الاثنين، 11 ديسمبر 2017

(مقهى الفتوّة)

أشياء كثيرة يمكن أن تجذبك في مدينة الألف مئذنة، والمتحف المفتوح لحضارات عريقة توالت على هذه المدينة طوال سبعين قرناً من الزمان، وذكريات عديدة ستبقى في ذاكرة زيارتك لها مهما طال الزمان أو قصر. هي المدينة الساحرة التي يعاودك الحنين إليها حتّى ولو كنت قد حلفت في آخر مرةٍ أنّك لن تقترب من أسوارها، ولن تطأ قدمك ثراها! إنها القاهرة الخالدة حيث النيل، والأهرام، وطعم الفول، وروائح البهارات، وأصوات المآذن، وأجراس الكنائس وترانيمها، وحيث المقطّم بأساطيره، والجماليّة بحسينها وأزهرها، والغوريّة بوكالتها العتيقة، وعماد الدين بمسارحه وسينماته، وطلعت حرب حيث جروبّي، وعمر أفندي وصيدناوي وشيكوريل ومكتبتي مدبولي والشروق، وحيث شارع الهرم، وشبرا، ودار الكتب، والمتحف المصري، ومتحف الآثار الإسلامية، وقلعة صلاح الدين، وغيرها من المعالم التي حوّلت المدينة إلى كتاب تاريخٍ وفن ومتحفٍ ومعرض فنونٍ في آنٍ واحد!

في قلب المشهد الحسيني وخان الخليلي حيث القاهرة الفاطميّة بعبقها الشرقي الأصيل، ورائحة البخور الذي لن تشمّه إلا في قاهرة المعزّ، وكأنه ماركة مسجّلة باسمها، وحيث الأزهر الشريف قبلة العلماء والمتعلّمين على مدى قرون طويلة، ومرقد الإمام الحسين، والمحلّات الشرقية التي مازال أصحابها يتوارثون المهن اليدويّة من نحاسيات وجلود وعطور وغيرها في إصرار عجيب على استمراريتها وكأنّها جزء من حياة، وحيث يختلط البشر فقيرهم وغنيّهم في تناقضٍ مؤلم! يقع مقهى الفيشاوي أحد أشهر المقاهي العربيّة قاطبة، وأكثرها ذكراً في كتب الأدب والرحلات.
 
الطريق إلى المقهى من الميدان الحسينيّ يمرّ عبر زقاقٌ ضيّقٌ زيّنت جنباته بقطع ديكور شاهدة على حضارة مصر الفرعونية الضاربة في عمق التاريخ، وتصطفّ على جانبيه طاولات وكراسي خشبية امتلأت بعشرات السيّاح الأجانب، وبعضٌ من أبناء البلد، ولوحات خشبيّة عدّة كتب عليها بالأزرق والأبيض والذهبي اسم المقهى الذي أسّسه فهمي الفيشاوي عام 1797 من خلال ركن صغير ما لبث أن توسّع ليضم ثلاث غرفٍ يوماً ما قلّصتها المحافظة بعد ذلك إلى حجمه الحالي، تعرّف بالمكان وكأنّه بحاجة إلى من يعرفه أو يسأل عنه بعد أن طغت شهرته أرجاء المعمورة، وسار بذكره الركبان، وقلّد اسمه المقلّدون في كل بقعة يوجد بها مصري، لكن شتّان بين الأصل والنجاتيف!

يعدّ المقهى بكل ما يحتويه من تحف وآثار وكأنه مُتحف شرقيّ، فهو يجسّد بشكل حقيقيّ حضارة المكان الذي أقيم عليه، وكأنّه مصبّ لكل ما تنتجه مصانع وورش ومحلات خان الخليلي والموسكي والغوريّة، هناك أربعة أبواب مفتوحة، وأقواس ملوّنة بالأبيض والبنّي تفصل أركان المقهى عن بعضها، ومشربيّات من خشب أسود كأنّه المسك، وأرابيسك ومشغولات خشبيّة تنمّ عن مدى الرقيّ الذي وصل إليه فنّ عمارة الخشب في مصر، وفوانيس ونجف وثريّات ضخمة يبدو أنها كانت يوماً ما تزيّن قصر أمير تركيّ، في الرفّ علّقت أواني قديمة يبدو أنها كانت تستعمل في المقهى يوماً ما، في حين تزيّن المقهى من جوانبه مرايا بلجيكيّة كبيرة يقال إن الحاج فهمي حصل عليها من القصور الملكية التي كانت تجدد مفروشاتها وأثاثها، ويقال كذلك أن الحاج كان يراقب من خلالها عماله! بينما توزّعت على جدرانه عدداً من الصور لصاحب المقهى ولشخصيات عديدة من سياسيين وفنّانين وأدباء فهذه صورة الملك فاروق، وتلك أخرى لنجيب محفوظ أحد أشهر روّاد المقهى والذي خلّده في رواياته الشهيرة، وثالثة لفريد الأطرش، ورابعة وخامسة وعاشرة لفريد شوقي، ومحمد فوزي، وكمال الشناوي، وعادل إمام، وغيرهم، وهناك صورة كبيرة للحاج فهمي الفيشاوي وهو يمتطي حصانه.


لا يمكن زيارة مصر دون أن يشتمل جدولها على زيارة مقهى الفتوّة في قلب الحسين وتذوّق طعم الشاي بالنعناع الذي يقدّم في إبريقٍ زجاجيّ أزرقٍ داكن موضوع على صينيّة مذهّبة كعلامة جودة تميّز المقهى عن غيره ، فربما لن تجد مكاناً أجمل منه للتأمّل ومطالعة أحوال البشر مهما تمّ اغراءك بمقاهي (مودرن)يطوف بها غلمانٌ متشيّكون، ومهما كان زحام الممرّ المجاور، ومهما تردّدت على مسمعك عبارة "وسّع يا باشا"، ومهما تضايقت من (رزالة)المتسوّلين وعارضي الكتب والحقائب والجلود والمسابح والعطور الرديئة بكلّ ثقل دمهم وإلحاحهم الشديد، ستكون تلك الزيارة تجربةٌ غير قابلةٍ للنسيان، وستتداعى الذكريات كسيلٍ جارف، وتتراءى أمام مخيّلتك صورٌ عديدة اختزنتها ذاكرتك من أفلامٍ، وأغانٍ، وكتبٍ، ومجلاتٍ، وحكاوى معلمين   شاهدة على تأثير هذا البلد العظيم في نفوس العرب، وإسهامه الحضاريّ في نهضتهم وفكرهم.

الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

(أرض السّمر والنيل)

خلال الفترة الزمنيّة الممتدّة بين عامي 1981 منذ رؤيتي لأول سودانيين في حياتي، وأقصد بهم الدفعة التي كانت تضم عدداً من عمالقة التدريس أدباً وخلقاً وفضلاً وعلماً من أمثال عبد المنعم محمد، وعلي محمد إبراهيم، ومحمد إبراهيم الشمبري وغيرهم، وحتى 2017 عندما زرت السودان، مروراً بالعشرات من النماذج السودانيّة الجميلة التي احتفظت بأسمائهم ذاكرتي سواء كانوا معلمين، أم أساتذة جامعة وأطباء وقضاة وصحفيين، أم رفاق وزملاء عمل، أم جيران سكن وغيرهم من النماذج الجميلة، كان انطباعي الرئيس عن السودانيين هو أن السوداني بسيطٌ مثلنا، وأنه كريمٌ وودود، وأنه لا يمكن أن تجد سودانياً سيئاً على الإطلاق..  وأنه سيدخل الجنّة بدون حساب!

وعندما حانت الفرصة لزيارة هذا البلد العربيّ كان تمسّكي بها بالنواجذ، وكنت أعدّ الأيام كي يأتي يوم الخامس عشر من أكتوبر موعد سفري وكأنني طفلٌ ينتظر لعبةً طالما تمناها منذ سنين، أو كأنني عاشقٌ أضناه الوجد لرؤية الحبيب، للتعرّف على بلدٍ غامضُ الملامح برغم إحساسي بقربه الشديد، ولكي أؤكد تلك الانطباعات التي أصبحت تكاد تكون حقيقة لا تقبل التزحزح.

وعندما غادرت أرض السودان بعد أيام قليلةٍ من مكوثي بها (على الرغم من أنني مددت أمد الرحلة ليلتين مع وعدٍ بزيارةٍ قريبة) كان أبرز ما خرجت به هو أن كل ما اعتقدته سابقاً لا يساوي شيئاً مع ما رأيت، وأن كل انطباعاتي السابقة عن السودان وشعبها لا توازي ما به قد خرجت!

