عنها كلّ يوم في وسائل اعلامنا، ونشاهدها في المعارض العلميّة المختلفة!!
 
(3)
تقول الحكمة العمانيّة الحديثة "إذا أردت أن تعذّب أحداً فابعثه في مشوار إلى روي، أو اطلب منه أن يقف خلف آسيوي في بنك، أو اجعله ينتظر دوراً في مركز العامرات الصحي".

 أمّا لماذا العامرات، فلأنّ هذه الولاية التي تحسب (اسماً) ضمن ولايات محافظة مسقط، والتي أصبحت فعليّاً من أكثر ولايات السّلطنة اكتظاظاً بالسّكّان، لا يوجد بها سوى مركزين صحّيين يغلقان أبوابهما عند التّاسعة ليلاً في أيّام الدّوام الرسمي، وعند الرابعة عصراً أيّام العطل الرسميّة على اعتبار أنّه لا أحد يمرض بعد ذلك الوقت!
ولمن يجبره حظّه العاثر على مراجعة أحد هذين المركزين فعليه أن يستعين أوّلاً بالصبر والصلاة، وأن يجمّد أعصابه في ثلاجة منزله لمدّة كافية قبل الذّهاب، وأن يتأكّد من وجود شحن كاف بهاتفه، وحبّذا لو أخذ معه كتاب جيب، أو بعض المكسّرات لزوم عدم الشعور بالوقت. أمّا لو كان الموعد صباحيّاً فيفضّل أن يصّلي الفجر في أقرب مسجد للمركز، كي يحجز موعداً مبكّراً.

للتذكير.. هناك من الاقتصاديّين من يمتدح فكرة إقامة مركز طبّي خاص بالعامرات، بل ويعتبرها من أكثر المشاريع الاقتصاديّة المضمونة.
 
 (4)
نقلاً عن صفحة عبد الله العدوي في التويتر: "احصائية سويتها وأنا أسوق. من إجمالي ١٠ سيارات تجاوزت سيارتي؛ ٨ سائقين يستخدموا تلفوناتهم، والطامة واحد منهم باص نقليات كبير ٥٠ راكب"
لا تعليق!!
 
 (5)
 "نجح فريق جراحة القلب بمستشفى جامعة السلطان قابوس برئاسة الدكتور هلال السبتي في زراعة قلب صناعي لمريض يعاني من فشل في القلب في إنجاز يعد الأول في السلطنة".

 "حقق فريق جراحة القلب والصدر بمستشفى جامعة السلطان قابوس برئاسة الدكتور هلال بن علي السّبتي إنجازاً علمياً هو الأول من نوعه في الشرق الأوسط، تمثّل في إجراء جراحة دقيقة تتمثل في زراعة ثلاثة شرايين في القلب عن طريق التدخل الجراحي المحدود للقلب النابض بطريقة فتح الصدر من الجانب وليس من الأمام مثلما هو حال العمليات التقليدية".

كم أنا فخور بك وبطاقمك الطبِّي أيّها الطبيب الحاذق. وبمثلكم وبإنجازاتكم تفخر عمان وترتقي وتطاول هامات السماء، وسلامي على البوتيكات ومراكز التجميل.

الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

مشاهد وتساؤلات ( 17 )


(1)

تابعت خلال الفترة الماضية التراشق الفكريّ الحادث، ووجهات النّظر المتباينة حول تصوت مجلس الشورى العماني بالأغلبية على حظر تعاطي الخمور، وإيقاف تراخيص الشيشة، والذي أتمنّى ألا يكون مقدّمة لنسج شباك الغزل مع الناخبين مع اقتراب انتخابات المجلس للفترة القادمة، وألا يشغلهم عن قضايا اجتماعيّة واقتصاديّة مجتمعيّة لا تقلّ أهميّة عن هذا الموضوع.

