الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

ممدوح كاسمه


إذا كنت من مرتادي القاهرة خلال السّنوات الأربع الأخيرة فلابدّ أنّك قد سمعت أو عايشت بعضاً من مواقف هذا الرّجل، وتواضعه الجمّ، وكرمه الحاتمي الذي يفوق الوصف والحدّ، وإذا كنت لم تزرها بعد فربّما وصلتك أخباراً عن بعض هذه المواقف يتناقلها عنه الذّاهب والقادم. أتحدّث عن الشيخ ممدوح بن سالم المرهون المستشار بسفارة السلطنة في القاهرة، والذي يعدّ أنموذجاً رائعاً للدّبلوماسيّ العماني، بل وللشخصيّة العمانيّة ذاتها بكل تفاصيلها الدقيقة من تواضع، وبشاشة استقبال، ورغبة صادقة في خدمة الآخر دون انتظار لمقابل، لكنّه سلوك نشأ وجبل عليه، وتشرّبه في بيته كعادة كلّ أسرة عمانيّة عريقة تحرص على أن يتحلّى أبنائها بالصّفات التي تؤهّلهم كي يكونوا رجالاً متكاملين في نظر الآخرين بأخلاقهم وصفاتهم الحميدة التي ترفعهم في عيونهم، وتؤهّلهم للحصول على درجة عالية في معايير تقييمهم. ثم ترسّخ هذا السلوك في مدرسة الخارجيّة العمانيّة التي أصبحت نموذجاً يحتذي في رعاية العماني أيّاً كان، بغضّ النظر عن وضعه ومكانته، فما دام عمانيّاً فهو يستحقّ كلّ رعاية واهتمام، بل ومن أجله تسخّر كافّة الجهود والإمكانات. زيارة لأقرب سفارة أو قنصليّة للسلطنة في الخارج يمكن أن تؤكّد ما أقول.

وبرغم أنّه لم تكن تربطني به أيّة علاقة أو معرفة سابقة سوى ما كنت أسمعه من زملاء عمل أو دراسة التقوا به وبهرهم ما كان يقوم به من خدمات تجاههم، خاصّة وأنّه التحق بالعمل في السّفارة بعد أشهر قليلة من مغادرتي القاهرة فور انتهائي من دراساتي العليا، إلا أنّه وفي المرّات التي قمت فيها بزيارة مصر بعد ذلك وتعرّفت على هذه الشخصيّة الفريدة عن قرب، أدركت أن كل انبهار الزملاء ما زال قاصراً عن التعبير الحقيقي عن مناقب هذا الرجل، بل إنّني عانيت على مدى شهور طويلة من عدم القدرة على كتابة جملتين على بعضهم عنه، وكم من المرّات التي كنت أذهب فيها للاختلاء في غرفتي كي أكتب مقالاً عنه فأعود إليهم بعد بضعة ساعات بخفّي حنين معلناً عجزي عن كتابة أيّ شيئ، فما سأكتبه قد لا يعبّر تعبيراً حقيقيّاً عمّا أودّ قوله، فماذا يمكن أن أكتب عن شخص يتردّد اسمه قبل سفرنا بأيّام، ثم أجده أمامنا في المطار كأول المستقبلين بدشداشته العمانيّة التي يرفض استبدالها بالبدلات الغالية كما يفعل البعض، ثم يكاد يكون محور حديث سائقي السفارة الوحيد في طريقنا إلى فندق الإقامة حول كرمه وشهامته ومواقفه مع الآخرين، ثمّ يقوم بنفسه بالاشراف على تخليص كافّة الإجراءات المتعلّقة بالإقامة برغم وجود موظّفي علاقات تابعين للسّفارة، ليتكرّر الامر في بقيّة الأيّام مع عشرات الإتّصالات التي تنشد الاطمئنان على الوفد، والسؤال عن أحواله ومتطلّباته. سيناريو كهذا يتكرّر في كلّ زيارة رسميّة نقوم بها، بل وفي كلّ زيارة تقوم بها جهات حكوميّة أخرى إلى القاهرة، وما أكثر هذه الزيارات، عدا الضيوف الآخرين، والمعارف، ومعارف المعارف، بل وأيّ عماني يقوده حظّه الحسن إلى الالتقاء به. وفي كلّ مرّة نتساءل أنا وبقيّة الزملاء المرافقين: متى يذهب هذا الرجل إلى بيته، متى يرى أولاده، ومتى ينام، بل كيف يستطيع قطع كلّ هذه المسافات في ظلّ زحمة القاهرة القادرة على تحطيم دواخل أعتى الشخصيات بروداً ؟ كان يمكن للرّجل أن يقوم بعمله تجاه الآخرين وفق ما تتطلّبه مهام وظيفته دون زيادة أو نقصان وبدون أن يلومه أحد، ولكنّ شخصيّة العماني الذي تربّى وسط مجتمع يعتبر الاهتمام بالضّيف أمراً مقدّساً، وبالتّالي فكلّ زائر لمصر هو في نظره ضيف، تحتّم عليه القيام بكلّ ذلك. للّه درّ من ربّاك، ومن تعلّمت في مدرسته، وتشرّبت من أخلاقه.