كثيرةٌ هي الأشياء التي زادتني دهشةً وانبهاراً في هذا البلد الجميل، وإذا كانت الطبيعة الساحرة بكل تفاصيلها قد أبهرتني، فإن الشخصيّة السودانيّة ذاتها كانت عنوان الرحلة وعلامتها البارزة، ومهما كتبت عن تلك الشخصية فلن أكاد أعطيها حقّها ولو قليلاً، فالسوداني معتزٌّ بنفسه إلى حدّ لا يصدّق، وعلى الرغم من أنها زيارتي الأولى لبلدً لا أعلم عنه الكثير على أرض الواقع، وعلى كثرة تجوالي في الأسواق والمحلات وتعاملي مع العديد من أصحابها منذ أول دقيقة لي في الخرطوم، إلا أنني لم أجد من يحاول استغلال جهلي بالأسعار على اعتبار أنني سائح ولو في جنيهٍ واحد، بل إنني كنت أتحايل أحياناً على بعض الباعة البسطاء أن يتركوا ما تبقى من قيمة ما اشتريته بحوزتهم إلا أنهم كانوا يردونه بكل إباء رافضين أخذه دون مقابل! حتى المتسوّلين (القلّة) في شوارع العاصمة اكتشفت بعد أن مستغرباً قبلها، أنهم ليسوا سودانيين! شتّان بين سلوكٍ جماعيّ كهذا وبين ما نراه في دولٍ عربيةٍ بل وغربيًةٍ كذلك!

والسوداني كريمٌ إلى حدِّ السّفَه، يعزم عليك من أول لقاء، جرّب أن تتصل بصديقٍ لك هناك أو حتى بشخصٍ من طرفه تراه لأول مره لترِ الكرم السوداني على أصوله! وطوال فترة إقامتي في الخرطوم كان هاجسي الأكبر هو التخلّص من محاصرة المحبّين السودانيّين وموائدهم الزاخرة بأطايب الطعام ليل نهار. ولأول مرة خلال رحلاتي العديدة شرقاً وغرباً يدعوني أحدٌ من أهل تلك الدول إلى منزله حيث تعرفت على تفاصيل البيت السوداني التي تكاد تشبه إلى حد التطابق تفاصيل بيوتنا الخليجيّة سواءً من حيث التصميم أو حتى الطقوس اليوميّة لتفاصيل الحياة، ولولا الجلابيّة و(العرّاقة) التي كان يرتديها من حولي لاعتقدت أنني في عمان وفي بيت مضيّفي الصديق الدكتور هيثم حسن تذوقت لأول مرة طعم القرّاصة، والويكة، والمُلّيحة، والشيّة، والقاورما، والفول بنكهته السودانية، والفسيخ، وتلذذت بمذاق (السكسكانيّة) العجيب. أتحدّث عن الخرطوم العاصمة، فما بالكم بالريف وأهل الريف ممن لم يتلوثوا بزيف المدنيّة بعد!!

والسوداني يحبّ العمل ويخلص من أجله، وفي المؤتمر الذي حضرته في فندق روتانا أحد أجمل وأشيك فنادق الخرطوم كانت القاعة على سعتها مكتملة العدد، وكان الحضور (وأكثرهم من السودانيين) ينصتون إلى أوراق العمل التخصصيّة منذ الصباح وحتى الثالثة مساءً دون ملل أو تبرّم، وكانت مداخلاتهم دقيقةٌ ومركّزة، وما أثار دهشتي هو بعدهم عن الكراسي الأولى تاركينها لبعض الباحثين عن الوجاهة من غيرهم، وما أدهشني أكثر هو تعريف بعض منظمي الفعاليّة بعددٍ من كبار علماء السودان وقاماتها العلميّة ممن كانوا يجلسون في المقاعد الخلفيّة بكلِّ تواضع العلماء، وربما ما كان لي أن أعرفهم لولا تعريف المنظمين بهم، وقد عرفت منهم عدداً مّمن شغلوا مناصب علميّة مرموقةٍ في جامعات الغرب، وأنشأوا وأداروا عدداً من المؤسسات البحثيّة الكبيرة!

والسوداني متديّنٌ بالفطرة أو ما نسميه بإيمان العجائز، متصّوفٌ بطبعه، بل إن أكبر الأحزاب السودانيّة أسستها شخصياتٌ دينيّةٍ كالمهدي، والميرغني وغيرهم، وتعد قباب الأولياء وزواياهم مزاراً لا يمكن لزائر السودان تجاهله، وتكاد حلقات الذكر والتصوّف والموالد تغصُّ بروّادها من كافّة الطبقات، ولا تكاد تمر في شارع أو حارة إلا وتجد أكواز الماء مصفوفة في جانب ما وبجوارها بساط أخضرٌ أكبير، وعند كل أذان ترى الجموع قد توافدت، والصفوف قد اكتملت لأداء الصلاة يعود كلٌ منهم بعدها إلى عمله.

 والسوداني عاشقٌ للجَمال، محبٌ للفرفشة والابتسامة، بشوشٌ كأن الهموم لا تعرفه، ودودٌ كأنك أسديته جميلاً لا ينساه، يكره ثقلاء الدم ككرهي لمتطرّفي الفكر، تراه برغم تديّنه الفطريّ يتمايل طرباً مع أول نغمة موسيقى تقترب من أذنه بعيداً عن منصبه أو مكانته الاجتماعية.

وآهٍ من الموسيقى السودانيّة فهي لوحدها عالمٌ آخر، بل إنني أكاد أجزم أن من لم يستمع إلى الموسيقى السودانيّة فهو لم يعرف الفنّ الحقيقي بعد، ولا زلت أذكر تلك السهرة الجميلة في منتزه الأندلس جنوب الخرطوم حيث قضينا ليلةً من ألف ليلية حيث القهوة السوداء التي أعدت في دلال طينيّةٍ وكأنني في بيت جدتي القديم، وحيث التكايا والوسائد متناثرة كأننا في مرجٍ أندلسيّ، وسط رائحة البخور التي اختلطت برائحة الشواء وكأننا في غابةٍ من غابات الجنوب، بينما فرقة فنونٍ شعبيّةٍ تتمايل بنا في نشوةٍ صوب كل الاتجاهات وكأننا في حفلة زار، وقتها ترك مضيفينا السودانيين أماكنهم ليشاركوا الفرقة فنونها ورقصاتها، وليشجعونا على تقليدهم في أريحيةٍ تامة.

وآهٍ مليون مرة من الشاي السوداني، وطعمه العجيب الذي ستحلف بعد أول رشفة أنك لم تشربه منذ سنواتٍ طويلة، وأن آخر عهدك به كان في مدرستك القديمة عندما كان العم فلان يعدّه في إبريقٍ كبير بعد أن يكون قد أخذ حقّه في الغليان، قبل أن تنتشر موضة الشاي الفتلة، وشاي النكهات. وإذا أردت أن تشرب شاياً لا يفارق طعمه ذاكرتك فعليك بإحدى البسطات الكثيرة التي تنتشر على طول الشوارع، والتي تديرها بعض النساء حيث يتخذ السودانيين منها بديلاً عن المقاهي، وأماكن للتجمعات ولتبادل الحديث في السياسة والرياضة والشأن العام وكل شيء يخطر على بالهم، فالسوداني دائرة معارف متنقّلة ولا الجاحظ في زمنه، ضليعٌ بالسياسة ولا محللي الجزيرة، متعصّب كروياً ولا جماهير الترسو في مصر!

كثيرةٌ هي الإنطباعات عن هذا البلد الجميل، وعديدة هي ملامح الذكريات، وعزائي أنني سأكرر الزيارة لها لاستعادة بعضٍ من تلك الذكريات، ولقاء عددٍ ممن غمروني بفضلهم وكرمهم.حقاً. بلدةٌ طيّبةٌ.. وشعبٌ كريم!   

الثلاثاء، 23 مايو 2017

في بلاد القدّيس جورج (5)

كنّا قد وصلنا إلى حديقة (رايك) بعد عبورنا لجسر السلام، وهي أشبه بميدانٍ أخضرٍ فسيح تتوزّع على جنباته المقاعد الخشبيّة، وتتوسّطه نوافير مختلفة، وتحيط به معالم حضاريّة متنوّعة، ويتوسّط الحديقة مبنى التلفريك أو الترام الجوّي الذي يربط بين المعالم السياحيّة القريبة، والذي قطعنا منه تذكرتين لجولة تشمل تلك المعالم التي كنا نراها ولا نكاد نصل إليها!

يرتفع بنا التلفريك عالياً متكرّماً ومتفضّلاً علينا برؤية أحلى لوحةٍ بانوراميّة عجيبة لا يمكن محوها بسهولةٍ من الذاكرة، حيث يمكن أن تلامس أبراج الكنائس، وتقترب من أسوار القلاع القديمة، وتساير النهر في رحلة عبوره إلى المصبّ حتى يتوقّف بنا قريباً من نصب (كارتفليس دادا)، أو  أم الجورجيين، وهو تمثالٌ ضخم من الألمنيوم يبلغ طوله حوالي عشرين متراً بني في العيد 1500 لإنشاء تبليسي، ويمثّل امرأةً ترتدي الزيّ الجورجيّ، وتحمل في يدها اليسرى وعاءً من النبيذ، وفي يدها الأخرى سيفاً مصقولاً، في إشارة إلى ترحيب البلد بالأصدقاء، وتصدّيهم للأعداء!