برأيي أنّه قبل أن نفكّر في منع الخمور ووسائل التّدخين أو أيّ شيء سلبي يتعارض مع تعاليم الدين، علينا أوّلاً أن نعالج الأسباب التي أدّت إلى انتشارها، وذلك من خلال مراجعة المنظومة التعليميّة، ومناقشة التحدّيات التي تواجه أداء الأسرة العمانيّة لدورها التربويّ والاجتماعيّ، والتّحدّيات الفكريّة والتكنولوجيّة التي تواجه المجتمع بشكل عام، ومدى توافر البدائل الثقافيّة والسياحيّة المناسبة لقضاء أوقات الفراغ وتكوين الشخصيّة السويّة من مكتبات ومسارح ودور سينما وبيوت ثقافة وحدائق ومتنزّهات طبيعيّة أو صناعيّة، واقتراح القوانين والتشريعات التي تناقش ما سبق، وبعد ذلك يمكن لنا أن نجتمع لنصوّت على منعها بالأغلبيّة المطلقة، فمجرّد المنع لن يحلّ المشكلة، بل سيفاقمها، حيث سيلجأ متعاطوها إلى بدائل قد تكون أكثر سوءاً، ولنا في تجارب بعض الدّول المجاورة أبلغ دليل على ذلك.

قبل أن تفكّر في قطع يد السارق وفّر له فرصة العمل المناسبة، وظروف العيش الإنسانيّة، وشيئاً من العدالة الاجتماعية، ثمّ طبّق عليه قوانينك كما تشاء.

 (2)

وأنا أتأمّل واقع منظومة التّعليم لدينا بالسّلطنة تراودني أحياناً بعض التساؤلات: ترى هل نحن بحاجة بالفعل إلى مبنى يضم الألوف من الموظّفين يقومون بالعديد من الأعمال الإداريّة والفنّيّة التي يمكن القيام بها بطرق أكثر بساطة ونجاعة من الوضع الحالي! هل الوزير بحاجة إلى الاشراف المباشر على عشرات المكاتب والإدارات ، ومئات الموظّفين التّابعين لمكتبه، وترؤس اللجان الكثيرة، خاصّة وأنّه من المفترض ألا يقوم باختراع استراتيجيّات تربويّة جديدة، بل هو مشرف على تنفيذ رؤية الحكومة في مجال التعليم، والتي هي جزء من استراتيجيّة وبرنامج متكامل تقوم الحكومة بتنفيذه خلال فترة زمنيّة معيّنة، وذلك من خلال بعض الأدوات كالقوانين، ووسائل التمويل.

ماذا لو تحمّلت المجالس البلديّة مسئوليّة التخطيط لبناء المدارس في المدن والولايات المختلفة وفق احتياجات تلك المدن والولايات! ماذا لو كان هناك مكتب خاص مستقل لوضع معايير المناهج، وتقوم الشركات التجاريّة بطباعة الكتب الدراسية التي تعدّ جزءً من المنهج وليست كلّ المنهج وفق هذه المعايير! ماذا لو أعطينا المدارس استقلالها الإداريّ والماليّ، ولمديرها كافّة الصلاحيّات المتعلّقة بإدارة تلك المدارس، واختيار المناهج المناسبة، وتقييم أداء الطاقم الإداري والتدريسي دون الرجوع للمركزيّة المرتبطة بالبيروقراطيّة! ما ذا لو كان هناك مكتب خاص مستقل كذلك لمراقبة أداء المدارس وفق المعايير الخاصّة بها، ماذا لو كان هناك مكتب خاص بإعداد وثائق التقويم المختلفة، وتقويم ناتج العمليّة التعليميّة دون تدخّل مباشر من الوزارة!

بل ماذا لو كانت هناك نقابة أو جمعيّة للمعلّمين، تجمع التربويّين في كيان واحد، وتتبنى مطالبهم، وتحقق عدداً من المطالب الاجتماعية التي ستضيف الكثير لبيئة العمل، ليس أقلها المعاش التقاعدي، أو حق العلاج، أو تنظيم المناشط الاجتماعية، أو حماية حقوق المعلم والدفاع عنه ، وأشياء كثيرة لا يمكن حصرها في هذه المساحة.

