السبت، 12 يوليو 2014

رمضانيّات


(1)

في إحدى برامج المسابقات الإذاعيّة التي تصحو فجأة  في هذا الشهر الفضيل من بياتها السّنوي، طرحت مذيعة إحدى القنوات الإذاعيّة الخاصّة هذا السؤال: ما عاصمة الخلافة العربيّة الإسلاميّة زمن الدولة العبّاسيّة؟

لم تكد المذيعة تنتهي من إكمال طرح السؤال حتّى يتّصل أحدهم، وهو نموذج للشاب الذي تستطيع وأنت تسمع نبرات صوته أن تتخيّل لون دشداشته وكمّته، وشكل لحيته التي لابد أن تمر على حلاق تركيّ مساء كلّ يوم، ويمكن أن تستنتج كذلك هواياته التي ليست من بينها بالطبع قراءة الكتب.

بعد السلام والسؤال عن الأخبار، وبعد أن تطلب منه الإجابة يأتي الجواب الخالد: " ماشي خيارات"؟  فتردّ عليه المذيعة : عندك خيارين. دمشق، أم بغداااااااااااااد، أم بغداااااااااااد. بعد فترة من الحيرة والتردّد برغم كلّ المحاولات الجبّارة التي بذلتها المذيعة للتلميح بالإجابة، إلا أنّ صاحبنا : نتوكّل على الله ونقول دمشق.

على قناة أخرى وبعد أن أسهبت المذيعة في شرح قصّة المثل أتى السّؤال كالآتي : أكمل المثل التالي "عادت حليمة لـعادتها....". يتّصل أبو فهمي وهو متصل لا يختلف عن نظيره السابق. اعطنا الإجابة يا أبا فهمي، الإجابة هي البخل.

 تنذهل المذيعة من الإجابة وتقول لأبو فهمي: أنت بالتأكيد تمزح معنا، هيا قول الإجابة الصحيحة. يفكّر أبو فهمي قليلاً ويستحضر كلّ الموسوعات الثقافيّة التي يحتفظ بها في عقله الباطن ليجيب مرّة أخرى: زين نقول السّمن؟

المسكينة لا تعلم أنّ أبو فهمي كان جادّاً في إجابته، وأنّه باستثناء بضعة معلومات عن ميسّي ورونالدو وريال مدريد وبرشلونه وكأس العالم، والواتساب، وطرق تزيين السيّارات، وأهم محلات الحلاقة فإنّ الحصيلة الثقافيّة الجادّة تكاد تكون فارغة، وليس وحده من يعاني من ذلك، بل كثير من أبناء هذا الجيل الذين لم يقرأوا مجلّة ماجد، ولم يتربّوا على المسابقات الثقافيّة المدرسيّة أو المجتمعيّة. هو باختصار الجيل الذي يصطدم بك في كلّ مرّة تذهب إلى مجمّع تجاري، أو تمشي في ممرّات إحدى الكلّيّات الخاصّة والعامّة كذلك، أو لا يعطيك وجهاً في أيّ جلسة تجمعكم معاً لأنّه مشغول (لشوشته) بمحادثة إلكترونيّة مع مستقبل وهمي.

تذكّرت كيف كنّا نتعارك من منّا سيقرأ مجلّات "ماجد" أو " باسم" أو "مشاعل" أوّلاً، ومن منّا سيسعده الحظ للمشاركة في مسابقة المدرسة، أو الفريق، أو النادي الثقافيّة. تذكرت كذلك افتخاري وفرحتي في كلّ مرة أحصي فيها عدد المشاركين من السلطنة في البرامج الثقافيّة التي تعدّها إذاعة كالبي بي سي، أو الفائزين في مسابقة مجلّة " العربي" الثقافيّة، أو المساهمات الثقافيّة  والرسومات العمانيّة المنشورة في مجلات الأطفال السالف ذكرها.