وعلى ذكر النبيذ، فلا شيء أوفر من النبيذ في هذا البلد، فهو يباع في كلّ محلٍ وكشك، عدا المقاهي والمطاعم والحانات، حتى لتكاد تجزم أنهم يستخدمونه بدلاً عن الماء، وتكاد مصانعه تتفوّق على أعداد الكنائس فيها، بل إن هناك مزارات سياحيّة عدّة هي عبارة عن مصانع لإعداد النبيذ يتعرّف من خلالها الزائر على كيفية تصنيعه، ومراحل عصره وتعتيقه، والفرق بينه وبين الأنواع الأخرى المنافسة، ومن العادات المتعارف عليها هنا عند إقامتك في أحد الفنادق أو الشقق، أو زيارتك لإحدى الأسر هو تقديم هدايا من زجاجات النبيذ المعتّق للضيوف في إشارة إلى الودّ والترحيب، بل إن أغلب محلات مطار تبليسي (القليلة) مخصّصة لبيعها دون غيرها من السلع!

يهبط بنا التلفريك مرّة أخرى، لنرجع عائدين حيث بائعة عصير الرمّان على مدخل الجسر، وحيث ثاني كوبٍ منه خلال ساعة. أسأل أسامه عن جولتنا التالية فيقترح علينا الذهاب إلى (متاتسميندا بارك)، وهو: مكان كلّش حلو وراح يعجبكم هوايه (يقولها بلهجته العراقيّة المحبّبه). ننطلق إلى هناك لأكتشف أنّه ذات المكان المرتفع الذي كنت أراه في كل مكان أذهب إليه في تبليسي، والذي كنت أتساءل عن كنهه، فأعتقد أحياناً أنه مركز اتصالات بسبب وجود البرج العالي الذي يتوسّطه، وأتوقّعه تارةً أنه حديقة طبيعيّة! نصل إلى بوّابته لنقطع تذاكر لنا بقيمة ثلاثة لاريّات لكل منّا ثم نقف في طابور منتظم ننتظر القطار الذي يشبه التلفريك والذي سيحملنا إلى أعلى الجبل حيث يوجد المنتزه على ارتفاع حوالي 900 متر! يأتي القطار ليحملنا وقلوبنا مضطربة كاضطراب قلب متّهمٍ يساق إلى المقصلة، ذلك أن القطار كان يصعد بشكلٍ رأسيّ وكأنّه يصعد إلى الفضاء، وأيّ توقّف أو انقطاع لسلكٍ معيّن كفيلٌ بأن يهوي بنا من علوٍ شاهقٍ كفيلٍ بتحويلنا إلى كفتةٍ أشبه بكفتة الحاج عبد العاطي بتاع علاج الإيدز، لكن الله ستر ووصلنا أخيراً إلى قمّة الجبل حيث أجمل مكان يمكن أن تزوره في المدينة، وحيث ألطف نسمة هواء يمكن أن تدغدغ مشاعرك خاصّة لو زرت المدينة خلال فترة الصيف.

وخلال تجوالنا في المكان الذي أنشئ عام 1905 اكتشفنا أنه متعدّد المعالم والأغراض والأنشطة، فهو مدينة ملاهي تضم العديد من المناشط الترفيهيّة المختلفة للأطفال من مدينةٍ مائيّة، وبيوت رعب، ومجسّمات لحيوانات منقرضة، وألعابٍ كهربائيّة، وغيرها من الألعاب المختلفة، وهو في ذات الوقت حديقة طبيعيّة مترامية الأطراف، يحتوي على أماكن للمشي، وأخرى للجلوس والتأمّل، وثالثة للعشّاق والمحبّين الذين لا يجد بعضهم ارتياحاً في التعبير عن مشاعرهم سوى في حضرة الجميع وكأنهم يقولوا لمن حولهم: اشهدوا أننا عشّاق!! يضم المنتزه كذلك مناظير موزّعة على السور المحيط به، تعمل من خلال دسّ عملةٍ معدنيّة في فتحة مخصّصة لذلك، ويمكن من خلالها استكشاف معالم المدينة التي يمكن مشاهدتها وكأنّها لوحةٌ واحدة من هذا الارتفاع! كما يتوسّطه برج عالِ الارتفاع يستخدم لأغراض الاتصالات ويعدّ من معالم المدينة لارتفاعه الشاهق، ويضم مبنى ضخم يحتوي على عدّة شرفات، وبه مطعم ذو إطلالة رائعة، عدا المقاهي العديدة المتناثرة في أرجاء المنتزه.

كان من بين المناظر التي شدّت انتباهي وأنا أكتشف المدينة من خلال المنظار المقرّب المثبّت على سور المنتزه تلك الكاتدرائيّة الضخمة التي تتوسّط المدينة بقبّتها الذهبيّة الجميلة، كنت قد رأيت خلال جولاتي السابقة عدداً من الكنائس المختلفة لكنها جميعاً كانت دون هذه الكنيسة في الحجم أو الشكل، أفتح العم جوجل للبحث عن معلوماتٍ أوفى عنها كما أفعل في كل مرّة أستكشف فيه معلماً لم يسبق لي زيارته مستغلاً توافر (الواي فاي) المجّاني داخل المنتزه حيث لم أكن قد استخرجت شريحة هاتف بعد، ليجيبني العم جوجل أنها كاتدرائيّة الثالوث المقدّس، أو (تسمندا ساميبا) والتي تعد الصرح الديني الأكبر في جورجيا قاطبة، بل إنها تعدّ من أبرز الكنائس الأرثوذكسيّة على مستوى العالم.

ولأنني هاوٍ للتاريخ، مغرمٌ بدروسه كغرامِ قيسٍ بليلى، ولأنه كان تخصصي الرئيس طوال سنوات طويلةٍ من دراستي كان لزاماً عليّ زيارتها، وهاتفٌ خفيّ ينبعث بصوتِ الدكتور محمد أمين أستاذي الذي درست على يديه تاريخ أوروبا في العصور الوسطى يحفّزني كي أذهب وإلا خصم شيئاً من أعمال السنة! نتوجّه إلى الكنيسة التي بنيت على ضفّة نهر كورا والتي تنتصف المدينة لنقف أمام باحتها الكبيرة حيث النوافير المتوزعة على يمين ويسار الأدراج التي تأخذك لبوابة المبنى، وحيث المساحة الخضراء التي تغطّي تلك الباحة، وحيث السياح يتوزّعون لأخذ السيلفي بعيداً عن التاريخ وهمومه!  

أقف الآن وسط الكنيسة بعد أن تخطيت الأدراج العديدة التي توصل إلى المبنى، ها هي المنمنمات والرسومات واللوحات الزيتيّة التي تصوّر السيد المسيح وأمه العذراء والقديسين تتوزع على جدران الكنيسة كما هي العادة في كافّة كنائس الشرق! أتأمل السقف فأتخيّل مايكل أنجلو يرسم لوحة العشاء الأخير، ثمّة راهبٍ أو أبٍ يمرّ بجواري ليشعل بعض الشموع هنا وهناك فتتداعى أمامي كل القصص التي قرأتها عن عصور أوروبا الوسطى، وعن هجمات البربر، وعن سطوة الكنيسة، وصكوك الغفران، وغيرها من ملامح ذلك العصر.
آخذ جولة سريعة في أقسام الكنيسة الخمسة، وأمر على مصلى الملائكة، ويوحنا المعمدان، ثم أتذكر ملل رفاقي في الخارج تاركين هذا الترف الفكري، وحصة التاريخ هذه لأمثالي، لنستكمل جولة أخرى من جولاتنا وسط أجواء من البرودة القارسة في ربوع مدينة الدفء.

الاثنين، 8 مايو 2017

في بلاد القدّيس جورج (3)

الساعة العاشرة من صباح أول يوم لنا في جورجيا. كنت قد انتهيت من جولتي الاستكشافيّة الصباحيّة في شارع روستافيلي الشهير، ويمكن القول إنني تعرّفت على نصف معالم المدينة خلال تلك الجولة. تذكّرني تبليسي بمدينة الرباط المغربيّة، حيث المدينة (ملمومة)، واضحة المعالم، ذات تصميمٍ هادئ غير مزعج للعين، يمكن أن تحفظ طرقاتها بعد جولة أو اثنتين وكأنها قرية صغيرة لا عاصمة لدولة!