أقول.. ماذا لو!

(3)

على الرّغم من وجود قرار وزاري قديم بمنع عمل العمالة الوافدة في محلات بيع المواد الغذائيّة، وقصرها على العمانيّين فقط، إلا أنّ هذه العمالة سرعان ما عادت إلى احتلال أماكنها القديمة في إدارة هذه المحلات بطرق كانت ملتوية كوظيفة المحاسب، ثم أصبحت مكشوفة بشكل أكثر فجاجة، ومعظمهم للأسف دخلاء على هذه المهنة، ولا يمكن مقارنتهم بالعمالة (الشاطرة) التي كانت تدير هذه المحلات خلال فترة ما قبل تطبيق القرار.

على الرّغم من تحفّظي على القرار لأسباب عديدة لعل من بينها أنّك لا يمكنك أن (تفرض) على شعب ما أن يعمل بحرفة معيّنة، وأنّ التجارة هي مزيج من الشطارة والمغامرة، إلا أنّه على الأقل علينا أن نتابع مدى تطبيق القرارات التي (نفرضها) من عدمها.

 (4)

في ظلّ الانتشار الكبير لظاهرة (العزب) والاستراحات التي غزت كثيراً من المواقع الطبيعيّة والسياحيّة في بعض ولايات السلطنة لدرجة الاستحواذ على أهمّ الأماكن التي اعتاد الناس الذهاب اليها أيّام العطل والاجازات، أخشى أن نضطرّ قريباً للسفر إلى بعض الدول المجاورة التي لم تتأثّر سيوحها وصحاريها ووديانها بعد بهوجة العزب، وذلك من أجل قضاء إجازة آخر الأسبوع، أو عمل "المشاكيك"، أو الاستمتاع بمنظر الطبيعة بعد هطول الأمطار.  

تبدأ هذه العزب ببناء بسيط من المواد غير الثابتة، ثم يتم عمل سور يحيط بها، وبعدها يضاف إليها غرفة أو اثنتان بمواد ثابتة، ثم المطالبة بتملكها القانوني تحت عدة دعاوي مختلفة، وكل المراحل السابقة تحدث في غفلة أو تجاهل أو لامبالاة من المسئولين.

فضلاً عن إنها تعتبر تحايلاً على القانون، فإنها قد تسهم في تشويه المنظر العام، واختلال البيئة الفطرية، وقد تؤثر على منظومة التخطيط السكاني مستقبلاً، عدا حرمان المواطن البسيط من أوقات جميلة يقضيها برفقة أسرته أو أصدقائه في ظل قلّة البدائل السياحيّة المتاحة.

(5)

الشرطي الذي ألمحه ينظّم حركة السير كلّ صباح عند دوّار العامرات يستحقّ تحيّة تقدير وامتنان، فبرغم البرد القارس الذي يجمّد الأطراف، وبرغم التزاحم الشديد في حركة المركبات، ومحاولات البعض في الخروج عن النصّ من خلال التجاوزات الخاطئة، والسّرعة الزائدة، إلا أنّه يتجاوز كلّ ذلك متّخذاً من ابتسامته العريضة وقوداً يتدفّأ به، ويعينه على استكمال رسالته تجاه الوطن.   

هذا الشرطي هو نموذج جميل لكلّ رجال الشرطة في عمان الذين نجدهم قبلنا في كلّ محنة، وفي كلّ موقف. تحيّة لهم من الأعماق وعساهم على القوّة.

 

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

 

 

 

 

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

مشاهدات وتساؤلات 16



(1)

من بين الأمور المهمّة التي أخرج بها في كلّ مرّة بعد متابعتي لتصريحات معالي الوزير المسئول عن الشئون الخارجيّة، وبين تصريحات بعض الوزراء الاخرين، هو مدى الفرق بين الوزير السياسيّ المتمرّس الذي يمكن أن يجيب على أكثر الأسئلة حساسيّة وحرجاً دون أن تمسك عليه زلّة واحدة، وبين الوزير الموظّف الذي تأتي تصريحاته متوافقة مع كونه كان موظّفاً في الوزارة أو غيرها قبل ذلك، وأدرك كذلك أهميّة وجود مكتب صحفي تابع لمكتب الوزير مهمّته الإعداد الجيّد للكلمات والبيانات التي سيلقيها، والمراجعة الدّقيقة للتصريحات التي يعتزم إطلاقها خوفاً من تأثيرها الاقتصادي والاجتماعيّ السّلبي على المستويين الدّاخلي والخارجي.