(2)

أمّا الإعلانات التجاريّة المسموعة فذاك موّال آخر، وللأسف فإنّ كثيراً من هذه الإعلانات تمتاز بالسماجة وثقل الدم، وتحاول أن تصوّر المستهلك العماني وكأنّه مستهلك ساذج يلهث وراء أيّ عرض، ويصدّق أيّ كلام يقوله هذا الإعلان أو ذاك، كالإعلان الذي يبشّر فيه الزوج زوجته بأنّ مشاكلهم الماليّة في طريقها للحلّ من خلال زيارتهم للمحلّ الفلاني وتعبئتهم لكوبون الشراء الذي سيؤهّلهم للحصول على عشرة آلاف ريال مرّة واحدة، وكأنّه لا كوبونات أخرى سيتم تعبئتها من قبل الآخرين، وبالأخص من العمالة الوافدة، أو كالإعلانات ذات الجينات  الواحدة والتي تتحدّث عن فتاة  تخبر صديقاتها عن منتج أو عرض معيّن فتبادر الأخريات في نفس التوّ واللحظة إلى (الركض) نحو مصدر ذلك العرض أو المنتج للحصول عليه قبل فوات الأوان.

إعلان آخر يتحدث عن انتهاء مشكلة المواطن السكنية، وقدرته (أخيراً)على بناء منزل العمر، وذلك من خلال العرض (الخيالي) الذي يقدمه هذا البنك من خلال فوائده البسيطة،  والغريبة أنّ هذا المواطن يصدّق العرض ويركض جرياً كما يفعل الآخرون في بقيّة الإعلانات، نحو البنك وكأنّه لم يتعلّم من دروس الماضي في تعاملاته البنكيّة، وكأنه لا يعيش وسط مجتمع يعاني أغلب أفراده من التزامات مصرفيّة تكاد تقصم الظهر والوسط كذلك، أو تلك المؤسّسة المتخصّصة في الأدوات المنزليّة والتي اختارت لإعلاناتها عن تخفيضاتها السنويّة الوهميّة شخصاً علاقته باللغة العربيّة كعلاقتي برياضة (اليوجا)، وبعد أن كنت أغيّر المؤشر في كلّ مرّة أسمعه فيها، أصبحت متلهّفاً لانتظار وصلته الإذاعيّة كي أتخيّل ردّة فعل الخليل بن أحمد وسيبويه وبقيّة طلابهم تجاه هذا الإعلان لو سمعوه، وكنت أسأل نفسي في كلّ مرّة أسمعه: هل الرجل سيء جدّاً في النّحو إلى هذا الحدّ البشع، أم إنّها حيلة من المؤسّسة المعلنة لاجتذاب أكبر عدد من المستهلكين؟

المشكلة في بعض هذه الإعلانات أنّها تحاول تقمّص دور (السوبرمان) أو المنقذ من المشاكل المختلفة للمستهلك، أو أن تلعب دور مؤسّسة الضمان الاجتماعي، المشكلة كذلك أن بعض من يقدّمها أو يشارك فيها يكاد يتخلّى عن ضميره ورسالته مقابل العائد المادّي الذي سيحصل عليه، فجلّهم يعلمون أنّ هذه الإعلانات لا تعبّر عن حقيقة المضمون، وأنّ هدفها هو جذب المستهلك بأيّ طريقة كانت. وقد نعذر البعض في بعض الإعلانات التي قد لا تؤثّر على صحّة وسلامة المستهلك، ولكن المصيبة في من يشترك في تقديم إعلان حول منتج غذائي أو تجميليّ مضر بالصحّة أو بالجسد، ثمّ يأتي ليقول لك إنّه منتج طبيعي 100%، أو أن يصوّر لك لهفة أطفال العائلة على تناوله في وجبات الطعام الرئيسيّة وهو يعلم علم اليقين أضرار هذا المنتج وتأثيراته.

من أغرب الإعلانات التي سمعتها ذلك الإعلان الذي يقول " سيّارة لك، وسيّارة للعيلة.. السما مطّرت ذهب وأنا ما أدري"، ولعلّ وجه الغرابة في هذا الإعلان يعود إلى أنّ كلمة (العيلة) باللهجة العامّيّة العمانيّة تعني "بنت البقرة".