يصل أسامة ليأخذنا في جولة اليوم الأول التي خصصناها لمعالم العاصمة. أسامة شابٌ عراقي يعمل مرشداً في شركة السياحة التي يملكها صديقي المصري كريم البنهاوي الأصل، الشبراوي النشأة. ابن بنها العسل الذي أتى ليجرّب حظّه وينجح في جورجيا المشهورة بالعسل كشهرة الهند بالفلفل. يا لمفارقات الأيام! وأقدارنا بيد السماء يا نهر البنفسج! لم أعتد التعاقد مع مكاتب سياحيّة، ولا الاستعانة بأدلاء أو مرشدين في أيّ بلدٍ أزوره، تاركاً كل شيء للتجربة والاستكشاف، وبعضٍ من حصيلةٍ معرفيّة بسيطةٍ عن البلد التي أنتوي زيارتها، فلا روعة تعادل لهفة استكشاف الأماكن، ولا جمال يوازي الانبهار بالمجهول! لكنني كسرت القاعدة هذه المرة لأسبابٍ عدّة أهمّها رغبتي في توفير إقامة مثاليّة لمرافقي الذي يصحبني لأول مرّة طوال الأيام الثمان التي سنقضيها وأنا الذي اعتدت السفر وحيداً كذئبٍ متفرّد، وقد يعود ربّما إلى قلقٍ داخليّ من المجهول في بلدٍ ليس معروفاً جداً بالنسبة لي، ولم أذاكره جيّداً كما فعلت في رحلاتي السابقة!

تبدأ جولتنا من شارع روستافيللي مروراً بذات الأماكن التي مررت عليها صباحاً باتجاه ميدان الحريّة حيث محطة توقفنا الأولى. أشير بإصبعي إلى الماكدونالدز الذي كان ظهوره تحدياً لحقبة ثمانين عاماً من الثقافة الإشتراكيّة، ثم إلى مبنى الاوبرا بتصميمه الأندلسيّ. يليه مبنى البرلمان القديم لجورجيا بأعمدته العالية كأنك في قلب بيزنطه القديمة! والمتحف الوطنيّ الجورجيّ، وكنيسة كاشفيتي بقبّتها المدبّبة التي لن تجدها سوى في كنائس جورجيا. لا شيء أكثر من الكنائس هنا، كما هي الجوامع في إسطنبول، والمآذن في القاهرة. وسط استغراب من أسامة وأحمد، فكيف لي أن أعرف كل هذا وأنا الذي ما زالت رجلي ساخنة، أو بالأحرى يفترض أنها المرّة الأولى التي أرى فيها هذه المعالم!! لم أخبرهم بالطبع أنني قطعت هذا الشارع صباحاً ومررت على كل حجر فيه بينما هم يتدثّرون بفراشهم هرباً من لسعة بردٍ قارسة في مدينة تسمى بمدينة الدفء! 

تقف السيارة في إحدى نواصي ميدان الحريّة بساحته الواسعة، وفنادقه الراقية، ومقاهيه (الشيك) التي تحيط به. يعد هذا الميدان قلب العاصمة، وهو يمثّل ذات الأهميّة التي يمثلها ميدان التحرير في القاهرة، أو الكونكورد في باريس، ومنه تنطلق المظاهرات والأحداث الساخنة، بل إنّه كان الساحة الرئيسية زمن الثورة الجورجية عام٢٠٠٣. يميّز الميدان عمود شاهق الارتفاع عليه تمثال ذهبي. نأخذ جولة سريعة في ساحته، وبعضاً من صورٍ سنبعثها فيما بعد هنا وهناك. يقترح علينا أسامه أن نجرّب الكاشابوري أو (الخاشبوري كما يطلق عليه البعض) وهي فطيرة مصنوعة من عجينة تشبه عجينة البيتزا مغطاة بالجبن. المطبخ الجورجي مطبخ متنوّع، وهو متأثر بلا شك بالمطبخ الروسي، وهناك العديد من المطاعم الجورجيّة الراقية التي تقدّم الطعام الجورجيّ الصميم الذي يشتهر بلذّته ووفرة كميّاته المقدّمة وتنوّع أطباقه، فهناك الخينكالى وهي وجبة شبيهة بالزلابية تطهى مع البطاطس ولحم البقر والجبن أو الفطر، وهناك (كاشابورى أدجارولى) وهو عجينة على شكل قارب تغطي سطحها الجبن الذائب تتوسطها بيضة مسلوقة. على الرغم من تنوّع ولذة الأطباق التي يقدّمها المطبخ الجورجي إلا أن التخوّف من طريقة الذبح، أو عدم توافق المكوّنات مع الشريعة الإسلاميّة يجعل العديد من السيّاح العرب والمسلمين ينفرون من تلك المطاعم مفضّلين عليها المطاعم التركيّة والإيرانيّة التي تقدّم نفسها بكلمة (حلال) الموضوعة على واجهة مداخل تلك المطاعم! 

من مقهى دونكين دوناتس الذي يقع على ناصية ساحة الميدان والذي تناولنا فيه إفطارنا الصباحيّ المكوّن من أقداح الشاي والقهوة وأطباق الخاشبوري، نكمل جولتنا حيث ندخل شارع (كوت أفخازي) المؤدي إلى تبليسي القديمة، وهو شارع يشابه الشوارع المنتشرة في منطقة السلطان أحمد في إسطنبول القديمة حيث مكاتب السياحة، والمطاعم الكلاسيكيّة، والمقاهي المفتوحة، والبازارات، وحيث الكنائس المتلاصقة والبيوت القديمة التي رمّمت وحوّلت إلى نزل وحانات ومطاعم لنصل بعدها إلى ميدان تبليسي القديمة، حيث نلمح لافتةً ضخمة كتب عليها باللغة الإنجليزيّة عبارة (أنا أحب جورجيا) وحولها العديد من السيّاح الذي يلتقطون السيلفي أو الصور الجماعيّة أمامها.

تتميّز المدينة القديمة بشوارعها الضيقة وأبنيتها المحافظة على خصائص العمارة القوقازيّة فأغلب المباني هنا مؤلّفة من طابقين أو ثلاثة، كما أنها تتميّز بمشربيّات ونوافذ واسعة وكأنك في قلب مدينة شرقيّة. الساحة التي هبطنا فيها تعجّ بالحركة والنشاط: بازارات تعجّ بأنواع الهدايا والتذكارات، وأخرى لعرض وبيع السجّاد. مجموعة من أصحاب السيارات حولوا مركباتهم إلى معارض مفتوحة للبرامج السياحيّة التي يقدّمونها، بعض الباعة من الرجال والنساء من مختلف الأعمار يبيعون العسل والعصير الطازج الذي يتم عصره أمامك. جرّبت بعدها شرب كوب من عصير الرمّان فندمت ألف مرّة على كل لحظة واتتني لشربه ولم أفعل! مجموعة من الحمّامات الكبريتيّة المبنيّة من الطين والفخار والتي تعد من أسباب شهرة البلد سياحيّاً. مسجد الجامع المبني على الطراز الفارسي والذي يعدّ الوحيد في المدينة وتقام به صلاة الجمعة. عدد من البيوت ذات الطابقين والثلاثة التي تطل على الساحة وعلى النهر الصغير الذي يفصلها عنه. وسط جوّ منعش لا يخلو من لسعة برد خفيفة نواصل جولتنا وسط كل هذا حتى نصل إلى الشلال الذي ينبع منه النهر ثم نعبر جسراً علّقت على أطرافه مجموعة من الأقفال كتبت عليها أسماء العشّاق والمحبّين كتقليدٍ اشتهر به المكان، أو لارتباطه بأسطورةً أو خرافةٍ معيّنة! لنصعد بعدها سلّماً حديدياً يصلنا إلى الحارة المعلّقة والتي تتميّز بإطلالتها الجميلة على المدينة، ونظافتها الشديدة، وحسن تنسيق بيوتها، وكأنك في رقعة شطرنج لا وسط حارة سكنيّة! لنعاود الصعود حتى نصل قلعة ناريكالا الشهيرة.

د. محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 2 مايو 2017

في بلاد القدّيس جورج (2)

أصحو مبكّراً في أول يوم لي في تبليسي متلهّفاً على اكتشاف المدينة ريثما ينتهي أحمد من إعداد القهوة العمانيّة وتجهيز التمر بأنواعه السكّري والشيشي والخلاص وهي أنواع مستوردة في بلد كانت تفتخر بالنخلة كشعار! موعد جولتنا السياحيّة يبدأ في العاشرة صباحاً وهو موعد متأخر بالنسبة لي وأنا الذي اعتدت على أنزل إلى الشارع منذ الصباح الباكر، وقبل أن تستيقظ الطيور، وكأن هناك ما سيفوتني حتى لو كنت أزور المدينة ذاتها للمرة الألف! أطالع مؤشر الحرارة فأجدها دون العاشرة في المدينة التي يعني اسمها عند الجورجيين (مدينة الدفء) وأنا الذي كنت متلهّفاً لمعانقة الربيع الذي كنت أسمع وأقرأ عن أزهاره ووروده ومروجه الخضراء في أغاني الإذاعة، ومناهج المرحلة الابتدائية دون أن أشمّ رائحة لوردة، أو ألمح أثراً لمرج، سوى رائحة الغبار، وسوى الرياح المحمّلة بالحصى والأتربة والتي تضطرك لتغطية عينيك طوال الطريق من المدرسة إلى البيت خوفاً من احمرارها دون أن تقدر على وأد حلمك في رؤية الربيع يوماً ما!