كذلك فعلى الرغم من أنّ منصب الوزير هو منصب سياسي في المقام الأوّل، لا يشترط التخصّص في من يتولاه، وعلى الرّغم من أنّ هذا المنصب يمكن أن يتغيّر مرات عديدة على مدار السنّة الواحدة في الدول المتقدّمة تبعاً لتغيّر المناخ السياسي بدون أن تشلّ حركة العمل في الوزارة المعنيّة، أو تتغيّر سياساتها الداخليّة، إلا إنّ الوزير في كثير من دولنا العربيّة يصرّ على أن يمسك بكلّ شاردة وواردة، جاعلاً من الآخرين مجرّد منفّذين للسياسات التي يضعها هو، والتي ستتغيّر هي (وطاقم المكتب بأكمله) مع مجيء وزير آخر يحلّ محلّه، وهكذا دواليك.

(2)

يأتي الصّباح في مطلع كلّ يوم عمل حاملاً معه بوادر كثير من الأمراض والعلل كالضغط والكوليسترول والسّكّري وغيرها، وذلك من جرّاء الدقائق الطويلة والتي تصل إلى السّاعات أحياناً التي نقضيها لقطع بضعة كيلو مترات للوصول إلى المشاوير اليوميّة المختلفة، وذلك بسبب الازدحام الرّهيب التي تعانيه معظم شوارع مسقط نتيجة تراكمات تخطيطيّة وتنظيميّة مختلفة، في الوقت الذي بحّت فيه الكثير من الأصوات على مدى سنوات طويلة محذّرة من أن تتحوّل مسقط إلى قاهرة جديدة في ظلّ تكديس كلّ شيء فيها.

في ظلّ الزحمة (الخانقة) التي تعاني منها شوارعها، وبعيداً عن كلّ الحلول الغير منطقيّة كإعادة توزيع التنمية والمشاريع على مدن السلطنة الأخرى لتخفيف الضغط عن مسقط، والتفكير في المشروعات الانتاجيّة التي تحدّ من الهجرة المتدفّقة من القرى والولايات بحثاً عن فرص العمل والعيش المناسبة، أقترح على المسئولين عن التخطيط أن يغلقوا العاصمة (بالضبّة والمفتاح) على ساكنيها الحاليّين، وعدم السّماح لأحد بدخولها إلا بعد الانتهاء من كافّة المشروعات المتعلّقة بتوسعة الطرق والمداخل، وانشاء المزيد من الجسور والكباري، والا لتحوّلت مسقط في القريب العاجل إلى علبة سردين ضيّقة، خاصّة ونحن نتحدّث عن فتح أبواب الاستثمار، ونلمح العشرات من الوافدين الذين يتزايدون كلّ يوم، عدا من يترك مسقط رأسه في داخليّة عمان أو شرقها وغربها، قادماً إلى مسقط بقضّه وقضيضه بحجّة أنّ كلّ شيء موجود هنا.    

(3)

على ناصية شارع مسقطيّ يقوم أحد الباعة المتجوّلين بعرض مجموعة من الخضروات والفواكه بسعر موحّد قيمته ريال عمانيّ لكلّ صنف من الأصناف المعروضة، والتي هي عبارة عن طبق بلاستيكي صغير عليه بضعة حبّات من كلّ صنف.