ولا أعلم كيف تمرّ هذه الإعلانات من مقصّ الرقيب دون إبداء أيّة ملاحظات كهذه. وهل أصبح المواطن ساذجاً إلى هذا الحد في نظر البعض ؟ فلنكثر من  هذه الإعلانات دامها ستساهم في حل مشاكلنا بهذه البساطة.

(3)

في الوقت الذي يخشى فيه المجتمع من التأثير السلبي لبعض أدوات التواصل الاجتماعي وتحديداً (الواتساب) إلا أنّ هناك بعض المجموعات الشبابيّة التي تجمع نخبة من جيل الخبرة والشباب من مختلف التوجهات الفكرية والثقافية والعلمية التي استطاعت أن تطوّع وسيلة كهذه كي تكون أداة ايجابيّة يتم استغلالها في مناقشة القضايا المجتمعيّة المختلفة، وطرح الحلول والمبادرات ، بل إنّ بعضها قد نجح في الخروج من فضاء التكنولوجيا إلى حيّز الواقع، عبر إدارة وتنظيم  سلسلة من الفعاليّات الفكريّة والاجتماعيّة المختلفة، الرامية إلى الإسهام في دفع الحراك الشعبي وتفعيل الحوار الوطني.

ما لمسته الأسبوع الفائت من دعاية وإعلان وتنظيم وإدارة وحسن تعامل في ندوة "التراث والثقافة العمانية " التي دشّنها صالون صوت عمان الثقافي، كباكورة لفعالياته الثقافيّة خلال هذا الشّهر الفضيل كان فوق مستوى الوصف، فمن يرى ذلك التنظيم والحضور لن يعتقد مطلقاً أنّ وراء تلك الفعاليّة مجموعة من الشباب جمعهم الفضاء الإلكتروني عبر تطبيق الواتساب. ذلك أن الفعاليّة كانت فوق قدرة مؤسّسات بأكملها، فما بالك بمجموعة من الشباب المتحمّس.

حقّاً إنّها عمان.

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

 

الثلاثاء، 8 يوليو 2014

"حديث الشموع"


لم يكن هناك من صوت يعلو فوق صوت الشموع مساء الاثنين الفائت في العامرات، تلك الولاية المحسوبة اسماً على محافظة مسقط، وهي ليست كذلك على أرض الواقع، وبدلاً من أن يهدي الجيران بعضهم بعضاً طبقاً من (الفتّة)، أو شيئاً من (اللقيمات)، أو أيّ شيء له علاقة بالشهر الفضيل كما جرت العادة الجميلة التي نتذكّرها شهراً واحداً طوال العام ثمّ ننساها بقيّة السنة، وكأن الفقراء والمحتاجين لم يخلقوا سوى في رمضان، وكأنّ حقوق الجيرة لا يصحّ أن نتذكّرها سوى في هذه الأيام، كانت الشموع هي البديل عن كلّ تلك الأطباق اللذيذة، وكان منظراً عاديّاً أن تفتح باب بيتك لتجد أبناء الجيران وهم يحملون كيسة بها بعض الشموع وعلبة كبريت. أمّا السّبب وراء تصدّرها المشهد في ذلك اليوم فهو تفاجئ جزء كبير من سكّان تلك الولاية بانقطاع التيّار الكهربائي عن منازلهم منذ الثالثة والنصف عصراً فجأة ( بدون إحم ولا دستور) ولأجل لا يعلمونه، ولأسباب لا يعلمون عنها شيئاً كذلك.