أنزل من الشقّة التي تقع في شارع سيمون جاناشيا نسبة إلى المؤرخ الجورجيّ العظيم، والمتفرّع من روستافيلي والذي تذكّرني ملامحه بشوارع المهندسين ومدينة نصر في القاهرة مع فارق رهيب في الهدوء، وصوت (الكلاكسات) والبوّابين وباعة الخبز والروبابيكيا وكل ما يمت بصلة قرابة إلى ثقافة الشوارع في مصر، والتي تعد بحد ذاتها ظاهرة لها عشّاقها ومحبّيها ومريديها! لأهبط درجات الشارع المرصوف بحجر الإسكافي متأملاً ما حولي من بنايات ومحلات وأشجار وسط هدوء قاتل لا يبدده سوى مرور شخص أو اثنين من كبار السن يبدو أنهما اعتادا التريّض صباحاً على الرغم من أن اليوم يصادف عطلة رسميّة لأجد نفسي أخيراً في شارع روستافيلي أحد أكثر شوارع تبليسي بل جورجيا شعبيّة وشهرة.

وعلى الرغم من أن روستافيلي يعد الشارع الأكبر والأشهر في تبليسي إلا أن هدوءه لم يكن أقل من الشوارع الجانبيّة التي تتفرّع منه برغم عدد سكان العاصمة الذي يفوق المليون نسمة، وهو رقم كبير في بلد لا يتجاوز عدد سكّانها حاجز الخمسة ملايين نسمة، إلا أن هذا الهدوء قد يعد سمة ظاهرة في هذا البلد لدرجة أن أحد الأصدقاء طلب مني أن أصوّر له مقطعاً يحوي مجموعة من البشر ليتأكد من أنني لست في أحد القطبين بعد أن طغت ظاهرة الهدوء على صوري المتعدّدة التي كنت أبعثها له بين الحينة والأخرى!

وسط أجواء باردة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وملابس خفيفة لا تتوافق بتاتاً مع الأجواء المحيطة وأنا الذي تركت مؤشر الحرارة في مطار مسقط عند 41 درجة عصراً، ووسط نظرات استغرابٍ (مؤدّبة) من قبل المارّة القلائل في هذا الوقت المبكّر من صباح الأحد تجاه هذا الكائن الفضائيّ الغريب الذي يرتدي شورتاً وقميصاً فضفاضاً يصلح لكل شيء عدا اللبس في أجواء كهذه كنت أقطع الشارع الجميل الذي سمّي بهذا الاسم نسبة إلى شاعر جورجيا الكبير شوتا روستافيلي وسط حالة انبهار كبيرة، فها هي النظرة الذهنية المسبقة عن هذه الدولة تبدأ تدريجياً في التغيّر، ولم تعد الطبيعة وحدها هي ما كنت أعتقد أنه يميّزها كبلد سياحي، فعلى جانبي الطريق الذي أكتشفه لأول مرّة، والذي سأحفظه عن ظهر غيب بعد يومٍ واحد فقط توزّع العديد من عمّال النظافة الذي لا أعلم بالضبط ماذا يفعلون في شارع هو أنظف من رئة طفل، وعدا بعض أوراق الشجر المتساقطة فإنك بالكاد تلمح ورقة أو منديلاً أو ذرّة تراب هنا أو هناك، وطوال سيري كنت ألمح العشرات من المباني التاريخيّة الجميلة التي تضم مؤسسات حكوميّة، ومتاحف، وكنائس، وفنادق، ومحلات وغيرها من الأنشطة، فها هي الأكاديميّة الجورجيّة للعلوم، وهذا متحف جورجيا الوطني، وتلك كنيسة كاشفيتي، وذاك متحف سيمون جاناشيا، وها هو مبنى البرلمان بأعمدته الرومانيّة المميّزة، وساحته الضخمة، وحرّاسه الأنيقين كلوردٍ انجليزيّ. وعلى امتداد الطريق ستلمح العديد من التماثيل النصفيّة أو الكاملة لشخصيات جورجيّة عديدة، وتنتصب هنا وهناك ساعات ضخمة تنبّه الناس إلى الوقت في زمن أصبح الوقت فيه آخر اهتمامات البشر! وستلاحظ مساحات صغيرة من أرصفة الشارع يستخدمها الباعة في بيع بعض المنتجات الحرفية اليدوية والاعمال الفنية من لوحات ومنحوتات صغيرة، وستمر بالعديد من المقاعد الخشبية العامّة أو التي تخص المقاهي العديدة المتناثرة والتي تغريك بالجلوس للتأمل، أو لاحتساء فنجان قهوةٍ صباحيّ، أو لالتقاط الصور الشخصيّة التي لن تجد خلفيّة أجمل مما يحيط بك! 

وطوال رحلة الكيلو والنصف الممتدّة بين شارع كوستافا حيث يبدأ روستافيلي، وانتهاءٍ بليبراتي سكوير أو ميدان الحرية حيث سرّة المدينة، وحيث ينتهي الشارع عند الميدان الجميل الذي ينتصفه عمود رخامي يعلوه تمثال ذهبي، ويحيط به مباني تاريخيّة مهمّة كأوبرا تبليسي، ومسرح الباليه، وفنادق فخمة كفندقي الماريوت وبلتيمور، شدّني من ضمن العشرات من الأمور التي أثارت انتباهي أمرين مهمّين: أولهما هو ذلك التناقض العجيب بين ثقافتين تنتمي كل منهما إلى معسكر مختلف تماماً، وهو أمرٌ سألاحظه فيما بعد عند زيارتي لمدن وأماكن أخرى في جورجيا، فطوال سيرك في الشوارع سترى سيّارات ومباني تنتمي إلى حقبة الشيوعيّة والفكر الاشتراكي، وأخرى تعبّر تماماً عن التحوّل العكسي تجاه الرأسماليّة والثقافة الغربيّة، حيث تتجاور البنايات السكنيّة الضخمة القبيحة المنظر بشققها الضيّقة والتي كانت تعبّر عن نظام التضامن الاجتماعي في مجال الإسكان زمن الاشتراكية مع العمارات الكلاسيكيّة القديمة التي أعيد تجديدها لتتحوّل إلى فروع لفنادق ومطاعم ومقاهي ومحلات غربيّة، وحيث ترى ماكدونالدز مقابلاً لمطعم يقدّم أطباقاً جورجيّة وروسيّة صميمة، وحيث تقف سيّارات لادا الرخيصة وبقية إخوتها من منتجات المصانع زمن الحقبة السوفييتيّة مع نظيراتها الحديثة من منتجات مصانع اليابان وأوروبا والولايات المتحدة!


الأمر الآخر الذي شدّني في أول يوم لي في مدينة الدفء وسيشدّني في بقيّة المدن كذلك هو المحافظة الصارمة على المباني القديمة، بحيث يمنع هدمها وإزالتها أو استبدالها بأبراج إسمنتيّة قبيحة الشكل، بل يعاد ترميمها وتحويلها إلى مقرات لأنشطة اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو فكريّة متنوّعة، وويل لمن يخالف هذا الأمر! لذا فلا عجب أن تتحوّل شوارع تبليسي أو باتومي إلى تحفة فنّيّة رائعة بفضل الملامح الجميلة لتلك البنايات التي تتوزع على طول الشوارع الرئيسة والتي تفنّن في تصميمها عباقرة الفن المعماري في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بحيث تشعر وكأنك تتجوّل في متحف مفتوح لا مدينة حيّة، وبحيث تشعر كذلك وكأنك في قلب باريس أو لندن أو فيينا! أعرف أماكن أخرى من خارطة العالم يتفنّن البعض فيها بهدم التراث المادّي على اعتبار أنّه يشوّه المكان، وعلى اعتبار أنّه مكان لتجمّع الحشرات والهوام والحيوانات الضالّة! وعندما تناقش بعض المتنفّذين من أعضاء برلمان أو مسئولي حكومة حول أهميّة وجود قانون ينظّم المحافظة على هذه الشواهد، ويقنّن عمليّة هدمها، وينظّم آلية الاستفادة منها باعتبارها شواهد تاريخيّة وفكريّة وسياحيّة، ينظر إليك ببلاهة وتعجّب ولا مبالاة كعربيّ وسط حارة صينيّة ولسان حاله يقول: يا عمي روح العب بعيييد!!