الغريب أنّ هناك اقبال كبير على هذا البائع من قبل سكّان الولاية والمستخدمين للشارع،  برغم أنّ محلات بيع الخضروات والفواكه لا تبعد سوى بضعة أمتار عن مكان وقوف هذا البائع، وعلى الرغم من أنّ البضاعة التي يعرضها هذا التاجر ليست بتلك الجودة العالية مقارنة بنظيراتها في المحلات القريبة، وعلى الرّغم كذلك من السّعر المضاعف (جدّاً) الذي يبيع به هذا التّاجر التجوّل بضاعته، علماً بأنّه لا يقوم بدفع أيّة رسوم أو ضرائب أو قيمة استئجار معيّنة.

بعيداً عن الدعوة إلى تدخّل الجهات الرّقابيّة المعنيّة، أو تنظيم عمل الباعة الجائلين، يظلّ السؤال المطروح والمتعلّق بوعي وثقافة المواطن الذي يقبل على الشراء من أمثال هؤلاء وهو مغمض العينين مسلوب الإرادة دون أن يترك لشيء يدعى العقل وهبه الله ايّاه دوناً عن بقيّة المخلوقات أن يتساءل ولو لمرّة واحدة حول الأضرار الاقتصاديّة والصحّيّة المترتّبة على الشراء من أمثال هؤلاء، أو حول أهميّة عمل مقارنة أوّليّة بين نوعية وأسعار المنتجات المعروضة لدى هذا البائع والمحلات المجاورة، ثمّ يتفرّغ بعد ذلك للشكوى من الممارسات الاقتصاديّة السّلبيّة التي يكون سببها الأول استهتاره وسذاجته التي تغري الآخرين بالقيام بكلّ تلك التصرّفات.       

(4)

ذهب شهر نوفمبر حاملاً معه الذّكرى الثامنة لوفاة أحد أجمل وأرقى من أنجبتهم صور والسلطنة في مجال الفكر والثقافة والأدب والتاريخ خلال المائة سنة الأخيرة. الشاعر الفذّ صاحب ديوان "حوريّة البحر"، والمؤرّخ صاحب كتاب "قبائل الجنبة وميناؤهم التاريخي صور"، والمثقّف الموسوعة، والانسان قبل كل ذلك في تعاملاته مع الآخرين. أتحدّث عن المرحوم الأستاذ ناصر بن علي البلال.

بعد مرور ثمان سنوات على رحيله، ترى ماذا تبقى من ذكراه!! وماذا فعلنا من أجله باستثناء بعض أمسيات خجولة، ومقال هنا وهناك ثمّ انتهى كلّ شيء كما نفعل مع كلّ الأشياء الجميلة، منذ متى لم نتذكره في محفل ثقافي أو إنساني معين، وهل قليل في حقّ هذا الرجل أن تخصّص إحدى الصّحف أو المجلات ملحقاً أدبيّاً يتناول ذكراه وما قدّمه! أو أن يطلق اسمه على أحد المهرجانات المختلفة التي تعنى بالأدب محلياً، أو أن يوضع اسمه على إحدى مدارس أو شوارع مدينته التي كانت حديث صباحه ومساءه، والتي خلّدها في كلّ نفس كان يخرج من صدره!

وإلى كثير من الشعراء والأدباء، بل والمسئولين الذين خرجوا من تحت عباءة هذا الرّجل، والذين منحهم الشيء الكثير من انسانيّته المفرطة، وتشجيعه اللامتناهي، وغزارة محصوله الفكريّ كمكتبة متنقّلة، ترى هل ما زلتم تتذكّرون رجلاً يدعى ناصر بن علي البلال!!

رحمك الله يا أبا عبد الله، وتحية من قلوب لن تنساك.