وقد يقول البعض: لماذا كلّ هذا التهويل لمجرّد انقطاع الكهرباء لعدّة ساعات (أو حتّى لأيّام)، صحيح أنّنا في شهر صوم يمتاز بطول ساعات نهاره، وصحيح أنّ  العامرات هي حالة استثنائيّة عندما يأتي الحديث عن درجات الحرارة، بفضل سيوحها الجرداء، وجبالها وهضابها ووهادها السّوداء التي تخزّن الحرارة نهاراً لتنفثها ليلاً كتنّين أسطوري، ولكن كلّ هذا وذاك لا يلغي أن ننظر إلى الجانب الممتلئ من الكأس، فلعلّ هناك من حكمة وجوانب ايجابيّة أراد المسئولون عن الكهرباء غرسها فينا من خلال قطع التيّار لأكثر من خمس ساعات متواصلة، ولم يجدوا أفضل من هذه الأيّام المباركة لذلك، كالإحساس بالآخرين في الدول التي تنقطع فيها الكهرباء بالساعات الطّويلة والأيام، أو تحقيق شيء من مقاصد هذا الشهر الفضيل من خلال التعود على الصبر والتحمل، أو ربّما العودة لحياة البساطة التي فقدناها، عندما كنّا نفطر على ضوء سراج خافت في ألفة وحميميّة مفتقدة.

صحيح أنّ تلك الدول التي تعاني من انقطاعات الكهرباء الطويلة لا تتمتّع بأجواء خلابة كجوّ العامرات، وصحيح أنّ السبب غالباً وراء تلك الانقطاعات هي ظروف قهريّة كالحروب والتوتّرات الأمنيّة، ومعلوم أنّ تحقيق مقاصد الشهر الفضيل لها ألف وجه ليس من بينها تعذيب الناس بقطع  مرفق حيويّ كالكهرباء، ومؤكّد أن طبيعة تصميم البيوت الحاليّة، وصغر مساحة (الأحواش) لا تسمح بقضاء أوقات حميميّة كتلك التي كان يقضيها آبائنا في الباحات المفتوحة، تحت ظلال أشجار وارفة لم يعد لها وجود في عالمنا الحالي، وبالقرب من مصادر تلطيف وتبريد كالأفلاج والعيون، ولكن كلّ هذا لا ينبغي أن يجعل نيّتنا سيّئة فنسيء الظنّ بالآخرين لمجرّد أنّ الكهرباء قد قطعت لبضعة ساعات.

صحيح أنّي حاولت الاتصال أكثر من 5678643257 مرّة بمكتب طوارئ كهرباء العامرات دون أن أتلقّى أيّ رد منهم، وصحيح كذلك أنني اتصلت عدد مرات مشابهة للرقم السابق بالخطّ الساخن ليأتيني الردّ في كلّ مرّة بالعبارة الخالدة   "جميع موظّفينا مشغولون بخطوط أخرى"، وصحيح أيضاً أنّني قد( استعوضت )الله في بضعة كيلو جرامات من اللحم البلدي، والسّمك الطازج التي تعرضت للتلف، وصحيح أنّي أخذت أطفالي لأحد المجمّعات التجاريّة المكيّفة بالرغم من حاجتي وقتها للراحة من جرّاء يوم عمل مرهق، إلا أنّ هذا كلّه يجب ألا يفتّ في عضدي، وعليّ أن أبقى (ريلاكس) طوال الوقت، وأن أجد لإخواني (مسئولي الكهرباء) سبعين عذراً، وأنا شخصيّاً سامحتهم برغم أنّهم لم يبلغوني برغبتهم المسبقة في قطع التيّار، ولم يردّوا على اتّصالاتي المتكرّرة، وفداهم الّلحم والسّمك الذي فسد.