الاثنين، 17 أبريل 2017

(في بلاد القدّيس جورج)

بعد فترة تردّد استمرّت لأكثر من عامين؛ قررت أخيراً الذهاب إلى جورجيا عروسة بلاد القوقاز بعد عمليّة مفاضلة مع دول أخرى شبيهة حسمت لصالح بلاد العم جورج لأسباب عدّة من بينها رغبتي في تغيير وجهتي الشخصيّة والعائليّة من شرق آسيا والبلاد العربيّة إلى أوروبّا، وقرب المسافة الزمنيّة، ورخص تذكرة السفر، وعدم الحاجة إلى تأشيرة دخول، بالإضافة إلى شهادة عدد من المعارف والمهتمين بالسفر ممن زاروا هذا البلد وكتبوا عن تجربة ايجابيّة شجعتني على أن (أعقلها وأتوكّل) كما يقول المثل العربيّ.

وعلى الرغم من تطمينات العديد ممن زار هذه الجمهورية الجبلية التي تقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود ومّمن يعيش فيها كذلك؛ إلا أنني كنت أشعر بقلق خفيّ من التجربة، فأنا أعلم الأوضاع والظروف في بلدان جنوب شرق آسيا علم اليقين، وأحفظ بعض بلدان السياحة العربيّة ككفّ يدي، وسبق لي أن زرت تركيا القريبة وتوغّلت في مجاهل إسطنبول وبورصه ويلوا، أما جورجيا وما جاورها فمازالت معلوماتي عن أوضاعها الداخليّة شحيحة، وما زالت فكرة تأثير الفترة الاشتراكية التي امتدت لأكثر من 80 عاماً جاثمة على أفكار صدري، وما زلت أعتقد أنني سأجد مباني سكنيّة كئيبة، وحافلات نقل عموميّة عفا عليها الزمن، وأشجارٍ عارية، ورجال بشوارب كثيفة يرتدون الجاكيتات الرماديّة الطويلة، ويتلحّفون البيرية وغطاء الرأس المصنوع من الفرو ويحتسون الفودكا على الدوام!

وبرغم كل هذا التخوّف وذاك القلق؛ إلا أنّني قررت المضيّ قدماً إلى النهاية، وأن أخوض التجربة كاملة، فماذا يعني السفر دون مغامرة؟! وماذا سأترك لذكرياتي إن لم أعاني؟! ثم أليست الحياة ذاتها سوى رحلة قد تطول أو تقصر؟! و"أقدارنا بيد السماء يا نهر البنفسج" على رأي الأديب زكريّا الحجاوي!
وكعادتي في كل سفرة شخصيّة إلى بلدٍ أزوره لأول مرّة؛ حملت حقيبتي على كتفي تاركاً كل شيء للظروف برغم اطّلاعي على كثير مما يتعلق بالبلد فكرياً واقتصادياً واجتماعيّاً، وبرغم محاولتي تكوين فكرة شاملة عن الأوضاع المعيشيّة هناك، فما أروع أن تكتشف كل شيء بنفسك، وما أجمل أن تقوم بعمل المقارنات بين ما كنت تعتقده وتراه وبين ما وجدته على الحقيقة!

عند وصولي ليلاً إلى مطار تبليسي لم تستغرق مدة الانتهاء من إجراءات الدخول أكثر من خمسة دقائق بالتمام والكمال قسّمت ما بين عبوري الممرّ الواصل بين باب الطائرة إلى (كاونتر) ختم الجوازات، ثم الهبوط في السلّم الكهربائي إلى منطقة أخذ الحقائب، ثم التوجّه ناحية بوّابة الخروج! دائماً كنت أقول لنفسي إن المطارات هي عناوين الدول، و"المكتوب يُقرأ من عنوانه"، وهناك من المطارات ما يجعلك تعود أدراجك حاجزاً أقرب تذكرة إلى بلدك بعد أن تعاني الأمرّين من "رذالة" موظّفيها، وعمّالها، وسائقي تكاسيها، وهناك من المطارات من يفتح لك أحضانه مستقبلاً، وترى ثغره الواسع هاشّاً باشّاً، مما يجعلك متشوّقاً لرؤية ما خلف ستار هذا المطار من بشر وكائنات وجماد، فمادام استقبال المطار هكذا، فكيف هو استقبال أصحابه لي؟!! 

وأنا في طريقي من المطار الذي يقع خارج المدينة إلى الشقّة التي حجزها لي أحد الأصدقاء في شارع جانبيّ متفرّع من شارع (روستافيللي) الذي يعدّ أحد الشوارع الرئيسة في المدينة لفت انتباهي هدوء الشوارع المبالغ فيه، وتلاشي الصّخب الذي يميّز العواصم ليل نهار، فلا تكاد تسمع صوتاً لنفير مركبة، ولا رائحة لعادم حافلة قديمة ملّت من الأنين واعتادت حمولتها الثقيلة من أكوام البشر، ولا ضجيج لموكب دراجات بخاريّة يقودها شباب يعتقدون أنهم في طريقهم إلى المرّيخ لا إلى أقرب حانة أو زقاق، وأن مهمّتهم الأساسيّة في هذا العالم هي ضخّ المزيد من المصابين بالصمم. هنا بدأ مؤشّر القلق الداخلي ينحدر أكثر فأكثر، وحذري يقلّ، وأن أيامي القادمة ستكون على الأقل هادئة إن لم تكن جميلة!


وخلال رحلة وصولي إلى الشقّة التي سأسكنها طوال مدّة إقامتي في تبليسي العاصمة، وتحديداً في أحد شوارع حيّ (فيرا) الراقي لفت انتباهي عدّة أمور ستسهم في أن تجعلني أكثر تفاؤلاً بقضاء أوقات جميلة في هذا البلد، وأكثر تحفّزاً وانطلاقاً لاستغلال كل دقيقة هنا، فالشارع الذي تقع فيه والمتفرّع من (روستافيللي) هو شارع هادئ كعجوزٍ سبعينيّ، مبلّط بحجر الإسكافي حتى اعتقدت أنني في أحد شوارع إسطنبول لا تبليسي، تتناثر على جوانبه عدداً من الأشجار بأوراقها المتساقطة التي تذكّرك بمشاهد الخريف في الأفلام الأجنبية، ويحتوي على كافّة الخدمات التي يحتاجها السائح والمقيم كالصيدليات، والبقّالات التي تعمل طوال اليوم، أما البناية التي تقع فيها الشقّة فهي بناية حديثة وسط عدد من البنايات ذات الطابع الكلاسيكيّ القديم، تدخلها برقم سرّي لا يعرفه سوى سكّانها ممّا يعطيك شعوراً بالأمان والاطمئنان في بلدٍ تزوره لأوّل مرّة، وصاحبتها سيّدة جورجيّة مبتسمة دائماً تحمل الجنسيّة الأمريكيّة عادت إلى بلدها بعد أن قضت أكثر من عشرين عاماً في نيويورك لتقضي بقيّة أيّامها في بلدها الأم التي هربت منه يوماً ما لتعمل ممرضة في أمريكا الرأسماليّة بعد أن كانت معلّمة في جورجيا الإشتراكيّة!! استقبلتني السيّدة بابتسامة ودودة وعرّفتني على مرافق الشقّة ثم غادرتها بعد ثلاث دقائق فقط من لقاءنا بعد أن تركت عنوان الشقّة، وأكواد (الواي فاي) والبوّابة، وهاتفها الشخصيّ مكتوبة على ورقة معلّقة في ركنٍ بارزٍ من الصالة، ولم تلقِ عليّ سيلاً من النصائح والاشتراطات والتهديدات والغرامات إذا ما كسرت هذه الفازة، أو عبثت بتلك المزهريّة، أو مسست ذلك البيانو كما يفعل سماسرة الشقق في دول عربيّة أعرفها جيّداً مما يجعلك متوتّراً كقطً، قلقاً كالنابغة الذبيانيّ، تودّ لو كنت مدرّب تنمية ذاتيّة لتنام معلّقاً على الهواء خوفاً من أن تكسر السرير، بل تمنّت لي طيب الإقامة في بلدها، وأن أعتبر الشقّة كبيتي. أما الشقّة ذاتها فهي واسعة كخارطة روسيا، نظيفة كقلب مؤمن، دافئة كحضن أم على الرغم من برودة الأجواء في بلد أصرّ شتاؤه على انتظاري وهو الذي كان يعدّ العدّة للمغادرة! 

الاثنين، 3 أبريل 2017

في مقهى الفتوّة (3-2)

أقف أخيراً في قلب المشهد الحسيني وخان الخليلي، حيث قلب القاهرة الفاطميّة وحيث يكاد يُختَزل هنا تاريخ مصر بكامله، وحيث يختلط البشر فقيرهم وغنيّهم في تناقضٍ مؤلم؛ هؤلاء من أجل رغيف عيشٍ حاف، أو أملاً في بضعة جنيهات قد يحنّ أحدهم بتركها لهم، أو طلباً لبركة سيّدنا الحسين في تزويج يتيمة أو شفاء مريض بعد أن أوصدت أبواب الأرض في وجوههم، وأولئك لتصريف بعض ما تكدّس من مالٍ قد ينفقونه في شراء تحفة، أو ثمناً لكوب شاي تكفي قيمته لتعديل مزاج روّاد مقهى شعبيّ في حيّ الشرابيّة بأكمله!