 

 

 

 

الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

ممدوح كاسمه


إذا كنت من مرتادي القاهرة خلال السّنوات الأربع الأخيرة فلابدّ أنّك قد سمعت أو عايشت بعضاً من مواقف هذا الرّجل، وتواضعه الجمّ، وكرمه الحاتمي الذي يفوق الوصف والحدّ، وإذا كنت لم تزرها بعد فربّما وصلتك أخباراً عن بعض هذه المواقف يتناقلها عنه الذّاهب والقادم. أتحدّث عن الشيخ ممدوح بن سالم المرهون المستشار بسفارة السلطنة في القاهرة، والذي يعدّ أنموذجاً رائعاً للدّبلوماسيّ العماني، بل وللشخصيّة العمانيّة ذاتها بكل تفاصيلها الدقيقة من تواضع، وبشاشة استقبال، ورغبة صادقة في خدمة الآخر دون انتظار لمقابل، لكنّه سلوك نشأ وجبل عليه، وتشرّبه في بيته كعادة كلّ أسرة عمانيّة عريقة تحرص على أن يتحلّى أبنائها بالصّفات التي تؤهّلهم كي يكونوا رجالاً متكاملين في نظر الآخرين بأخلاقهم وصفاتهم الحميدة التي ترفعهم في عيونهم، وتؤهّلهم للحصول على درجة عالية في معايير تقييمهم. ثم ترسّخ هذا السلوك في مدرسة الخارجيّة العمانيّة التي أصبحت نموذجاً يحتذي في رعاية العماني أيّاً كان، بغضّ النظر عن وضعه ومكانته، فما دام عمانيّاً فهو يستحقّ كلّ رعاية واهتمام، بل ومن أجله تسخّر كافّة الجهود والإمكانات. زيارة لأقرب سفارة أو قنصليّة للسلطنة في الخارج يمكن أن تؤكّد ما أقول.

وبرغم أنّه لم تكن تربطني به أيّة علاقة أو معرفة سابقة سوى ما كنت أسمعه من زملاء عمل أو دراسة التقوا به وبهرهم ما كان يقوم به من خدمات تجاههم، خاصّة وأنّه التحق بالعمل في السّفارة بعد أشهر قليلة من مغادرتي القاهرة فور انتهائي من دراساتي العليا، إلا أنّه وفي المرّات التي قمت فيها بزيارة مصر بعد ذلك وتعرّفت على هذه الشخصيّة الفريدة عن قرب، أدركت أن كل انبهار الزملاء ما زال قاصراً عن التعبير الحقيقي عن مناقب هذا الرجل، بل إنّني عانيت على مدى شهور طويلة من عدم القدرة على كتابة جملتين على بعضهم عنه، وكم من المرّات التي كنت أذهب فيها للاختلاء في غرفتي كي أكتب مقالاً عنه فأعود إليهم بعد بضعة ساعات بخفّي حنين معلناً عجزي عن كتابة أيّ شيئ، فما سأكتبه قد لا يعبّر تعبيراً حقيقيّاً عمّا أودّ قوله، فماذا يمكن أن أكتب عن شخص يتردّد اسمه قبل سفرنا بأيّام، ثم أجده أمامنا في المطار كأول المستقبلين بدشداشته العمانيّة التي يرفض استبدالها بالبدلات الغالية كما يفعل البعض، ثم يكاد يكون محور حديث سائقي السفارة الوحيد في طريقنا إلى فندق الإقامة حول كرمه وشهامته ومواقفه مع الآخرين، ثمّ يقوم بنفسه بالاشراف على تخليص كافّة الإجراءات المتعلّقة بالإقامة برغم وجود موظّفي علاقات تابعين للسّفارة، ليتكرّر الامر في بقيّة الأيّام مع عشرات الإتّصالات التي تنشد الاطمئنان على الوفد، والسؤال عن أحواله ومتطلّباته. سيناريو كهذا يتكرّر في كلّ زيارة رسميّة نقوم بها، بل وفي كلّ زيارة تقوم بها جهات حكوميّة أخرى إلى القاهرة، وما أكثر هذه الزيارات، عدا الضيوف الآخرين، والمعارف، ومعارف المعارف، بل وأيّ عماني يقوده حظّه الحسن إلى الالتقاء به. وفي كلّ مرّة نتساءل أنا وبقيّة الزملاء المرافقين: متى يذهب هذا الرجل إلى بيته، متى يرى أولاده، ومتى ينام، بل كيف يستطيع قطع كلّ هذه المسافات في ظلّ زحمة القاهرة القادرة على تحطيم دواخل أعتى الشخصيات بروداً ؟ كان يمكن للرّجل أن يقوم بعمله تجاه الآخرين وفق ما تتطلّبه مهام وظيفته دون زيادة أو نقصان وبدون أن يلومه أحد، ولكنّ شخصيّة العماني الذي تربّى وسط مجتمع يعتبر الاهتمام بالضّيف أمراً مقدّساً، وبالتّالي فكلّ زائر لمصر هو في نظره ضيف، تحتّم عليه القيام بكلّ ذلك. للّه درّ من ربّاك، ومن تعلّمت في مدرسته، وتشرّبت من أخلاقه.