المشكلة للأسف في البعض الذي يحاول أن  يكون سوداويّاً طوال الوقت، وأن يصنع من الحبّة قبّة كما يقال،  فيأتي ليصدّع رأسك  بعبارات  وجمل  وأسئلة من قبيل : أين هي ثقافة إدارة الأزمة؟ وكيف لمرفق حيوي أن ينقطع لساعات أو لأيّام دون أيّة حلول احتياطيّة؟ وما ذنب كثير من البسطاء الذين ربما يكونوا قد استلفوا من أجل شراء بضعة كيلوغرامات من اللحم لا يأكلونه سوى في الأعياد والمناسبات بعد أن تجاوز الكيلو البلدي منه حاجز السبعة ريالات ثمّ يذهب كلّ هذا هباء منثورا؟ وما ذنب كبار السنّ والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصّة كذلك؟ ولماذا لا أملك الحقّ كمواطن أن أقاضي شركات الكهرباء والمياه والاتّصالات في حالة تعرّضي لأضرار نفسيّة، أو تعرّض بعض أدوات منزلي للتلف، بينما هم يملكون الحقّ في أن يقطعون الخدمة في أيّ وقت يشاؤون؟ ولماذا ليس من حقّي كذلك أن أحظى بأدنى درجات الشفافيّة من قبل هذه الشركات كأن يتمّ الردّ على  اتصالاتي المتكرّرة، أو أن يصلني (مسج) بتوقيتات القطع كي أتمكّن من أخذ احتياطاتي اللازمة؟ بل ولماذا تتكرّر هذه المواقف دون أيّة وقفة جادّة، أو محاولات لتصحيح مسار عمل تلك الشركات؟

أنت قلتها بنفسك: لماذا تتكرّر هذه المواقف بنفس الصورة. راجع سجلّ انقطاعات المياه والكهرباء خلال السنوات الأخيرة لتكتشف أنّ كلّ ما تتحدّث عنه من مصطلحات فضفاضة كثقافة إدارة الأزمة وغيرها ما هي إلا وهم. لو كانت هناك إدارة أزمة لما انفجرت أنابيب المياه مرّة كلّ ثلاثة أشهر وبنفس النسخة الكربونيّة لنظيرتها السابقة، ولما انقطعت الكهرباء قبل حوالي سنتين عن قطاع جعلان لمدّة ثلاثة أيّام متوالية سكنوا خلالها الفنادق والشقق الفندقيّة في الولايات المجاورة، ولما ولما...ألخ.

يا عمّ كبّر دماغك. أيّ إدارة أزمة تتحدّث عنها.

 

"رمضانيّات"


(1)

في إحدى برامج المسابقات الإذاعيّة التي تصحو فجأة  في هذا الشهر الفضيل من بياتها السّنوي، طرحت مذيعة إحدى القنوات الإذاعيّة الخاصّة هذا السؤال: ما عاصمة الخلافة العربيّة الإسلاميّة زمن الدولة العبّاسيّة؟

لم تكد المذيعة تنتهي من إكمال طرح السؤال حتّى يتّصل أحدهم، وهو نموذج للشاب الذي تستطيع وأنت تسمع نبرات صوته أن تتخيّل لون دشداشته وكمّته، وشكل لحيته التي لابد أن تمر على حلاق تركيّ مساء كلّ يوم، ويمكن أن تستنتج كذلك هواياته التي ليست من بينها بالطبع قراءة الكتب.

بعد السلام والسؤال عن الأخبار، وبعد أن تطلب منه الإجابة يأتي الجواب الخالد: " ماشي خيارات"؟  فتردّ عليه المذيعة : عندك خيارين. دمشق، أم بغداااااااااااااد، أم بغداااااااااااد. بعد فترة من الحيرة والتردّد برغم كلّ المحاولات الجبّارة التي بذلتها المذيعة للتلميح بالإجابة، إلا أنّ صاحبنا : نتوكّل على الله ونقول دمشق.

على قناة أخرى وبعد أن أسهبت المذيعة في شرح قصّة المثل أتى السّؤال كالآتي : أكمل المثل التالي "عادت حليمة لـعادتها....". يتّصل أبو فهمي وهو متصل لا يختلف عن نظيره السابق. اعطنا الإجابة يا أبا فهمي، الإجابة هي البخل.