 المشهد الحسيني وخان الخليلي حيث العبق الشرقي الأصيل، ورائحة البخور الذي لن تشمّه إلا في قاهرة المعزّ، وكأنه ماركة مسجّلة باسمها، وحيث الأزهر الشريف قبلة العلماء والمتعلّمين على مدى قرون طويلة، وحيث مرقد الإمام الحسين، والمحلّات الشرقية التي مازال أصحابها يتوارثون المهن اليدويّة من نحاسيات وجلود وعطور وغيرها في إصرار عجيب على استمراريتها وكأنّها جزء من حياة، وحيث قهوة شعبان التي يصرّ صاحبها على أنها تأسست عام 1919، والدهان القديم حيث أحلى كباب ونيفه، والعهد الجديد بكوارعه وفتّته وورق عنبه. المشهد الحسيني حيث فرحات الأزهر وحمامه المحشي الذي تبكي قبل أن تطعمه وتبكي مرة أخرى بعدها من لذّته وطعامته، وحيث طعميّة الحلّوجي، وبسيمة عمّ محمد، ومهلّبيّة المالكي وقشدته التي لا مثيل لها. وحيث المكتبة التوفيقيّة، ودار التراث العربي، ودار التأليف، ومكتبة الثقافة العربية، والمكتبة الإسلاميّة وسلسلة من المكتبات التي ساهمت في حفظ التراث العربيّ والإسلاميّ.

متجاهلاً الدعوات التي توالت عليّ من صبيان المقاهي المواجهة لساحة الحرم للجلوس في مقاهيهم خاصّة وأنهم لا يتقاضون رواتب معلومة بل يترزّقون (التبس)، والبقشيش، ومدى قدرتهم على (تهليب) الزبائن ببيع المشروبات بسعر أعلى من المتفق عليه مع صاحب المقهى، أكمل طريقي إلى مقهى الفيشاوي الذي اخترته لقضاء الساعة القادمة فيه وسط أزقة ضيقة زيّنت جنباتها بقطع ديكور شاهدة على حضارة مصر الفرعونية الضاربة في عمق التاريخ، لأسباب من بينها عراقته، وسمعته، وهدوءه وأسعاره الثابتة مقارنة بمقاهي الواجهة، كما أن قهوة (نجيب محفوظ) الذي يعد مقهاي المفضّل هنا والذي يبعد أمتاراً بسيطة لا يصلح للجلوس نهاراً بعكس ليله حيث أجواء ألف ليلة وليلة، وحيث العود والقانون والسلطنة، وحيث الكوارع والفتّة بالثوم والممبار، وحيث السحلب الأصلي بمكسراته التي تكاد تقسم أنها قطفت وحمّصت للتوّ، والشاي الأحمر الذي تكفي نكهته لإنعاش شارعٍ بأكمله يقدمه لك ولدانٌ يلبسون الطربوش، في أباريق من نحاس مذهّبة الجوانب والأطراف!

ها هو المكان أخيراً، زقاقٌ ضيّقٌ اصطفت على جانبيه طاولات وكراسي خشبية امتلأت بعشرات السيّاح الأجانب، وبعضٌ من أبناء البلد. ولوحات خشبيّة عدّة كتب عليها بالأزرق والأبيض والذهبي اسم المقهى الذي أسّسه فهمي الفيشاوي عام 1797 من خلال ركن صغير ما لبث أن توسّع ليضم ثلاث غرفٍ يوماً ما قلّصتها المحافظة بعد ذلك إلى حجمه الحالي، تعرّف بالمكان وكأنه بحاجة إلى من يعرفه أو يسأل عنه بعد أن طغت شهرته أرجاء المعمورة، وسار بذكره الركبان، وقلّد اسمه المقلّدون في كل بقعة يوجد بها مصري، لكن شتّان بين الأصل والنجاتيف!

أختار مكاني على ركن جانبيّ داخل المقهى طلباً لبعض الهدوء، وهرباً من زحام الممر وعبارة "وسّع يا باشا" التي تتكرر 67584 كل دقيقة، و(رزالة)المتسوّلين وعارضي الكتب والحقائب والجلود والمسابح والعطور الرديئة وكل ما تنتجه مصانع (بير السلّم) الذي يتميّزون بثقل دم ولا خرتيت هنديّ، وإلحاحهم الشديد ولا إلحاح بخيل يطلب ماله!

 أتأمّل المكان بكل ما يحتويه من تحف وآثار وكأنه مُتحف شرقيّ. كان المقهى يجسّد بشكل حقيقيّ حضارة المكان الذي أقيم عليه، وكأنّه مصبّ لكل ما تنتجه مصانع وورش ومحلات خان الخليلي والموسكي والغوريّة،  هناك أربعة أبواب مفتوحة، وأقواس ملوّنة بالأبيض والبنّي تفصل أركان المقهى عن بعضها، ومشربيّات من خشب أسود كأنّه المسك، وأرابيسك ومشغولات خشبيّة تنمّ عن مدى الرقيّ الذي وصل إليه فنّ عمارة الخشب في مصر، وفوانيس ونجف وثريّات ضخمة يبدو أنها كانت يوماً ما تزيّن قصر أمير تركيّ، في الرفّ علّقت أواني قديمة يبدو أنها كانت تستعمل في المقهى يوماً ما، في حين تزيّن المقهى من جوانبه مرايا بلجيكيّة كبيرة يقال إن الحاج فهمي حصل عليها من القصور الملكية التي كانت تجدد مفروشاتها وأثاثها، ويقال كذلك أن الحاج كان يراقب من خلالها عماله! بينما توزّعت على جدرانه عدداً من الصور لصاحب المقهى ولشخصيات عديدة من سياسيين وفنّانين وأدباء فهذه صورة الملك فاروق، وتلك أخرى لنجيب محفوظ أحد أشهر روّاد المقهى والذي خلّده في رواياته الشهيرة، وثالثة لفريد الأطرش، ورابعة وخامسة وعاشرة لفريد شوقي، ومحمد فوزي، وكمال الشناوي، وعادل إمام، وغيرهم، وهناك صورة كبيرة للحاج فهمي الفيشاوي وهو يمتطي حصانه. أتخيّل الحاج بجلبابه الصعيديّ أزرق اللون وعباءته الحريريّة، وعمامته الكشميريّة، وعصاه الأبنوسيّة التي تكفي ضربة منها لتخدير بغلٍ استراليّ ضخم، قادماً يوزّع سلاماته على كل من يصادفه في الأزقّة المجاورة بعد أن أنهى (خناقة) بين بعض الفتوّات، أو استرجع حق عرب لأحدهم، كيف لا وهو الذي كان يعد من فتوّات القاهرة المعدودين عندما كان مصطلح الفتوّة مرادفاً للرجولة والشجاعة وإغاثة الملهوف، وعندما كان الفتوّة يقع على عاتقه حماية الحارة، وإرجاع المظالم، وإشاعة الأمن قبل أن تتبدّل الأحوال وتتغيّر الأزمان، ويحدث انقلاب في منظومة القيم في المجتمع تفضي إلى ظهور مصطلحات غريبة على المجتمع كالبلطجة التي تحل محل الفتْوَنة!!


يأتيني الشاي في إبريقٍ زجاجيّ أزرقٍ داكن موضوع على صينيّة مذهّبة كعلامة جودة تميّز المقهى عن غيره، بينما وضع السكّر وأوراق النعناع في أكواب بيضاء. أصبّ لنفسي بعضاً منه وقد تداعت أمامي رزمة من الذكريات، ذكريات رحلة غزّة وزيارتي الأولى إلى المكان، ذكريات زيارات أخرى متوالية كتوالي الهموم على قلب مهاجرٍ سوريّ. ذكريات رفاق وأصحاب بقي بعضهم وغاب أكثرهم وسط طوفان الحياة الجارف. ولكن تلك حكاية أخرى.