القصص التي تحكي عن مواقف هذا الرّجل أكثر من أن تعدّ أو تسرد، فكلّ دقيقة من حياته تكاد تشكّل موقفاً نبيلاً بحدّ ذاته، ولو فتحنا سجلاً يدوّن فيه كلّ من عرفه وعايشه عن قرب موقفاً معيّناً له فسنعاني كثيراً من أجل توفير السجلات الكافية، فكم من طالب تعرّض لضائقة معيّنة قام الشيخ بمساندته أو التفريج عن ضائقته دون أن يعلم بالأمر أحد غيرهما، وكم من عماني ضاق به الحال في مصر لسبب أو لآخر فكان الشيخ هو العون والملجأ، وكم من وفد عمانيّ رسمي كان قريباً منهم منذ لحظة وصولهم إلى المطار وانتهاء بمغادرتهم، ووقوفه الشّخصيّ على كل التفاصيل التي يمكن أن تسهم في تحقيق الأهداف المرجوّة من المهمّة أو الزّيارة.

  أتذكّر من بين المواقف العديدة له أنّه وبينما كان في المطار يودّع وفداً عمانيّاً رسميّاً في رحلة عودته إلى السلطنة، إذ ببعض الطّلبة العمانيّون يتناقشون بصوت عال مع موظّف إحدى خطوط الطّيران حول وزن الأمتعة التي بحوزتهم، فما كان من هذا الرّجل الكريم إلا أن قام من فوره ليسدّد كافّة المبالغ المترتّبة على زيادة وزن أمتعة أولئك الطّلبة من جيبه الخاص دون أن يدري أحد بما حدث، علماً بأنّ المبلغ المدفوع لم يكن بالرّقم البسيط، أمر كهذا تكرّر كثيراً مع أشخاص آخرين، وفي مواقف مشابهة مع عدم رغبة الشيخ في الحديث عنها، ولولا أنّ أصحاب الشأن هم من تحدّث عنها لما علم بالأمر أحد.  

الشّيخ ممدوح مثال لشيخ القبيلة الذي كنّا نسمع عنه وعن مواقفه النبيلة في جلسات سمر الرّجال، وحكاوي الجدّات قبل النوم، بحيث تكاد تتحوّل قصصهم إلى ما يشبه الأسطورة. الشّيخ الذي يضحّي بوقته وماله وبكلّ ما يملك من أجل الآخرين دون انتظار لمقابل، كسلوك يمتزج في شخصيّته كما يسري الدمّ في الشرايين، بل يرى أنّ عدم الوفاء به هو من المنقصة التي قد تجلب العار. الشيخ الذي قلّ نظيره هذه الأيّام وتم استبداله بشيوخ المال والمناصب من كذّابيّ الزفّة، ونموذج "عبده مشتاق" الذي يمكن أن يفعل أيّ شيء، وكلّ شيء، من أجل أن يصبح قريباً من وهج السّلطة والمال، فهناك من يبحث عن الألقاب والمناصب كي تجمّله وترفع من قدره، وهناك من يرفع اللقب ذاته بقدره ومكانته وأفعاله.

باختصار هو مثال للعماني الذي يضع العماني الآخر نصب عينيه أينما حل وأينما ارتحل دون أن يطلب المقابل لذلك. يا شيخ ممدوح لقد أتعبت من سيأتي من بعدك.

 

د.محمّد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com