 تنذهل المذيعة من الإجابة وتقول لأبو فهمي: أنت بالتأكيد تمزح معنا، هيا قول الإجابة الصحيحة. يفكّر أبو فهمي قليلاً ويستحضر كلّ الموسوعات الثقافيّة التي يحتفظ بها في عقله الباطن ليجيب مرّة أخرى: زين نقول السّمن؟

المسكينة لا تعلم أنّ أبو فهمي كان جادّاً في إجابته، وأنّه باستثناء بضعة معلومات عن ميسّي ورونالدو وريال مدريد وبرشلونه وكأس العالم، والواتساب، وطرق تزيين السيّارات، وأهم محلات الحلاقة فإنّ الحصيلة الثقافيّة الجادّة تكاد تكون فارغة، وليس وحده من يعاني من ذلك، بل كثير من أبناء هذا الجيل الذين لم يقرأوا مجلّة ماجد، ولم يتربّوا على المسابقات الثقافيّة المدرسيّة أو المجتمعيّة. هو باختصار الجيل الذي يصطدم بك في كلّ مرّة تذهب إلى مجمّع تجاري، أو تمشي في ممرّات إحدى الكلّيّات الخاصّة والعامّة كذلك، أو لا يعطيك وجهاً في أيّ جلسة تجمعكم معاً لأنّه مشغول (لشوشته) بمحادثة إلكترونيّة مع مستقبل وهمي.

تذكّرت كيف كنّا نتعارك من منّا سيقرأ مجلّات "ماجد" أو " باسم" أو "مشاعل" أوّلاً، ومن منّا سيسعده الحظ للمشاركة في مسابقة المدرسة، أو الفريق، أو النادي الثقافيّة. تذكرت كذلك افتخاري وفرحتي في كلّ مرة أحصي فيها عدد المشاركين من السلطنة في البرامج الثقافيّة التي تعدّها إذاعة كالبي بي سي، أو الفائزين في مسابقة مجلّة " العربي" الثقافيّة، أو المساهمات الثقافيّة  والرسومات العمانيّة المنشورة في مجلات الأطفال السالف ذكرها.

(2)

أمّا الإعلانات التجاريّة المسموعة فذاك موّال آخر، وللأسف فإنّ كثيراً من هذه الإعلانات تمتاز بالسماجة وثقل الدم، وتحاول أن تصوّر المستهلك العماني وكأنّه مستهلك ساذج يلهث وراء أيّ عرض، ويصدّق أيّ كلام يقوله هذا الإعلان أو ذاك، كالإعلان الذي يبشّر فيه الزوج زوجته بأنّ مشاكلهم الماليّة في طريقها للحلّ من خلال زيارتهم للمحلّ الفلاني وتعبئتهم لكوبون الشراء الذي سيؤهّلهم للحصول على عشرة آلاف ريال مرّة واحدة، وكأنّه لا كوبونات أخرى سيتم تعبئتها من قبل الآخرين، وبالأخص من العمالة الوافدة، أو كالإعلانات ذات الجينات  الواحدة والتي تتحدّث عن فتاة  تخبر صديقاتها عن منتج أو عرض معيّن فتبادر الأخريات في نفس التوّ واللحظة إلى (الركض) نحو مصدر ذلك العرض أو المنتج للحصول عليه قبل فوات الأوان.

إعلان آخر يتحدث عن انتهاء مشكلة المواطن السكنية، وقدرته (أخيراً)على بناء منزل العمر، وذلك من خلال العرض (الخيالي) الذي يقدمه هذا البنك من خلال فوائده البسيطة،  والغريبة أنّ هذا المواطن يصدّق العرض ويركض جرياً كما يفعل الآخرون في بقيّة الإعلانات، نحو البنك وكأنّه لم يتعلّم من دروس الماضي في تعاملاته البنكيّة، وكأنه لا يعيش وسط مجتمع يعاني أغلب أفراده من التزامات مصرفيّة تكاد تقصم الظهر والوسط كذلك، أو تلك المؤسّسة المتخصّصة في الأدوات المنزليّة والتي اختارت لإعلاناتها عن تخفيضاتها السنويّة الوهميّة شخصاً علاقته باللغة العربيّة كعلاقتي برياضة (اليوجا)، وبعد أن كنت أغيّر المؤشر في كلّ مرّة أسمعه فيها، أصبحت متلهّفاً لانتظار وصلته الإذاعيّة كي أتخيّل ردّة فعل الخليل بن أحمد وسيبويه وبقيّة طلابهم تجاه هذا الإعلان لو سمعوه، وكنت أسأل نفسي في كلّ مرّة أسمعه: هل الرجل سيء جدّاً في النّحو إلى هذا الحدّ البشع، أم إنّها حيلة من المؤسّسة المعلنة لاجتذاب أكبر عدد من المستهلكين؟