الاثنين، 27 مارس 2017

في مقهى الفتوّة (1-2)

يونيو 2008.. كنّا في الصيف، والفصول في مصر كما يقول العجوز رفعت إسماعيل بطل روايات (ما وراء الطبيعة) الأصلع النحيل الذي يدخّن كقاطرة قديمة، والشبيه بدودة الإسكارس " تتشابه، وقد تختلط، ولكن شيئاً واحداً يميّزها هو الرائحة.. رائحة الأسفلت المبتل في الشتاء، رائحة حبوب التفاح وزهور البرتقال القادمة من أرض محروثة في الربيع، روائح العرق وأنسام الليل الرحيمة في الصيف". كنّا في الصيف، حيث الأنسام التي تهبّ عليك من المجهول تدغدغ مشاعرك كما تدغدغ أمٌ رؤوم طفلها، وتفتح في داخلك كتاباً من الذكريات يعجز هرقل عن حمله، ويقسم تايسون أن هناك قوّة هائلة تمنعه من محاولات غلقه. وحيث اقتراب موعد العودة إلى الوطن نهاية كل عامٍ دراسيّ محمّلاً ببعض الهدايا، وكثيرٍ من.. الشوق واللهفة. 

 كنت لا أزال في شقّة جسر السويس التي سأغادرها بانتهاء الفصل إلى بقعة أخرى في محاولاتي المستمرة لاكتشاف كل شبرٍ في المحروسة كعهدٍ قطعته على نفسي في أول يوم داست فيه قدماي تراب القاهرة، حيث أحمد موظّف هيئة الاستعلامات السابق ووكيل الشقّة الحالي ما زال يتردّد على شقّتي كل مساء كفرسِ نهر، وحيث صبحي صبيّ فرن العيش الذي ينتظرني بعد الساعة الواحدة ليلاً لتسليمي حصّتي اليوميّة من عيش الفينو الساخن ومعمول العجوة بالسمسم بعد أن يكون قد طاب واستوى، وعمّ مجدي الحلاق الطيّب الذي كلّما رأيته أتذكّر السّاعي في مسرحيّة "شاهد مشافش حاجة" وحواره الشهير مع عادل إمام و "خد.. بالك من نفسك"، وعمّ عبده (سكيوريتي) الأمن الطيّب بقميص الشركة الأزرق الفاتح كزرقة ماء النيل عند مغادرته للمنبع قبل تحوّله إلى السواد قرب المصبّ، وابتسامته الصافية كنقاء شاشة إل أي دي برغم ظروفه القاسية كمزاج مراهقة، السوداء كقلب الكافر، و(ماهيّته) التي قد لا تكفي لتغطية أجرة انتقاله اليوميّ من مصر الجديدة حيث يعمل إلى شبرا الخيمة حيث يسكن، وحيث محمود الشاب العشريني خريج الجامعة العمّالية الذي يعاونه في مهمّة حراسة البناية بعدما فقد الأمل في وظيفة تليق بمسمى الجامعة التي تخرّج منها. الجامعة التي راهن عليها عبد الناصر لتخريج أجيال من العمّال المهرة عندما كانت هناك مصانع وانتهى بها الحال إلى (أنتيكة) تزيّن شارع النصر وتنفث سيارات النقل والسيرفس والملاكي بعوادمها السوداء في واجهتها كل ثانية، والتي كان يمكن (وهبها) لأحد الحيتان كي يحوّلها إلى برجٍ سكنيّ عال، أو مقر لإحدى شركاته لولا بعضٌ من حياء. في كل مرّة ألمح مبناها وأنا في طريقي راجلاً أو راكباً إلى شارع عباس العقّاد أو مول سيتي ستارز القريب كنت أسأل نفسي: متى سيأتي اليوم الذي يحنّ فيه قلب أحدهم على مرايا المبنى ويقوم بتلميعها وإزالة أطنان الغبار والسواد المتراكم! شقّة جسر السويس حيث البن البرازيلي، وأولاد رجب، وحاتي الحرّيف، وإشارة الطاهرة، وقصرها الشهير، وميدان النعام، وميدان روكسي، والعبّودي، وأشياء كثيرة جميلة ما زالت بقاياها تعلق بالذاكرة كذكريات طفل، أو كبقايا بنّ عبد المعبود الشهير في فنجان قهوة سوداء مضبوطة بجروبّي مصر الجديدة.

كنت في شقّتي صباحاً وهي من المرات النادرة التي أصحو فيها مبكّراً ما لم أكن مرتبطاً بموعد دراسيّ أو اجتماعيّ ما، فمن ذا الذي يتهوّر وينام مبكراً تاركاً ليل القاهرة الصيفيّ حيث المقاهي المفتوحة التي تختلط فيها ضحكات الصبايا المائعة بنكهة المعسّل وكليبّات قنوات ميلودي ومزّيكا، أو أغنية (الأماكن) التي تعاد 657894 مرّة في الكافيهات التي يرتادها (الخلايجة) والعرب، وحيث الشوارع التي تظلّ ساهرة حتى مطلع الفجر،  وحيث جلسات البلكونة التي تحلو صيفاً مع (شقّة) بطّيخة مثلّجة، وبرّاد شاي أحمر، وصوت كلاسيكي من بقايا الزمن الجميل.    

وبينما كنت أتلذّذ بارتشاف كوب الشاي بالفتلة وقراءة (الدستور)جريدتي الأثيرة وقتها قبل أن تتحوّل إلى صحيفة شديدة الاصفرار تصلح لكلّ شيء عدا القراءة، شدّني خبرٌ عن مقاهي الحسين في زاوية كانت الجريدة تخصّصها للتعريف بالمقاهي والأماكن التي تصلح للزيارة في القاهرة، وهي الزاوية التي اتخذت منها في تلك الفترة دليلاً لزيارة العديد من المقاهي والأماكن التي كانت وقتها في عداد المجهول بالنسبة لمعلوماتي عن خبايا القاهرة. هنا قلت لنفسي: إنني قد زرت القاهرة الفاطميّة ليلاً ملايين المرات قبل اليوم، وأكاد أحفظ عن ظهر قلب تفاصيل الأحداث الليليّة هناك، وأسماء صبيان مقاهيها، وملامح متسوّليها، فلماذا لا أجرّب زيارتها نهاراً، فلعلّي ألمح بشراً آخرين يختلفون عمّن رأيتهم هناك على مدى تلك الزيارات، ولعلّي أعيش أحداثاً وتجارب تختلف عن تلك التي عايشتها ليلاً! ولا بأس من جلسة جميلة تنعش الذكريات في قهوة الفيشاوي.

وكأني لم أكذّب خبراً، فما هي إلا دقائق كنت قد انتهيت خلالها من ارتداء قميصي الأخضر المشجّر الذي ابتعته ذات نهارٍ أغبر من أحد المحلات الصغيرة المنزوية في حارة من حارات المهندسين، والذي يذكّرني بسيّاح هاواي، فقط شورت ضيّق، ونظارة سوداء، وسيجار كوبيّ ضخم ويكتمل المشهد!

(أخذت بعضي) في طريقي الذي حفظته رجلاي عن ظهر قلب كحفظ طالب نحوٍ مدرعمٍ لألفية ابن مالك، إلى محطّة سرايا القبّة القريبة مخترقاً شارع جسر السويس، فميدان سليم الأول، حتى وصلت إلى المحطة موزّعاً سلاماتي وتحيّاتي هنا وهناك. يعشق المصريّ النكتة والابتسامة والفرفشة والمناقشة والمناغشة كما يعشق الياباني عمله، وسيردّ على تحيّتك بأفضل منها، وعلى ابتسامتك بأعرض منها، وعلى نكتتك بأسوأ منها، و(تفضّل معانا شاي)، لكنّه قد يكرهك كما يكره المقدسيّ الصهاينة لو قابلته متجهّماً مكشّراً، فالمصري قد يستحمل الضنك وضيق الحال، وقد يتقبّله بصدرٍ رحب، لكنّه لا يتقبل ثقلاء الدم وأصحاب (السِّحَن) الضيّقة!

أنزل في العتبة حيث (سرّة) القاهرة ومنتصفها، وحيث أكبر كميّة من البشر يمكن أن تراها في حياتك، ومنها أسير راجلاً باتجاه شارع الأزهر حيث محطّتي الأخيرة في قلب المشهد الحسينيّ وسط سيمفونيّة من أصوات المطارق النحاسية، ورائحة البهارات والتوابل، وسباب سائقي التكاسي لبعضهم البعض، متسلّياً بمحاولة استحضار تاريخ المكان المحيط حيث الموسكي، وحارة اليهود، والغوريّة، والدرب الأحمر، والباطنيّة، والمشهد الحسيني، ودرب البادستان، والصنادقية، وسوق التبليطة ، وشارع ربع السلحدار، والمقاصيص، والصالحية، وخان جعفر، وأم الغلام، والحمزاوي، وأماكن أخرى كل حجرٍ بها شاهدٌ على حقب، وأحداث، وشخوص عديدة عجنت تاريخ المكان بفكرها وثقافتها حتى غدا خليطاً عجيباً أو مكبّاً لتفاعلات تلك الثقافات المتباينة!


أصل أخيراً إلى الحسين وأقترب من الخان، وألامس المئذنة الشامخة، وأشم رائحة عبق البخور القادم من زقاق قريب، وهنا ستكون لي حكاية. ويا لها من حكاية!