القصص التي تحكي عن مواقف هذا الرّجل أكثر من أن تعدّ أو تسرد، فكلّ دقيقة من حياته تكاد تشكّل موقفاً نبيلاً بحدّ ذاته، ولو فتحنا سجلاً يدوّن فيه كلّ من عرفه وعايشه عن قرب موقفاً معيّناً له فسنعاني كثيراً من أجل توفير السجلات الكافية، فكم من طالب تعرّض لضائقة معيّنة قام الشيخ بمساندته أو التفريج عن ضائقته دون أن يعلم بالأمر أحد غيرهما، وكم من عماني ضاق به الحال في مصر لسبب أو لآخر فكان الشيخ هو العون والملجأ، وكم من وفد عمانيّ رسمي كان قريباً منهم منذ لحظة وصولهم إلى المطار وانتهاء بمغادرتهم، ووقوفه الشّخصيّ على كل التفاصيل التي يمكن أن تسهم في تحقيق الأهداف المرجوّة من المهمّة أو الزّيارة.

  أتذكّر من بين المواقف العديدة له أنّه وبينما كان في المطار يودّع وفداً عمانيّاً رسميّاً في رحلة عودته إلى السلطنة، إذ ببعض الطّلبة العمانيّون يتناقشون بصوت عال مع موظّف إحدى خطوط الطّيران حول وزن الأمتعة التي بحوزتهم، فما كان من هذا الرّجل الكريم إلا أن قام من فوره ليسدّد كافّة المبالغ المترتّبة على زيادة وزن أمتعة أولئك الطّلبة من جيبه الخاص دون أن يدري أحد بما حدث، علماً بأنّ المبلغ المدفوع لم يكن بالرّقم البسيط، أمر كهذا تكرّر كثيراً مع أشخاص آخرين، وفي مواقف مشابهة مع عدم رغبة الشيخ في الحديث عنها، ولولا أنّ أصحاب الشأن هم من تحدّث عنها لما علم بالأمر أحد.  

الشّيخ ممدوح مثال لشيخ القبيلة الذي كنّا نسمع عنه وعن مواقفه النبيلة في جلسات سمر الرّجال، وحكاوي الجدّات قبل النوم، بحيث تكاد تتحوّل قصصهم إلى ما يشبه الأسطورة. الشّيخ الذي يضحّي بوقته وماله وبكلّ ما يملك من أجل الآخرين دون انتظار لمقابل، كسلوك يمتزج في شخصيّته كما يسري الدمّ في الشرايين، بل يرى أنّ عدم الوفاء به هو من المنقصة التي قد تجلب العار. الشيخ الذي قلّ نظيره هذه الأيّام وتم استبداله بشيوخ المال والمناصب من كذّابيّ الزفّة، ونموذج "عبده مشتاق" الذي يمكن أن يفعل أيّ شيء، وكلّ شيء، من أجل أن يصبح قريباً من وهج السّلطة والمال، فهناك من يبحث عن الألقاب والمناصب كي تجمّله وترفع من قدره، وهناك من يرفع اللقب ذاته بقدره ومكانته وأفعاله.

باختصار هو مثال للعماني الذي يضع العماني الآخر نصب عينيه أينما حل وأينما ارتحل دون أن يطلب المقابل لذلك. يا شيخ ممدوح لقد أتعبت من سيأتي من بعدك.

 

د.محمّد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.