المشكلة في بعض هذه الإعلانات أنّها تحاول تقمّص دور (السوبرمان) أو المنقذ من المشاكل المختلفة للمستهلك، أو أن تلعب دور مؤسّسة الضمان الاجتماعي، المشكلة كذلك أن بعض من يقدّمها أو يشارك فيها يكاد يتخلّى عن ضميره ورسالته مقابل العائد المادّي الذي سيحصل عليه، فجلّهم يعلمون أنّ هذه الإعلانات لا تعبّر عن حقيقة المضمون، وأنّ هدفها هو جذب المستهلك بأيّ طريقة كانت. وقد نعذر البعض في بعض الإعلانات التي قد لا تؤثّر على صحّة وسلامة المستهلك، ولكن المصيبة في من يشترك في تقديم إعلان حول منتج غذائي أو تجميليّ مضر بالصحّة أو بالجسد، ثمّ يأتي ليقول لك إنّه منتج طبيعي 100%، أو أن يصوّر لك لهفة أطفال العائلة على تناوله في وجبات الطعام الرئيسيّة وهو يعلم علم اليقين أضرار هذا المنتج وتأثيراته.

من أغرب الإعلانات التي سمعتها ذلك الإعلان الذي يقول " سيّارة لك، وسيّارة للعيلة.. السما مطّرت ذهب وأنا ما أدري"، ولعلّ وجه الغرابة في هذا الإعلان يعود إلى أنّ كلمة (العيلة) باللهجة العامّيّة العمانيّة تعني "بنت البقرة".

ولا أعلم كيف تمرّ هذه الإعلانات من مقصّ الرقيب دون إبداء أيّة ملاحظات كهذه. وهل أصبح المواطن ساذجاً إلى هذا الحد في نظر البعض ؟ فلنكثر من  هذه الإعلانات دامها ستساهم في حل مشاكلنا بهذه البساطة.

(3)

في الوقت الذي يخشى فيه المجتمع من التأثير السلبي لبعض أدوات التواصل الاجتماعي وتحديداً (الواتساب) إلا أنّ هناك بعض المجموعات الشبابيّة التي تجمع نخبة من جيل الخبرة والشباب من مختلف التوجهات الفكرية والثقافية والعلمية التي استطاعت أن تطوّع وسيلة كهذه كي تكون أداة ايجابيّة يتم استغلالها في مناقشة القضايا المجتمعيّة المختلفة، وطرح الحلول والمبادرات ، بل إنّ بعضها قد نجح في الخروج من فضاء التكنولوجيا إلى حيّز الواقع، عبر إدارة وتنظيم  سلسلة من الفعاليّات الفكريّة والاجتماعيّة المختلفة، الرامية إلى الإسهام في دفع الحراك الشعبي وتفعيل الحوار الوطني.

ما لمسته الأسبوع الفائت من دعاية وإعلان وتنظيم وإدارة وحسن تعامل في ندوة "التراث والثقافة العمانية " التي دشّنها صالون صوت عمان الثقافي، كباكورة لفعالياته الثقافيّة خلال هذا الشّهر الفضيل كان فوق مستوى الوصف، فمن يرى ذلك التنظيم والحضور لن يعتقد مطلقاً أنّ وراء تلك الفعاليّة مجموعة من الشباب جمعهم الفضاء الإلكتروني عبر تطبيق الواتساب. ذلك أن الفعاليّة كانت فوق قدرة مؤسّسات بأكملها، فما بالك بمجموعة من الشباب المتحمّس.

حقّاً إنّها عمان.

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com